القَرْيَة الظالِمَة

فلسفة وأدب … للدكتور محمد كامل حسين

وأخيرًا أتيح لنا كتاب نقرؤه بعقولنا في أناة ومهل، وفي تدبُّر وتفكُّر، وفي كثير من المراجعة وكثير من الوقوف عند هذا الفصل أو ذاك من فصوله، لا نمر به مرَّ السحاب، ولا تلتهمه الأبصار والآذان في أقصر وقت ممكن، ولا تكرُّه الألسنة كرًّا.

أتيح لنا كتاب لا نقرؤه لقطع الوقت، ولا نقرؤه لندعو بقراءته النوم حين يمتنع علينا، وإنما نقرؤه لنفهم عن كاتبه ما أراد أن يسوق إلينا من حديث، ولنرى بعد ذلك أنقبل حديثه أم نزورُّ عنه؟ أَنُقبِل على معانيه إقبال المشوق الوامق، أم ننفر نفورًا شديدًا؟ كتاب لم يُرِحْ كاتبَه ولن يريح قارئه، وأكبر الظن أن كاتبه قد أهدى إلينا فيه خلاصة حياته وصفوة تجاربه، ونتيجة جهوده المتصلة التي أنفقها دارسًا للطب والجراحة، معالجًا للمرضى، مبتليًا أخبار الناس وأسرارهم، ممتحنًا ما يكون من سيرتهم أفرادًا وجماعات، وما يكون من تجاوب بين هؤلاء الأفراد والجماعات حين يعرف بعضهم بعضًا، وحين ينكسر بعضهم بعضًا، وحين يمكر بعضهم ببعض، وحين يسعى بعضهم إلى بعض بالخير والمعروف.

وأهدى إلينا فيه كذلك خلاصة حياته قارئًا هذه القراءة المتصلة التي يستريح إليها إذا فرغ من طبه ومرضاه، ومن اتصاله بالناس، سعيدًا بهذا الاتصال حينًا، وشقيًّا به أحيانًا.

فصاحب هذا الكتاب من أشد الناس حبًّا للقراءة، وأعظمهم بها كلفًا، وأكثرهم عليها إقبالًا. لا يكاد يستريح من جهده إلا إليها، ولا يكاد يفرغ من العمل والناس إلا لها، وقراءته متنوعة أشد التنوع، فهو يقرأ في الطب والجراحة كما تفرض عليه صناعته، ويقرأ في العلم والفلسفة كما يفرض عليه عقله وطبيعته، ويقرأ في الأدب القديم والحديث، العربي والأجنبي، كما يفرض عليه مزاجه، وهو لا يقرأ بقلبه وحده، ولا يقرأ بعقله وحده، وإنما يقرأ بهما جميعًا. وأبغض شيء إليه هذه القراءة السريعة اليسيرة التي يغرق الناس فيها من حوله إلى أذقانهم، أو إلى آذانهم في هذه الأيام. ثم هو لا يفرغ من قراءة إلا ليستبقي منها شيئًا يدَّخِره في زاوية من زوايا نفسه قبل أن يأخذ في قراءة أخرى.

كذلك عرفته منذ زمن طويل جدًّا، ولذلك ألفته وأحببته منذ عرفته، ولذلك اطمأننت إلى حديثه وشغفت بمجلسه؛ لأن حديثه صورة لعقله، وصورة لقلبه أيضًا، وخير حديث الناس ما أنبأ عن العقول والقلوب، ولا سيما حين تكون العقول ناضجةً والقلوب حيةً دائمًا يقظة دائمًا؛ ومن أجل ذلك لم أكد أتلقَّى كتابه هذا حتى انصرفت عن كل شيء، وأقبلت عليه من دون كل شيء، فلم أَدَعْه حتى فرغت من قراءته الآن، وما أرى إلا أني سأعود إلى قراءته مرة أخرى.

وما أرى إلا أني سأعود إلى بعض فصوله بين حين وحين بعد هذه القراءة الثانية، فقراءته لا تمل كما أن حديثه لا يمل.

وأريد بعد ذلك أن أشخِّص هذا الكتاب لا أن ألخِّصه؛ فتلخيصه عسير أعظم العسر، يوشك أن لا يكون إليه سبيل، وكل فصل من فصوله محتاج إلى مقال خاص يناقش ما جاء فيه من الخواطر والآراء. وأنا بعدُ لا أريد إلا أن أدل القارئ عليه وأدعوه إلى قراءته إن كان من الذين يألفون الصبر على الفلسفة الحية، والغوص في أعماق الحياة الاجتماعية والفردية في هذه الأيام التي إن امتازت بشيء فإنما تمتاز باختلاط القيم فيها، وقصور الناس عن أن يفقهوا حقائقها، ويتعمقوا أسرارها؛ لأنها تعجلهم عن ذلك وتصرفهم عنه صرفًا. والكتاب في ظاهره قصة أو قصص كثيرة تدور حول موضوع بعينه يجعل منها وحدة واضحة لا اختلاف فيها ولا اضطراب. وقد حُدِّد زمان هذه القصص وحُدِّد مكانها أيضًا، فأما الزمان فقصير جدًّا لا يكاد يتجاوز يومًا وليلة، وهو الوقت الذي امتحن فيه المسيح حين تألب عليه بنو إسرائيل وأرادوا به الكيد. وأما المكان فهو أورشليم، وربما تجاوز هذه المدينة إلى هذه الناحية أو تلك من نواحي فلسطين.

وشخص المسيح فيها لا يُرَى ولا يُسمَع، وإنما هو موضوع الحديث فيها كلها نسمع عنه، وتُنقَل إلينا عنه الأحاديث، ولكننا لا نراه ولا نحس شخصه، وهو مع ذلك ماثل في قلوبنا وعقولنا لا يبرحها منذ نبدأ في قراءة الكتاب إلى أن نفرغ منها. ومع ذلك فهذا الزمان الذي حُدِّد بيوم واحد ممتد إلى غير مدى، وهذا المكان الذي حُدِّد بمدينة واحدة ممتد يسع الأرض كلها في جميع عصورها، وفي جميع أطوارها منذ عاش فيها الناس.

وأشخاص القصص محدودون أيضًا، فأكثرهم من بني إسرائيل يضاف إليهم نفر من الرومان، ورجل واحد أثيني، ورجل آخَر لا نعرف من أين هو، وإنما تحدِّثنا الأنباء بأنه جاء من أقصى الأرض مع آخرين يهديهم النجم ليحيُّوا المسيح بعد مولده.

ولكن أشخاص القصة على ذلك لا يُحصَون، وليس إلى إحصائهم سبيل لأنهم الناس جميعًا في كل زمان ومكان. فحديث المسيح في هذا الكتاب ليس إلا رمزًا لحديث الناس في كل عصر وفي كل بيئة حين تعرض لهم الأحداث، وحين تلم بهم الخطوب، وحين تمتحن عقولهم وقلوبهم وضمائرهم. وتستطيع أن تقول إن موضوع الكتاب في حقيقة الأمر، إنما هو هذا الصراع المتصل بين القوى الثلاث التي تأتلف منها حياة الإنسان، وهي: قوة الحياة الغريزية، وقوة العقل، وقوة الضمير. فليس في حياة الناس شيء خطير أو ضئيل إلا وهو مردود إلى الصراع بين هذه القوى التي ليس منها كلها بدٌّ ليكون الإنسان إنسانًا.

ولكني لا أحب لك أن تخدع نفسك وأن تُقبِل على الكتاب على أنه قصة أو طائفة من القصص، فلن يلبث هذا الخداع أن يزول لمجرد النظر فيه؛ فالقصص في هذا الكتاب وسيلة لا غاية، وقد اكتفى الكاتب من هذه الوسيلة بأيسرها وأهونها ليقدِّم إليك الأشخاص الذين يحاور بعضهم بعضًا بين يديك في هذا الموضوع أو ذاك من موضوعات الحياة الإنسانية. بالضبط كما يفعل أفلاطون حين يقدِّم لك أشخاص كُتُبه الذين يحاور بعضهم بعضًا، أو الذين يحاورهم سقراط، ولا يريد أفلاطون أن يقص عليك قصة، وإنما يريد أن يحضرك مجلسًا من مجالس الحوار، والحوار عنده ليس غاية، وإنما هو وسيلة إلى فن من فنون الفلسفة السياسية، أو الطبيعية، أو الخلقية، أو ما شئتَ من موضوعات الفلسفة.

وكذلك يعمد كاتبنا إلى القصص والحوار ليخوض بك فيما شاء الله أن يخوض فيه من فلسفة الحياة الإنسانية حين يلقى الناس بعضهم بعضًا، وحين يخلو أحدهم إلى نفسه فيما يعرض له من الأمر، وما يلم به من الخطب، وما يثور أمامه من المشكلات.

فهذا الفتى الوسيم ذو المكانة الرقيقة والثراء العظيم، لا ينبغي أن يخدعك عن نفسه حين يتحدث إلى زوجه الشابة الجميلة التي ملكت عليه قلبه، والتي أحبَّتْه أشد الحب وكلفت به أعظم الكلف، وحين يتحدث إليها في يوم عيدها. فالكاتب لا يعنى من أمر هذا الفتى ولا من أمر زوجه بشيء، بل هو لا يعنى بحبهما نفسه، وإنما يريد أن يصوِّر لك أن خطبًا عظيمًا ألمَّ ببني إسرائيل، وأنهم يحاكمون المسيح ويريدون أن يبطشوا به، وأن الفتى هو صاحب الاتهام، وهو مشغول بهذه القضية الضخمة لا يستطيع أن يفرغ لزوجه في يوم عيدها، وهي ضائقة بذلك، ثم كارهة له، ثم منصرفة عن زوجها وعن حبها وعن عيدها؛ لأنها قد شُغِلت عن هذا كله بالمسيح، وبهذا الظلم الذي يُصَبُّ عليه صبًّا. وزوجها نفسه لا يكاد يتركها محزونًا لما أصابها من الضيق حتى يُشغَل عنها وعن حبها وعن عيدها وعن حزنها؛ لأنه رأى ما أفسد عليه تحمسه في مخاصمة المسيح، وفي دعاء بني إسرائيل إلى أن يصبُّوا عليه الظلم صبًّا.

وهذه الفتاة الأخرى المجدلية التي أفسدت الكبرياء عليها وعلى أهلها وقريتها أمرهم كله، حتى كان منهم القتلى، وحتى عظم بينهم الشر، وحتى اضطرت إلى أن تفارق قريتها وإلى أن تقارف الإثم. هذه الفتاة في نفسها ليست إلا وسيلة إلى شيء آخَر، هو تصوير الظلم الذي يراد بالمسيح، وتصوير ما يثيره هذا الظلم في بعض النفوس من إيقاظ الضمير، وتطهير الناس من آثام الحياة ونقائصها ومن غرورها وباطلها، حتى يندفعوا إلى الإيمان اندفاعًا يرفعهم إلى منازل القديسين.

وقُلْ مثل ذلك بالقياس إلى جميع الأشخاص الذين تلقاهم في هذا الكتاب، ليسوا جميعًا إلا وسائل لما يريد الكاتب أن يسوق إليك من أحاديثه في فلسفة الحياة الفردية والاجتماعية.

وأكاد أعتقد أن كاتبنا لم يُرِدْ أن يصوِّر قصة المسيح، ولا ظلم بني إسرائيل له ليصل إلى غاية من هذه الغايات الدينية التي يقصد إليها الكاتبون حين يعرضون لهذه القصة، أو ما يشبهها من القصص، وإنما أراد إلى غاية أخرى كان يمكنه أن يصل إليها بتصوير أي شخص آخَر مخلص صادق يريد الخير للناس فصُبَّ عليه الشر، ودُبِّر له الكيد من الذين أراد إصلاحهم. ولو عرض كاتبنا لقصة سقراط مثلًا لاستطاع أن يتخذها وسيلة إلى ما أراد، لولا أنه صدر في حديثه بعض المعجزات، وأن سقراط لم يصنع معجزة، أو شيئًا يشبه المعجزة كما يفهمها الذين يتحدثون في شئون الدين.

وما أريد أن أدخل في هذا الحوار السخيف الذي يحب الناس أن يخوضوا فيه في هذه الأيام حول طبيعة هذا الكتاب: أقصةٌ هو لأنه يحدثنا عن أشخاص، وعن أحداث عرضت لهم وخطوب ألمَّتْ بهم في زمانٍ بعينه ومكان بعينه؟ أم هو شيء آخَر غير القصة لأنه لم يستوفِ الشروط التي يشترطها المتكلفون من النقاد لهذا الفن؟ بل أنا لا أريد أن أخوض في حوار آخَر حول هذا الكتاب: أأدب هو بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، أم فلسفة؟ وإلى أي لون من ألوان الفلسفة يمكن أن يضاف؟

كل هذا كلام لا يعنيك ولا يعنيني؛ لأنه لا يغني عنك ولا عني شيئًا، وإنما الشيء الذي يعنيك ويعنيني، هو أن الكتاب ممتع بأوسع معاني هذه الكلمة وأدقها وأصدقها.

ممتع بموضوعه وممتع بما يثار فيه من مشكلات الحياة الإنسانية، ومن وجوه الصراع بين العقل والضمير وبين الحياة العملية التي تملؤها التجارب وتفعمها الخطوب، وبين الدين الذي يدعو إلى الطهر والنقاء، وإلى الدعة والسلم والعافية بين الناس، وإلى الخير الشامل الذي لا يشوبه الشر من أي وجه من وجوهه.

وممتع بعد ذلك بلفظه العذب وأسلوبه السمح، وصرامته التي لا تحول بينه وبين اليسر، ووضوحه الذي لا يهبط به إلى ما نألف في هذه الأيام من هذا الوضوح البغيض الذي يزهد في القراءة ويصد عنها، كأنه يتجه إلى آذان القارئين وأبصارهم وألسنتهم دون أن يتجه إلى عقولهم وقلوبهم، أو كأن الكتاب حين يكتبونه يضعون قرَّاءهم في منزلة من الغباء والسذاجة، لا يستطيعون معها أن يفقهوا أو يذوقوا إلا إذا جليت لهم الأشياء تجلية لا يحتاجون معها إلى جهد أو عناء.

والكتاب على يسره ووضوحه وصفائه لا سبيل إلى قراءته إلا بالعقل كما ذكرت في أول هذا الحديث؛ لأنه موجَّه إلى العقل وحده، وإلى العقل الذي يفلسف الأشياء ويتعمقها، ولا يطمئن إلَّا إلى ما يفهم حق الفهم، ولا يكتفي بالجمل الغامضة ولا بالعبارات المبهمة التي يشيع فيها اللبس.

وليس في الكتاب فصل إلا وأنت تقرؤه فتجد فيه ما يلذك ويمتعك، ويدعوك إلى التفكير الطويل ويثيرك في أكثر الأحيان إلى الجدل والخصومة، وربما وقفك من الكاتب موقف المخالِف له والمنكِر لما يقول في هذه المشكلة أو تلك، ولكنك تخالف الكاتب خلاف المحب له، المستأنس إليه، الذي لا يعنف بك فيما يهدي إليك من رأي، فلا يتعرض لأَنْ تعنف به فيما يهدي إليه من رد عليه.

وفي الكتاب بعد هذا كله — أو مع هذا كله — آراء تفجأ قرَّاءنا في هذه الأيام، وتقفهم موقف الحيرة وتخرجهم عن أطوارهم أحيانًا، ولكنهم حين يفكِّرون في أناة ومهل يثوبون إلى الكاتب راضين عنه مرة، ومخالفين له في ابتسام رفيق مرة أخرى.

انظر إليه حين يحاول أن يلقي في روعك أن الضمير خاصة من خصائص الفرد، يأمره بالخير وينهاه عن الشر ويصده عن الظلم والأذى، وأن الجماعة لا ضمير لها؛ فهي مدفوعة إلى ما تدفع إليه في غير روية ولا تدبُّر ولا شعور بعواقب ما تأتي من الأمر أو تدع، كأن كل فرد من أفرادها ينسى ضميره حين يلقى نظراءه، وكأن شيئًا آخَر غير ما رُكب في الأفراد المجتمعين من مَلَكة العقل والضمير هو الذي يسيِّرهم ويسيطر عليهم في كل ما يُقدِمون عليه.

أحقٌّ هذا؟ أم الحقُّ شيء آخَر هو أن للجماعات — كما يقول بعض الاجتماعيين — ضميرًا اجتماعيًّا له طبيعة أخرى غير طبيعة الضمير الفردي، بل للجماعة نفس أخرى غير نفس الفرد. ولأمر ما حاوَلَ علماء النفس أن يضعوا علمًا خاصًّا لسيكولوجية الجماعات، هو الذي يسمونه علم النفس الاجتماعي؟ أم الحق هو أن ضمير الفرد يخرج عن طوره في الجماعة، وينتقل منه إلى طور آخَر ويتشكل بشكل آخَر يفرضه وجوده مع نظرائه؟ فالفرد من غير شك ينسى أكثر فرديته حين يختلط بأمثاله، ولا يستبقي من هذه الشخصية إلا أقلها وأيسرها وأعجزها عن المقاومة. قُلْ ما شئتَ، ولكن الذي ليس فيه شك هو أن الجماعة ليست مجردة من الضمير، وإنما هي مجردة من الضمير الفردي تتأثر بضمير آخَر مشترك يقدِّر الخير والشر، والخطأ والصواب على نحوٍ يخالف النحو الذي يقدِّر به الضمير الاجتماعي هذه الأشياء.

وأنت تستطيع أن تقبل من الكاتب رأيه في أن الضمير مقصور على الفرد، وأن الجماعة لا ضمير لها، أو أن تجادله فيه، ولكن الشيء المحقَّق هو أن خلافك معه لن يتجاوز الرفق الباسم.

وانظر إليه حين يجري على لسان بعض بني إسرائيل هذه النظرية الرائعة المريحة التي تضحك أكثر مما تقنع، وتصور مذاهب بعض الفقهاء في الحيل، وهي أن الإثم الذي تقترفه الجماعة لا عقاب عليه لأنه موزَّع بين أفرادها، أو لأن تبعته شائعة لا سبيل إلى أن يُلزَم بها فرد دون فرد، فهي أجدر أن تسقط ويُلغَى حسابها، وكذلك تستطيع الجماعة أن تقترف كبائر الإثم دون أن يتعرض فرد من أفرادها لعقاب أو حساب.

ونظرية أخرى ليست أقل من هذه النظرية إثارةً للعجب المبتسم، يجريها الكاتب أو يديرها الكاتب في نفس الحبر الأكبر لليهود، فهو ينكر سخط المسيح على الفريسيين وما يصطنعون من النفاق والرياء في الدين، ويرى أن الرياء في الدين ينفع ولا يضر، ينفع الجماعات لأنه قد يدعوها إلى الإيمان، وقد يغريها بالخير. ولا على الجماعات التي ترى مظاهر هذا الدين الذي يتكلفه أصحابه رئاء الناس أن يكون هؤلاء المتكلفون مخلصين أو منافقين، فإن حسابهم على ذلك إلى الله، إن يشأ يعذبهم أو يتوب عليهم.

وواضحٌ ما في هذه النظرية من الخطر؛ لأنها تغري كل الناس بأن يتخذوا النفاق وسيلةً إلى الإصلاح، ومَن يدري! عسى أن يتاح لهذا النفاق أن يبلغ من الإصلاح في نفوس كثير أو قليل من الناس ما يريد أصحابه، وأن يشفع لهم ذلك عند الله فيغفر لهم نفاقهم لأنهم أصلحوا به نفوس الناس وإن أفسدوا به ذات نفوسهم. وكذلك يصبح المبدأ المشهور: «الغاية تبرر الوسيلة» سائغًا في الدين نفسه. ولست أدري: أَدارت هذه الفكرة في رأس الحبر الأعظم لليهود حقًّا؟ أم أدارها الكاتب في رأسه ذاك؟ فكل الشخصية التي صوَّرها الكاتب لهذا الحبر الأعظم غريبة حقًّا؛ فهو لم يكن مطمئنًا إلى اتهام المسيح، ولا إلى ما يراد أن يُصَبَّ عليه من الظلم، وإنما كان ضميره مضطربًا أشد الاضطراب، يُقدِم على هذا الإثم العظيم غير مقتنع به، وإنما هو مضطر إليه اضطرارًا؛ لأن جماعات الشعب تريد اقترافه، وليس لجماعات الشعب كما رأينا آنفًا ضمير يحاسبها أو تحاسبه، وهذا الاضطراب في الحكم ليس مقصورًا على الحبر الأعظم، ولكنه يوشك أن يكون شائعًا بين أحبار بني إسرائيل جميعًا؛ فمفتي بني إسرائيل غير مقتنع بهذا الظلم ولا راضٍ عنه، وكثير من أحبارهم يُقدِم كارهًا على هذا الإثم لأن الشعب يريده، وما ينبغي لقادة الشعب أن يخالفوا عن إرادته، فيضطرهم ذلك إلى التضحية بمكانهم من قيادته والتسلُّط عليه.

وكذلك يُكرَه الأحبار على التورُّط في هذا الظلم، والشعب هو الذي يُكرِههم عليه. ولست أدري إلى أي حد نستطيع أن نطمئن إلى هذه الصورة التي يعرضها الكاتب للصلة بين أحبار بني إسرائيل وبين الشعب؟ فالذي نعرفه مما وصل إلينا من الروايات والأنباء، أن الخصومة إنما كانت بين المسيح وبين الأحبار أكثر مما كانت بينه وبين عامة الشعب، وأن الأحبار هم الذين ضلَّلوا الشعب وحبَّبوا إليه هذا الإثم وزيَّنوه في قلوبهم؛ لأن المسيح كان خليقًا أن يضيع عليهم منزلتهم وسلطانهم وتأثيرهم في النفوس، وأن يصرف عنهم الشعب بما كان يذيع من التعاليم اليسيرة السهلة القريبة من نفوس الناس والملائمة لسذاجتهم، ولأنه كان يغيِّر كثيرًا من القوانين التي كان الأحبار والعلماء يعيشون عليها. ولكن كاتبنا موكل بالجماعات يلقي عليها أعظم التبعات لأنها غافلة لا ضمير لها، وهو مكبر لضمير الفرد مُعظِّمٌ لسلطانه على أصحابه، حريص إنْ استطاع على أن يُبرِئه من كل شائبة ويعصمه من التورط في الإثم، وهو من أجل ذلك يعطينا من أشخاص هؤلاء العلماء من بني إسرائيل صورًا أقل ما تُوصَف به أنها تلائم مذهب الكاتب في الضمير الفردي والاجتماعي، أكثر مما تلائم الحقائق الواقعة التي نشهدها في كل يوم، وأكثر مما تلائم ما نقلت إلينا الأنباء والروايات من سيرة هؤلاء الأحبار مع المسيح ومع مَن جاء قبله من الأنبياء.

وكاتبنا ظالم للجماعات يحمل عليها من التبعات أكثر مما ينبغي أن تحمل، والذي نعلمه أن القادة والسادة هم الذين يضلِّلون الجماعات، ويورِّطونها في الخطأ، ويدفعونها إلى كثير من الآثام. وإذا لم يكن بد من إكبار هذا الضمير الفردي وإعظامه، فلا أقل من أن نحمِّله تبعاته ونسأله عمَّا يدفع إليه الفرد والجماعات من الشر العظيم في كثير من الأحيان.

وللكاتب آراء أخرى ليست أقل خطرًا وإثارةً للمناقشة والجدل من هذه الآراء، وكثير من آرائه جديدة بالقياس إلى جماعات من قرَّائنا، وإنْ كانت في نفسها مألوفة شائعة في جماعات العالم الغربي الحديث، وهي قديمة مع ذلك قدم الدين نفسه. فرأي الكاتب في الوطنية — مثلًا — جديد بالنسبة إلى كثير من قرَّائنا العرب، مألوف بالنسبة إلى المثقفين منهم وإلى جماعات ضخمة من العالم الحديث في الغرب.

فالوطنية بدع من البدع دُفِعت إليه الأمم في طور من أطوار حياتها الحديثة، فأغراها بكثير من الشر، ودفعها إلى كثير من الخير أيضًا. وفكرة الإنسانية أعم وأشمل وأصدق وأقرب من الحق إلى فكرة الوطنية، والمسيحية والإسلام يتجهان إلى الناس كافة، ويرونهم إخوة مهما تختلف أوطانهم، ومهما تختلف بيئاتهم ومنازلهم، وهما يدعوان الناس جميعًا إلى الخير والحب والمودة، والتعاون على البر والتقوى والمعروف، لا يفرقان بين وطن ووطن، ولا بين شعب وشعب، ولا بين طبقة وطبقة، وإنما المنافع والمطامع هي التي أنشأت الوطنية، وهي التي أنشأت الطبقات، وهي التي أثارت ما يثار بين الأوطان والطبقات من الحروب وألوان الخصومات. كل هذا مألوف يكثر من الخوض فيه الفلاسفة والمثقفون وفقهاء الدين منذ العصور القديمة، ولكنه جديد بالقياس إلى الأجيال التي نشأت على فكرة الوطنية، ولم تتعمق ثقافةً ولا فلسفةً ولا فقهًا، لا فرق في ذلك بين أجيال الشرقيين والغربيين. وإنكار الحرب كذلك مألوف منذ أقدم العصور، يكلف الفلاسفة والمصلحون بالخوض فيه، ويخوض فيه الساسة فيسرفون، يخلص أولئك ويتكلف هؤلاء، وأولئك يعجزون عن أن يبغضوا الحرب إلى الناس، وهؤلاء ينجحون في إقناع الناس بأن الحرب شر لا بدَّ منه.

وكل هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الكاتب يثير أمام قارئه ضروبًا كثيرة من المشكلات الفردية والاجتماعية، التي تدعو إلى التأمُّل والتدبُّر وتعمُّق التفكير، وتُخرِج القارئ وقتًا ما من هذه الحياة الفاترة المطردة المملة التي نحياها في هذا العصر الحديث، وتشعره بأن له عقلًا حيًّا يستطيع أن يفكِّر وأن يتدبر، وأن يقول بعد التفكير والتدبُّر وإطالة الروية: نعم أو لا. وليس هذا بالشيء القليل.

وأنا بعد هذا كله أخشى أن أكون ظالمًا للكاتب مسرفًا عليه حين زعمت أن كتابه ليس قصة، وليس فيه شيء من القصص، وأن هذه الصورة القصصية إنما هي وسيلة عمد إليها ليسوق إلينا آراءه هذه المختلفة المثيرة في كثير من الأحيان، فقد يكون رأيه هذا صحيحًا بالقياس إلى أكثر الكتاب، ولكن في الكتاب قصة متقنة رائعة حقًّا يمكن أن تستقل بنفسها، وأن تقف على قدميها إن صح أن تقف القصة على أقدامها، وما أرى إلا أن الكاتب قد دُفِع إليها عن غير تكلُّف منه لها، فوُفِّق إلى الإتقان حقًّا، وهي قصة المجدلية وصاحبها الفتى الروماني، فهذه الفتاة التي عرفت من شأنها ما عرفت آنفًا، والتي آمنت بالمسيح بعد أن تورطت في الإثم العظيم، وانتهى أمرها إلى أعمق الإيمان وأقواه، قد عرفت فيمَن عرفت أثناء مقارفتها للإثم جنديًّا رومانيًّا أحبَّها وأحبَّتْه، فلما أقبلَتْ على دينها الجديد تبعتها نفس الفتى، فما زال يبحث عنها حتى اهتدى إليها في بيئتها الجديدة المؤمنة، ثم سعى إليها فأحسنت لقاءه، وما أسرع ما هدته إلى الدين الذي اهتدت إليه! وما أسرع ما استحال حبهما ذاك الذي كان يشوبه الإثم إلى إخاء صادق رفيع في الدين!

وهذا الفتى تعرض له بعد ذلك خطوب يصوِّرها الكاتب تصويرًا رائعًا حقًّا، فإيمانه بالدين الجديد يبغض إليه الحرب ويلغي من نفسه فكرة العداء للناس، ويعطف قلبه على أعداء روما، فيحسن إليهم ويبرهم أثناء الحرب، وينشأ عن هذا الإحسان والبر انهزام روما، ويُرفَع أمره إلى القائد فيحاكمه في نفس اليوم الذي حُوكِم فيه المسيح، ويدافع الجندي عن نفسه دفاعًا رائعًا فيه شجاعة لا عهد للناس بها، وفيه ارتفاع إلى منزلة من الصفاء والنقاء والطهر لم يألفها الرومان. ويقضي الموت على هذا الفتى، ولكنه موت منكر بشع يضطرب له عقل القاضي القائد بعد أن يراه، كما اضطربت نفس الحاكم الروماني للقضاء على المسيح.

وكذلك يتدرج الإنسان من الإثم البشع إلى الإيمان الصادق، ثم إلى أرفع منازل الشهداء والصدِّيقين في ثبات وثقة وإيثار لا تألفها إلَّا قلوب المؤمنين حقًّا، وإنْ كنتُ أسأل نفسي: أَلَا يمكن أن يكون الكاتب قد انحرف قليلًا عمَّا نعرف من نُظُم الرومان الذين لم يكونوا يقضون بمثل هذا الموت المخزي على المذنبين من أبناء روما، وإنما كانوا يضربون أعناقهم ويحتفظون بالموت المنكر لغير الرومانيين من العدو والرعايا والرقيق؟ وقد أطلت ولكني لم ألخِّص الكتاب لأني لم أُرِدْ تلخيصه، ولم أشخِّصه كما كنتُ أريد؛ لأنه أوسع وأدق وأكثر تشعُّبًا من أن يُشخَّص في حديث مثل هذا الحديث. وإذا لم يكن بدٌّ من أن أعطي عن هذا الكتاب فكرة جامعة إلى حدٍّ ما، فقد أستطيع أن أقول غير مسرف: إنه كتاب يصوِّر طموحًا رائعًا كأروع ما يكون الطموح إلى المثل الأعلى في حياة الأفراد والجماعات، إلى هذا المثل الأعلى الذي يعتدل فيه المزاج بين القوة الحيوية التي تدفع إلى النشاط والعمل، والقوة العاقلة التي تهدي إلى المعرفة والعلم، وقوة الضمير التي تدفع إلى الخير وتردع عن الشر. والمثل الأعلى كما تعلمون شيء نطمح إليه، ولكننا لا نبلغه لأنه بطبعه لا يُنال، فالذين لا يكتفون بالسعي إليه ويأبون إلا أن يبلغوه، إنما يطمعون في غير مطمع وقد يضطرهم ذلك إلى الشك، وأخشى أن يكون هذا الشك هو الذي دفع إليه الكاتب بطموحه هذا الغالي إلى المثل الأعلى، وما أجدر الذين يريدون كل شيء بألَّا يبلغوا شيئًا!

كم أحب أن يقرأ شبابنا هذا الكتاب ليشعروا أن الحياة ليست يُسْرًا كلها، وليست لعبًا كلها، وبأن فيها كثيرًا من الجد الذي ينبغي لهم أن يفكروا فيه وأن يتعمقوه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤