مَثَل

ليل ساجٍ، وظلام داجٍ، وسحاب ثقال كأنها الجبال، وبرد تجمد له الدماء في العروق، وتتحجر له الأطراف، وتنضب له ينابيع الحياة، وبرد ينهمر من السماء انهمارًا تسوخ فيه الأقدام حين يمشي أصحابها، وتكسى منه الأجسام معاطف من ثلج تستأصل كل ما فيها من حرارة، وجماعات كثيرة من الناس مع ذلك لا تجد البيوت التي تأويها، ولا النار التي تدفئها، ولا الطعام الذي يغذيها، فهي هائمة تتكفف الناس حين يتيح لها اعتدال الجو وإسماح الطبيعة أن تهيم، وهي قائمة واجمة تنتظر الموت حين يحول اضطراب الجو وعنف الطبيعة بينها وبين الحركة والاضطراب في الأرض، وبسط الأيدي وإراقة ماء الوجوه وابتذال حياء النفوس التماسًا لما يقيم الأود من القوت.

كذلك كانت باريس حين اجتاحتها موجة البرد التي اجتاحت أوروبا في الأيام القليلة الماضية، وفي ليلة من هذه الليالي الهوج حين تجاوز الليل نصفه، وكاد يبلغ ثلثيه، كانت مئات كثيرة من الناس، فيهم الرجال والنساء وفيهم الشباب والكهول، قد وقفوا تحت السماء وقد غاصت أقدامهم من البرد، وجلل أجسامهم ما يسَّاقط منه، بل ما ينهمر منه انهمارًا، والريح الباردة تهب عليهم من كل وجه، وتأخذهم عواصفها من جميع أقطارهم، وقام على أصل جدار متهدم قسيسٌ يخطبهم فينسيهم أنفسهم ويصليهم بخطبته نارًا تحرق قلوبهم ونفوسهم، يذكِّرهم بإخوانهم أولئك الذين يهبط الموت إليهم من السماء وينجم لهم من الأرض، ويسعى إليهم على أجنحة الريح لأنهم لا يجدون مأوى ولا نارًا ولا كساء ولا غذاء. والميسورون من حولهم ساهون لاهون، لا يحفلون بهم، ولا يلتفتون إليهم، ولا يلقون إليهم بالًا ولا يعلمون بمكانهم، إنما هم بين جادٍّ ينعم في دعة بما أنتج له جده، وبين لاهٍ يستمتع في استخفاف بما أتاح له ثراؤه العريض. ثم يكفُّ الخطيب عن الكلام وتنطلق الأيدي بالتصفيق إن أتيح لها التصفيق، ثم يتفرقون مسرعين، منهم مَن تمضي بهم السيارات مبارية للريح، ومنهم مَن يعدون في كل وجه ما استطاعوا العدو، وقد مضوا جميعًا يلتمسون إخوانهم أولئك على شواطئ السين، وعند جسوره وعند أفواه المترو، وفي كل مكان يألفه المضيعون من الناس.

حدث ذلك في ليلة من تلك الليالي الهوج، ثم حدث بعد ذلك في الليالي الهوج كلها، ثم لم يلبث أن أصبح نظامًا يحدث في الليل والنهار، ويحدث حين تثور الطبيعة وحين تهدأ، وحين تعصف الرياح وحين تسكن، وحين يعنف البرد وحين يخف، كان يحدث أول الأمر لدفع الخطر الداهم الذي أثاره عنف الطبيعة، ثم أصبح يحدث في كل يوم لما استقر في النفوس من أن للإنسان — بحكم أنه إنسان — الحق كل الحق في ألَّا يجوع ولا يظمأ ولا يعرى ولا يتعرض للآفات التي تأتيه من فقد المأوى.

وكان أصل هذا كله ذلك القسيس الذي استطاع أن يلهب النفوس، ويقر في القلوب جذوة لا تبرد، إلا إذا طعم جائع واكتسى عريان وجُبِر مسكين، ثم لم يستطع هذا القسيس أن يثير نفوس الأفراد وحدهم، بل أثار معها نفوس الجماعات، فأخذت تتبارى في الجود وتستبق في السخاء، وتتنافس أيها يكون أعظم برًّا بالبائسين والمحرومين، ثم أثار الدولة نفسها فجعلت تسرع إلى تقديم المعونة العاجلة، وترصد المال لتحتاط لهذا الشر العظيم فيما تستقبل من الأيام.

ويستطيع كلُّ مَن أقام في باريس أو ألمَّ بها أن يرى فندقًا من فنادق الترف في شارع من الشوارع الممتازة قد جمع الثراء العريض والبؤس المهلك بين جدرانه، فسكانه من المترفين يغدون ويروحون ويتحدثون في أبهائه أثناء النهار ويسمرون فيها أول الليل، ويرون مع ذلك أفواجًا من البائسين المحرومين، يمرون بهم قاصدين إلى تلك الحجرات التي خُصِّصَتْ لاستقبالهم، وأقام فيها فريق من الناس يوجِّهونهم إلى حيث يجدون ما يحتاجون إليه من المأوى والطعام والكساء والغذاء.

ذلك أن القسيس قد اختار هذا الفندق منزلًا له، وما أسرع ما أقنع أصحاب الفندق بأن يعينوه على الخير فأجابوه إلى ما أراد! وإذا الفندق يئوي مع القسيس شابين تخرَّجا في مدرسة الهندسة العسكرية، وهما يعملان معه كاتبين له قد تطوَّعَا بجهدهما كما تطوَّع القسيس بجهده، وتطوَّع آخرون من الشباب والشيوخ بالساعات من أوقاتهم تقصر وتطول، وهم يجلسون في تلك الحجرات يعطون السائل، ويُطعِمون الجائع، ويسعفون المحتاج، ويوجِّهون طالب المأوى إلى حيث يستطيع أن يقيم. وهذه محطات السكك الحديدية تخصِّص قاعاتها لإيواء الذين لا يعرفون أين ينفقون الليل، وتذهب مذهبها محطات المترو، وتذهب مذهبها كثير من المؤسسات المختلفة، والمتطوعون على ذلك يطوفون في باريس ليلًا ونهارًا يجمعون البائسين والمحرومين، ويأخذونهم طوعًا أو كرهًا إلى حيث يجدون اللين بعد الشدة، والطعام بعد الجوع، والمسكن بعد العراء.

والغريب من أمر القسيس أنه نشأ في أسرة غنية موفورة الغنى، يأتيها ثراؤها العريض من إحدى صناعات الترف، وهي صناعة الحرير في مدينة ليون.

وقد كان منذ شبابه الأول شديد الألف للعمال الذين يعملون في مصانع أسرته، يحبهم ويعطف عليهم، ويتتبع حاجاتهم ويعينهم عليها ما وجد إلى ذلك سبيلًا. وقد تعلَّم كما يتعلَّم أمثاله، ولكن البؤس الذي رآه مصبحًا وممسيًا ينتج السعادة، والحرمان الذي رآه في كل يوم ينتج الغنى، والعناء الذي رآه كل ساعة ينتج الراحة وخفض العيش، كل ذلك زهَّدَه في الدنيا وصرفه إلى الدين، فأقبل عليه مستجيبًا لهذه الدعوة الكريمة التي يوجِّهها الدين إلى قلوب الأخيار، وأصبح قسيسًا فلم يفرغ لشئون العبادة، ولم يقف نفسه على كنيسة من الكنائس، وإنما عاش مع الناس وأراد أن يصلح حياتهم ما يستطيع إصلاحه، حاول ذلك عن طريق السياسة فأصبح نائبًا، ثم لم يلبث أن رأى طريق السياسة غير منتجة فانحرف عنها، وانصرف إلى مواجهة الأفراد والجماعات، يوقظ ضمائرهم وينبِّههم إلى الواجبات التي يقصرون في أدائها، وإلى الحقوق التي يهملون في طلبها، وإلى الحب الذي يجب أن يكون قوام الصلة بين الناس، وإلى المعروف الذي يجب أن يكون دواء العلل الاجتماعية على اختلافها، وتهيِّئ له الطبيعةُ بثورتها الجامحة الأخيرة فرصةً أي فرصة، فيحسن انتهازها ويتاح له من النجاح ما أتيح.

وإذا هو يوقظ الضمير الفرنسي من نوم عميق، وإذا الفرنسيون يستجيبون له أفرادًا وجماعات، ثم يستجيبون له شعبًا وحكومة، وإذا نوع من النشاط الاجتماعي لمعونة المحتاجين لم تشهده فرنسا منذ عهد بعيد، وإذا كثير من الفرنسيين تتنبه في نفوسهم عاطفةٌ دينيةٌ قويةٌ، فيرون هذا القسيس قديسًا من القديسين الذين كانوا يظهرون فيما مضى من الزمان، ومنهم مَن يسمِّيه باسم القديس المشهور سان فنسان دي بول.

والقسيس نفسه ماضٍ في طريقه لا يحفل برأي الناس فيه، وإنما يعنيه شيء واحد هو أن تبلغ دعوته القلوب، وأن يستجيب لها الناس كلٌّ في حدود طاقته، وأن يستيقظ في الفرنسيين هذا الشعور الذي لا قوام للأمم بدونه، وهو شعور التضامن بين أبناء الشعب الواحد، حتى يصبحوا وكأنهم إخوة لا يسعد أحدهم إلا إذا سعدوا جميعًا، ولا يشقى أحدهم إلا أصابهم جميعًا ما أصابه من الشقاء، وكأنهم أعضاء في جسم واحد لا يألم عضو إلا شاع الألم في الجسم كله. وكذلك استطاع هذا الرجل الفرد أن يوقظ شعبًا، وأن يسخِّر سلطان الدولة ليستجيب لهذه اليقظة العامة، ثم هو بعد هذا كله ماضٍ في عمله يجمع المال من الأغنياء والفقراء، ومن الهيئات الحرة والمصالح الحكومية، ومن مجالس البلديات ومجالس الأقاليم، ويجنِّد الأفراد للتعاون على البر والتقوى والسعي بالخير والمعروف بين الناس، آمَنَ بالإصلاح فسيطر الإيمان على عقله وقلبه وضميره، ثم استفاض الإيمان من حوله فألقى في نفوس مواطنيه ضياء ونورًا، قرأ في الإنجيل أن الإيمان يزيل الجبال من أماكنها فآمَن بما قرأ، وجرَّب فأسعفته التجربة وأزال من قلوب مواطنيه ما تراكم فيها من الكسل والغفلة، ومن الأثرة والانهماك في اللَّذَّات والاستباق إلى نعيم الحياة، وحبَّبَ إليهم الخير والبر، وأثارهم للتنافس في المعروف والإحسان.

كل ذلك وفي حياة الفرنسيين من الإصلاح الاجتماعي ما لم نحاول بعضه نحن إلى الآن، ولكن أخَصَّ صفات الإصلاح أنه أشْبَهُ شيءٍ بالأنهار الجارية، لا ينبغي لها أن توقف ولا أن تُهمَل مجاريها، وإنما ينبغي أن تُتعهد بالعناية والرعاية حتى تفيض بالخير على الناس جميعًا، وعلى الطبيعة الحية كلها.

كم أحب أن يتفكر المواطنون من المصريين في هذا المثل الرائع الذي ظهر في فرنسا فجأةً وعلى غير انتظار. إن في وطننا ثورةً تريد الإصلاحَ، ودعوةً إلى الخير يجب أن تشمل وتعم، وأن تتجاوز الآذان التي تسمعها والألسنة التي تكرِّرها إلى القلوب والنفوس والضمائر، فتستقر فيها مسيطرةً عليها موجِّهةً لها.

كم أحب أن تصدر دعوتنا إلى الخير من قلوبنا ومن أعماق ضمائرنا لتبلغ قلوب غيرنا وأعماق ضمائرهم، فإن القلوب تُحسِن التحدث إلى القلوب، والضمائر تُحسِن الإيحاء إلى الضمائر. ثم كم أحب آخِر الأمر أن يتفكَّرَ رجالُ الدين ويتدبَّروا ويذكروا أن دعوة القرآن إلى الخير والبر والإصلاح ليست أقل حرارةً وإلحاحًا من دعوة الإنجيل، وأن قلوب المصريين وضمائرهم ليست أقل خصبًا واستجابةً من قلوب الفرنسيين وضمائرهم، وأن مصر ليست أقل حاجةً إلى الإصلاح من فرنسا، وأن المصريين ليسوا أقل قدرةً من غيرهم على أن يسمعوا القول فيتَّبِعوا أحسنه، وعلى أن يُدعَوا إلى الخير والإصلاح فيجيبوا إلى الخير والإصلاح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤