مقدمة

١

لم أكد أبدأ في الجامعة المصرية درس التاريخ اليوناني في هذه السنة الدراسية، حتى رضي قوم وسخط آخرون. وكان الذين رضُوا أقل الناس عددًا، والساخطون أكثرهم جمعًا، وأضخمهم جمهورًا.

قالوا: ما لنا ولتاريخ اليونان ندرسه ونحفل به؟! ننفق فيه ما نملك من وقت، ونضيع في سبيله ما عندنا من قوةٍ وجهد. ونحن إلى إنفاق ذلك الوقت وهذه القوة والجهد في درس تاريخ مصر خاصة والأمم الإسلامية عامة أشد ما نكون حاجة!

أليس كل الناس قد علم أن الأمة المصرية — على ضخامة سلطانها السابق — وتأثل مجدها القديم، وعلى بُعد صوتها في الحضارة، وجلال خطرها في المدنية: تجهل نفسها؟! وتجهلها جهلًا يوشك أن يكون تامًّا؟

فهي لا تعلم من عصر الفراعنة إلا طَرَفًا يسيرًا، وهي لا تلم من عصر اليونان والرومان في مصر بشيءٍ ما! فأما عصر الفتح الإسلامي فلا تعلم منه إلا ما روى مؤرِّخو العرب، وهو إلى التحقيق والتمحيص في حاجةٍ شديدة!

قالوا: ولسنا نذكر شيئًا عن حضارة الفاطميين في مصر، ولا عن سلطان المماليك وبُعد شأوهم في أنواع العلوم والفنون؛ فإن المصريين لا يعلمون من هذا كله إلا ما لا ينقع صدى ولا يشفي غليلًا!

أوَليس من المعقول أن نعرف نفسنا قبل أن نعرف غيرنا؟! أوَليس من الحق علينا — إذا فرغنا من درس تاريخ مصر — أن ندرس تاريخ أشد الأمم إليها قربًا، وأدناها منها مكانًا، وهي الأمم الإسلامية؟!

قالوا ذلك، وقالوا أكثر منه. ولم يكتفوا باللوم والتشنيع! بل أعرضوا عن الدرس، وجعل كثير من الطلاب لا يحضرونه إلا وفاءً بما عليهم للجامعة من حق، أو رغبة في تكريم الأستاذ الذي تفضلوا عليه بشيءٍ من الحب له.

ولست أشك في أنهم لم يُخطئوا مكان الصواب، حين أعلنوا جهل مصر لنفسها، وحاجتها إلى درس تاريخها، وميلها المعقول إلى درس تاريخ غيرها من الأمم الإسلامية. ولكن الخطأ كل الخطأ هو اعتقادهم أن هذا مانع من درس تاريخ الأمم الأخرى، أو أن يكلف أستاذ بعينه أن يدرس كل هذا التاريخ.

أمامهم الجامعة المصرية، وأمامهم وزارة المعارف يجِب أن يطلبوا إليهما القيام بما هم في حاجةٍ إليه؛ فقد بعُد عهد التعليم في مصر وكان من الحق على الذين يدبرونه ويقومون عليه أن يسلكوا به سبيلًا واضحة الأعلام، تنتهي بالمتعلمين إلى ما يجب أن يعلموه من درس تاريخ أمتهم كما ينبغي.

وليس من العدل أن تقصر وزارة المعارف عن القيام بما عُهد إليها، وتضعف الجامعة عن الوفاء بما أنشئت من أجله؛ فيقع إِثْمُ هذا كله على أستاذ فرد، قد عني بمادة معينة من مواد العلم، أعجبته وراقته، فتخصص فيها، وأراد أن ينشر منها في قومه ما وُفِّقَ إلى نشره.

لست أزعم أن الجامعة ووزارة المعارف لو عنيتا بدرس تاريخ مصر لبلغتا به حَدَّ الكمال. ولكني أعتقد أن هذا التاريخ مجهول جهلًا منكرًا، وأنه ما ينبغي لبلد كمصر أن يصِل من جهل نفسه إلى هذا الحد، على كثرة ما ينفق في تحصيل العلم من مال، وما يُبذل فيه من جهد، وعلى جلال ما يسمو إليه من غاية، وما يحرِص عليه من أمل في الاستقلال.

ولو أن الذين يقومون على نشر العلم في هذا البلد عَرَفُوا كيف ينشرونه لما كُنَّا من الضعف والتقصير، ومن الجهل والغفلة، بحيث لا نزال مُضطرِّين — إذا أردنا أن ندرس تاريخ مصر — إلى أن نبعث الوفود إلى لندرا وباريس لدرس الآثار المصرية في مدارسهما ومتاحفهما.

أليس في مصر من آثار المصريين القدماء، ومن آثار العرب المسلمين، بل ومن آثار اليونان والرومان في مصر، ما يكفي لإنشاء مدرسة خاصة تقصر همها على درس هذه الآثار، وتخريج الأساتذة والأخصائيين الذين يُعهد إليهم بالتعليم وحفظ الآثار وتنظيمها؟!

أوَلَيس من المُخجِل أن توفد أوروبا وفودها إلى مصر لدرس الآثار، حتى إذا عادت هذه الوفود جلست مجالس الأساتذة في المدارس الأوروبية، وجلس المصريون منهم مجالس الطلب والاستفادة؟!

مثَل الذين أنكروا على أني لم أقُم بدرس التاريخ المصري، مثَلُ القائمين بأمر التعليم في مصر يتركون ما يجب عليهم أن يعلموا، ويعنون بما يستطيعون أن يُهملوا. ثم ينفقون الأموال في إرسال الطلاب ليحصلوا في أوروبا ما كان يمكنهم أن يحصلوه في مصر، أو ينالهم الإحجام فلا يُنفقون. وتبقى الأمة جاهلة، لا يستطيع أشدُّها ذكاء وأنفذها بصيرة أن يتحدث إلى أوروبي في تاريخها! كُلٌّ يسيء الفهم، وكُلٌّ يضع الشيء في غير موضعه، وكل يلوم غير ملوم.

ولو أن هؤلاء المنكرين عليَّ أنصفوا وتدبروا، لأخذوا عني راضين ما قدمت إليهم، ولأنحَوْا بلومهم وتأنيبهم على الذين يستطيعون العمل، فلا يعملون، ويقدرون على الخير ثم يقصرون عن طلبه، أو السعي إليه.

وبعد فما كان لأمةٍ أن تُعرض عن فنٍّ من فنون العلم لأنها لم تعلم غيره. إذن لقُضِيَ عليها بالجهل الدائم والغفلة المتصلة.

فليس من الميسور أن ندرس فنون العلم كلها في يومٍ واحد، ولا بد من أن يبدأ بدرس بعضها، وأن يتريث ببعضها الآخر.

فخليق بالناس أن يأخذوا ما قُدِّمَ إليهم ويتعجَّلوا تحقيق ما أُخِّرَ عنهم؛ فإن إعراضهم عن تحصيل ما يمكن تحصيله لا يعقبهم إلا فوات نفع محقق من غير أن يجدي عليهم الفوز بما يأملون.

٢

يخيل إليَّ أن عدم الوقوف على تاريخ اليونان وحده هو السبب الحقيقي فيما لقي الناس به هذا الدرس من فتورٍ وإعراض، بل من تشنيع وإنكار. فلن يُنفِّرك من الشيء ويرغبك عنه أكثر من جهلك له.

ولو أن المصريين ألمُّوا بتاريخ اليونان بعض الإلمام، لكلفوا بدرسه وتحصيله الكلف كله لأمرين:
  • الأول: أن فهم التاريخ المصري خاصة والتاريخ الإسلامي عامة، موقوف على فهم التاريخ اليوناني. فما ينبغي لأحدٍ أن ينسى ما كان للحضارة اليونانية من التأثير الظاهر في حضارة العالم كله ومنه البلاد الإسلامية. ولم يكن هذا التأثير مقصورًا على الحياة العقلية والأدبية بل تناول الحياة السياسية؛ فإن اليونان قد ملكوا الشرق أكثر من قرنين، فوضعوا فيه نظمًا لم يكُن له بها عهد، وجاء الرومان فلم يمحوا هذه النظم، بل شكلوها تشكيلًا ما، ثم جاء العرب فأخذوا ما وجدوا، ولم يزيدوا على أن عرَّبوه. ومن الميسور على كل مؤرِّخ متقن لعمله إذا درس تاريخ الأمم الإسلامية أن يتميز النظم القديمة وما بينها وبين النظم الإسلامية من صلة. وإذا كان درس التاريخ في رأي المؤرخين المحدثين عملًا تحليليًّا قبل كل شيء، أي إنه يلزم المؤرخ أن يرد كل شيء إلى أصوله التي ألِفته وعملت في تكوينه، فلا شك في أن مؤرخ الأمم الإسلامية — ولا سيما مصر — يجب عليه أن يعرف تاريخ الأمة اليونانية ويتقنه لكي يستطيع أن يميز ما كان لها من أثرٍ في حياتها العقلية والاجتماعية والسياسية.
  • الثاني: أن النهضة الحديثة في أوروبا إنما هي في معظم أمرها أثر من آثار اليونان، فإذا كانت مصر الناهضة تحاول — وهذا حق عليها — أن تتعرف أصول هذه النهضة وتتفهمها، لتختار منها ما يوافق طبيعتها ويلائم مزاجها؛ فليس لها إلى ذلك من سبيلٍ إلا درس تاريخ اليونان والرومان. فإنك لا تكاد تتناول بالبحث التاريخي أصلًا من أصول النهضة الحديثة الأوروبية إلا اضطُرِرت، إلى أن ترجع به إلى تاريخ هاتين الأمتين.

    لا أذكر العلم والفن، فما أظن من الناس من يُنكر أنهما يونانيان قبل كل شيء. وإنما أذكر السياسة والحياة الاجتماعية. فما نشأت الآراء الديمقراطية، بل والمذاهب الاشتراكية في أوروبا إلا حين انتشر هذا التاريخ القديم فيها، وعرف الناس ديمقراطية اليونان وأرستقراطيتهم، وحركة العمال والزُّراع الرومانيين وما أدت إليه من شرعٍ غريب.

    أوَليس أول داعٍ إلى الاشتراكية في أوروبا إبان الثورة الفرنسية قد كان يُسمِّي نفسه باسم زعيم هذه الحركة في روما «كيوس جراكوس»؟! أوَليس مصدر ما وقع فيه الثوار الفرنسيون من الخطأ — في كثيرٍ من الأحيان — إنما هو محاولتهم تحقيق النظم الديمقراطية التي ألِفها اليونان والرومان من غير أن يفطنوا إلى ما بين فرنسا وروما وأثينا من الفروق.

    نريد أن ننهض نهضة سياسية، نريد أن ننزل الديمقراطية في بلادنا منزلة حسنة ونحن نجهل الجهل كله أصولَ السياسة وقواعدها، كما نجهل الجهل كله ضروب الديمقراطية ومذاهبها. فهل نستطيع أن نصِل مع هذا إلى ما نريد؟

    لا أدعو إلى أن يُدرس تاريخ اليونان والرومان فحسب، وإنما أدعو إلى أن تدرس أقسام التاريخ كلها. وإلى أن ينال كل قسم منها حظًّا موفورًا من العناية؛ فإن حياة النوع الإنساني في جميع العصور والأمكنة، حياة واحدة موقوف بعضها على بعض، ومن الخطأ الفاحش أن نهمل طرفًا منها في حين نستطيع أن ندرسه ونعنى به.

    لم أقُل إلى الآن إلا ما يرغب في درس التاريخ اليوناني من الفائدة العملية، وكنت أَوَدُّ لو استطعت أن أستغني عن هذا كله، وألا أُرَغِّب الناس في درس قسمٍ من أقسام التاريخ إلا بأنه قسم من أقسام العلم وأن من الحق علينا أن ندرسه لأنه علم ليس غير؛ فإن الأمم التي بلغت من الرُّقِيِّ مبلغًا معقولًا تُخصِّص من مالها ووقتها وقوتها مقدارًا غير قليل، تُنفقه في درس العلم ونشره، لا تبتغي من وراء ذلك فائدة عملية. تلك منزلة يسوءني الاعتراف بأنَّا لم نصِل إليها بعد، ويسرُّني أن يكون وصولنا إليها غير بعيد.

٣

إذا كان الجهل وحده هو الذي يُنفِّرنا من تاريخ اليونان ويُرغِّبنا عنه، فما أيسر الطب لهذا الداء والتماس الدواء لشفاء هذه العلة! فليس للجهل دواء إلا العلم، كما أن الجوع لا يشفيه إلا الأكل، وكما أن الظمأ لا ينقعه إلا الشرب.

ولأن تكون عِلَّتُنا الجهل خير من أن تكون علتنا الغباء وعدم الاستعداد. لهذا أرى أن ليس للراغبين في نشر العلم إلا أن يسعدوا ويستبشروا؛ فإن الحاجة إليهم شديدة، وعملهم أشد الأعمال نفعًا، وأسرعها إنتاجًا.

وقد بلوتُ ذلك فأحسنت بلاءه، وجربته فحمِدت تجرِبته. لقد كان الناس في أول عهدهم بدرس التاريخ اليوناني ساخطين مُنكِرين، يتثاقلون عن الدرس. فإذا خفوا إليه أغرقوا في النوم والأستاذ مُغرِق في كلامه. يشكون ما بينهم وبين هذه المادة من تنافُر، ويتمنَّون على الأستاذ لو بدلهم منها مادة أيسر عليهم، وأحب إليهم، وأخلب لنفوسهم.

ولقد أعلن بعضُهم أكثر من مرة أن الدرس يُسئِمُهم فيملأهم سأمًا، ويملهم فيقتلهم مللًا. فما كنت أريد أن أشجعهم مرة، وألومهم أخرى، وأُعرِض عنهم في كثيرٍ من الأحيان، وما هي إلا أن مضى على ذلك شهران أو ثلاثة، حتى أخذت أرى فيهم من بدأ يأنَس لهذا الدرس ويتحبب إليه. وأخذت أكلف بعضهم المحاضرات وإعداد الدروس في هذه المادة، فيجيبون راضين، غير كارهين، ولا متمنِّعين، فأما من قرأ منهم لغة أوروبية، فقد كان يجيب إلى ذلك فرحًا نشيطًا، وقد كان يعمل فيُحسن العمل إحسانًا إضافيًّا.

ولقد كنت أتخيَّر لهم أصعب المسائل فلا يُحجِمون. ولقد كنت أتشدَّد عليهم في النقد فلا يَزِيدُهُم ذلك إلا رغبة وإقدامًا؛ فأنا عنهم راضٍ وفيهم آمل.

وأما الذين لم يُحسنوا إلا العربية فقد أقدم بعضهم مجازفًا، ونكل بعضهم معذورًا؛ فإن اللغة العربية مع الأسف مُعدَمة كل الإعدام في هذه المادة، وليس يُتاح لمن لم يعرف لغةً أوروبية أن يشفي نفسه من تاريخ اليونان أو الرومان.

هذا الجمهور الذي لم يعرف من اللغات الأوروبية ما يُمكِّنه من إرضاء نفسه المتشوقة إلى العلم، العاجزة عن تحصيله، هو أحق الناس بالعناية. فلئن كان من النافع أن يدرس الناس اللغات الأجنبية فليس من الميسور أن يدرسوها جميعًا، وليس من حقنا أن نطالب الناس جميعًا بذلك، وما رأينا غيرنا قد أرادهم على ذلك في بلدٍ من البلاد. وإنما يجب علينا نحن الذين قرءوا هذه اللغات، وأَلَمُّوا ببعض ما اشتملت عليه من علمٍ أن نُبِيحَ لهم حِمَاها، وأن نكون الواسطة بينهم وبين استثمار كنوزها. فإن لم نفعل فقد أسأنا إلى أمتنا، وإلى أنفسنا «وحسبك من شر سماعه».

٤

ألممت بعض الإلمام بحياة اليونان والرومان وما بينهما وبين الشرق من صلة. وقضى عليَّ مكاني في الجامعة أن أفرغ لدرس هذا القسم من أقسام التاريخ، فأخذت في ذلك مستبشرًا مبتهجًا، ولكني لم ألبَث أن أحسست فتور الناس ونفورهم، ففترت أو كِدت. ثم بدا لي، فرأيت أن أمضي فيما أنا فيه، مُقدِمًا غير مُحجِم، وأن أصبر على هذا الفتور صبرًا جميلًا، فكانت العاقبة كما قَدَّمْتُ محمودة وكان الأثر مرضيًّا.

ثم رأيت أن الذين يختلِفون إلى الجامعة مهما كثروا نفرٌ قليل لا يكفي أن يعلموا فتعلم الأمة، فخيل إليَّ أن الكتابة والنشر أوفق لتقريب هذه المادة من الجمهور وتحبيبها إلى نفسه. فعزمت أن أنشر من هذه المادة ما قلتُ في الجامعة وما لم أقُل، وأن أذيع كل ما من شأنه أن يعطي قراء اللغة العربية صورة واضحة بعض الوضوح، حسَنة بعض الحسن، من حياة الأمة اليونانية.

أفعل ذلك لأني أراه واجبًا عليَّ للذين لم يُمكِّنهم وقتهم من درس اللغات الأجنبية وواجبًا عليَّ كذلك للُّغة العربية نفسها؛ فإن من الحق علينا أن نبذل ما نستطيع من قوة، ونُنفِق ما نملك من وقت، لنغني هذه اللغة ونُكثر متاعها ممَّا امتلأت به لغات أوروبا. وليس يغفر لنا أن نعيش في هذا القرن مطالَبين بكل ما تستمتع به الشعوب الأوروبية من استقلال سياسي وعلمي، ثم نَبقى عيالًا على الأوروبيين في كل ما يغذو العقل والشعور من علمٍ وفلسفة، ومن أدب وفَنٍّ جميل.

أليس من المُخجل أن يجهل الجمهور الضخم من شبابنا ما اشتملت عليه آداب اليونان من نَظْمٍ ونثر، ومن تاريخٍ وفلسفة، مع أن فَهم الآداب الحديثة التي أخذنا نميل إليها ونشغف بها غير ميسور إذا لم نُلم بهذه الآداب إلمامًا غير قليل؟! وكيف نحاول أن نفهم «كرني» و«رسين» و«شكسبير» و«بيرن» و«جوت» وغيرهم من الشعراء والكتاب والفلاسفة إذا لم نفهم شعراء اليونان وكُتَّابهم وفلاسفتهم؟

أليس مما لا بد منه أن نفهم إيفيجينيا Iphiguénéia    لأوريبيديس Euripidès قبل أن نقرأ «إيفيجيني» لرسين؟

أليس يجب علينا أن نتقن تاريخ اليونان والرومان، وأن نستظهر دياناتهم وأساطيرهم، إذا أردنا أن نقرأ كتب المحدثين فلا نتعثر في فهمها، ولا تقِفنا في كل سطر عقبة، وفي كل كلمة معضلة؟

أضف إلى هذا أن من حقنا الحرص على أن يحسن ظن الناس بنا ورأيهم فينا. ولعمري ما كان من مصادر حُسن الظن وصدق الرأي إذا تحدثنا إلى الأوروبيين أن يشعروا بأن متاعنا من العلم قليل، وحظنا من الأدب نذر يسير، لا نُحسن الحديث إلا إذا لم يخرج عن مصر وشئونها، فإذا تجاوزنا هذا إلى ما كان، أو ما هو كائن وراء البحر الأبيض بهتنا وأخذَنا العي والقصور.

كل هذه أسباب ألزمتني — ولا شك في أنها ستلزم غيري من الراغبين في نشر العلم بين هذه الأمة — أن أحاول نشر تاريخ اليونان والرومان وآدابهم، في جمهورنا الذي لا يريد إلا أن يتعلَّم لو وجد المعلمين.

وقد رأيت أن أبدأ من ذلك بنشر ما هو أيسر على الناس فهمًا، وألذ في النفوس موقعًا، من غير أن أطيل فأمل، أو أتعمق فأُسئِم.

٥

بدأت بالاختيار من الشعر التمثيلي عند اليونان؛ فما أرى من فنون الأدب فنًّا أسهل من التمثيل فهمًا، وألين منه ملمسًا وألذ في النفوس موقعًا.

وقد أخذت نفسي أن أقدم بين يدي هذه المختارات فصلًا في نشأة التمثيل وتاريخه عند اليونان. مقتصرًا في هذا الجزء على التمثيل المحزن أو «التراجيديا»، فإذا فرغت من هذا الفصل، وصفت ما عرف التاريخ الأدبي من حياة أيسكولوس Aïschulos (Eschyle)   أول الشعراء الممثِّلين النابهين، ثم عرضتُ لما بَقِيَ لنا من قصصه التمثيلية، فاخترت منها ما أعتقد أن في قراءته لذة وفائدة، معنيًّا بأن أُلَخِّصَ ما يسبقه وما يليه، حتى إذا فرغ القارئ من قراءة ما اختار من قصة من القصص كان قد أَلَمَّ بموضوعها وما اشتملت عليه من حادثة.
فإذا انتهيت من أيسكولوس، ذكرت حياة سوفوكلس Sophoclès وصنعت بما بقي من آثاره مثل ما صنعت بآثار «أيسكولوس» ولكني اضْطُرِرْتُ إلى أن أجعل آخر هذا الجزء في منتصف قصص «سوفوكلس» رغبة عن الإطالة المملة ورهبة من الإنفاق الفادح.

وأنا أرجو أن يروق هذا السفر لقُرَّائِنَا، وأن يقع من نفوسهم موقعًا يشجعني على أن أمضي في نشر هذه الأجزاء، حتى إذا فرغت من التراجيديا في الجزء الثاني عرضت للكوميديا في جزءٍ ثالث وودِدتُ — وليت هذا الود يُغني — أن تكون هذه الصحف المختارة مشوقة للناس إلى أن يقرءوا ما بقي من تمثيل اليونان كاملًا غير مبتور، وأن يدعوهم ذلك إلى الرغبة فيما تركوا من شعر قصصي، وما أعقبوا من شعر غنائي، ثم من تاريخ وفلسفة، إلى غير ذلك من آثارهم العقلية والفنية.

إذن لحُقَّ لي أن أسعد وأغتبط، وأن أعتقد أني قد وفقت من خدمة اللغة العربية إلى بعض ما كنت أريد.

طه حسين
القاهرة في ٦ مايو سنة ١٩٢٠

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤