القسم الأول

في ذكر مولده وخصائصه وأوصافه وشمائله وخلاله رحمة الله عليه

كان مولده — رحمه الله — على ما بلغنا من ألسنة الثقات الذين تتبعوه، حتى بنوا عليه تسيير مولده على ما تقتضيه صناعة التنجيم في شهور سنة اثنين وثلاثين وخمسمائة، وذلك بقلعة تكريت، وكان والده أيوب بن شاذي — رحمه الله تعالى — واليًا بها، وكان كريمًا أريحيًّا حليمًا حسن الأخلاق مولده ببدوين، ثم اتفق له الانتقال من تكريت إلى الموصل المحروسة، وانتقل ولده المذكور معه، وأقام بها إلى أن ترعرع، وكان والده محترمًا هو وأخوه أسد الدين شيركوه عند أتابك زنكي، واتفق لوالده الانتقال إلى الشام، وأُعطي بعلبك، وأقام بها مدة، فنقل ولده المذكور إلى بعلبك المحروسة، وأقام بها في خدمة والده يتربى تحت حجره، ويرتضع ثدي محاسن أخلاقه، حتى بدت منه أمارات السعادة، ولاحت عليه لوائح التقدُّم والسيادة، فقدَّمه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي — رحمه الله تعالى — وعوَّل عليه، ونظر إليه، وقربه، وخصصه، ولم يزل كلما تقدم قدمًا تبدو منه أسباب تقتضي تقديمه إلى ما هو أعلى منه حتى بدا لعمه أسد الدين رحمه الله الحركة إلى مصر المحروسة وذهابه إليها، وسيأتي بيان ذكر ذلك مفصلًا مبينًا — إن شاء الله تعالى.

ذكر ما شاهدناه من مواظبته على القواعد الدينية وملاحظته للأمور الشرعية

ورد في الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: «بُني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج إلى بيت الله الحرام.» وكان رحمة الله عليه حسن العقيدة، كثير الذكر لله — تعالى — قد أخذ عقيدته على الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء، وفهم من ذلك ما يحتاج إلى تفهمه، بحيث كان إذا جرى الكلام بين يديه يقول فيه قولًا حسنًا، وإن لم يكن بعبارة الفقهاء، فتحصل من ذلك سلامة عقيدته عن كدر التشبيه، غير مارق سهم النظر إلى التعطيل والتمويه، جارية على نمط الاستقامة، موافقةً لقانون النظر الصحيح، مرضية عند أكابر العلماء، وكان قد جمع له الشيخ قطب الدين النيسابوري عقيدة تجمع جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب، وكان من شدة حرصه عليها يعلمها الصغار من أولاده، حتى ترسخ في أذهانهم في الصغر، ورأيته وهو يأخذها عليهم وهم يلقونها من حفظهم بين يديه.

«وأما الصلاة» فإنه كان — رحمه الله تعالى — شديد المواظبة عليها بالجماعة، حتى إنه ذُكر يومًا أن له سنين ما صلى إلا جماعة، وكان إنْ مرض يستدعي الإمام وحده، ويكلف نفسه القيام، ويصلي جماعة، وكان يواظب على السنن الرواتب، وكان له صلوات يصليها إذا استيقظ في الليل، وإلا أتى بها قبل صلاة الصبح، ولم يكن يترك الصلاة ما دام عقله عليه، ولقد رأيته — قدَّس الله روحه — يصلي في مرضه الذي مات فيه قائمًا، وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيب فيها ذهنه، وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى.

«وأما الزكاة» فإنه مات — رحمه الله تعالى — ولم يحفظ ما تجب عليه به الزكاة «وأما صدقة النفل» فإنها استرقت جميع ما ملكه من الأموال فإنه ملك ما ملك، ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهمًا ناصرية وجرمًا واحدًا ذهبًا، ولم يخلف ملكًا، ولا دارًا، ولا عقارًا، ولا بستانًا، ولا قرية، ولا مزرعة، ولا شيئًا من أنواع الأملاك.

«وأما صوم رمضان» فإنه كان عليه منه فوائت بسبب أمراض تواترت عليه في رمضانات متعددة، وكان القاضي الفاضل قد تولى ثبت تلك الأيام، وشرع — رحمه الله — في قضاء تلك الفوائت بالقدس الشريف في السنة التي تُوفي فيها، وقد واظب على الصوم مدَّة حتى بقيت عليه فوائت رمضانين شغلته الأمراض وملازمة الجهاد عن قضائها، ومع كون الصوم لا يوافق مزاجه ألهمه الله — تعالى — الصوم، وأقدره على ما قضاه من تلك الفوائت، فكان يصوم وأنا أثبت الأيام التي يصومها؛ لأن القاضي كان غائبًا، وكان الطبيب يلومه وهو لا يسمع، ويقول: لا أعلم ما يكون. فكأنه كان ملهمًا ما يراد به — رحمه الله تعالى.

«وأما الحج» فإنه كان لم يزل عازمًا عليه، وناويًا له سيما في العام الذي تُوفي فيه فإنه صمم العزم عليه، وأمر بالتأهب، وعملنا الرفادة، ولم يبقَ إلا المسير، فاعتاق عن ذلك بسبب ضيق الوقت، وخلوِّ اليد عما يليق بأمثاله، فأخر إلى العام المستقبل، فقضى الله ما قضى، وهذا شيء اشترك في العلم به الخاص والعام.

وكان — رحمه الله تعالى — يحب سماع القرآن العظيم، ويستجيد إمامه، ويشترط أن يكون عالمًا بعلم القرآن العظيم، متقنًا لحفظه، وكان يستقرئ من يحرسه في الليل، وهو في برجه الجزأين والثلاثة والأربعة وهو يسمع، وكان يستقرئ وهو في مجلسه العام من جرت عادته بذلك الآية والعشرين والزائد على ذلك، ولقد اجتاز على صغيرٍ بين يدي أبيه وهو يقرأ القرآن، فاستحسن قراءته فقرَّبه، وجعل له حظًّا من خاص طعامه، ووقف عليه وعلى أبيه جزءًا من مزرعة.

وكان — رحمه الله تعالى — خاشع القلب، رقيقه، غزير الدمعة، إذا سمع القرآن يخشع قلبه، وتدمع عينه في معظم أوقاته، وكان — رحمه الله — شديد الرغبة في سماع الحديث، ومتى سمع عن شيخ ذي رواية عالية وسماع كثير فإن كان ممن يحضر عنده استحضره، وسمع عليه فأسمع من يحضره في ذلك المكان من أولاده ومماليكه المختصين به، وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالًا له، وإن كان ذلك الشيخ ممن لا يطرق أبواب السلاطين، ويتجافى عن الحضور في مجالسهم سعى إليه، وسمع عليه. تردد إلى الحافظ الأصفهاني بالإسكندرية — حرسها الله تعالى — وروى عنه أحاديث كثيرة.

وكان — رحمه الله تعالى — يحب أن يقرأ الحديث بنفسه، وكان يستحضرني في خلوته، ويحضر شيئًا من كتب الحديث ويقرؤها هو، فإذا مرَّ بحديثٍ فيه عبرة رقَّ قلبه، ودمعت عينه.

وكان — رحمة الله عليه — كثير التعظيم لشعائر الدين، يقول ببعث الأجسام ونشورها، ومجازاة المحسن بالجنة، والمسيء بالنار، مصدقًا بجميع ما وردت به الشرائع، منشرحًا بذلك صدره، مبغضًا للفلاسفة والمعطلة، ومن يعاند الشريعة، ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر — أعز الله أنصاره — بقتل شاب نشأ يُقال له السهروردي قيل عنه إنه كان معاندًا للشرائع مبطلًا، وكان قد قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره، وعرَّف السلطان به، فأمر بقتله، فطلبه أيامًا فقتله.

وكان — قدَّس الله روحه — حسن الظن بالله، كثير الاعتماد عليه، عظيم الإنابة إليه، ولقد شاهدت من آثار ذلك ما أحكيه، وذلك أن الفرنج — خذلهم الله — كانوا نازلين ببيت نوبة، وهو موضع قريب من القدس الشريف — حرسها تعالى الله — بينهما بعض مرحلة، وكان السلطان بالقدس، وقد أقام يزكا على العدو محيطًا به، وقد سير إليهم الجواسيس والمخبرين، فتواصلت الأخبار بقوة عزمهم على الصعود إلى القدس ومحاصرته، وتركيب القنابل عليه، واشتدت مخافة المسلمين بسبب ذلك، فاستحضر الأمراء، وعرفهم ما قد دهم المسلمين من الشدة، وشاورهم في الإقامة بالقدس، فأتوا بمجاملة باطنها غير ظاهرها، وأصرَّ الجميع على أنه لا مصلحة في إقامته بنفسه، فإنها مخاطرة بالإسلام، وذكروا أنهم يقصدونهم، ويخرج هو — رحمه الله — بطائفة من العسكر يكون حول العدو كما كان الحال بعكا، ويكون هو ومن معه بصدد منع مِيرتهم والتضييق عليهم، ويكونون هم بصدد حفظ البلد والدفع عنه، وانفصل مجلس المشهورة على ذلك، وهو مُصِرُّ على أن يقيم بنفسه عِلمًا منه أنه إن لم يقم لم يقم أحد، فلما انصرف الأمراء إلى بيوتهم جاء من عندهم من أخبر أنهم لا يقيمون إلا أن يقيم أخوه الملك العادل، أو أحد أولاده، حتى يكون هو الحاكم عليهم، والذي يأتمرون بأمره، فعلم أن هذه إشارة منهم إلى عدم الإقامة، وضاق صدره، وتقسم فكره، واشتدت فكرته، ولقد جلست في خدمته في تلك الليلة، وكانت ليلة الجمعة من أول الليل إلى أن قارب الصبح، وكان الزمان شتاء، وليس معنا ثالث إلا الله — تعالى — ونحن نقسم أقسامًا، ونرتب على كل قسم بمقتضاه، حتى أخذني الإشفاق عليه، والخوف على مزاجه، فإنه كان يغلب عليه اليبس، فشفعت إليه حتى يأخذ مضجعه، لعله ينام ساعة، فقال — رحمه الله: لعلك جاءك النوم.

ثم نهض، فما وصلت إلى بيتي وأخذت لبعض شأني إلا وأذن المؤذن، وطلع الصبح، وكنت أصلي معه الصبح في معظم الأوقات، فدخلت عليه وهو يمر الماء على أطرافه، فقال: ما أخذني النوم أصلًا. فقلت: قد علمت. فقال: من أين؟ فقلت: لأني ما نمت، وما بقي وقت للنوم، ثم اشتغلنا بالصلاة، وجلسنا على ما كنا عليه. فقلت له: قد وقع لي واقع، وأظنه مفيدًا — إن شاء الله تعالى. فقال: وما هو؟ فقلت له: الإخلاد إلى الله — تعالى — والإنابة إليه، والاعتماد في كشف هذه الغمة عليه. فقال: وكيف نصنع؟ فقلت: اليوم الجمعة يغتسل المولى عند الرواح، ويصلي على العادة بالأقصى موضع مسرى النبي ، ويقدم المولى التصدق بشيءٍ خفية على يد من يثق به، ويصلي المولى ركعتين بين الأذان والإقامة، ويدعو الله في سجوده؛ فقد ورد فيه حديث صحيح، وتقول في باطنك: «إلهي، قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك، ولم يبقَ إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك أنت حسبي ونعم الوكيل»، فإن الله أكرم من أن يخيب قصدك. ففعل ذلك كله، وصليت إلى جانبه على العادة، وصلى الركعتين بين الأذان والإقامة، ورأيته ساجدًا ودموعه تتقاطر على شيبته، ثم على سجادته، ولا أسمع ما يقول، فلم ينقضِ ذلك اليوم حتى وصلت رقعة من عز الدين جرديك، وكان علي اليزك يخبر فيها أن الفرنج مختبطون، وقد ركب اليوم عسكرهم بأسره إلى الصحراء، ووقفوا إلى قائم الظهيرة، ثم عادوا إلى خيامهم، وفي بكرة السبت جاءت رقعة ثانية تخبر عنهم بمثل ذلك، ووصل في أثناء النهار جاسوس أخبر أنهم اختلفوا، فذهبت الفرنسيسية إلى أنهم لا بدَّ لهم من محاصرة القدس، وذهب الانكتار وأتباعه إلى أنه لا يخاطر بدين النصرانية ويرميهم في الجبل مع عدم المياه، فإن السلطان كان قد أفسد جميع ما حول القدس من المياه، وأنهم خرجوا للمشورة، ومن عادتهم أنهم يتشاورون للحرب على ظهور الخيل، وأنهم قد نصوا على عشرة أنفس منهم وحكموهم، فأي شيءٍ أشاروا به لا يخالفونهم، ولما كانت بكرة الاثنين جاء المبشر يخبر أنهم رحلوا عائدين إلى جهة الرملة، فهذا ما شاهدته من آثار استنباطه، وإخلاده إلى الله تعالى — رحمه الله.

ذكر عدله رحمه الله تعالى

«روى» أبو بكر الصديق — رضي الله عنه — أن النبي قال: «الوالي العادل ظل الله في أرضه، فمن نصحه في نفسه أو عباده أظله الله تحت عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ومن خانه في نفسه أو في عباد الله خذله الله، يوم القيامة يُرفع للوالي العادل في كل يومٍ عمل ستين صديقًا كلهم عابد مجتهد لنفسه.»

ولقد كان — رحمه الله — عادلًا، رءوفًا، رحيمًا، ناصرًا للضعيف على القوي، وكان يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلسٍ عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبيرٍ وصغير، وعجوز هرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفرًا وحضرًا، على أنه كان في جميع زمانه قابلًا لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم، ويفتح باب العدل، ولم يردَّ قاصدًا للحوادث والحكومات، وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار، ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه، ولم يردَّ قاصدًا أبدًا، ولا منتحلًا، ولا طالب حاجة، وهو مع ذلك دائم الذكر والمواظبة على التلاوة، رحمة الله عليه. ولقد كان رءوفًا بالرعية، ناصرًا للدين، مواظبًا على تلاوة القرآن العزيز، عالمًا بما فيه، عاملًا به لا يعدوه أبدًا — رحمة الله عليه — وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته، وكشف ظلامته، واعتنى بقصته، ولقد رأيته واستغاث إليه إنسان من أهل دمشق يُقال له ابن زهير على تقيِّ الدين ابن أخيه، فأنفذ إليه ليحضر إلى مجلس الحكم، وكان تقيُّ الدين من أعز الناس عليه، وأعظمهم عنده، ولكنه لم يحابِه في الحق.

وأعظم من هذه الحكاية مما يدل على عدله قضية جرت له مع إنسان تاجر يُدعى عمر الخلاطي، وذلك أني كنت يومًا في مجلس الحكم بالقدس الشريف إذ دخل عليَّ شيخ حسن، تاجر معروف يُسمى عمر الخلاطي معه كتاب حكمي يسأل فتحه، فسألته: من خصمك؟ فقال: خصمي السلطان، وهذا بساط العدل، وقد سمعنا أنك لا تحابي، قلت: وفي أي قضيةٍ هو خصمك؟ فقال: إن سنقر الخلاطي كان مملوكي، ولم يزل على ملكي إلى أن مات، وكان في يده أموال عظيمة كلها لي، ومات عنها، واستولى عليها السلطان، وأنا مطالبه بها.

فقلت له: يا شيخ، وما أقعدك إلى هذه الغاية؟ فقال: الحقوق لا تبطل بالتأخر، وهذا الكتاب الحكمي ينطق بأنه لم يزل في ملكي إلى أن مات، فأخذت الكتاب منه، وتصفحت مضمونه، فوجدته يتضمن حلية سنقر الخلاطي، وأنه قد اشتراه من فلان التاجر بأرجيش اليوم الفلاني من شهر كذا من سنة كذا، وأنه لم يزل في ملكه إلى أن شذَّ عن يده في سنة كذا، وما عرف شهود هذا الكتاب خروجه عن ملكه بوجهٍ ما، وتم الشرط إلى آخره. فتعجبت من هذه القضية، وقلت للرجل: لا ينبغي سماع هذا بلا وجود الخصم، وأنا أعرِّفه وأعرِّفك ما عنده، فرضي الرجل بذلك واندفع، فلما اتفق المثول بين يديه في بقية ذلك اليوم عرَّفته القضية، فاستبعد ذلك استبعادًا عظيمًا، وقال: كنت نظرت في الكتاب. فقلت: نظرت فيه ورأيته متصل الورود والقبول إلى دمشق، وقد كُتب عليه كتاب حكمي من دمشق، وشهد به على يد قاضي دمشق شهود معروفون، فقال: مبارك، نحن نحضر الرجل ونحاكمه، ونعمل في القضية ما يقتضيه الشرع. ثم اتفق بعد ذلك جلوسه معي خلوة، فقلت له: هذا الخصم يتردد، ولا بد أن نسمع دعواه. فقال: أقم عني وكيلًا يسمع الدعوى، ثم يقيم الشهود شهادتهم، وأخر فتح الكتاب إلى حين حضور الرجل ها هنا. ففعلت ذلك، ثم أحضر الرجل واستدناه، حتى جلس بين يديه، وكنت إلى جانبه، ثم نزل من طراحته، حتى ساواه، وقال: إن كان لك دعوى فاذكرها. فحرَّر الرجل الدعوى على معنى ما شرح أولًا، فأجابه السلطان أن سنقر هذا كان مملوكي، ولم يزل على ملكي حتى أعتقته وتوفي وخلف ما خلف لورثته، فقال الرجل: لي بينة تشهد بما ادعيته، ثم سأل فتح كتابه ففتحته فوجدته كما شرحه، فلما سمع السلطان التاريخ، قال: عندي من يشهد أن سنقر هذا في هذا التاريخ كان في ملكي، وفي يدي بمصر، وأني اشتريته مع ثمانية أنفس في تاريخٍ متقدمٍ على هذا التاريخ بسنة، وأنه لم يزل في يدي وملكي إلى أن أعتقته. ثم استحضر جماعة من أعيان الأمراء والمجاهدين، فشهدوا بذلك، وذكروا القصة كما ذكرها، والتاريخ كما ادعاه، فأبلس الرجل، فقلت له: يا مولاي، هذا الرجل ما فعل ذلك إلا طلبًا لمراحم السلطان، وقد حضر بين يدي المولى، ولا يحسن أن يرجع خائبًا للقصد. فقال: هذا باب آخر. وتقدم له بخلعة ونفقة بالغة قد شذ عني مقدارها. فانظر إلى ما في طيِّ هذه القضية من المعاني الغريبة العجيبة والتواضع والانقياد إلى الحق، وإرغام النفس والكرم في موضع المؤاخذة مع القدرة التامة، رحمه الله — تعالى — رحمة واسعة.

ذكر طرف من كرمه رحمه الله

قال : «إذا عثر الكريم فإن الله آخذ بيده.» وفي الكرم أحاديث، وكرمه — قدَّس الله روحه — كان أظهر من أن يُسطر، وأشهر من أن يُذكر، لكن نبهت عليه جملة؛ وذلك أنه ملك ما ملك ومات ولم يوجد في خزانته من الفضة إلا سبعة وأربعون درهمًا ناصرية، ومن الذهب إلا جرم واحد صوري ما علمت وزنه، وكان — رحمه الله — يهب الأقاليم وفتح آمد وطلبها منه ابن قرة أرسلان فأعطاه إياه.

ورأيته قد اجتمع عنده جمع من الوفود بالقدس الشريف، وكان قد عزم على التوجه إلى دمشق، ولم يكن في الخزانة ما يعطي الوفود، فلم أزل أخاطبه في معناهم، حتى باع أشياء من بيت المال، وفضضنا ثمنها عليهم، ولم يفضل منه درهم واحد.

وكان — رحمه الله — يعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة، وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئًا من المال؛ حذرًا أن يفاجئهم مهم لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه، وسمعته يقول في معرض حديث جرى: يمكن أن يكون في الناس من ينظر إلى المال كما ينظر إلى التراب، فكأنه أراد بذلك نفسه — رحمه الله تعالى.

وكان يعطي فوق ما يؤمل الطالب؛ فما سمعته قط يقول: أعطينا لفلان. وكان يعطي الكثير ويبسط وجهه للعطاء بسطه لمن لم يعطِه شيئًا، وكان — رحمه الله — يعطي ويكرم أكثر مما يعطي، وكان قد عرفه الناس، فكانوا يستزيدونه في كل وقت، وما سمعته قط يقول: قد زدت مرارًا فكم أزيد.

وأكثر الرسائل كانت تكون في ذلك على لساني ويدي، وكنت أخجل من كثرة ما يطلبون، ولا أخجل منه من كثرة ما أطلبه لهم؛ لعلمي بعدم مؤاخذته في ذلك، وما خدمه أحد إلا وأغناه عن سؤال غيره.

«وأما تعداد عطاياه وتعداد صنوفها» فلا تطمع فيها حقيقة أصلًا، وقد سمعت من صاحب ديوانه يقول لي: قد تجارينا عطاياه، فحصرنا عدد ما وهب من الخيل بمرج عكا، فكان عشرة آلاف فرس. ومن شاهد مواهبه يستقل هذا القدر. اللهم إنك ألهمته الكرم، وأنت أكرم منه فتكرم عليه برحمتك ورضوانك يا أرحم الراحمين.

ذكر شجاعته قدس الله روحه

«روي» عن النبي أنه قال: «إن الله يحب الشجاعة، ولو على قتل حية.» ولقد كان — رحمه الله تعالى — من عظماء الشجعان، قوي النفس، شديد البأس، عظيم الثبات، لا يهوله أمر، ولقد رأيته يعطي دستورًا في أوائل الشتاء، ويبقى في شرذمة يسيرة في مقابلة عددهم الكثير، وقد سألت باليان بن بارزان، وهو من كبار ملوك الساحل، وهو جالس بين يديه — رحمه الله — يوم انعقاد الصلح عن عدتهم، فقال الترجمان عنه إنه يقول: كنت أنا وصاحب صيدا — وكان أيضًا من ملوكهم وعقلائهم — قاصدين عسكرنا من صور، فلما أشرفنا عليه تحازرناه، فحزرهم هو خمسمائة ألف وحزرتهم أنا بستمائة ألف، أو قال عكس ذلك، قلت: فكم هلك منهم؟ فقال: أما بالقتل فقريب من مائة ألف، وأما بالموت والغرق فلا نعلم وما رجع من هذا العالم إلا الأقل.

وكان لا بد له من أن يطوف حول العدوِّ في كل يوم مرة أو مرتين إذا كنا قريبًا منهم، ولقد وصل في ليلة واحدة منهم نيف وسبعون مركبًا على عكا، وأنا أعدها من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وهو لا يزداد إلا قوة نفس.

وكان — رحمه الله تعالى — إذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين، ومعه صبي واحد على يده جنيب، ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة، ويرتب الأطلاب، ويأمرهم بالتقدم، والوقوف في مواضع يراها، وكان يشارف العدو ويجاوره — رحمه الله. ولقد قرئ عليه جزآن من الحديث بين الصفين، وذلك أني قلت له: قد سُمع الحديث في جميع المواطن الشريفة، ولم يُنقل أنه سُمع بين الصفين، فإن رأى المولى أن يُؤثر عنه ذلك كان حسنًا، فأذن في ذلك، فأحضر جزأه، كما أحضر من له به سماع، فقرأ عليه ونحن على ظهور الدواب بين الصفين نمشي تارة ونقف أخرى.

وما رأيته استكثر العدو أصلًا، ولا استعظم أمرهم قط، وكان مع ذلك في حال الفكر والتدبير تُذكر بين يديه الأقسام كلها، ويُرتب على كل قسم بمقتضاه من غير حدة ولا غضب يعتريه، ولقد انهزم المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا حتى القلب ورجاله ووقع الكئوس والعلم، وهو — رضي الله عنه — ثابت القدم في نفر يسير، حتى انحاز إلى الجبل يجمع الناس ويردهم ويخجلهم، حتى يرجعوا، ولم يزل كذلك حتى نُصر عسكر المسلمين على العدو في ذلك اليوم، وقُتل منهم زهاء سبعة آلاف ما بين راجل وفارس، ولم يزل — رحمه الله — مصابرًا لهم، وهم في العدة الوافرة إلى أن ظهر له ضعف المسلمين، فصالح وهو مسئول من جانبهم، فإن الضعف والهلاك كان فيهم أكثر، ولكنهم كانوا يتوقعون النجدة، ونحن لا نتوقعها، وكانت المصلحة في الصلح، وظهر ذلك لما أبدت الأقضية الإلهية والأقدار ما في مكنونها، وكان — رحمه الله — يمرض ويصح، وتعتريه أحوال مهولة، وهو مصابر مرابط وتتراءى الناران، ونسمع منهم صوت الناقوس، ويسمعون منا صوت الأذان إلى أن انقضت الوقعة على أحسن حال وأيسره. قدس الله روحه ونور ضريحه.

ذكر اهتمامه بأمر الجهاد

قال الله — تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ونصوص الجهاد كثيرة. ولقد كان — رحمه الله — شديد المواظبة عليه، عظيم الاهتمام به، ولو حلف حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد دينارًا ولا درهمًا إلا في الجهاد، أو في الأرفاد لَصَدق وبرَّ في يمينه. ولقد كان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه، وسائر جوانحه استيلاءً عظيمًا، بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلته، ولا كان له اهتمام إلا برجاله، ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحث عليه، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر بلاده، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح ميمنة وميسرة، ولقد وقعت عليه الخيمة في ليلة ريحية على مرج عكا، فلو لم يكن في البرج لقتلته، ولا يزيد ذلك إلا رغبة ومصابرة واهتمامًا، وكان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثه على الجهاد، وأنا ممن جمع له فيه كتابًا جمعت فيه آدابه، وكل آية وردت فيه، وكل حديث رُوي في فضله، وشرحت غريبها، وكان — رحمه الله — كثيرًا ما يطالعه حتى أخذه منه ولده الملك الأفضل — عز نصره — ولأحكين عنه ما سمعته منه؛ وذلك أنه كان قد أخذ كوكب في ذي القعدة سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وأُعطي العسكر دستورًا، وأخذ عسكر مصر في العود إلى مصر، وكان مقدمها أخاه الملك العادل — عز نصره — فسار معه ليودعه، ويحظى بصلاة العيد في القدس الشريف — حرسه الله تعالى — وسرنا في خدمته، ولما صلى العيد في القدس وقع له أن يمضي إلى عسقلان ويودعهم بعسقلان، ثم يعود على طريق الساحل يتفقد البلاد الساحلية إلى عكا، ويرتب أحوالها، فأشاروا عليه أن لا يفعل، فإن العساكر إذا فارقتنا نبقى في عدة يسيرة والفرنج كلهم بصور، وهذه مخاطرة عظيمة، فلم يلتفت — رحمه الله — وودع أخاه والعسكر بعسقلان، ثم سرنا في خدمته إلى الساحل طالبي عكا، وكان الزمان شتاء، والبحر هائجًا شديدًا، وموجه كالجبال — كما قال تعالى. وكنت حديث عهدٍ برؤية البحر، فعظم أمر البحر عندي، حتى خُيل لي أني لو قال لي: إن جزت في البحر ميلًا واحدًا ملكتك الدنيا لما كنت أفعل، واستسخفت رأي من ركب البحر رجاء دينار أو درهم، واستحسنت رأي من لا يقبل شهادة راكب بحر، هذا كله خطر لي لعظم الهول الذي شاهدته من حركة البحر، فبينا أنا في ذلك إذ التفت إليَّ — رحمه الله — وقال: أما أحكي لك شيئًا في نفسي أنه متى ما يسر الله — تعالى — فتح بقية الساحل قسمت البلاد، وأوصيت وودَّعت وركبت هذا البحر إلى جزائره، واتبعتهم فيها، حتى لا أُبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت. فعظم وقع هذا الكلام عندي؛ حيث ناقض ما كان خطر لي، وقلت له: ليس في الأرض أشجع نفسًا من المولى، ولا أقوى منه نية في نصرة دين الله — تعالى —. فقال: كيف؟ فقال: أما الشجاعة فلأن مولانا ما يهوله أمر هذا البحر وهوله، وأما نصرة دين الله فهو أن المولى ما يقنع بقلع أعداء الله من موضع مخصوص في الأرض حتى تطهر جميع الأرض منهم. واستأذنت أن أحكي له ما كان خطر لي، فحكيت له، ثم قلت: ما هذه إلا نية جميلة، ولكن المولى يسير في البحر العساكر، وهو سور الإسلام ومنعته، فلا ينبغي له أن يخاطر بنفسه. فقال: أنا أستفتيك، ما أشرف الميتتين؟ فقلت: الموت في سبيل الله. فقال: غاية ما في الباب أن أموت أشرف الميتتين. فانظر إلى هذه الطوية ما أطهرها، وإلى هذه النفس ما أشجعها وأجرأها — رحمة الله عليه. اللهم إنك تعلم أنه بذل جهده في نصرة دينك، وجاهد رجاء رحمتك فارحمه.

صبره واحتسابه رحمة الله عليه

قال الله — سبحانه وتعالى: ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. ولقد رأيته — رحمه الله — بمرج عكا، وهو على غاية من مرضٍ اعتراه بسبب كثرة دماميل كانت ظهرت عليه من وسطه إلى ركبتيه، بحيث لا يستطيع الجلوس، وإنما يكون منكبًّا على جانبه إن كان بالخيمة، وامتنع من مد الطعام بين يديه لعجزه عن الجلوس، وكان يأمر أن يفرق على الناس، وكان مع ذلك قد نزل بخيمة الحرب قريبًا من العدو، وقد رتب الناس ميمنة وميسرة وقلبًا تعبية القتال، وكان مع ذلك كله يركب من بكرة النهار إلى صلاة المغرب يطوف على الأطلاب صابرًا على شدة الألم، وقوة ضربان الدمامل، وأنا أتعجب من ذلك، فيقول: إذا ركبت يزول عني ألمها حتى أنزل، وهذه عناية ربانية.

ولقد مرض — رحمه الله — ونحن على الخرنوبة، وكان قد تأخر عن تل الحجل بسبب مرضه، فبلغ الإفرنج، فخرجوا طمعًا في أن ينالوا شيئًا من المسلمين وهي نوبة النهر، فخرجوا في مرحلة الآبار التي تحت التل، فأمر — رحمه الله — بالثقل حتى يتجهز بالرحيل والتأخر عن جهة الناصرة، وكان عماد الدين صاحب سنجار متمرضًا أيضًا، فأذن له أن يتأخر مع الثقل، وأقام هو، ثم رحل العدو في اليوم الثاني يطلبنا، فركب على مضض، ورتب العسكر للقاء القوم تعبية الحرب، وجعل طرف الميمنة الملك العادل، وطرف الميسرة تقي الدين، وجعل ولده الملك الظاهر والملك الأفضل — عز نصرهما — في القلب، ونزل هو وراء القوم يطلبهم، وأول ما نزل من التل أحضر بين يديه أفرنجي قد أُسر من القوم، فأمر بضرب عنقه بين يديه بعد عرض الإسلام عليه وإبائه عنه، وكلما سار العدو يطلب رأس النهر سار هو مستديرًا إلى ورائهم، حتى يقطع بينهم وبين خيامهم وهو يسير ساعة، ثم ينزل يستريح ويتظلل بمنديل على رأسه من شدة وقع الشمس، ولا ينصب له خيمة حتى لا يرى العدو ضعفًا ولم يزل كذلك حتى نزل العدو برأس النهر، ونزل هو قبالتهم على تل مطلٍّ عليهم إلى أن دخل الليل، ثم أمر العساكر المنصورة أن عادت إلى محل المصابرة، وأن يبيتوا تحت السلاح وتأخر هو ونحن في خدمته إلى قمة الجبل، فضربت له خيمة لطيفة، وبتنا تلك الليلة أجمع أنا والطبيب نمرضه ونشاغله، وهو ينام تارة ويستيقظ أخرى، حتى لاح الصباح، ثم ضرب البوق، وركب هو وركبت العساكر وأحدقت بالعدو، ورحل العدو عائدًا إلى خيامهم من الجانب الغربي من النهر، وضايقهم المسلمون في ذلك اليوم مضايقة شنيعة، وفي ذلك اليوم قدم أولاده بين يديه احتسابًا، وجميع من حضر منهم، ولم يزل يبعث من عنده، حتى لم يبقَ عنده إلا أنا والطبيب وعارض الجيش والغلمان بأيديهم الأعلام والبيارق لا غير، فيظن الرائي لها عن بعد أن تحتها خلقًا عظيمًا، ولم يزل العدو سائرًا والقتل يعمل فيهم، وكلما قُتل منهم شخص دفنوه، وكلما جُرح منهم رجل حملوه، حتى لا يبقى بعدهم من يعلم قتله وجرحه وهم سائرون، ونحن نشاهدهم، حتى اشتد بهم الأمر ونزلوا عند الجسر، وكان الإفرنج متى نزلوا إلى الأرض أيس المسلمون من بلوغ غرض منهم؛ لأنهم يجتمعون في حالة النزول جماعة عظيمة، وبقي — رحمه الله — في موضعه والعساكر على ظهور الخيل قبالة العدو إلى آخر النهار، ثم أمرهم أن يبيتوا على مثل ما باتوا عليه بارحتهم، وعدنا إلى منزلها في الليلة الماضية، وعاد العسكر في الصباح إلى ما كان عليه بالأمس من مضايقة العدو، ورحل العدو، وسار على ما مضى من القتل والقتال، حتى دنا إلى خيامه، وخرج إليه منها من أنجده، حتى وصلوا إلى خيامهم.

فانظر إلى هذا الصبر والاحتساب، وإلى أي غاية بلغ هذا الرجل. اللهم إنك ألهمته الصبر والاحتساب ووفقته له، فلا تحرمه ثوابه يا أرحم الراحمين.

ولقد رأيته — رحمه الله تعالى — وقد جاءه خبر وفاة ولدٍ له بالغ يُسمى إسماعيل، فوقف على الكتاب، ولم يعرِّف أحدًا، ولم نعرف حتى سمعناه من غيره، ولم يظهر عليه شيء من ذلك سوى أنه لما قرأ الكتاب دمعت عينه.

ولقد رأيته ليلة على صفد وهو يحاصرها، وقد قال: لا ننام الليلة حتى تُنصب لنا خمس مناجيق، ورتب لكل منجنيق قومًا يتولون نصبه، وكنا طول الليل في خدمته — قدس الله روحه — في ألذ مفاكهة، وأرغد عيش، والرسل تتواصل تخبره بأن قد نصب من المنجنيق الفلاني كذا، ومن المنجنيق الفلاني حتى أتى الصباح، وقد فرغ منها، ولم يبقَ إلا تركيب خنازيرها عليها، وكانت من أطول الليالي، وأشدها بردًا ومطرًا.

ورأيته وقد وصل إليه خبر وفاة تقي الدين ابن أخيه، ونحن في مقابلة الإفرنج جريدة على الرملة وبيننا وبينهم شوط فرس لا غير، فأحضر الملك العادل، وعلم الدين سليمان، وسابق الدين، وعز الدين، وأمر بالناس فطردوا من قريب الخيمة، بحيث لم يبقَ حولها أحد زيادة عن غلوة سهم، ثم أظهر الكتاب، ووقف عليه، وبكي بكاء شديدًا، حتى أبكانا من غير أن نعلم السبب، ثم قال — رحمه الله — والعبرة تخنقه: تُوفي تقي الدين، فاشتد بكاؤه، وبكاء الجماعة، ثم عدت إلى نفسي، فقلت: استغفروا الله — تعالى — من هذه الحالة، وانظروا أين وفيم أنتم، وأعرضوا عما سواه، فقال — رحمه الله: نعم أستغفر الله. وأخذ يكررها، ثم قال: لا يعلم أحد. واستدعى بشيءٍ من الماورد، فغسل عينيه، ثم أشخص الطعام، وحضر الناس، ولم يعلم بذلك أحد، حتى عاد العدو إلى يافا، وعدنا نحن إلى النطرون، وهو مقر ثقلنا.

وكان — رحمه الله — شديد الشغف والشفقة بأولاده الصغار، وهو صابر على مفارقتهم، راضٍ ببعدهم عنه، وكان صابرًا على مر العيش وخشونته مع القدرة التامة على غير ذلك احتسابًا لله — تعالى. اللهم إنه ترك ذلك كله ابتغاء مرضاتك، فارضَ عنه وارحمه.

ذكر نبذ من حلمه وعفوه رحمه الله

قال الله — سبحانه وتعالى: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، لقد كان متجاوزًا قليل الغضب، ولقد كنت في خدمته بمرج عيون قبل خروج الإفرنج إلى عكا — يسر الله فتحها — وكان من عادته أن يركب في وقت الركوب، ثم ينزل فيمد الطعام، ويأكل مع الناس، ثم ينهض إلى خيمة خاصة له ينام فيها، ثم يستيقظ من منامه، ويصلي، ويجلس خلوة، وأنا في خدمته نقرأ شيئًا من الحديث، أو شيئًا من الفقه، ولقد قرأ علي كتابًا مختصرًا تصنيف الرازي يشتمل على الأرباع الأربعة من الفقه، ونزل يومًا على عادته، ومد الطعام بين يديه، ثم عزم على النهوض، فقيل له: إن وقت الصلاة قد قرب. فعاد إلى الجلوس، وقال: نصلي وننام. ثم جلس يتحدَّث حديث متضجر، وقد أخلا المكان إلا ممن لزم، فتقدم إليه مملوك كبير محترم عنده، وعرض عليه قصة لبعض المجاهدين، فقال له: أنا الآن ضجران أخرها ساعة. فلم يفعل، وقدم القصة إلى قريبٍ من وجهه الكريم بيده، وفتحها، بحيث يقرأها فوقف على الاسم المكتوب في رأسها، فعرفه، فقال: رجل مستحق. فقال: يوقع المولى له. فقال: ليست الدواة حاضرة الآن. وكان — رحمه الله — جالسًا في باب الخركاه، بحيث لا يستطيع أحد الدخول إليها، والدواة في صدرها، والخركاه كبيرة، فقال له المخاطب: هذه الدواة في صدر الخركاه. وليس لهذا معنى إلا أمره إياه بإحضار الدواة لا غير، فالتفت — رحمه الله، فرأى الدواة، فقال: والله لقد صدق. ثم امتد على يده اليسرى، ومد يده اليمنى فأحضرها، ووقع له، فقلت: قال الله — تعالى — في حق نبيه : وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وما أرى المولى إلا قد شاركه في هذا الخُلق، فقال: ما ضرنا شيئًا؛ قضينا حاجته، وحصل الثواب. ولو وقعت هذه الواقعة لآحاد الناس وأفرادهم لقام وقعد، ومن الذي يقدر أن يخاطب أحدًا هو تحت حكمه بمثل ذلك، وهذا غاية الإحسان والحلم، والله لا يضيع أجر المحسنين.

ولقد كانت طراحته تُداس عند التزاحم عليه لعرض القصص، وهو لا يتأثر لذلك، ولقد نفرت يومًا بغلتي من الجمال، وأنا راكب في خدمته، فزحمت وركه حتى ألمته، وهو يبتسم — رحمه الله. ولقد دخلت بين يديه في يوم ريح مطير إلى القدس الشريف، وهو كثير الوحل فنضحت البغلة عليه من الطين، حتى أتلفت جميع ما كان عليه، وهو يبتسم، وأردت التأخر عنه بسبب ذلك فما تركني.

ولقد كان يسمع من المستغيثين والمتظلمين أغلظ ما يمكن أن يسمع ويلقى ذلك بالبشر والقبول، وهذه حكاية يندر أن يُسطر مثلها، وذلك أنه كان قد اتجه أخو ملك الإفرنج خذلهم الله إلى يافا، فإن العسكر كان قد رحل عنهم، وبعد وتراجع إلى النطرون، وهو مكان بينه وبين يافا للعسكر مرحلتان للمجد، وثلاث معتادة، وجمع — رحمه الله — العسكر، ومضى إلى قيسارية يلتقي نجدتهم، عساه يبلغ منها غرضًا، وعلم الإفرنج الذين كانوا بيافا ذلك، وكان بها الانكتار ومعه جماعة، فجهز معظم من كان عنده في المراكب إلى قيسارية خشية على النجدة أن يتم عليها أمر، وبقي الانكتار في نفرٍ يسيرٍ لعلمهم ببعده — رحمه الله — عنهم وبعد العسكر، ولما وصل — رحمه الله — إلى قيسارية، ورأى النجدة قد وصلت إلى البلد، واحتمت به، وعلم أنه لا ينال منهم غرضه سرى من ليلته في أول الليل إلى آخره، حتى أتى يافا صباحًا، والانكتار في سبعة عشر فارسًا وثلاثمائة راجل نازلًا خارج البلد في خيمة له، فصبحه العسكر صباحًا، فركب الملعون، وكان شجاعًا باسلًا، صاحب رأي في الحرب، وثبت بين يدي العسكر، ولم يدخل البلد، فاستدار العسكر الإسلامي بهم إلا من جهة البحر، وتعبى العسكر تعبية القتال، وأمر السلطان العسكر بالحملة انتهازًا للفرصة، فأجابه بعض الأكراد بكلامٍ فيه خشونة تعتب لعدم التوفير في إقطاعه، فعطف — رحمه الله — عنان فرسه كالمغضب لعلمه أنهم لا يعلمون في ذلك اليوم شيئًا، وتركهم، وانصرف راجعًا، وأمر بخيمته التي كانت منصوبة أن قُلعت، وانفضوا متيقنين أن السلطان في ذلك اليوم ربما صلب جماعة، ولقد حكى لي ولده الملك الظاهر — أعز الله أنصاره — أنه خاف منه في ذلك اليوم، حتى إنه لم يتجاسر أن يقع في عينيه مع أنه حمل في ذلك اليوم، وأوغل، ولم يزل سائرًا، حتى نزل بسازور، وما من الأمراء إلا من يرعد خيفة، ومن يعتقد أنه مأخوذ مسخوط عليه، قال: ولم تحدثني نفسي بالدخول عليه خيفةً منه، حتى استدعاني، قال: فدخلت عليه، وقد وصله من دمشق المحروسة فاكهة كثيرة، فقال: اطلبوا الأمراء، حتى يأكلوا شيئًا. قال: فسرَّى عني ما كنت أجده، وطلبت الأمراء فحضروا وهم خائفون، فوجدوا من بشره وانبساطه ما أحدث لهم الطمأنينة والأمن والسرور وانصرفوا على عزم الرحيل كأن لم يجرِ شيء أصلًا، فانظر إلى هذا الحلم الذي لا يتأتى في مثل هذا الزمان، ولا يُحكى عمن تقدم من أمثاله — رحمة الله عليه.

ذكر محافظته على أسباب المروءة

قال النبي : «بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وكان إذا صافحه الرجل لا يترك يده حتى يكون الرجل هو التارك الذي يبدأ بذلك، ولقد كان السلطان كثير المروءة ندي اليد، كثير الحياء، مبسوط الوجه لمن يرد عليه من الضيوف لا يرى أن يفارقه الضيف، حتى يطعم عنده، ولا يخاطبه بشيءٍ إلا وينجزه، وكان يكرم الوافد عليه، وإن كان كافرًا، ولقد وفد عليه البرنس صاحب أنطاكية فما أحس به إلا وهو واقفٌ على باب خيمته بعد وقوع الصلح في شهر شوَّال سنة ثمانٍ وثمانين وخمسمائة عند منصرفه من القدس إلى دمشق، عرض له في الطريق، وطلب منه شيئًا فأعطاه العمق، وهي بلاد كان أخذها منه عام فتح الساحل، وهو سنة أربع وثمانين.

ولقد رأيته وقد دخل عليه صاحب صيدا بالناصرة فاحترمه، وأكرمه، وأكل معه الطعام، ومع ذلك عرض عليه الإسلام، فذكر له طرفًا من محاسنه وحثه عليه.

وكان يكرم من يرد عليه من المشايخ وأرباب العلم والفضل وذوي الأقدار، وكان يوصينا بأن لا نغفل عمن يجتاز بالخيم من المشايخ المعروفين، حتى يحضرهم عنده، وينالهم من إحسانه، ولقد مر بنا سنة أربع وثمانين وخمسمائة رجل جمع بين العلم والتصوف، وكان من ذوي الأقدار وأبوه صاحب توريز، فأعرض هو عن فن أبيه، واشتغل بالعلم والعمل، وحج ووصل زائرًا لبيت الله المقدس، ولما قضى لبانته منه ورأى آثار السلطان — رحمه الله — فيه وقع له زيارته، فوصل إلينا إلى المعسكر المنصور، فما أحسست به إلا وقد دخل عليَّ في الخيمة، فلقيته ورحبت به، وسألته عن سبب ذلك ووصوله، فأخبرني بذلك، وأنه يؤثر زيارة السلطان لما رأى له من الآثار الحميدة الجميلة، فعرفت السلطان بذلك في ليلة وصول هذا الرجل، فاستحضره، وروي عنه حديثًا ثم انصرفنا وبات عندي في الخيمة، فلما صليت الصبح أخذ يودعني، فقبحت له المسير بدون وداع السلطان، فلم يلتفت، ولم يلو على ذلك، وقال: قد قضيت حاجتي منه، ولا غرض لي فيما عدا رؤيته وزيارته، وانصرف من ساعته، ومضى على ذلك ليالٍ، فسأل السلطان عنه، فأخبرته بفعله، فظهر عليه آثار الغضب كيف لم أخبره برواحه، وقال: كيف يطرقنا مثل هذا الرجل وينصرف عنا من غير إحسانٍ يمسه منا؟ وشدد النكير عليَّ في ذلك، فما وجدت بدًّا من أن أكتب كتابًا إلى محيي الدين قاضي دمشق كلفته فيه السؤال عن حال الرجل، وإيصال رقعة كتبتها إليه طيَّ كتابي أخبره فيها بإنكار السلطان رواحه من غير اجتماعه به، وحسنت له فيها العود، وكان بيني وبينه صداقة تقتضي مثل ذلك، فما أحسست به إلا وقد عاد إليَّ، فرحب به السلطان، وانبسط معه، وأمسكه أيامًا، ثم خلع عليه خلعة حسنة، وأعطاه مركبًا لائقًا، وثيابًا كثيرة يحملها إلى بنيه وأتباعه وجيرانه، وانصرف عنه، وهو أشكر الناس وأخلصهم دعاء لأيامه.

ولقد رأيته وقد مثل بين يديه أسيرًا فرنجي قد أصابه كرب، بحيث إنه ظهرت عليه أمارات الخوف والجزع، فقال للترجمان: من أي شيء يخاف؟ فأجرى الله على لسانه أن قال: كنت أخاف قبل أن أرى هذا الوجه، فبعد رؤيتي له وحضوري بين يديه أيقنت أني ما أرى إلا الخير. فرَّق له ومنَّ عليه وأطلقه، ولقد كنت راكبًا في خدمته في بعض الأيام قبالة الإفرنج، وقد وصل بعض اليزكية ومعه امرأة شديدة التخوف، كثيرة البكاء، متواترة الدق على صدرها، فقال اليزكي: إن هذه خرجت من عند الإفرنج، فسألت الحضور بين يديك، وقد أتينا بها. فأمر الترجمان أن يسألها عن قصتها، فقال: اللصوص المسلمون دخلوا البارحة إلى خيمتي، وسرقوا ابنتي، وبت البارحة أستغيث إلى بكرة النهار. فقال لي المملوك: السلطان هو أرحم، ونحن نخرجك إليه تطلبين ابنتك منه، فأخرجوني إليك، وما أعرف ابنتي إلا منك. فرقَّ لها ودمعت عينه وحركته مروءته، وأمر من ذهب إلى سوق العسكر يسأل عن الصغيرة من اشتراها ويدفع له ثمنها ويحضرها، وكان قد عرف قضيتها من بكرة يومه، فما مضت ساعة حتى وصل الفارس والصغيرة على كتفه، فما كان إلا أن وقع نظرها عليها، فخرت إلى الأرض تعفر وجهها في التراب والناس يبكون على ما نالها وهي ترفع طرفها إلى السماء، ولا نعلم ما تقول، فسلمت ابنتها إليها وحملت حتى أُعيدت إلى عسكرهم.

وكان لا يرى الإساءة إلى من صحبه، وإن أفرط في الخيانة، ولقد أُبدل في خزائنه كيسان من الذهب المصري بكيسين من الفلوس، فما عمل بالنواب شيئًا سوى أن صرفهم من عملهم لا غير.

ولقد دخل البرنس أرناط صاحب الكرك مع ملك الإفرنج بالساحل لما أسرهما في واقعة حطين في شهور سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، والواقعة مشهورة تجيء مشروحة في موضعها — إن شاء الله تعالى — وكان قد أمر بإحضارهما، وكان أرناط هذا اللعين كافرًا عظيمًا جبارًا شديدًا، وكانت قد اجتازت به قافلة من مصر حين كان بين المسلمين وبينهم هدنة، فغدرها وأخذها ونكل بهم وعذبهم وأسكنهم المطامير والحبوس الحرجة، وذكروا له حديث الهدنة، فقال: قولوا لمحمدكم يخلصكم، فلما بلغه — رحمه الله — ذلك عنه نذر أنه متى أظفره الله به قتله بنفسه، فلما أمكنه الله منه في ذلك اليوم قوي عزمه على قتله وفاءً بنذره، فأحضره مع الملك، فشكا الملك العطش فأحضر له قدحًا من شراب، فشرب منه، ثم ناوله أرناط، فقال السلطان للترجمان: قل للملك أنت الذي سقيته، وأما أنا فما أسقيه من شرابي، ولا أطعمه من طعامي، فقصد — رحمه الله — أن من أكل من طعامي فالمروءة تقتضي أن لا أوذيه، ثم ضرب عنقه بيده وفاءً بنذره، وأخذ عكا، وأخرج الأسرى كلهم من ضيق الأسر، وكانوا زهاء أربعة آلاف أسير، وأعطى كل واحدٍ منهم نفقة يصل بها إلى بلده وأهله. هكذا بلغني على ألسنة جماعة؛ لأني لم أحضر هذه الواقعة.

وكان حسن العشرة، لطيف الأخلاق، طيب الفكاهة، حافظًا لأنساب العرب ووقائعهم، عارفًا بسيرهم وأحوالهم، حافظًا لأنساب خيلهم، عالمًا بعجائب الدنيا ونوادرها، بحيث كان يستفيد محاضره منه ما لا يسمع من غيره.

وكان حسن الخلق يسأل الواحد منا عن مرضه ومداواته ومطعمه ومشربه وتقلبات أحواله.

وكان طاهر المجلس لا يُذكر بين يديه أحد إلا بخير السمع، فلا يحب أن يسمع عن أحد إلا الخير، وطاهر اللسان فما رأيته ولع بشتم قط، وكان حسن العهد والوفاء؛ فما أُحضر بين يديه يتيم إلا وترحم على مخلفيه، وجبر قلبه وأعطاه، وجبر مصابه، وإن كان له من أهله كبير يعتمد عليه سلمه إليه وإلا أبقى له من الخير ما يكف حاجته، وسلمه إلى من يعتني بتربيته ويكفلها.

وكان لا يرى شيخًا إلا ويرق له، ويعطيه، ويحسن إليه، ولم يزل على هذه الأخلاق إلى أن توفاه الله إلى مقر رحمته، ومكان رضوانه.

فهذه نبذ من محاسن أخلاقه ومكارم شيمه اقتصرت عليها خوف الإطالة والسآمة، وما سطرت إلا ما شاهدته، أو أخبرني الثقة به، وحققته، وهذا بعض ما اطلعت عليه في زمان خدمتي له، وهو يسير فيما اطلع عليه غيري ممن طالت صحبته وتقدمت خدمته، ولكن هذا القدر يكفي الأديب في الاستدلال على طهارة تلك الأخلاق والخلال، وحيث نجز هذا القسم، فنشرع الآن في القسم الثاني من الكتاب في بيان تقلبات أحواله ووقائعه وفتوحاته في تواريخها. قدس الله روحه، ونور بنور رحمته ضريحه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤