بل يجب أن تكون الخطوة الثانية

إحدى اثنتين، إما أن يكون السادة الأزهريون قد فهموا عني حق الفهم حين طلبت إلى الحكومة أن تخطو الخطوة الثانية، وتوحِّد التعليم الابتدائي والثانوي كما وحَّدت القضاء، وإذن فهم يقولون غير الحق حين يزعمون أني طالبت بإلغاء التعليم الديني؛ لأني لم أطالب بذلك، ولم أفكِّر فيه، ولا يمكن أن أطالِب به أو أفكِّر فيه، وليس في المقال الذي يعارضه هؤلاء الشيوخ ما يدل على أني أطالِب به أو أفكِّر فيه.

وإذن فهم قد انحرفوا عمَّا يأمرهم به الدين من الصدق في القول والعمل، ومن اجتناب التكلُّف والتزيُّد والتصنُّع والتحدُّث عن الناس بما لم يقولوا، وبما لم يدعوا إليه سرًّا ولا جهرًا.

وإما أن يكون هؤلاء السادة من الشيوخ قد قرءوا فلم يستوعبوا ما قرءوا، ولم يفهموه حق فهمه، فخاصموا في إلغاء التعليم الديني مَن لم يخاصِمهم فيه، وأقاموا الدنيا وأقعدوها لوهم توهَّموه، وأشياء اخترعوها من عند أنفسهم، وإذن فهم في حاجة إلى أن يُقوَّم تعليمهم بحيث يقرءون فيستوعبون القراءة، ويفهمون فيحسنون الفهم، ولا سيما حين يكون الكلام الذي يقرءونه واضحًا لا لبس فيه ولا غموض ولا التواء. وهم يعلمون حق العلم أن الحكومة حين ألغت المحاكم الشرعية ووحَّدَتِ القضاء لم تلْغِ الشريعة الإسلامية ولم تفكِّر في إلغائها، وما كان لها أن تفكِّر في هذا الإلغاء، فإذا طالبتُ الحكومة بأن تخطو في سبيل توحيد التعليم خطوة مثل خطوتها في توحيد القضاء، فليس معنى ذلك أنني أطلب إليها إلغاء التعليم الديني، وإنما معناه أني أطلب إليها إصلاح هذا التعليم بتمكين الأجيال الناشئة من أن تتفق وتتقارب في الشعور والثقافة ومقومات الحياة العقلية، لتفهم الدين حق فهمه حين تتهيَّأ للتخصُّص فيه، ولتنهض بأعبائها الدينية عن فقه صحيح لها، وبصر دقيق بها، وإخلاص صادق في أداء واجباتها للدين أولًا وللمسلمين بعد ذلك. فأين يكون هذا من المطالبة بإلغاء التعليم الديني كما تكلَّف الشيوخ؟ والحكومة بالطبع لم تقصد إلَّا إلى الإصلاح حين وحَّدَتِ القضاء، رأت في ذلك منفعة للناس، ودقة في تحقيق العدل، ووسيلة إلى تحقيق الوحدة بين المواطنين في الاستمتاع بهذا العدل. فإذا بيَّنَّا لها أن توحيد التعليم الابتدائي والثانوي في الوطن الواحد وسيلة إلى الإصلاح، وضرورة من ضروريات هذا الإصلاح، لم نأثم في ذات الدين، ولم نأثم في ذات الحكومة، ولم نأثم في ذات الأزهر نفسه، إلا أن تكون المطالَبَة بإصلاح الأزهر إساءة إليه وجناية عليه وإثمًا يكرهه الله ويكرهه المسلمون.

وما أعرف وما أظن مسلمًا يعرف أن للأزهر عصمة دينية أو غير دينية تجعله فوق الإصلاح، وتجعله مصونًا يعاقَب الداعون إلى إصلاحه بالشتم والتنقص، ومَن يدري، لعلهم أن يعاقبوا بالمحاكمة أيضًا أمام مجلس من هذه المجالس الأزهرية التي تستبيح لنفسها أن تحاكم الناس على الخطأ في الرأي، وتصب عليهم العقاب لأنهم رأوا ما لا يحب الشيوخ.

وقد حاول الناس إصلاح الأزهر من قبلُ، وقيل فيهم مثل ما يقال الآن في الذين يدعون إلى الإصلاح، وقد مضى وقت كانت محاولة الإصلاح للأزهر كفرًا، وكان التفكير فيه إثمًا، وكان الكيد فيه للمصلحين مظهرًا من مظاهر النصح للدين. والناس لم ينسَوا بعدُ قصة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله، ولكننا كنَّا نظن أن هذا العصر قد انقضى، وأن الناس يستطيعون الآن أن يطالِبوا بالإصلاح في الأزهر كما يطلبون بالإصلاح في الجامعات وغيرها من معاهد التعليم.

ولست أدري متى يفرِّق الأزهريون والشيوخ منهم خاصةً بين أنفسهم وبين الدين؟ بل لست أدري متى يفرِّق الأزهريون بين الأزهر الشريف نفسه وبين الدين؟ فالأزهر معهد من معاهد العلم لا أكثر ولا أقل، يجوز عليه ما يجوز على هذه المعاهد، ولا يعصمه تخصُّصه بتعليم الدين من أن يتعرَّض للخطأ ومن أن يصيبه الضعف، ومن أن يطالب الناس بإصلاحه، ليبرأ من الخطأ والضعف جميعًا بمقدار ما يتاح لأعمال الناس أن تبرأ منهما. ومن العناء حقًّا أن نضطر بعد مضي السنين الطوال إلى أن نبدئ ونعيد في الأشياء البديهية لأن قومًا لا يفهمونها أو لا يريدون أن يفهموها، وليس أدل على حاجة الأزهر إلى الإصلاح وإلى الإصلاح بتوحيد التعليم خاصة، من هذه الخصومة المضحكة المحزنة بين الشيوخ وبيني حول هذا الموضوع، فلو قد تعلَّم الشيوخ كما يتعلَّم الناس لما كتب كتَّابهم هذه الأحاديث، ولما فهموا أن المطالبة بإصلاح الأزهر دعوة آثمة إلى إلغاء التعليم الديني، ولو قد تعلَّم الشيوخ كما يتعلَّم الناس لما قال قائلهم إنه وزملاءه قد درسوا العلوم المدنية مفصَّلَةً كما لم يدرسها أحدٌ، فدرسوا الحساب والجبر والهندسة والجغرافيا بأقسامها الطبيعية والسياسية والاقتصادية، ودرسوا علم الحيوان بفروعه كلها، وأجروا عمليات التشريح في المعامل، ودرسوا الطبيعة والكيمياء، ودرسوا علم النفس التربوي والاجتماعي والجنائي، ودرسوا الفلسفة القديمة والحديثة، والمنطق القديم والحديث، وعلومًا أخرى لا أكاد أحصيها. ولست أدري إن صح هذا كله ماذا تنتظر الحكومة؟ وما لها لا تلغي جامعاتها ومدارسها ومعاهدها على اختلافها، وتحوِّل التلاميذ والطلاب جميعًا إلى الأزهر ليدرسوا فيه هذه العلوم، وغير هذه العلوم، مفصَّلَة كما لم يدرسها أحد، وليتخصصوا مع هذه العلوم كلها في علوم الدين واللغة على اختلافها، ليكون كل واحد منهم دائرة من دوائر المعارف تغدو وتروح، وتذهب وتجيء، وتملأ الأرض كلها علمًا بعد أن مُلِئت جهلًا!

لو تعلَّم الأزهريون كما يتعلَّم الناس لما قال قائلهم مثل هذا الكلام الذي لا يقوله عالم جدير بهذه الصفة، فالعالم الصحيح يمتاز قبل كل شيء بأنه يشعر دائمًا بالقصور والتقصير، ولا يضيف إلى نفسه هذه الإحاطة الكاملة الشاملة التي لا تتاح لعالم من العلماء.

من أجل هذا كله نطالب بإصلاح الأزهر، وبتوحيد التعليم الثانوي والابتدائي في الدولة كلها، على أن يفرغ للتخصص في علوم الدين مَن يريد، وعلى ألَّا يكون التخصُّص في علوم الدين مانعًا لصاحبه من المشاركة في حياة الناس العملية والعقلية إن شاء.

والعالم الصحيح يتجنَّب الخوض فيما لا يحسن، وليس من الحق في شيء أن التخصص في علوم الدين المسيحي يسير قريب المنال كما يظن ذلك الشيخ الجليل، وإنما الحق أن علوم الدين المسيحي عميقة واسعة، متنائية الأطراف، بعيدة المنال، تكلِّف أصحابها جهودًا لا تخطر للشيخ وأمثاله على بال، ولكن نقص التعليم في الأزهر هو الذي أتاح للشيخ أن يقول مثل ما قال، ولو قد تعلَّم الشيوخ كما يتعلَّم الناس، لما توهَّموا أن المطالبة بتوحيد التعليم تعرِّض حفظ القرآن للخطر؛ ففي الأرض بلاد إسلامية ليس فيها الأزهر، وليس للأزهر عليها سلطان، ولم يُهمَل فيها مع ذلك حفظ القرآن، ولم تُهمَل فيها مع ذلك علوم الدين، ولكن الشيخ يرسل الكلام إرسالًا في غير تحفُّظ ولا احتياط، لا لشيء إلا لأنه يتعلَّم كما يتعلَّم الناس، وإنما عاش وما زال يعيش في القرون الوسطى، والناس يحيون في العصر الحديث، وهو بالطبع قد عرف من هذه العلوم التي ذكرها وذكرها غيره من زملائه أسماءها وظاهرها من أطرافها، ولكنه لم يتعمَّق شيئًا منها ولم يدرسها مفصَّلَة، ولو قد فعل لما قال هذا الذي يقول.

والأمر بعد ذلك أيسر من كل هذا الخصام الذي لا يفيد ولا يغني عن أحد شيئًا، فإذا كان التعليم الابتدائي والثانوي في الأزهر مطابقين بالفعل للتعليم في مدارس الدولة في كل ما يتصل بالعلوم المدنية، ففيمَ تعدد الشهادات والإجازات؟ ولم لا يتقدم الأزهريون إلى امتحانات الدولة ليظفروا بشهاداتها وإجازاتها، ويشاركوا في تعليمها العالي، لا يُرَدُّون عنه ولا يحال بينهم وبينه؟

وما مصلحة الأزهر في أن ينفرد بالإشراف على ما لا يُحسِن من العلم؟ وما يمنع الأزهر من أن يخضع في هذه العلوم المدنية لإشراف الدولة ونصحها وتوجيهها، ليفتح لطلابه أبوابًا من النشاط ما زالت مغلقة دونهم؟ والدولة بعد ذلك ليست غريبة عن الأزهر؛ فالأزهر مصري، والدولة مصرية، وللدولة السيطرة على التعليم كله في أرض الوطن، وفيه التعليم الأجنبي، فمن أين يتاح للأزهر هذا الامتياز الذي يضر أبناءه ولا ينفعهم، ويضرهم في حياتهم العملية والعقلية جميعًا؟

والدولة تنفق على الأزهر وترسِل إليه المعلمين الذين يدرِّسون لأبنائه العلوم المدنية، فما يمنعها من أن تشرف على هذا التعليم لتستوثق من أنه يحقِّق المصلحة الوطنية التي تقوم عليها وترعاها وتنفق عليها أيضًا؟

أَلَا يوافق الشيوخ على أن هذا من الأوليات التي لا ينبغي أن تكون موضوعًا للخصام، فضلًا عن الجدال، وفضلًا عن الشتم وإطالة الألسنة؟

والغريب أن يظن الأزهريون أني أجهل مكانة الأزهر وخطره في الحياة المصرية خاصةً، وفي الحياة الإسلامية عامةً، ولو قد قرءوا بعض ما نُشِر لي من الكتب لعرفوا أني سبقتهم جميعًا إلى التنويه بمكانة الأزهر، وتنبيه الدولة إلى أنه مجدٌ لمصر يجب أن يُرعَى وأن تشمله العناية الكاملة من الحكومة والشعب جميعًا، ولكن الشيوخ يدرسون العلم كله مفصَّلًا ولا يقرءون ما يُكتَب عن معهدهم، ويُنشَر في أقطار الأرض، ويُترجَم إلى بعض اللغات الحية الكبرى؛ ذلك فيما أعتقد لأنهم لا يتعلمون كما يتعلم الناس.

ليصدِّقني الشيوخ ولتصدقني الحكومة قبل الشيوخ، إن توحيد العلم الابتدائي والثانوي واجبٌ وطني لا ينبغي التقصير فيه ولا التأخير في أدائه، وشباب الأزهريين شيوخًا وطلابًا يريدونه ويطالبون به ويلحون فيه، فَلْتخطُ الحكومة خطوتها الثانية، وليس عليها في ذلك بأسٌ ولا جُناحٌ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤