نعَم واجب

لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر أصدق الشكر وأجمله على مقاله القيِّم الذي قرأته اليوم في «الجمهورية»، عن نقل معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، ولفضيلته كذلك أصدق الشكر وأجمله على ما تفضَّلَ به عليَّ من ثناء، وما وجَّه إليَّ من دعاء. وأحب أن يطمئن الأستاذ الجليل إلى أني حريص أشد الحرص على أن أكون عندما يحب من معونته حسب طاقتي على ما يحاول من تبيين حقائق الإسلام للناس في الشرق والغرب جميعًا. ولكني أعود بعد ذلك إلى الموضوع الذي كتبتُ فيه منذ حين، والذي أثار الأستاذ الجليل إلى الكتابة فيه اليوم، وهو ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية.

فقد يظهر أن فضيلة الأستاذ الأكبر يوافقني على أن هذه الترجمة واجبة لا ينبغي التقصير في أدائها، ويوافقني كذلك على أن الأزهر قد فكَّر في هذه الترجمة وأطال فيها التفكير، وتحدَّث عنها وأكثر فيها الحديث منذ عشرين عامًا، ولكنه على ذلك لم يصنع شيئًا، بل لم يأخذ في هذه الترجمة، ولم يُتِمَّ منها قليلًا أو كثيرًا.

وكنت أظن أن الأزهر في هذا العهد الجديد، سيستأنف التفكير الجاد المنتج في هذا الواجب الخطير، ويأخذ في أدائه دون إرجاء له أو إبطاء فيه، مكتفيًا بما ضاع من الوقت في التفكير والحديث أثناء هذه السنين الطوال.

ولستُ أدري أمخطئ أنا في فهم الحديث الذي نشرَتْه الأهرام للأستاذ الأكبر منذ أسابيع بهذا العنوان الذي لم ينكره الأستاذ الأكبر، ولم ينكره أحد من الأزهريين، وهو إرجاء ترجمة معاني القرآن للُّغات الأجنبية؟

«مشروع جديد لمشيخة الأزهر للتَّعريف بأحكام الإسلام ومبادئه.»

«رجال الدين مسئولون أمام «الضمير» الإنساني عن سلامة العالَم.»

وهذا العنوان وحده يصوِّر حديث الأستاذ الأكبر تصويرًا دقيقًا، كما أنه يصوِّر المقال الذي نشرته «الجمهورية» له صباح اليوم، ففضيلته يرى في صراحة صريحة أن الغاية التي يقصد إليها من ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية، إنما هي تعريف حقائق الإسلام للناس في الشرق والغرب، تعريفًا صحيحًا صادقًا لا لبس فيه ولا غموض ولا التواء.

والأستاذ الأكبر يرى الإسراع إلى تحقيق هذه الغاية بوضع الكتب والرسائل التي تعرض حقائق الإسلام وأصوله، وترجمة هذه الكتب والرسائل إلى اللغات الأجنبية المختلفة، ولا يتحدث عن الأخذ في ترجمة معاني القرآن نفسه اليوم أو غدًا أو بعد غد. وأخشى أن يكتفي بوضع هذه الكتب وترجمتها وإذاعتها، ويستغني بذلك عن الموضوع الذي ألحَّ فيه أشد الإلحاح، وهو ترجمة معاني القرآن نفسه ترجمة دقيقة صادقة، يمكن أن يثق الناس بها ويطمئنوا إليها، ويعلموا أنها هي التي تصوِّر فهم أعلام الإسلام للقرآن الكريم.

فهناك فرق واضح أشد الوضوح بين كتاب يُقدَّم إلى الناس على أنه ترجمة لمعاني القرآن قد أقرَّها رجال الدين وأطبقوا على إقرارها، ولم يروا فيها عوجًا ولا انحرافًا عما ينبغي أن يُفهَم من نصوص الذِّكْر الحكيم، وبين كتاب يُقدَّم للناس على أنه عرض لهذه الحقيقة أو تلك من حقائق الإسلام، قد ألَّفه هذا الأستاذ أو ذاك من أساتذة الأزهر الشريف أو من غيرهم.

وما أكثر الكتب التي ألَّفَها المستشرقون عن الإسلام! والتي يستقيم بعضها لأنه يصدر عن الإخلاص في حب العلم، والصدق في عرضه على الناس، وتجنُّب الهوى والتعصُّب، وحسن العلم بالتراث الإسلامي، وينحرف بعضها عن الجادة لتأثُّر المؤلِّف بالهوى، أو لقصوره عن فهم هذا النص أو ذاك من النصوص الإسلامية على اختلافها.

وقرَّاء العربية يعرفون بعض هذه الكتب لأنها نُقِلت إلى لغتهم في عصور مختلفة وبأقلام مختلفة أيضًا، والذين يحسنون اللغات الأجنبية يقرءون كثيرًا من هذه الكتب في اللغات التي أُلِّفَتْ فيها، أو نُقِلت إليها، فيعرفون وينكرون ويرضون ويسخطون.

ولست أرى بأسًا — كما قلتُ في الحديث الماضي — بأن يشارك الأزهريون في تأليف بعض هذه الكتب والرسائل، بل أنا أرى في ذلك الخير كل الخير، وأتمنى أن يسرع الأزهريون إليه، وأرجو أن تكون لي في بعضه مشاركةٌ، ولكن هذا شيء والموضوع الذي أُلِحُّ فيه وأراه واجبًا لا يحتمل إرجاءً ولا إبطاء شيءٌ آخَر.

فأنا أريد ألَّا يرجِئ الأزهر نقْلَ معاني القرآن نفسه إلى اللغات الأجنبية الحية أكثر مما أرجأه إلى الآن؛ ذلك أن الناس في العالم الغربي كثيرًا ما يحرصون على قراءة الكتب المقدسة نفسها في لغاتهم التي يتكلمونها، أو في اللغات الأجنبية التي يحسنونها، وهم يقرءون التوراة والإنجيل، ويقرءون كتبًا أخرى تقدِّسها شعوب لا تؤمن بالكتب السماوية، يدفعهم إلى هذا الحرصِ حبُّهم للعلم ورغبتهم في المعرفة وطموحهم إلى فقه الشئون الدينية، مهما يكن مصدرها. وهم يقرءون تراجم كثيرة للقرآن نُشِرت منذ أواخر القرون الوسطى، وما زال بعضها يُنشَر في هذه الأيام، وكان آخِر ما وصل إليَّ منها ترجمة فرنسية نُشِرت بعد الحرب العالمية الثانية للأستاذ الفرنسي رجيس بلاشير أستاذ اللغة العربية بالسوربون.

وأصحاب هذه التراجم المختلفة يحملون تبعاتها بالطبع، وهي تبعات ثقال في أكثر الأحيان. والشيء الذي أقطع له هو أن هذه التراجم لا تقع في نفوس المسلمين المتقنين لعلوم الإسلام مواقع الرضى؛ لأنها تنحرف عن الجادة من هذه الناحية أو من تلك، بعضها يخطئ الفهم ويخطئ الأداء، وبعضها ينحرف عن السنة الموروثة في ترتيب القرآن ويُحدِث اضطرابًا شديدًا في نفوس الذين يقرءونه. ولن يستطيع الأجانبُ أن يفهموا هذا الموقف الغريب الذي يقفه المسلمون من كتابهم المقدَّس الكريم، فلا يترجمون معانيه لهم، ولا يقدِّمون إليهم منه صورةً يمكن أن يطمئنوا إليها ويثقوا بها، على حين تقدم إليهم التراجم المختلفة للتوراة والإنجيل وكل ما يتصل بالتوراة والإنجيل من المباحث والشروح.

والمثل الذي ضربته في الحديث الماضي ليس إلا شيئًا قليلًا من أشياء كثيرة لا أحب أن أعرض لها الآن، كما لم يحب الأستاذ الأكبر أن يعرض لها الآن. لا أريد أن أثير خصومة قوية أو ضعيفة بين المسلمين وغير المسلمين، وإنما أريد أن ينهض المسلمون بهذا الواجب الذي نهض به كثير من غير المسلمين، يخلص أكثرهم وينحرف قليلٌ منهم عن الإخلاص، ويتورَّط أولئك وهؤلاء في الخطأ الذي لا ينفع أحدًا والذي يسوء الإسلامَ ويسوء المسلمين، عن عمد وغير عمد. والإسلام دين يتجه إلى الناس كافةً لا إلى العرب منهم خاصةً، وليس من الطبيعي ولا من الممكن أن نفرض على الناس أن يقرءوا القرآن في نصه العربي إذا أرادوا أن يعرفوه؛ لأن هذا تكليف بالمحال كما يقول الأزهريون.

فلا أقل من أن نفسِّر لهم القرآن بنقل معانيه إلى لغاتهم، لنتيح لهم ما يريدون من ذلك دون أن يجدوا في ذلك مشقَّة أو عسرًا، ودون أن يتعرَّضوا في ذلك للخطأ أو الجهل والتحريف.

وفضيلة الأستاذ الأكبر يوافقني — فيما أظن — على أن نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية ليس مستحيلًا ولا ممتنعًا، وعسى ألَّا يكون من العسر بحيث يظن المتحرجون.

فأنا لا أريد أن أنقل إلى اللغات الأجنبية ما في بيان القرآن الكريم من روعة وإعجاز، وإنما أريد أن أعطي الأجانب من القرآن الكريم صورةً صادقةً تؤدي إليهم معانيه، وإن لم تؤدِّ إليهم روعة النظم وجمال اللفظ وبراعة الأسلوب.

وفي معاني القرآن نفسها من الروعة والبراعة ما يؤثِّر في القلوب الإنسانية أعظم الأثر وأقواه، وما لا يُدرَك كله لا يُترَك جله، كما كان يقال لنا في الأزهر أيام الشباب، وكما يقال لطلاب الأزهر الآن فيما أظن. وما أريد أن يظن فضيلة الأستاذ الأكبر أني قصدت أن أسوء الأزهر من قريب أو من بعيد؛ فأنا أعرف للأزهر حقه عليَّ، وأحاول أن أؤدي إليه بعض هذا الحق ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، ومن أداء حق الأزهر عليَّ أن أذكِّره بالواجب، وأدعوه إلى أدائه، وألحُّ عليه في هذا التذكير والدعاء.

فالله يأمرنا أن ندعو إلى الخير ونأمر بالمعروف ونذكر بالواجب، والأزهر هو الذي علَّمَنا أن الله يأمر بهذا كله، فنحن حين نطلب إليه أداء هذا الواجب الخطير في غير إرجاء ولا إبطاء ولا تريُّث، إنما ندله على أننا استمعنا له فأحسنَّا الاستماع، ودرسنا فيه فأحسنَّا الانتفاع بما تلقينا من الدروس.

أما بعدُ، فإني أرجو أن يتفضَّل الأستاذ الأكبر فيعنى أشد العناية وأقواها وأصدقها بنقل معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، وبتأليف ما يجب تأليفه من الكتب والرسائل التي تبيِّن حقائق الإسلام للناس، فالاستكثار من الخير مرغوب فيه دائمًا مَدْعُوٌّ إليه دائمًا، وفي الأزهر والحمد لله قدرة على النهوض بهذين الأمرين جميعًا، ومن حول الأزهر من المسلمين القادرين على معونته مَن يستجيبون له إذا دَعَا، ويعينونه إذا احتاج إلى العون. ولا يغضب الأستاذ الأكبر من هذه الحملة التي رأى فيها قسوةً على معهدنا العظيم، فهو يذكر من غير شك أن من القسوة ما ينفع، وهو يذكر كذلك من غير شك أن قد أتى على الأزهر حينٌ من الدهر كان بعض شيوخه يحرجون على غير الأزهريين أن يخوضوا في حديث الدين من قريب أو بعيد، ويَرَون ذلك مقصورًا عليهم من دون الناس.

وليس أحب إليَّ ولا أحسن في نفسي موقعًا من أن يكون هذا العهد قد انقضى، ومن أن يعود الأزهر الشريف إلى سماحته الأولى، فيعمل الخير ويذيعه ويدعوا الناس إلى المشاركة فيه.

فتلك مهمة الأزهر التي طالما دعوناه إلى أن يخلص لها نفسه وجهده ووقته ونشاطه كله. وأي شيء أحسن موقعًا في نفوس المسلمين من أن يَرَوا الأزهر قد أقبل على واجبه يؤدِّيه أصدق الأداء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤