أياس

كان أياس بن تيلامون ملك سلامين بطلًا من أبطال اليونان أمام تروادة، حارب فأحسن البلاء وظفِر على الترواديين في مشاهدَ عظيمة، وحَمَى اليونانيين جميعًا بعد أن انهزم زعماؤهم وأبطالُهم، فما زال يدافع عنهم حتى أقبل أخيل فردَّ أعداءهم منهزمين. فلما كان مقتل أخيل جعل اليونان سلاحه جائزة لأعظم أبطالهم شأنًا وأجلِّهم خطرًا ففاز بها أوديسيوس، وغضِب لذلك أياس، فذهب عقلُه وأنحى بسيفه على ما كان في حظائر اليونان من ماشية، فلما عاد إليه صوابه استخزى لما فعل فقتل نفسه، وقد رُوِيَتْ هذه الأسطورة في قصيدة قصصية أُنشِئَت تكملة للإلياس واسمها الإلياس الصغيرة.

الأشخاص

  • أياس.
  • أثينا.
  • أوديسيوس.
  • توكروس: أخو أياس.
  • تكمسا: زوج أياس.
  • مينيلاووس.
  • أجاممنون.
  • رسول.
  • الجوقة: تتألف من أهل سلامين.

تقع القصة في معسكر اليونان بإزاء تروادة أمام خيمة أياس.

الفصل الأول

أوديسيوس واقفٌ بإزاء خيمة أياس كأنه يرقُبه ويبحث عمَّا أحدث من عمل، فتظهر له الإلهة أثينا وتنبئه بأنها عالمة بما هو فيه، وأن أياس قد كان يريد اغتيال رؤساء الجيش فحالت هي بينه وبين ذلك بأن سلبته عقله وخيلت له الماشية كأنها ملوك اليونان وأبطالهم، فأعمل فيها السيف وقاد طائفة منها إلى خيمته فهو يعذبها ضربًا بالسوط. ثم تأمر أوديسيوس أن ينتظر غير خائف ولا وجِل؛ لأنها مُظْهِرَةٌ له أياس أبله مجنونًا، وتدعوه فيظهر ويعلن أنه قتل جماعة اليونان وقاد بعضهم إلى العذاب، وأنه لم يَقتُل أوديسيوس وإنما شَدَّهُ إلى أحد أعمدة الخيمة ليُمَزِّقَ جسمه بالسياط، ثم يعود إلى خيمته.

المنظر الأول

(أثينا وأوديسيوس)
أثينا : أي أوديسيوس، أرأيت إلى أي حدٍ تبلغ قوة الآلهة، وأي رجل بين اليونان كان يستطيع أن يدبر الأمر على خيرٍ ممَّا دبرته؟ وأي رجل كان يستطيع ان ينفذ الأمر في إبانه؟
أوديسيوس : وا لهفتاه! ما عرفت هذا الرجل قط، إن أياس لعدوي ولكني آسَى لشقائه، وأحزن لما أصابه من ذل. وإني حين أرى آخرته لأفكر في آخرتي، فأرى أنَّا جميعًا أثناء هذه الحياة لسنا إلا أشباحًا وظلالًا باطلة.
أثينا : إذن فلتملأ قلوبكم هذه الحقيقة، ولتحذروا أن تهينوا الآلهة بألفاظٍ ملؤها الكبر والغطرسة، وأن يأخذكم الإعجاب والتِّيه لما يهبكم الحظ من قوةٍ وثروة. إن يومًا واحدًا ليكفي ليهدم الآلهة ويقيموا ما عمل الناس. إن الفضيلة لتُرضي الآلهة وإن الفجور ليملَؤُهم سخطًا.

(ثم تتغنى الجوقة ما شاع من أمر أياس، وأن ذلك قد ساء أثرُه في جيش اليونان، وتدعو أياس إلى أن يظهر فينفي هذا الزور ويقطع ألسنة المُرجفين.)

الفصل الثاني

تأتي تكمسَّا فتقص على الجوقة ما قدمنا من جنون أياس، وما كان من قتله الماشية، فتثِق الجوقة بأن الخبر صحيح وتشفق من سخط اليونان، وتَوَدُّ لو استطاعت أن تنجو إلى وطنها لتأمن شرهم، ثم تخبرها تكمسا بأن أياس قد استرد رُشده، فتهدأ وتطمَئن، ولكنها تجزع حين تعلم أن أثر الندم في نفس البطل شديد، وأنه يُضمِر أمرًا منكرًا، وإنهم لفي ذلك إذ يُسمع صوت أياس متولهًا يدعو ابنه وأخاه.

المنظر الأول

(أياس – تكمسا – الجوقة)
أياس : أيها الأصدقاء الأعزاء، الذين صحِبوني فيما أبليت من بلاء، ووفَوْا لمودتي، انظروا إلى هذه الأمواج من الدَّمِ تحيط بي وتحصرني من كل وجه.
الجوقة : ويحك! أيتها الأميرة ما أنبأتنا إلا بالحق، إن كل ما نراه ليثبت لنا جنونه.
أياس : أي هؤلاء الذين أحسنوا إعمال المقاذيف واعانوني على كل ما حاولت، ما أرى غيركم قادرًا على معونتي. اضربوا واسلبوني الحياة.
الجوقة : قف، واكفف عن هذه الألفاظ يملَؤُها الشر، لا تضف شقاءً إلى شقاء، ولا تبلغ بسوء حالنا أقصاه.
أياس : أترون إلى هذا المقاتل الجريء الكريم حسَن البلاء في الموقعة، ألم يثبت شجاعته وشدة بأسه حين أعمل سيفه في تلك الماشية البريئة! لأي احتقار ولأي سخرية مهينة قد عرض نفسه منذ اليوم؟
تكمسا : أيها الزوج العزيز، أي أياس، إني لضارعةٌ إليك في أن تكف عن هذا الحديث؟
أياس : اهربوا، دعوا هذا المكان … آه! يا للآلهة! آه! آه!
الجوقة : إني لأعزم عليك باسم الآلهة ألا تبلغ بك الصلابة أقصاها وأن تعود إلى رشدك.
أياس : إني لشقي؟ لقد أعملت هذا السيف الخائن، فأظهرت قوة ذراعيه في البقر والكِباش، وسفكت دمًا يُزري بي أبد الدهر.
الجوقة : لِمَ يملأك اليأس على شيءٍ مضى؟ ليس من سبيل إلى استدراك ما فات.
أياس : أي هذا الذي ليس يخفى على مكره شيء، أي مصدر كل شقاء، أي عار الجيش أي ابن لاهرتيس، بأي ضحك مهين تعلن فرحك!
الجوقة : إن الآلهة وحدهم هم الذين يتصرفون في ضحكنا وبكائنا.
أياس : ما له لا يعرض لي في هذه الحال التي أنا فيها! أقسم …
الجوقة : دع هذا النذير يملؤه الكبر، ألا ترى إلى ما أنت فيه من شقاء؟!
أياس : أي أبا أجدادي، أي ذوس، ودِدتُ لو هلكت بعد أن نحرت هذا الخائن ونحرت معه أبناء أتريوس!
تكمسا : إذا كنت تتمنَّى هلاكك فتمنَّ هلاكي أيضًا. فهل من سبيلٍ إلى أن أحيى بعدك؟
أياس : أيتها الظُّلمة الحالكة التي هي ضوئي، أي ظلمة الجحيم، استقبلي ساكنًا جديدًا، استقبليني. لقد أصبحت منذ اليوم غير أهل لأن أرى الناس والآلهة، لقد أصبحت حياتي غير نافعة. إن هذه الآلهة المخوفة ابنة ذوس لتتبعني بسخطها، وإن غضبها لينوء بي. أين أهرب؟ أين أستخفي؟ أين أستقر؟ وقد ذهب مجدي كما تذهب حياة الحيوانات الدنيئة، وقد أصبحت ضحية تضاف إلى هذه الضحايا التي ضحَّى بها الجنون، وقد تأهَّب جيش اليونان لينقض عليَّ بأسره.

(ثم يطول الحوار بينه وبين الجوقة وتكمسا، تُرِيدَانِ أن تحولا بينه وبين الموت ويأبى إلا أن يفارق الحياة، فيوصي بأن يطلب إلى أخيه توكروس حماية زوجه وابنه وردهما إلى وطنه.)

الجوقة : إني لأضطرب لهذا الشعور العنيف، وإن هذه الألفاظ يملَؤُها الخطر لتملأ قلبي فزعًا.
تكمسا : أيها العزيز أياس، أي مولاي، على أي عملٍ ذي خطر أنت مُقدِمٌ.
أياس : لا تحاولي أن تتعرفيه، لا تسأليني إن الصمت لفضيلة.
تكمسا : يا لليأس، إني لأعزم عليك بحق الآلهة وبحق ابنك ألا تتركنا.
أياس : إن صلواتك عليَّ لثقيلة، ألا تعلمين أني أصبحت غير مدين للآلهة بشيء؟
تكمسا : دع هذا الحديث المُهلِك.
أياس : لن أسمع لشيء.
تكمسا : ماذا! ألا أستطيع أن أمس قلبك!
أياس : لقد أسرفت.
تكمسا : انظر إلى ما يملأ قلبي من خوف أيها الزوج العزيز.
أياس : نحُّوها عني.
تكمسا : باسم الآلهة دع قلبك يَلِنْ.
أياس : أبلغتِ إذن من الحُمق أن تمني نفسك بتغيير خلقي؟

(ثم تتغنى الجوقة سوء حالها وسوء حال أياس، وما سيصيب أباه من الحزن حين يصل إليه هذا النبأ السيئ، وإنها لكذلك إذ يأتي أياس ومعه زوجه فيعلن أنه قد عدل عن رأيه، وأنه لن يقتل نفسه ولن يصر على خلاف أجاممنون، وأنه ذاهب إلى البحر ليستحم وباحث عن عزلةٍ يستريح فيها ويخفي فيها سيفه الذي أهداه إليه هكتور فكان مصدر شقائه ومحنته. ويطلب إلى الجوقة أن تكلف أخاه توكروس العناية به وبها مشيرًا بذلك من طرفٍ خفي لي أنه لا يذهب ليستحم، وإنما يذهب ليبحث عن الموت. ولكن الجوقة لا تفهم، فتتغنى ما نالها من سرورٍ وبهجة، ويخيل إليها أن قد منحها الفرح أجنحة فهي توشك أن تطير وترقص داعية «بان وأبلون» ليعيناها على ذلك ويشاركاها فيه.)

الفصل الثالث

يأتي رسول من قبل توكروس ينبئ بأنه قد عاد من غارةٍ كان يشنها على العدو، وأنه أرسله ليُمسك أخاه في خيمته، فقد أعلن الكاهن كلكاس أن أياس إن خرج اليوم من خيمته فهو قاتل نفسه، وتأمر تكمسا الجوقة أن تتفرق فيذهب بعضها إلى الشرق، وبعضها إلى الغرب باحثًا عن أياس، وتُعلن أنها ذاهبةً من جهةٍ أخرى ويتفرقون.

الفصل الرابع

المنظر الأول

أياس (وحده) : إذا لم أكن قد أخطأت فإن هذا السيف القاطع قد رَقَّ حَدَّاه وأصبح لا يصيب إلا قتل. يا لك من هدية مُهلِكة أهداها إليَّ هكتور هذا التروادي الذي كنت أختصه من بين أعدائنا بأشد المقت والبغض. هذا هو سيفه المحتوم قد أرهفتُ حَدَّيْهِ، وغرزته في أرض تروادة. لقد أثبته في الأرض، فهو الآن قادر على أن يمنحني من غير عناء هذا الموت السريع الذي أطلبه وأرغب فيه. لقد فعلت كل ما كنت أستطيع أن أفعل، أما الآن فإن عليك يا ذوس أن تُتِمَّ ما بقي وأن تمنحني معونتك. لا أطلب إليك شيئًا ذا خطر، أوصل إلى توكروس هذا النبأ المحزن، نبأ موتي، وليكن هو أول من يأتي ليواري جسم صديق قد ألقى بنفسه على سيفه الدامي. ليحذر كل الحذر أن يسبقه إلى هذا الجسم أحد الأعداء فيطرحه طُعْمة للكلاب وسباع الطير. أي ذوس، هذي هي صلاتي، ولكني إنما أضرع إلى هرميس هذا الذي يقود الموتى في دار الجحيم، ألا يكاد هذا السيف يخترق جسمي حتى يمهد لي إلى الجحيم مهبطًا سهلًا هينًا! إنما أدعو هؤلاء العذارى المعينات لا تغمض أعينهن عن البائسين، ادعو آلهة الانتقام القاسيات المسرعات لينظرن إلى هذا الموت الذي ألقاه في شقاء وسوء حال، بيد ابني أتريوس. لعلهن يَنَلْنَ هذين الرجلين الشريرين بسخطهن فيعدلن بين إثمهما وما يلقيان من عقاب!
إنهن ليريدني أسلب نفسي الحياة بيدي، فلعل هذين الرجلين يسلكان هذه الطريق التي أسلكها، فيمزق كل منهما صدره ويجود بنفسه أمام أعز الناس عليه وأحبهم إليه. أقبلن إذن أيتها الآلهة المنتقمة، أسرِعْن لا تبقين على شيء، سلِّطْن غضبكن على هذا الجيش كله. وأنت أيتها الشمس تقود عجلتها على قبة السماء، إذا بلغت مسقط رأسي حيث رأيت الضوء لأول مرة فأمسكي لجامك الذهبي، وألقي إلى أبي الذي قد أثقلته السن وإلى أمي التعسة ما لقيت من بؤس وما ادَّخَر القضاء. يا لها من شقية! بأي أنينٍ سيمتلئ بيتها حين يبلغها هذا النبأ! ولكن ماذا أصنع؟ لندع هذا البكاء لا يجدي شيئًا ولنسرع إلى إتمام ما بدأنا. يا للموت! يا للموت! أقبل الآن، زرني! لأُساكننَّك هنا ولأحادثنَّك عما قليل. أيها الضوء اللامع، ضوء النهار، أيها النور المشرق، أيتها الشمس، إني لأراك، إني لأناجيك لآخر مرة! أيتها الأسوار المقدسة، أسوار سلامين وطني، أيتها المنازل العزيزة، منازل أجدادي، أيتها المدينة الكريمة مدينة أثينا، أيها الأصدقاء الذين قاسموني الغذاء، أيتها العيون والأنهار والحقول تحيط بتروادة، إليكم أُهدِي التحية. أي هذان اللذان منحاني الحياة، في ذمة الآلهة: هذه آخر كلمة يوجهها إليكما أياس، فلن ينطق بعدها في دار الجحيم.

(ثم يقتل نفسه.)

•••

(ثم يقبل نصف الجوقة من جهةٍ ونصفها من جهةٍ أخرى آسفًا لما لقي من عناء من غير أن يستكشف شيئًا. وتقبل تكمسا فترى زوجها صريعًا فتصيح وتجيبها الجوقة، وتبكيان أياس وتعولان لسوء حالهما. ويأتي توكروس فيتفجع ويتوجع ناعيًا أخاه متخوِّنًا إياه ساخطًا على هذا السيف الذي أهداه هكتور إلى أياس فأهدى إليه به الموت، كما أن أياس أهدى إلى هكتور حمالة واتخذها أخيل آلة لتعذيبه شده بها إلى عجلته، وأخذه يجره جريحًا حتى مات، وإنه ليألم ويشكو إذ يُقبل مينيلاووس.)

المنظر الخامس

(مينيلاووس – توكروس – الجوقة)
مينيلاووس : إليك أسوق الحديث، دع هذا الجسم ولا تقدم إليه كرامة ما.
توكروس : ومن ذا الذي ألهمك هذا الحديث الباطل؟
مينيلاووس : ألهمتني إياه إرادتي وإرادة زعيم الجيش.
توكروس : أليس يمكنني أن أعرف لهذا مصدرًا.
مينيلاووس : لقد كنا نخدع أنفسنا بأنا قد اصطحبنا إلى هذا المكان صديقًا يُدافع عن اليونان ويحمي حوزتهم، فلم نجد فيه إلا عدوًّا أشد علينا خطرًا من أهل تروادة، عدوًّا قد أقسم لَيُهْلِكَنَّ الجيش كله ودَبَّ إليه يوقع به في ظلمة الليل وينحره تهدِئَةً لغضبه، ولولا أن أحد الآلهة قد أخمد سخطه للقِينا هذا الحتف الذي لقيه الآن؛ إذن لهلكنا جميعًا ولتمتع هو بالحياة. ولكنَّ إلهًا قد حول عنَّا ضرباته وأصاب بها القطعان والرعاة. فليس هنا من رجلٍ مهما بلغت قوته يستطيع أن يمنحه القبر بعد هذه الجريمة المنكرة، لَيَظَلَّنَّ جسمه طريحًا بالساحل نهبًا لطير هذه البحار. فكفكف إذن من هذا الكبر، تظهره وتباهي به، فلئن عجزنا عن أن نُخضِعَه حيًّا فنحن الآن قادرون على أن نحتكم فيه ميتًا. ولتكرهنك أيدينا على أن تنزل لنا عنه. ما أذكر أنه أذعن في حياته لأمرٍ وجهته إليه، وكذلك خُلق الأشرار، يأبَوْن الطاعة لمن له عليهم السلطان وعُلُوُّ المكانة. وكيف تضمن سلطة القوانين وسيطرتها إذا لم يحملها الخوف؟ وكيف تحسن قيادة الجيش إذا لم يكن زعيمه موضع المهابة والإجلال؟ كل امرئ مهما نَبُهَ شأنه وعَزَّتْ مكانته يجب أن يعرف أن أقل هفوة يهفوها ربما أهلكته. تعلم أن لا أمن لمن قادته الرهبة والإجلال. تعلم أن دولة يستطيع كل امرئ فيها أن يعلن كبرياءه وصلفه من غير أن يخشى عقوبة، هاوية من رفعتها لا محالة. فلتحتفظ إذن بشيءٍ من الخوف ليس منه بُدٌّ لسلامتنا وعافية الدولة. ولا يمن أحد نفسه بأن يذل ويسعد ظالمًا من غير أن يلقى جزاء هذا الظلم من ألمٍ وعذاب؛ فإن الجريمة والعقوبة متوازنتان دائمًا، كلتاهما تعدل الأخرى. لقد كان أياس عنيفًا تَيَّاهًا، فقد آن لي الآن أن أتكبر، وإني لأحظر عليك أن تتخذ له قبرًا مخافة أن تهوي أنت إلى قبرك.
الجوقة : أي مينيلاووس! إنك لتضع قواعد ملؤها الحكمة، فلا تكن فاجرًا ولا تجحد حقوق الموتى.
توكروس : يا أهل سلامين، لن يدهشني منذ اليوم أن أرى رجلًا خاملًا ليس بالنبيل ولا بذي النسب يخطئ أو يسقط في الإسراف، حين أرى الآن من يزعمون لأنفسهم النبالة والشرف ينطقون بمثل هذا الحديث. ولكن لنبدأ حيث بدأت، تزعم أنك إنما قُدْتَ هذا البطل ليكون مدافعًا عن اليونان! ألم يكن إذن مالكًا لأمره حين أبحر معكم؟ وكيف تزعم لنفسك السلطان على جيش قد جمعه من بلاده؟ لقد أقبلت إلى هذا المكان وأنت ملك سبرتا لا ملكنا. وما كان لك من الحق عليه شيء كما أنه لم يكن له عليك من الحق شيء. إنك لتطيع زعيمًا، وإن لك لطائفة من الجيش تُذعِن لأمرك، وما أرى أن الجيش كله خاضع لك، وما أرى أن أياس مدين لك بالطاعة، فأعلن سلطانك على الذين يعترفون به، أعلنه فيما شئت من عبارة وقحة، فأما أياس فمهما أبرقت وأرعدت، ومهما شاركك في ذلك من زعماء الجيش؛ فأنا أعلم كيف أواريه وكيف أقوم له بالواجب الديني، لا أخشى وعيدًا ولا نذيرًا، فما حمل السلاح لينتقم لزوجك كغيره من مأجوريكم وإنما اصطلى نار الحرب ليبر بيمين كان قد حلفها. ما عمل شيئًا من أجلك، لقد كان يعتقد أن الناس ليسوا بذوي خطر، والآن فأسرع إلى القائد وإلى أبطاله فادعُهم فمهما كنت ومهما فعلت فلن تظفر مني بشيء.
مينيلاووس : ما أشدَّ بغضي لهذه الجرأة الشديدة، تخالطها هذه الدناءة الشديدة.
توكروس : ربما ظهرت الصراحة مظهر الإهانة، وإن كان العدل يعينها ويؤيدها.
مينيلاووس : إن هذا لكبر عظيم لا يحسُن بمن لا يجيد الحرب إلا بالقوس.
توكروس : ليست إجادة الرمي فنًّا دنيئًا.
مينيلاووس : إلى أي حد تصل بك الغطرسة لو أحسنت حمل الدرقة.
توكروس : إني لأستطيع على خفة سلاحي أن أثبت لك وإن ثقل سلاحك.
مينيلاووس : إن لسانك ليُحسن التعبير عما يملأ قلبك من كبرياء.
توكروس : لنا أن نكبر إذا كان العدل لنا نصيرًا.
مينيلاووس : أمن العدل أن ينتصر قاتلي.
توكروس : قاتلك! إن هذا لعجيب. أنت ميت ومع ذلك فما زلت حيًّا.
مينيلاووس : لقد حفظ حياتي أحد الآلهة حين كدت أقضي بيد أياس.
توكروس : حسن! فاشكر ذلك للآلهة الذين أنت مدين لهم بالحياة.
مينيلاووس : وكيف أستطيع أن أزدري قوانين الآلهة الخالدين.
توكروس : حين تعترض دون القيام بواجب الموتى.
مينيلاووس : لقد كان هؤلاء الموتى أعدائي، فمن الحق عليَّ أن أحول بينهم وبين التكريم.
توكروس : ومتى كان أياس عدوًّا لك؟
مينيلاووس : كان يُضمِرُ لي من البغض ما يعدل حقدي عليه، إنك لتعلم ذلك.
توكروس : لقد علم الناس جميعًا أنك اختلست فوزه.
مينيلاووس : ذلك خطأ القضاة، لا خطئي.
توكروس : إن هناك لخيانات أخرى تستطيع أن تقوم بها سرًّا.
مينيلاووس : ربما كلفت هذه الألفاظ بعض الناس ثمنًا غاليًا.
توكروس : لئن استلزمت بعض الشر فمن الهَيِّن أن يجزي بمثله.
مينيلاووس : ليس لي إلا كلمة واحدة: احذر أن تواري أياس.
توكروس : ليس لي إلا جواب واحد: لَأُوَارِيَنَّه.
مينيلاووس : لقد رأيت رجلًا عضب اللسان، يشجع البحارة على أن يقلعوا أثناء العاصفة، فما هي إلا أن اشتد قصف الزوبعة حتى خفت صوته. وحتى التف في ثوبه، واستلقى على ظهره، فالبحارة يطئونه بأقدامهم، ذلك شأنك، لغط كثير، وسفه عظيم، وجرأة لا حد لها، ولكن هذا كله سيخمد حين تناله أيسر ريح تبعثها سحابة هينة.
توكروس : أما أنا فقد رأيت مجنونًا يُهين جيرانه في آلامهم، فيقول له رجل يشبهني، حظه من الشجاعة قليل كحظي: أيها الرجل، احذر أن تُهين الموتى، وإلا فثق أن العقوبة نازلة بك. هذه هي النصيحة كان يهديها إلى هذا الرجل الدنيء الذي تراه عيناي الآن، والذي يخيل إليَّ أنه ليس إلا إياك. أترى في هذا شيئًا من الخفاء؟
مينيلاووس : لأمضين؛ فإني أستخزي أن يراني الناس أعاتِب باللسان حين أستطيع أن أستخدم القوة.
توكروس : إمض إذن فأشد من ذلك خزيًا أن أسمع لمجنون ينفق وقته في لغو الحديث.

(ثم تحث الجوقة توكروس على أن يسرع بمواراة أخيه قبل أن تحول قوة اليونان بينه وبين ذلك، ويأتي ابن أياس وزوجه فيأمرهما توكروس أن يلتزما الجثة، ويأمر الجوقة أن تحرسها حتى يعود، ويمضي باحثًا عمَّا لا بد منه لدفن أياس. وتتغنى الجوقة سخطها على الحرب ومن اخترعها، وأسفها على ما تعاني من بُعدٍ عن الوطن وفراق لما فيه من لذة.)

الفصل الخامس

يأتي توكروس وأجاممنون فيشتد بينهما حوار كالذي ترجمناه آنفًا، ثم يأتي أودسيوس فينصح لأجاممنون أن يسمح بدفن أياس، ويعترف بأنه بعد أخيل أشجع اليونان وأكرمهم، وأن حرمانه شرف القبر انتهاك لحرمة الآلهة.

أجاممنون : ماذا! أأنت الذي يعنيه عليَّ!
أودسيوس : لقد كنت أُبغضه حين كنت أستطيع البغض.
أجاممنون : أليس من الحق عليك أن تهينه ميتًا كما أفعل؟
أودسيوس : يا أتريوس، لا يغرنك ما لك عليه الآن من فضل غير مشرف.
أجاممنون : ليس من اليسير على الملوك أن يتبعوا العدل دائمًا.
أودسيوس : من اليسير عليهم أن يسمعوا لنصح الأصدقاء.
أجاممنون : إن من حق الرعية المخلصة أن تطيع ذا السلطان.
أودسيوس : قف، أليس من الحكم أن تُذعِن لنصيحة الأصدقاء؟
أجاممنون : أتذكر حال هذا الذي تريد أن تكرمه الآن.
أودسيوس : لقد كان عدوي، ولكنه كان كريمًا.
أجاممنون : ماذا تزعم؟ أتزعم إجلال عدو قد مات!
أودسيوس : إن فضيلته لأشد قوةً من بغضي.
أجاممنون : لقد رأيت رجلًا شديد الميل إلى أن يتغير رأيه.
أودسيوس : إن من الناس مَن هم أصدقاؤك اليوم وأعداؤك غدًا.
أجاممنون : أتَوَدُّ أن يكون لك مثل هؤلاء الأصدقاء؟
أودسيوس : لا أريد أن يكون لي صديق لا يلين.
أجاممنون : لتكونن سببًا في أن ينظر إلينا اليونان نظرهم إلى الجبناء.
أودسيوس : كلا، بل نظرهم إلى من يؤثر العدل.
أجاممنون : إذن فأنت تريد أن أدع هذا الجسم يُوارَى.
أودسيوس : من غير شكٍّ، ما دام يجب أن أهبط أنا إلى القبر.
أجاممنون : كذلك لا يعمل الإنسان إلا ذاكرًا منفعته.
أودسيوس : وأي منفعة يجب أن أذكر إذا لم أذكر منفعتي أولًا؟
أجاممنون : سيقولون إن مواراته أثر من آثارك لا من آثاري.
أودسيوس : لتنالَنَّ من الشرف بمقدار عملك.
أجاممنون : إذن، فثق بأن ليس هناك ما لا تستطيع أن تناله مني. ولكن أياس سيظل لي عدوًّا في الجحيم كما كان على الأرض. لك أن تفعل ما تريد.

(ثم تشكر الجوقة وتوكروس أودسيوس على صنيعه، ويَوَدُّ هذا لو شاركهم في إقامة القبر لأياس ولكن توكروس يأبى مخافة أن يؤذي أخاه، فينصرف أودسيوس ويأخذ توكروس ومن معه في مواراة القتيل.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤