مسدس في الوجه

قال الرجل الغريب وهو يقود «إلهام» إلى مائدةٍ منعزلة في كافتيريا «الشيراتون»: اسمي «جاتمان» … «أرنست جاتمان» … ويسرني أن أتعرَّف بكِ.

قالت «إلهام»: اسمي «ياسمين».

قال الرجل وهو يبتسم: «ياسمين» … يا له من اسمٍ جميل!

إلهام: إنه اسم زهرة ذكية الرائحة!

جاتمان: أعرف ذلك!

وعاد يبتسم قائلًا: والآن، من أرسلكِ يا صغيرتي؟

كانت «إلهام» خلال سيرهما بين الموائد تفكِّر بسرعة في قصة معقولة … تستطيع بها إقناع هذا الرجل، ومقابلة «مندوزا» إذا أمكن، ولكن ذهنها لم يسعفها فقرَّرَت أن يستمر الحوار بينها وبين «جاتمان» فترة لعلها تصل إلى شيء. فردَّتْ على سؤاله بسؤال: من الذي أرسلني؟ ماذا تقصد؟

جاتمان: إن الذين يسألون عن هذا الاسم لا بد أن يكون وراءهم الكثير … وأنتِ صغيرة. فمن الذي أرسلكِ؟ من الذي يعرف «مندوزا»؟

كانت عينا الرجل الضيقتان تشعَّان ببريقٍ وحشي خبيث ولاحظت «إلهام» أن جانبه الأيمن تحت الذراع مباشرةً منتفخ. ولم يكن هناك شكٌّ في أن «جاتمان» يحمل مسدسًا ضخمًا ولكن ذلك لم يكن يزعجها. فظلَّتْ هادئةً وهي تجيبه: إنني لا أعرف أحدًا أرسلني لمقابلة «مندوزا». لقد جئت أقابله وحدي.

جاتمان: هل تعرفين مستر «مندوزا» من قبل؟

إلهام: لا … ولم أره أبدًا؟

جاتمان: مدهش يا آنسة … فكيف حضرت إذن لمقابلته؟

أدركت «إلهام» أنها محاصرة، وأن ذكر اسم «مندوزا» في حديثها مع كاتب الفندق لم يكن عملًا يتسم بالحكمة، رغم أنه على كل حال وضعها في طريق الثلاثة الكبار بل وتعرفت بواحد منهم … ولكن ماذا تفعل الآن؟!

قالت «إلهام»: سأقول لك كل شيء عندما أقابل مستر «مندوزا»!

جاتمان: تعالَي إذن نقابل «مندوزا»!

واتجها ناحية المصعد. وذهن «إلهام» يعمل سريعًا. كانت تُريد الاتصال بالشياطين الأربعة ولكن الرجل كان يمسكها من ذراعها في تصميم. ووصلا إلى المصعد … وركبا، وطلب «جاتمان» الصعود إلى الدور اﻟ ١١ ومضى المصعد بهما، والولد الأسمر الذي يعمل بالمصعد يرمقها مندهشًا.

ووصلا. واتجه «جاتمان» إلى إحدى الغرف وأدار المفتاح فيها … وأدركت «إلهام» أنهما ليسا ذاهبَيْن لمقابلة «مندوزا» فلو كان موجودًا لما كانت هناك حاجةٌ لاستخدام المفتاح.

ودخلا. ووضع «جاتمان» المفتاح في الباب من الداخل وأغلقه ثم التفت إلى «إلهام» وقال: والآن يا صغيرتي تكلمي …!

قالت «إلهام» متجاهلةً نظرة الذئب التي بدَتْ في عينيه: ولكن أين مستر «مندوزا»؟ كشر «جاتمان» عن أنيابه قائلًا: دعكِ من «مندوزا» الآن، إنه خارج الفندق، وحدثيني أنا!

ووضع «جاتمان» يده في صدره، ولم تشك «إلهام» لحظةً في أنه يتحسس مسدسه ولكنها كررت رفضها قائلة: قلت لك إني لن أتحدَّث إلا إذا حضر «مندوزا»!

وخرج المسدس في يدِه يلمع تحت ضوء المصباح … وقال «جاتمان» بشراسةٍ وهو يلوح بالمسدس: ممكن أن نتحدث أمام هذا … إنه يقوم مقام «مندوزا».

واقترب منها في استهتار ومد يده اليسرى ليمسك شعرها، وكانت فرصتها. مدت يدها سريعًا فضربت المسدس الموجه إلى صدرها، بيدها اليسرى … وباليد اليمنى وبكل ما تملك من قوةٍ وجهَتْ إليه ضربةً بسيف يدها على عروق رقبته البارزة، ضربة تعرف أنها تُصيبه بالإغماء لمدة ثوانٍ تكفي للهرب.

كانت مفاجأة كاملة ﻟ «جاتمان» الذي لم يتصور أن تكون هذه الحسناء الصغيرة على هذه الدرجة من القوة والبراعة، فطار المسدس من يده، وسقط هو على الأرض … وانقضت «إلهام» على المسدس … وفي خطوتَيْن كانت أمام الباب تفتحه. وأخذت المفتاح معها ثم أغلقت الباب من الخارج، ووضعت المسدس في حقيبة يدها ولحسن الحظ لم يكن هناك أحد في الممر فأسرعت تنزل السلالم دورين … ثم وقفت أمام المصعد خافقة القلب ولكن كل شيء في مظهرها هادئ تمامًا … وجاء المصعد … وبعد دقائق كانت تجتاز صالة الفندق إلى الخارج. وألقَتْ بنفسها في أول تاكسي قابلها، ثم انطلقت تحمل معلوماتها إلى كابينة «خالد».

عندما دخلت وجدت «أحمد» يجلس وحيدًا في الكابينة يشرب زجاجة «كولا» في ذلك الجو الحار … وعندما شاهدها تدخل كانت نظرة واحدة إلى وجهها كافية ليعرف أنها عادت بشيء.

ابتسمت له … فقال: أخبار هامَّة؟

قالت ببساطة: إن مستر «مندوزا» خلفنا أو نحن خلفه.

أحمد: عثرتِ عليه؟

إلهام: تقريبًا …

وأسرع يحضر لها زجاجة باردة تناولت جرعة منها. ثم مدت يدها في حقيبتها وأخرجت المسدس ورفعَتْه في وجه «أحمد» وقالت مبتسمة: ارفع يدَيْك يا سيدي؟

فوجئ «أحمد» وظن لثانيةٍ واحدةٍ أن «إلهام» قد تكون قد خانتهم فكاد يقذفها بزجاجة «الكولا» ولكنه عاد إلى نفسه سريعًا، ورفع يديه إلى أعلى … وفي تلك اللحظة دخل «خالد» و«زبيدة» و«عثمان» معًا فكان المشهد أمامهم شيئًا لا يمكن تصوره؛ «إلهام» في يدها المسدس. وأحمد يرفع يديه إلى أعلى!

مرَّتْ لحظات مرتبكة … ولكن «إلهام» وضعت المسدس على المائدة وقالت: هذا المسدس من مستر «جاتمان»، «أرنست جاتمان» مع خالص التحيات.

قال «أحمد» وهو يخفض ذراعيه: ما هي الحكاية؟

وأخذت «إلهام» تقصُّ عليهم الأحداث التي مرَّتْ بها منذ دخلت صالة فندق «الشيراتون» باحثةً عن «مندوزا».

وأنصت الأصدقاء في اهتمامٍ شديد … وعندما انتهت من حديثها كان «عثمان» يفحص المسدس وقال: إنه من طراز لوجر «٨٣مم» ومركب عليه جهاز كاتم للصوت، ولم يطلق منذ فترة.

قال «أحمد»: إننا وراء الثعالب الثلاثة. المهم هل لهم صلةٌ بحوادث التخريب المنتظرة في الآبار، وهل لهم صلة بإطلاق الطوربيد علينا هذا الصباح؟

زبيدة: إذا أخذنا حساب الساعات … فقد أطلق علينا الطوربيد في الثامنة صباحًا ووصلَنا تقريرُ رقم «صفر» الساعة الثانية ظهرًا. ومن الممكن أن يكون الذين قذفوا الطوربيد قد أرسلوا لاستدعاء الثعالب الثلاثة من «بيروت» لمتابعة ما يحدث على البر.

عثمان: إن المطلوب الآن في رأيي هو معرفة خطط وتحركات الثعالب الثلاثة، فهذا هو الطريق الوحيد أمامنا لمعرفة أين مكان الضربة التي يوجهونها إلى الآبار …

أحمد: من الممكن طبعًا مراقبتهم، ولكن أرى أن نقوم بمحاولة تركيب أجهزة تجسس في غرفهم … هل هذا ممكن يا «خالد»؟

كان «خالد» العضو رقم «٩» ومندوب الكويت هو المسئول حسب تنظيم الشياطين عن هذه العملية أساسًا فقال: نعم ممكن؛ إن لي أكثر من صديق ممن يعملون في «الشيراتون» وسأجد وسيلة لتركيب الأجهزة هناك.

أحمد: لاحظ أنهم سيكونون على حذرٍ بعد عملية «إلهام» مع «جاتمان» بل لعلهم يُغيرون خططهم أو أماكنهم.

تدخلت «إلهام» في الحديث قائلة: أعتقد أن «جاتمان» سيُخفي عن الثعلبين الآخرين حقيقة ما حدث له. وإلا تعرض لعقابٍ شديد من «مندوزا» وأظن أنه سيخترع قصةً أكثر إثارة لضياع مسدسه، إن أمثال هؤلاء المجرمين المغرورين لا يمكن أن يعترفوا بالهزيمة.

زبيدة: أقترح أن يحاول «خالد» إلحاقي بالعمل في كافتيريا «الفندق». إنني مثل كل شياطين الكهف أُجيد عدة لغات. وأظن أنني حسناء … بما فيه الكفاية …

وضحك الأصدقاء جميعًا، وقال «خالد»: سأقوم باتصالات غدًا صباحًا وستكون عندكم أخبارٌ بعد الظهر.

وضع الشياطين خطة للحراسة بالتناوب. ثم استسلموا للرقاد بعد أن أعد «أحمد» تقريرًا إلى رقم «صفر» بما حدث وجلس يبرق به. وعندما استيقظوا من النوم كانت هناك ورقة من «خالد» تركها يقول فيها: ذهبت للمهمة التي اتفقنا عليها … لا تتحركوا حتى أعود.

خرج الأصدقاء إلى شرفة «الكابينة» يطلون على الميناء الكبير حيث يصدر أكبر قدر من البترول. وكانت الشمس الحامية قد استيقظت مبكرًا في ذلك اليوم الصيفي الحار … فجلسوا يتحدثون في انتظار عودة «خالد» وفجأةً قال «عثمان»: إني أسمع صوت جهاز اللاسلكي … وأسرع إلى الداخل … وكان الجهاز المركب بطريقةٍ سرية في مطبخ الكابينة يُرسل إشارات.

وجلس «عثمان» ووضع السماعة على أذنيه وسمع رقم «صفر» يقول: س/ص «صفر» يتحدث … س/ص «صفر» يتحدث.

قال «عثمان»: س/ص «٢» يسمع. حوِّل.

قال رقم «صفر»: تقريركم اليوم غاية في الأهمية … «جاتمان» معروف لنا أنه من أعوان «مندوزا». لقد وقعتم على أثر صحيح. عليكم الاعتماد على «راشد» في فندق «الشيراتون» إنه من رجالنا. قولوا له إن س/ص «صفر» يطلب معونته. حوِّل.

عثمان: س/ص «٢» يتحدَّث … سيكون «راشد» مهمًّا لنا … شكرًا. حوِّل. أسرع «عثمان» يحمل البرقية إلى الأصدقاء وبينما هم يتبادلون الحديث وصل «خالد» وكان واضحًا أنه لم ينجح في مهمته، ولكنه لم يكد يسمع ببرقية رقم «صفر» حتى قال: لقد حُلَّت المشكلة.

في ذلك المساء … كانت «زبيدة» تقوم بالخدمة في كافتيريا «الشيراتون» بصفتها تحت التمرين، وبنفس الصفة كان «أحمد» و«عثمان» يعملان كمساعدي شيال، وكانت مهمة «أحمد» التسلُّل إلى غرفة الرجال الثلاثة لوضع أجهزة تسجيل دقيقة … وكان يعرف أن مهمته صعبة، فهؤلاء الرجال العتاة يمكنهم اكتشاف مثل هذه الأجهزة بسرعةٍ ما لم تكن مخفاةً بدقة.

كانت حركة العمل في الفندق الكبير على أشدها، و«أحمد» و«عثمان» ينقلان الحقائب من وإلى الفندق. كان عملًا مرهقًا. ولكن الولدين القويين استمتعا به … لقد اعتبراه نوعًا من تمرين العضلات … وفي التاسعة مساءً دخل «أحمد» إلى صالة الكافتيريا ليشرب كوبًا من الماء … وهو في الحقيقة يريد الحديث إلى «زبيدة» ليعرف أخبارها.

وشاهدته «زبيدة» وهو يدخل، وكانت منحنية على مائدة تتحدث إلى زبون، وبعد لحظات اقتربت منه. كان يقف بجوار نصف برميل من الخشب زرعت فيه نخلة صغيرة فمدت يدها بجوار النخلة ووضعت شيئًا ثم قالت: إن الثعالب الثلاثة هنا، تستطيع أن تراهم إلى اليمين وأنت خارج، إنني أقوم بخدمتهم، وقد طلبوا عشاءً خفيفًا وبعض المشروبات … سوف أعمل على تأخيرهم بعض الوقت، فاصعد إلى فوق وركب ما تستطيع من أجهزة الاستماع.

انصرفت «زبيدة» مسرعة، ومد «أحمد» يده إلى جذع النخلة، ووجد ثلاثة مفاتيح، وأدرك أن «راشد» يقوم بمهمته خير قيام.

أسرع إلى المصعد. وفي الدور الحادي عشر تلفت حوله … لم يكن هناك أحدٌ وأسرع إلى أول غرفة من غرف الرجال الثلاثة. كان قد قرر أن يضع جهاز تسجيل صغيرًا في حجم علبة الكبريت في «فيشة الكهرباء» في إحدى الغرف والثاني ملتصق بأسفل الفراش في غرفة ثانية، والثالث في سماعة التليفون.

ودخل الغرفة وأرهف السمع، كان الصمت مخيمًا على المكان وأسرع بإخراج أدواته الدقيقة، وأخذ يعمل بسرعة ومهارة في فك فيشة الكهرباء، وتركيب جهاز التسجيل داخلها … وفي دقائق قليلة كان قد انتهى من عمله، فوقف خلف الباب يتصنَّت … ثم واربه وأنصت مرة أخرى، لم يكن هناك أحد، فخرج مسرعًا، وفتح الغرفة الثانية وفك سماعة التليفون، ووضع جهازًا أصغر من الأول فيها … ومرة ثانية قام بالإنصات … ومواربة الباب ثم خرج … وفتح الغرفة الثالثة … ولم تكن مهمته فيها تستدعي أكثر من دقيقتين وعندما انتهى كان الوقت ما زال أمامه متسعًا … وبسرعة بدأ تفتيشًا دقيقًا لكل ما في الغرفة. قد يحصل على وثائق أو مستندات تكشف عن خطط العصابة … وصِلَتها بما حدث لهم في البحر … كان يفتش كل شيءٍ ثم يُعيده إلى مكانه تمامًا …

وانتهى من تفتيشه دون أن يعثرَ على شيءٍ ذي أهميةٍ … فمن المؤكد أن الثعالب الثلاثة أحرص من أن يقعوا في خطأ مثل هذا … واتجه إلى الباب ليخرج … وفي هذه اللحظة سمع صوت أقدام مقبلة … ثم سمع المفتاح وهو يُوضَع في ثقب الباب …

تراجع «أحمد» إلى الخلف … وشمل الغرفة بنظرة سريعة … لم يكن أمامه سوى الفراش يختفي تحته … وبسرعة النمر وخفته أسرع يُطفئ النور … ثم يُلقي بنفسه تحت الفراش ليختفي عندما فُتح الباب ودخل شخص … وسمع صوت أقدامه وهو يعبر الغرفة إلى الدولاب ويفتحه وسمع صوت حقيبةٍ تجر إلى الخارج. ثم سمع قفل الحقيبة وهو يُفتح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤