مستر مَندوزا

بعد أسبوع … كانت تقارير المجموعات في دول البترول كلها قد تجمعت أمام رقم «صفر» وأخذ يفحصها فحصًا دقيقًا … ولكن للأسف كانت التقارير كلها سلبية … فقد أكَّد الشياطين اﻟ «١٣» الذين عملوا في شكل مجموعات أن إجراءات الأمن التي تتخذها البلاد المنتجة للبترول حول الآبار كافية جدًّا لصد أي محاولة للنسف أو للتدمير … وقال رقم «١١» في تقريره: لقد دخلت منطقة الآبار في شكل عامل تشحيم … ولم أجد أي شيء يدل على الريبة؛ فالعمل يدور في آبار «أبو ظبي» على ما يرام … وقد بحثت عن متفجرات أو غيرها وسألت عن الأشخاص الغرباء، ولكن ليس هناك ما يمكن الاشتباه فيه مطلقًا.

وأخذ رقم «صفر» يقرأ التقرير الأخير من «إلهام» اللبنانية. لم يكن في التقرير معلومات، ولكن كانت فيه آراء ومطالب. قالت «إلهام» في تقريرها: «حتى الآن ليست هناك معلوماتٌ عن أي نوعٍ من محاولات التدمير … والعمل يسير في الآبار بشكلٍ عادي جدًّا … إننا لم نجد شيئًا على «البر» يمكن أن يُثير الشبهات ولكن ما رأيك في «البحر»؟ أليس من الممكن أن يكون الخطر قادمًا من البحر؟ … سوف نقوم بجولةٍ استطلاعية في «البحر» أنا وبقية المجموعة التي اخترتها للعمل في جزيرة اللؤلؤة وهم رقم «١» ورقم «٢» ورقم «٧» ورقم «٩» وسنرسل تقريرنا القادم بعد أيامٍ قليلة.»

وجلس رقم «صفر» يفكِّر … هل المعلومات التي وصلت في البداية خاطئة؟ على كل حال لم يكن أمامه إلا أن يجلس وينتظر … ولم يكن رقم «صفر» في ذلك الوقت يقيم في الكهف السري … لقد كان يجلس في شرفة كازينو «لبنان» فقد كان أنفه الحساس قد شمَّ هبوب ريح الأحداث قرب لبنان … وكان يعرف بخبرته الواسعة أن أي خطوةٍ إلى الخليج العربي تبدأ من «بيروت».

وفي تلك الأثناء كانت مجموعة الخمسة في جزيرة اللؤلؤة قد أعدوا زورقًا بخاريًّا سريعًا لرحلة في الخليج … وكانت «إلهام» التي اقترحَت البحث في البحر هي أبرز أفراد المجموعة في العوم والغطس … ولعل ذلك ما دفعها إلى البحث في «البحر».

ومن شاطئ «الأحمدي» الحار انطلق الزورق، وسرعان ما كان يشق طريقه في المياه الساكنة، مارًّا بقرب الآبار الضخمة المعممة بالغازات المحترقة. وفي وسط حاملات البترول الكبيرة. وكانت النظارة المكبرة على عيونهم تلاحظ كل شيء … وداروا دورةً واسعةً في البحر … وتوغلوا نحو عشرة كيلومترات بعيدًا عن الشاطئ ولكن لم يكن هناك أي دلائل على وجود شيء غير عادي.

قال رقم «١»: أعتقد أننا لن نصل إلى شيء … إن تعليمات رقم «صفر» كانت ناقصةً؛ فإن البلاد العربية المنتجة للبترول كثيرة. ومساحات حقول البترول واسعة فكيف نصل إلى المعلومات التي …

وفي تلك اللحظة وقبل أن يتم رقم «١» «أحمد» حديثه أدار رقم «٩» «خالد» الزورق دورة سريعة مفاجئة. سقط على إثرها رقم «٢» «عثمان» إلى الماء، وانزلقت قدم رقم «٧» «زبيدة» فسقطت بشدة وصاح رقم «٩»: اقفزوا إلى الماء …

لم يتردد أعضاء المجموعة في القفز … وكان «عثمان» أسبقهم، بينما انحنى «أحمد» ليساعد «زبيدة» على الوقوف. ثم أمسكها من ذراعها وقفزا معًا إلى الماء ولم يبتعدا عن الزورق بأكثر من متر … حتى دوَّى انفجار هائل وتطايرت شظايا الزورق في الفضاء. ثم غاص في البحر.

لحسن حظ المجموعة لم يُصَب أحد … وأخذوا يعومون معًا في ناحية الشاطئ البعيد … وكانوا حسب التدريبات التي تلقَّوْها يعومون في خطٍّ متعرج. وقال «خالد» الذي كان مسئولًا عن قيادة الزورق: بالصدفة كنت أُحدِّق في الماء … وفجأةً شاهدت طوربيدًا … يشق طريقه إلينا بسرعة البرق تحت الماء … فأدرت الزورق بسرعة … فتجاوزنا الطوربيد …

وسكت «خالد» وهو يضرب الماء بذراعَيْه، وينسق بين مكانه ومكان المجموعة ثم مضى يقول: وتأكدت أن من قذفنا بالطوربيد الأول … سيضربنا ثانيةً … فطلبت منكم القفز إلى الماء.

لم يتبادل أفراد المجموعة حديثًا آخر حتى وصلوا إلى الشاطئ فقال «أحمد»: أرى أن نخطر الجهات المسئولة بما حدث … فصوت الانفجار لا بد أنه وصل إلى الشاطئ.

قالت «إلهام»: لا أظن … وأفضِّل أن نقول إن الزورق قد غرق بطريقةٍ طبيعية … إننا في حاجةٍ إلى العمل بهدوء، فإذا أبلغنا الجهات المسئولة فقد يتصرفون بطريقةٍ غير مناسبة لنا.

عثمان: لنترك الأمور حسبما يحدث … فإذا كان الانفجار قد سُمع على الشاطئ فلا بد أن نقول ما حدث.

زبيدة: لقد اصطدمنا بالعدو المجهول بأسرع مما توقعنا!

أحمد: فعلًا … وعلينا الآن أن نضع خططنا على أساس وجود العدو فعلًا في الماء.

خالد: اتجهوا أنتم إلى «الكابينة» الخاصة بي … وسألحق بكم …

كانوا جميعًا يرتدون ملابس البحر فلم يلفتوا الأنظار عندما مشوا على الشاطئ واتجهوا سريعًا إلى كابينة «خالد» بينما كان «خالد» يستطلع أثر الانفجار وعندما عاد إليهم، كانوا قد استبدلوا ثيابهم، وجلسوا يتحدثون.

قال «خالد» لحسن الحظ لم يلفت الانفجار انتباه أحد … فكثيرًا ما تحدث انفجارات في المنطقة أثناء عمليات استخراج البترول … وقد وصل الانفجار مكتومًا.

أحمد: عظيم … أظنكم توافقون على أن ثمة عملًا عدائيًّا موجهًا ضدنا؟

عثمان: قد لا يكون موجهًا ضدنا بصفتنا من أعضاء الكهف السري، ولكن ضد وجودنا … مهما كانت صفتنا … في منطقة لا يريد العدو المجهول أن يتجوَّل فيها أحد.

إلهام: معقول!

أحمد: وما رأيكِ يا «زبيدة» في نوع الانفجار؟

زبيدة: واضح جدًّا أنه طوربيد بحريٌّ أطلق من زورق طوربيد … أو من غوَّاصة … وأرجِّح أنه من غوَّاصة؛ لأننا مسحنا المنطقة بالنظارات المكبرة فلم نرَ شيئًا في مساحة واسعة.

أحمد: إن وجود غوَّاصة يؤكِّد وجود عدوٍّ قوي ومجهول … هل نتوقع مثلًا أن يتم نسف الآبار عن طريق هذه الغواصة؟

خالد: لا أظن … فهذه عملية عسكرية يترتب عليها نتائج دولية خطيرة وأظن أنهم سيلجئون لأسلوب التخريب … أي أن تنزل مجموعة إلى منطقة الآبار لبث ألغامٍ فيها.

إلهام: في هذه الحالة ممكن إرسال إنذارٍ إلى الحكومة لتدقيق التفتيش في منطقة الآبار كخطوةٍ أولى … وعلينا الكشف عن هؤلاء المخربين.

عثمان: سننقسم إلى فريقين؛ فريق يبحث في البحر … وفريق يبحث في البر.

إلهام: على الفريق البحري أن يعملَ بعد الآن في زوارق مطاط … فهذه صغيرة وسوداء ولا ترى من بعيد … ولمزيدٍ من الاحتياط عليهم أن يعملوا ليلًا بقوارب سوداء … هل يُمكن تدبير هذه القوارب يا «خالد»؟

خالد: سأدبِّر أمرها … كما سأدبِّر زورقًا آخر بدل الزورق الغريق وبنفس ألوانه إبعادًا للشبهات.

أحمد: أظن يا «عثمان» ستعمل في فريق البحر … فلن يراك أحدٌ ليلًا … وابتسموا جميعًا، وقال «عثمان»: سآخذ «زبيدة» و«خالد» معي وستعمل أنت و«إلهام» على البر.

ورحب «أحمد» بالاقتراح … فقد كانت «إلهام» تعني بالنسبة له الشيء الكثير … ورغم أن عمله السري يمنعه حسب التعليمات من الوقوع في الحب … ولكن مجرد وجود «إلهام» بقربه كان يملأ قلبه بالسعادة.

وجلس «أحمد» يدقُّ على جهاز اللاسلكي تقريرًا بالشفرة إلى رقم «صفر» وبقيَتْ معه «إلهام» لأن قدمها كانت تؤلمها … بينما اتجه الباقون للنزهة في المدينة …

وفي المساء تلقَّوا تقريرًا من رقم «صفر». كان خطابًا عاديًّا، ولكن بالرموز الشفرية استطاعوا أن يحصلوا على معلومات هامَّة. كانت الرسالة الشفرية تقول: علمت في بيروت بظهور ثلاثة أشخاص من أبرز الشخصيات في عالم الإجرام … إنهم مأجورون سبق لهم العمل في مناطق مختلفة من العالم لإحداث الاضطرابات، وإجراء عمليات النسف وغيرها، وهم يستخدمون جوازات سفر مزورة متعددة بحيث لا يمكن معرفة أسمائهم لأنهم يغيرونها في كل بلد، ولكن هناك معلومات مؤكدة عن زعيمهم. إن اسمه الأصلي «مندوزا» وهو قاتل محترف. السن حوالي ٤٠ سنة. طوله ١٨٥ سنتيمترًا. ضخم الجسم. لون العينين أخضر فاتح. الشعر أصفر غزير، يداه ضخمتان، ويلاحظ أنه يدق بأصابع يده اليمنى على فخذه باستمرار، يجيد استخدام كلتا يديه في إطلاق النار. لا يهتم بالتنكر فهو قوي جدًّا ولا يخاف، نقطة الضعف فيه فكه الأيسر؛ فقد تهشم في إحدى المعارك وأُجرِيَت له جراحة «بلاستيك» … لقد علمت أنهم غادروا بيروت منذ ساعةٍ إلى جزيرة اللؤلؤة، وقد تكون المهمة التي سافروا من أجلها غير المهمة المعهودة إليكم … ومع هذا تابعوهم، وكونوا على حذرٍ من «مندوزا»، ولكن قوموا بواجبكم.

قال «خالد» معلقًا: يجب أن نتحرك الآن … فإننا نستطيع الحصول على معلومات عنهم فورًا بواسطة مراجعة أسماء النزلاء في الفنادق الكبيرة … والمواصفات التي تحدث عنها رقم «صفر» والخاصة بزعيمهم «مندوزا» تجعل التعرف عليهم أمرًا سهلًا.

وقسموا أنفسهم على أهم الفنادق وكانت مهمة «إلهام» هي فندق «شيراتون» … بينما بقي «أحمد» في الكابينة ليتلقَّى الاتصالات التي سيقوم بها الشياطين الأربعة.

مرَّت «إلهام» بساحة «الصفاة» حيث المركز التجاري الرئيسي للمدينة … وكانت الأضواء الملونة المنطلقة من واجهات المحال الكثيرة تضيء الساحة بمختلف الألوان … كانت هذه أول عملية استطلاع تقوم بها. وكانت خلف رجلٍ من أعتى المجرمين. ولكن أعصابها هادئة … فقد تمرَّنَتْ بما فيه الكفاية ويمكنها أن تعملَ وحدها.

وصلت إلى مدخل «الفندق» الفخم وكانت تعرف الأسلوب المتبع في استدراج كاتب الاستعلامات … وهكذا تقدَّمت منه مبتسمةً أجمل ابتسامة ممكنة. ثم وقفت قريبةً من المنصة بحيث ترى دفتر تسجيل النزلاء … كانت تعرف مقدمًا أن فرصة معرفة الأسماء الثلاثة ضئيلة للغاية، ولكن مهمتها كانت التأكُّد من أنهم نزلوا أو لم ينزلوا في الفندق.

وبعد أن حيَّت الموظف قالت له: لقد كنا في انتظار ثلاثة ضيوف قادمين من «بيروت» في المطار، ولكن يبدو أن الموعد اختلف. ونحن نرجح أنهم نزلوا عندكم في «الشيراتون».

كان السؤال الطبيعي الذي ردَّ به الموظف أنه قال: ما هي أسماؤهم؟

وبدَتْ «إلهام» مرتبكةً وهي تعصر ذهنها ثم قالت: الحقيقة أني لا أذكر الأسماء، ولكن انتظر لحظة …

وفتحت حقيبتها وتظاهرت أنها تبحث عن شيءٍ بينما كانت تقول: إن أسماءهم معي في ورقة …

وبعد تفتيش الحقيبة تفتيشًا دقيقًا قالت: آسفة … يبدون أني نسيت الورقة أو أضعتُها …

قال الموظف: آسف يا آنسة … هاتي الأسماء وتعالَي.

قالت «إلهام» وقد زوت ما بين حاجبيها: لقد تذكرت … أن أحدهم يُدعى مستر «مندوزا». وأخذ الموظف يُراجع دفتره سريعًا ثم قال ببساطة: إن الثلاثة الذين حضروا معًا اليوم من بيروت ليس فيهم من يُدعى «مندوزا».

ثم انصرف عنها إلى زبائن كانوا يتقدمون منه. وكانت «إلهام» قد حصلت على ما تريد … إن ما يهمها ليس الأسماء … ولكن أن ثلاثة رجالٍ قادمين من بيروت، قد نزلوا في «الفندق».

ودارت على عقبيها لتخرج، ولكنها اصطدمَتْ بشخصٍ كان يقف خلفها تمامًا، وكان واضحًا أنه تعمَّد أن يقفَ في طريقِها ويمنعها من السير … ونظرت حولها … كانت صالة الفندق غاصَّةً بالنزلاء … والأصوات المرتفعة تحيط بها … من كل جانب … والحقائب تدخل وتخرج في كل لحظة. إنها في مكانٍ عامٍّ وليس من حق أحدٍ أن يعترض طريقها بهذا الشكل وقال الرجل بلغة إنجليزية واضحة: لقد سمعتكِ تسألين عن مستر «مندوزا» … إني أعرف «مندوزا» يا آنسة فماذا تُريدين منه؟

كانت مفاجأةً كاملة ﻟ «إلهام» وكانت تعرف الحديث ببضع لغاتٍ حسب التدريب الذي تلقاه الشياطين ولكنها قررت أن تتجاهله، ورفعت بصرها إليه تفحصه وتتظاهر في نفس الوقت أنها لا تفهم. كان رجلًا رفيعًا قاسي الملامح وكان من المؤكد أنه ليس الزعيم الرهيب الذي تبحث عنه.

وعاد الرجل يقول: إني أعرف «مندوزا» يا آنسة … فماذا تُريدين منه؟

فقرَّرَت «إلهام» أن تخوض المغامرة فورًا وردَّت: إن ما أريد أن أقوله لمستر «مندوزا» يخصُّه وحده. فأين هو؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤