شهريَار

قصة تمثيلية شعرية للأستاذين عزيز أباظة وعبد الله البشير

قرأت في هذه الأيام قصتين تمثيليتين موضوعهما واحد وهو شهرزاد، إحداهما للشاعر الفرنسي المعروف جول سوبرفييل، والأخرى للشاعر المصري الكبير عزيز أباظة. وقد كتب الشاعر الفرنسي قصته منذ أعوام تبلغ العشرة أو تكاد تبلغها، ومُثِّلت في باريس ولم تظفر من النجح بما كان ينتظره لها صاحبها إن لم تكذبني الذاكرة، وعنوان القصة شهرزاد، كما أن شهرزاد هي المحور الذي تدور عليه.

أما شاعرنا فقد جعل شهريار عنوانًا وبطلًا لقصته، وغاية القصة عند الشاعرين واحدة؛ فشهريار يخلع نفسه من الملك فيهما جميعًا ولكنه يخلص للحب ولحب شهرزاد خاصةً عند الشاعر الفرنسي، ويخلص للدين والنسك ويهجر الحب وشهرزاد جميعًا عند الشاعر المصري. وبعد اتفاق القصتين في الموضوع وفي الغاية إلى حدٍّ بعيد، يختلف الشاعران فيما ابتغيا من وسيلة، وما سلكا من طريق لعرض قصتيهما على النظَّارة، وإجراء ما يكون فيهما من حوار وما يقع فيهما من أحداث. فأما الشاعر الفرنسي فالفن وحده هو غايته وهو وسيلته، فهو لا يرمي إلى غرض خُلُقي ولا سياسي، ولا يحاول تأديب الناس ولا تهذيبهم، ولا يكاد يفكر في بيئته التي يعيش فيها ناقدًا لها، ومثنيًا عليها، وإنما هو شاعر عرف قصة شهرزاد وأراد أن يعرض منها صورة فنية يمتِّع بها قرَّاءه ونظَّارته، ويرسل فيها خياله إلى حيث يريد أو إلى حيث يستطيع، تهديه أعلام الفن وحدها ولا تقيِّده ظروفٌ خاصة قريبة منه أو بعيدة عنه.

أما الشاعر المصري فالفن عنده وسيلة أكثر منه غاية، فهو يفرض على نفسه قيودًا ثقالًا، فهو مؤدِّب الناس، مقوِّم لأخلاقهم، مهذِّب لطباعهم، يمقت الإثم، ويبغض الفسق، ويكره الفجور، ويحرص على أن يكرِّه هذه الخصال كلها إلى الذين يقرءون قصته أو يشهدونها. وهو منكر لسياسة قديمة مؤثرة لسياسة جديدة، لا يمقت شيئًا كما يمقت الطغيان، ولا يؤمن بشيء كما يؤمن بالعدل والقسط وحق الشعوب الكامل في الحرية والعدل، وفي الكرامة والمساواة، وفي حقها الكامل في أن تحكم نفسها كما تشاء لا كما يشاء السادة والملوك، وهو من أجل ذلك يصوِّر الطغيان في أبشع صوره وأبغض مظاهره، ويصوِّر ما يستتبعه هذا الطغيان من ذلة الوزراء والحاشية، وإذعانهم للهون وخضوعهم لما يصدر إليهم من أمر لا يراجعونه ولا يجادلون فيه، وغلوهم في النفاق وإيثارهم بعد ذلك لأنفسهم، وإمعانهم في الجشع، وإغراقهم في كل ما يمحو المروءة ويزري بالرجولة ويغض من قدر الإنسان الذي لم يُخلَق للذلة والهوان، وإنما خُلِق للعزة والكرامة.

وهو يذهب في تصوير هذا كله مذاهب مختلفة ويسلك إليه طرقًا متشعبة، ولكنه بعد أن فرض على نفسه كل هذه القيود أصبح يعيش بيننا يخوض فيما نخوض فيه، ويعيد علينا أحاديث نفوسنا حين نخلو إليها، وأحاديث بعضنا لبعض حين نلتقي، وأحاديث ما نقرأ من الصحف مصبحين وممسين، وأحاديث الكتب السياسية والخُلُقية التي نقرؤها بين حين وحين.

وهو يتناول هذا كله من قريب ومن قريب جدًّا، لا يبعد في التعمق ولا يمعن في الاستقصاء ولا يحلق في جو بعيد، وإنما هو في الأرض يحدِّث الناس ويحدِّث المصريين خاصةً عن حياتهم التي يحيونها، والتي كانوا يحيونها في بعض تاريخهم، يسلك في هذا كله طريقَ الذين يحبون أن يكون الأدب للحياة، وما أرى هؤلاء إلا يحبون قصته أشد الحب ويرضون عنها أعظم الرضى؛ فهو لا ينأى عن حياتهم الواقعة قيد أصبع، وهو حريص أشد الحرص على أن تكون قصته نافعة للناس في تهذيب أخلاقهم وتقويم سيرتهم، وإصلاح ما يكون بينهم من صلة، وإخضاع السياسة ونُظُمها كلها لما يكفل مصالحهم ويرضي طموحهم إلى حياة ناعمة في ظل العدل والمساواة والإخاء، وليس هذا كله بالشيء القليل.

وقصة شاعرنا مرآة صادقة لآلام الناس وآمالهم وحياتهم كلها ما ظهر منها وما بطن، وأكاد أعتقد أن المحنة التي دارت عليها أحاديث ألف ليلة وليلة قد تضاءلت حتى كادت تستخفي؛ فشهريار قد ذاق مرارة الخيانة فقتل زوجه وعشيقها العبد، وأُغرِي بعد ذلك بالفجور الأحمر فله كل ليلة عروس، وله في كل نهار دم مسفوك هو دم هذه العروس.

ولكنه لا يكاد يلقى شهرزاد حتى يُصرَف عن هذا الإثم المنكر، وحتى تصبح شهرزاد طبيبًا لا تداويه من هذا الإثم وحده بعد أن صُرِف عنه، وإنما تداويه من حب القتل والرغبة في سفك الدماء، وتداويه كذلك من الطغيان والجور وتريد أن تخلقه خُلُقًا جديدًا، وتجعله ملكًا يلائم ما للشعوب من مثل عليا في الحكم الصالح النقي المستقيم، وقد كفَّ الملك عن قتل النساء ولكنه سريع إلى قتل الرجال، حريص على المال، يرى أن الشعب وما يملكه ملك خالص له لا ينبغي أن يجادله في ذلك مجادل، أو يصده عن ذلك صادٌّ …

فشهرزاد فيلسوف سياسي خلقي يريد أن يكف الملك عن القتل كله، ويريد أن يرد الملك إلى العدل كله، ويريد أن يجعله ملكًا حكيمًا لا يقرب الشر ولا يميل إليه. وهي تسلك إلى أغراضها طريق القصص إذا كان الليل، وطريق الوعظ والإرشاد إذا كان النهار، وطريق العلاج النفسي على مذهب المحدثين. عرفَتْ أن في نفس الملك عقدة جاءته من هذه الخيانة الأولى، فهي تسليه عنها بالقصص، وعرفت أن الإسراف في إزهاق النفوس وسفك الدماء دون أن يلومه في ذلك لائم أو يعارضه فيه معارض، قد ألقى في روعه أنه صاحب السلطان الأعظم والسطوة التي لا حَدَّ لها، وأنه جبَّار الأرض والسماء، يقسم أحيانًا بعزته وجلاله، قد نام عنه ضميره ونسي طبيعته الإنسانية، فأزمعت أن توقظ له هذا الضمير، وأن تذكِّره بهذه الطبيعة، وأن تذكي في قلبه جذوة الندم. وأتيح لها النجح في هذا كله بعد خطوب وأهوال، وأتيح للشاعر نفسه نجحٌ عظيم في ذلك الفصل الذي يصوِّر فيه ضمير الملك وقد استيقظ وأخذ الندم يدنو منه ليستقر فيه، وجعلت صور الماضي وما كان فيه من آثام تمر أمامه وتتحدث إليه فتغريه أحيانًا، وتخيفه غالبًا حتى يثوب إلى رشده، ويعرف نفسه، ويضع طبيعته الإنسانية حيث وضعها الله، ويخرج من حياته الآثمة القانية ليستأنف حياة أخرى نقية صافية بريئة من الشر والإثم، ومن البغي والطغيان.

وشاعرنا قاسٍ صارم قسوةَ العدل وصرامته، فهو قد أنقذ الملك وأخرجه من حياته تلك البغيضة إلى حياة النسك والزهد والشظف والعفاف، ولكنه عنف شهرزاد ففرض عليها الوحدة، وفرض عليها الحرمان، وفرض عليها الحزن وتركها تداوي نفسها من آلامها ويأسها بنفس الفلسفة، أو بشيء يشبه الفلسفة التي داوت بها شهريار. فقد ينبغي أن نذكر أن شهرزاد لم تكن فيلسوفًا مصلحًا فحسب، وإنما كانت امرأة عاشقة، وقد أتاح لها الشاعر النجح في فلسفتها وإصلاحها، وقضى عليها الإخفاق واليأس في حبها؛ فهي قد شقيت ليسعد الملك وليسعد الشعب، وهي جديرة أن تجد من حكمتها وفلسفتها ونجاحها فيما قصدت إليه عزاء عن هذا الشقاء. وهنا يكون الخلاف بين الشاعر المصري والشاعر الفرنسي؛ كلا الشاعرين قد انتهى إلى غاية واحدة، فخلع الملك من ملكه طوعًا لا كرهًا، ولكن الشاعر الفرنسي أرضى الحبيبين فأخلص الملك لشهرزاد وأخلصت شهرزاد للملك، أما شاعرنا نحن فقد أخلص الملك لله وأخلص شهرزاد لليأس والبكاء، ولم يرد أن يريحنا وأن يظهرها لنا راضية قد وجدت في سعادة الملك والشعب عزاءً وأملًا. وبين الشاعرين اختلاف آخَر؛ فالشاعر الفرنسي يكتب قصته نثرًا، أو قُلْ يكتبها شعرًا منثورًا، ولا يكاد يعمد للشعر المنظوم إلا قليلًا؛ وهو من أجل ذلك لا يشق على نفسه ولا يشق على الناس، ولا يشغلهم عن قصته بأوزان الشعر وقوافيه. وقد قلتُ إنه يكتب قصته شعرًا منثورًا فهو يستجيب لخياله ويمضي معه إلى حيث يريد، ويخرج معه لا على قيود الشعر وحدها، بل على قيود الحياة الواقعة أيضًا.

ففي قصر الملك ساحرة تصنع الأعاجيب، ولا يعجزها حتى أن تنقل قصر الملك وأهله من بغداد حيث تقع أحداث القصة إلى أقصى الشرق حيث يحكم أخوه، ولا يعجزها كذلك أن ترد القصر وما فيه ومَن فيه إلى موضعه من بغداد بعد أن يستيقظ ضمير الملك، وتثوب إليه نفسه وتشمله العافية والشفاء.

تفعل هذا كله في طرفة عين دون أن تجد مشقة أو جهدًا لأنها ساحرة، ولأن صاحب القصة شاعر يستجيب للفن أكثر مما يستجيب لقيود الحياة الواقعة.

أما شاعرنا فقد سلك قصته كلها شعرًا منذ تبدأ إلى أن تنتهي، وكلفه ذلك وكلف قرَّاءه ونظَّارته ثقلًا ثقيلًا.

والأستاذ عزيز أباظة يعرف رأيي في التمثيل الشعري في هذه الأيام كما يعرفه غيره من القرَّاء، وهو يرد على رأيي هذا في مقدمة قصته بعد أن رد عليه فيما مضى ردًّا مطوَّلًا مفصَّلًا، ولكنه لم يقنعني الآن كما لم يقنعني من قبلُ، وما أريد أن أعيد القول في هذا الخلاف بينه وبيني، وإنما أريد أن أقف عند شعره في هذه القصة وقفة قصيرة لا أشق فيها عليه ولا على القرَّاء.

هل استقام الشعر للشاعر في هذه القصة كما يريد هو وكما نريد نحن؟

أما أنا فأشك في ذلك شكًّا بعيدًا؛ فالقصة قد طالت واختلفت أحداثها ومناظرها وألوان الحوار فيها وطبقات الناس الذين شاركوا في هذا الحوار وتلك الأحداث، ولم يستطع الشعر أن يثبت لهذا كله ثباتًا متصلًا متسقًا، ويحتفظ بما ينبغي له من السمو والارتفاع، وإنما اضطر أحيانًا إلى أن يهبط قليلًا. وانظر مثلًا إلى حديث الجوقة في مطلع القصة، وَلْنلاحظ بين قوسين — كما يقال — أن الشاعر أدار الحوار بين أفراد الجوقة، والأصل أن تصوِّر الجوقة شخصًا واحدًا، وأن يتحدث عنها رئيسها، وأن تغني مجتمعة بين حين وحين، وربما أضافت إلى الغناء شيئًا من رقص توقيعي كما كان يصنع القدماء. وَلْنقفل القوسين — كما يقال أيضًا — وَلْننظر إلى حوار الجوقة، فهذه فتاة منها تبتدئ القصة بهذه الأبيات:

وَهَكَذَا يُطْوَى سِجِلُّ الْحَيَاةِ
فِي ذَلِكَ الْقَصْرِ الْمَقِيتِ الرَّهِيب
بَيْنَ سُعَارٍ يَتَمَادَى لَظَاهُ
وَشقْوَةٍ تَطْغَى وَدَمْعٍ صَبِيب
الْهَوْلُ مَضْرُوبٌ عَلَيْنَا مطَاهُ
وَالْقَلَقُ الْأَسْوَدُ مِلْءَ الْقُلُوب

فانظر إليها في البيت الأول تتحدث إلينا من قصر الملك نفسه في بهو من أبهائه، فهي قريبة منه كأدنى ما يكون القُرْب لأنه يحتويها، ولكنها تشير إليه إشارتها إلى الشيء البعيد فتقول «في ذلك القصر» لا شيء إلا لأن الوزن لم يستقم إلا على هذا النحو من أنحاء الإشارة.

وانظر إلى البيت الثاني في السُّعَار الذي يتمادى لظاه، فالتمادي هنا أقامت وزن البيت لا أكثر ولا أقل. وانظر إلى المطي في البيت الثالث وإلى موقعه من السامعين والقارئين في هذه الأيام، وإلى ما يشعر به من هذه الاستعارة التي يشبِّه فيها الذل بناقة لها ظهر وقد تتمطى فيمتد ظهرها ويطول كأقصى ما يكون طوله، وما جاءت هذه الكلمة إلا لتقيم القافية التي التزمها الشاعر في الشطور الأولى لهذه الأبيات: «الحياة – لظاه – مطاه».

وانظر إلى هذا البيت من حديث الفتاة الثانية:

الذِّئْبُ! أَيْنَ الذِّئْبُ مِنْ شَهْرَيَار
… لَا يَثِبُ الْوَثْبَةَ إِلَّا بِدَم

وما أرى أني في حاجة إلى أن أنبِّه إلى قلق هذا الدم في موضعه من القافية مع هذا الباء التي جاءت لتتم وزن البيت.

وانظر إلى هذا البيت الأول من حديث الثالثة:

الْمَوْتُ حَقٌّ وَالْبَرَايَا فَوَانٍ …
لَكِنَّ قَتْلَ النَّفْسِ خِطْءٌ كَبِير …

الموت حق كل الناس يعرف ذلك وكل الناس يقوله، فهذه العجوز لم تعلمنا شيئًا، وكلمة «الفواني» هنا نابية ما في ذلك شك في آذان كثير من النظَّارة. و«قتل النفس خِطْء كبير» جملة قرآنية: إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا.

فهذه العجوز تتكلم بما يتكلم به الناس جميعًا، ولا تنسى إلا شيئًا واحدًا، وهو أنها تتحدث عن لسان شاعر لا عما استقر في نفسها كما استقر في نفوس الناس جميعًا … وأستطيع أن أمضي في مثل هذا النقد إلى غير مدًى، ولكنه على ذلك نقد يسير؛ فقد اضطر الشاعر إلى أن يتحدث إلى الناس فتحدَّث إليهم بما يعلمون وبما يرددون أكثر مما تحدَّث إليهم بما ليس لهم به علم أو عهد، ولكن هناك شيئًا آخَر لا يختص به شاعرنا، وإنما يشاركه فيه غيره من الذين يقصون التمثيل شعرًا، وهو هذا التنقل السريع الكثير الممض بين أوزان الشعر المختلفة وبين القوافي التي لا تُحصَى، يلتزم الشاعر وزنًا من الأوزان وقافية من القوافي، ثم لا يلبث أن يضيق بالوزن والقافية، أو أن يضيق به الوزن والقافية، فيثب إلى بحر آخَر من بحور الشعر، وإلى قافية أخرى من القوافي، فأنت بين سرعة وبطء، وبين صعود وهبوط، وبين حركة وسكون؛ لأن أوزان الشعر تقتضي هذا كله، لكل وزن منها ما يلائمه، فالتنقل بينها في الموقف الواحد في الحوار الواحد فيه انحراف عن الموسيقى ينفر منه السمع وتضيق به النفوس.

ولست أدري ما يمنع الشعراء الممثلين من أن يريحوا أنفسهم من القوافي، فيضعوا عنها ثقلًا ثقيلًا، قد سبقوا إلى التحرر منه منذ زمن طويل؟ ولِمَ لا يلتزمون في كل فصل من فصول قصصهم نمطًا بعينه من الشعر حتى لا يزعجوا السامع بهذا الصعود والهبوط، وبهذا العدو والسكون في الوقت الذي يريد أن يفرغ فيه لجمال الشعر، وما يريد الشاعر أن يلقي في نفسه من المعاني؟

ولَمْ يلائم الشاعر بين الوزن والقافية والموضوع إلا حين أنطق المفتي برجز المتون هذا الذي تحدَّث به فاحش الحديث، وأضحك قرَّاءه وسامعيه.

وتفصيل النقد للقصة يطول وما أظن الصحف اليومية تتسع له، ولكني أحب آخِر الأمر أن أهدي إلى الشاعر ولزميله أصدق الشكر لتفضلهما عليَّ بإهدائهما القصة إليَّ.

وأحب بعد هذا كله أن أثني على ما بذل شاعرنا الكبير من جهد ضخم خصب، إنْ لم يُتَحْ له فيه التوفيق كله، فقد أُتِيح له منه شيء كثير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤