تمهيد

من المعلوم أن أصل المدن القديمة أن تأتي شرذمةً من الناس إلى مكان ذي ماء، فتأخذ من أعواد شجره فتعمل ما يشبه الأكواخ فيسكنونها لتقيهم الحر والبرد، ثم يأخذون من الماء جداول يسقون به ما ينبت من الخضر والفاكهة والقمح وبعض الحبوب ليقوم بأجسادهم وحياتهم، ثم إذا حَسنت أحوالهم وتمشَّوْا في سبيل الحضارة شوطًا وسطًا بدَّلوا تلك الأكواخ ببيوتٍ من خشب أو حجارة يرصفونها عَلَى حسب معرفتهم البسيطة، ثم يجيء دور العمران بتبدل الأزمان فيعملون البيوت الواسعة والقصور المشيَّدة، ويتهافتون إلى مضاهاة مجاوريهم بزخارف البنيان وتنضيد الأثاث؛ فتكثر بذلك أسباب المدنية. وعلى هذا اختار سكان حماة الأقدمون لسكناهم هذا الوادي العميق المتسع للانتفاع بماء النهر بسهولة.

وقد كانت صُرَّةُ العمران ومبدؤه من محلة باب الجسر شمال القلعة من الطريق المسمَّى طريق الحلوانية على كتف النهر مستديرًا حول القلعة إلى محلة المدينة شبه الهلال، ثم محلة المدينة وورائها الجبل المسمى بالعريصة، ثم امتد العمران. ولم تكن القلعة عامرة، وإنما كانت شبه جبل أولها مبدأ محلة الباشورة من الشرق، ونهايتها باب الجسر من قبلي المحلة. ولم تكن الباشورة منفصلة عن القلعة كما هي الآن، وإنما فصلها عن بعضها تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، فكان الطريق الفاصل بينها وبين جبلها الباشورة هو الطريق الكائن بجانب جامع النبي حام من جهة الشمال كما سنذكر.

سكان حماة الأقدمون

لم يصل بحث المؤرخين لما قبل الطوفان، وإنما غاية ما علِموه أن نوحًا عليه السلام تفرَّقت ذريته في فضاء الأرض، وأن سكان حماة الأقدمين من ذرية ابنه حام. قالوا: وُلِدَ لِحَامٍ أربعة ذكور: الأول كوش، والثاني مصراييم، والثالث فوت، والرابع كنعان. أما كوش فقد انتشرت ذريته في سواحل الصعيد الأعلَى وهم الحبشة والسودان. وأما مصراييم فهو أبو المصريين. وأما فوت فمساكن ذريته برقة وما والاها من بلاد الغرب كالبربر. وأما كنعان فقد كانت مساكن ذريته عَلَى سواحل الخليج الفارسي كالقطيف والبحرين. وقد كانت لهم في تلك الأنحاء مدينتان عظيمتان: اسم إحداهما صور، والأخرى أرواد، فلما رحلوا إلى سوريا — حينما كان بينهم وبين ملوك بابل حروب اضطرتهم إلى هجر منازلهم — سكنوا عَلَى السواحل، وسموا بدل تينك البلدتين بلدتين باسميهما: صور، وأرواد، ولكثرتهم تغلبوا عَلَى سكان سوريا الأقدمين وهم الأراميون أبناء سام بن نوح عليه السلام.

تفرقوا في أنحاء سوريا إلى أربع فرق: الأولى أقامت في بلاد فلسطين، والثانية أقامت عَلَى سواحل الشام فيما بين جبل لبنان والبحر وهم الفنيقيون، والثالثة أغارت عَلَى الديار المصرية فاستولت عليها ومنهم الملوك العمالقة، والرابعة تعمقت إلى جهة الشمال من الشام، وسكنت في وادي نهر «الأورونت»؛ أي العاصي، ومعناه النهر الشرقي، وهذه الفرقة هي أعظم فرق الكنعانيين بكثرة رجالها وقوتها، وكانوا يُسَمَّوْنَ «الحثيين»، وذلك قبل ميلاد المسيح عليه السلام بألفين وخمسمائة سنة. وقد أطلقت التوراة اسم «حمث» عَلَى جميع البلاد الشامية نسبةً إلى القسم الأكثر منها وهو حماة وتوابعها في سالف الزمن؛ فقد كانت آخذة من داخل الحماد وتَدمُر شرقًا حتى قلعة المضيق غربًا وحلب شمالًا والشام جنوبًا. أما البلاد العظيمة في ذلك الحين على طول نهر الأورونت فهي قادس عاصمة مملكة الحثيين وحمص وحماة، ثم حدثت أفاميا وأنطاكية والسويدية، وكانت حماة تُسمى أبيفانيا.

تغلب الحثيون عَلَى الكثير من سكان سوريا الآراميين، وقويت شوكة الحماتيين منهم فبنوا البنيان الضخم، وغرسوا الأرض وفلحوها وغنموا من ثمرها ورسخت قدمهم في البلاد، غير أن توتمس الأول أحد فراعنة مِصر غزا سورية وبلغ بلاد الحثيين، وقامت بين الفريقين الحرب، وأخيرًا أخضع السوريين عمومًا وبلغ الفراة، وذلك في القرن ١٨ قبل الميلاد. ثم هَبَّ الحماتيون مع بقية السوريين لمحاربة المصريين، فتلاقوا مع توتمس الثالث ملك مِصر سنة ١٧٠٠ قبل الميلاد فلم يفلحوا، ودانت لتوتمس سورية مع حماة فأَخذ منها جزية عظيمة. ثم غزا توتمس هذه البلاد ثانيةً فأخذ من أهليها ذهبًا كثيرًا وعبيدًا وبقرًا وغيرها. ثم ولي مِصر توتمس الرابع فغزا بلاد الحثيين وقتل كثيرًا من رجالها وأخذ أيضًا غنائم عظيمة.

وفي القرن السادس عشر قبل الميلاد غزا رعمسيس الأول — أحد ملوك مِصر — بلاد سوريا، فلم يصِل إلى وادي العاصي إلا ولقي جيوشًا جرارة بقيادة «سابالت» ملك الحثيين فخاف من حربهم، وعقد معهم معاهدة صلح عَلَى أن تكون كلتا الدولتين عونًا للأخرى تجاه العدو. ودام الأمر عَلَى هذا العهد حتى مَلَكَ مِصر «ساتي» ابن رعمسيس المذكور، وهذا جهز الجيوش المصرية وأتى بها إلى سورية فغزا العرب في طريقه وأضعف قوتهم، ثم دخل سورية فتلقاه ملوكها بعساكرهم، فكان النصر حليف المصريين، وقُتِلَ من السوريين خلق كثيرون، وتغلغل ساتي في البلاد حتى وصل إلى قلعة قادس١ مركز الحثيين، وهنالك اشتعلت نار الحرب الضَّروس وطال أمد لهيبها فَنُصِبَتْ المنجنيقات، ثم افتتح المصريون قادس رغمًا، غير أن هذا الفتح لم يُضعف قوة الحثيين عن الدفاع والمحافظة عَلَى بقية أوطانهم فكانت الحرب سجالًا، وآخر الأمر عقد الفريقان معاهدة صلح عَلَى أن تُرد للحثيين أملاكهم المغصوبة، وأن لا يظهر من «موتنار» ملك الحثيين عداء على المصريين. كل ذلك منقوش على هيكل الكرنك بمِصر.
وفي أواخر القرن السادس عشر قبل الميلاد مَلَكَ مِصر «رعمسيس» الثاني ابن ساتي، وتأهَّب لغزو الحثيين، فطفقوا يتأْهبون لحربه، فلم يلبث أن جاء إلى بيروت ثم نزل في حصن الأكراد. وكان «موتنار» ملك الحثيين جمع لحربه عساكر حلب وكركميش٢ وحماة فجهز ٢٥٠٠ مركبة، وكان يحب الحيلة أكثر من الحرب، فأرسل إلى رعمسيس ملك مِصر رجلين أعرابيين يقولان له إن موتنار قد هرب إلى حلب، وإن رؤساء العشائر قد خذلته، فاغتر رعمسيس بذلك وسار بجيوشه حتى بلغ طرة العاصي، فخرج له موتنار بكمين عظيم فشتت جيش المصريين. لكن رعمسيس أظهر بسالة مدهشة فاخترق جيش الحثيين ثماني عشرة مرة حتى جمع عسكره إليه، فاستمر القتل وحمي الوطيس، فدارت الدائرة عَلَى الحثيين فقُتِلَ منهم ألوف، وغرق في نهر العاصي خلق كثير وفي جملتهم ملك حلب، فاضطر ملك الحثيين أن يطلب الصلح متذللًا، فأجابه ملك المصريين إليه ثم عاد إلى مِصر ظافرًا غانمًا.

ثم نشبت الحرب أيضًا بين سكان القطرين فدامت ١٥ سنة، قُتِلَ في أثنائها ملك الحثيين وخلفه أخوه «كيتامار»، فعقد مع المصريين صلحًا على أن تكون كلتا الدولتين عونًا للأخرى عَلَى العدو وأن لا تغزو إحداهما الأخرى، وتزوج رعمسيس بابنة كيتامار تأكيدًا للمودة، ودام السلم إلى زمن رعمسيس الثالث، فأثار عليه ملك الحثيين حربًا جمع فيه عسكرًا جرارًا وقصد مِصر، فانكسرت عساكره وأُخِذَ هو أسيرًا وبقي في الأسر مدة، وما زالت نيران الثورة تشب بين القطرين وتخمد حتى أُطفئت من جهة القطر المصري، وأُوقدت من جهة سكان بابل ونينوى وهاتيك الجهات.

في سنة ١١٣٠ قبل الميلاد كان المالك لجهات بابل «تجلت فلاصر»، فأحب أن يملك بلاد الحثيين فغزاها بعُدد وعَدد، وبعد عوده لبلاده حفر عَلَى تمثال في بابل هذه العبارة:

أنا تجلت فلاصر المحارب الشريف ذللت بلاد «سوبير» الفسيحة، وقد استحوذ أربعة آلاف رجل من فصائل الحثيين العصاة عَلَى مدينة سوبرتا فروَّعتهم مخافة سلاحي، فأذعنوا وذُلت رقابهم لنَيري فغنمت أموالهم، وأخذت مائة وعشرين من مركباتهم ووهبتها لرجال بلادي، وجيَّشت جنودي المظفرة وزحفت إلى بلاد آرام، وسرت حتى مدينة «كركميش» في بلاد الحثيين، فعبرت الفرات، ووضعت بهم ملحمة كبرى، وغنمت من عبيدهم وأموالهم ما لا يدركه عدد، وافتتحت بعض مدنهم ونهبتها وحرَّقتها، وسرت إلى جبل اللكام فنكَّلت بأهله ونهبت أموالهم فدانوا لي صاغرين.

انتهى.

ثم عاد إلى بلاده فتبعه خلق من جبل اللكام مؤثرين الموت عَلَى الحياة فعاد إليهم وشتَّت شملهم وخرَّب بعض بلادهم. وفي سنة ٨٨٣ قبل الميلاد كان الملك عَلَى بلاد الآشوريين البابلين «أشورنسيربال»، فسار إلى البلاد السورية أيضًا غازيًا، وقد وجِدت كتابة غزوته هذه عَلَى الصخر، وهذه هي: «وسرت بجيشي عَلَى جانبي العاصي أيامًا إلى أن بلغت لبنان.» فقد مَرَّ على حماة وحاربَها لأنه ذكر في عبارة أخرى أنه أخضع أكثر ملوك سوريا وبلادها.

ثم كان بعده ابنه «سلمناصر»، وهذا هجم أيضًا بعساكره عَلَى البلاد السورية حتى وادي العاصي، وكان أهله قد استعدوا لحربه فشتَّت شملهم، وقتل منهم ١٦٠٠ رجل، وأسر ٤٠٠٠ أسير واستاقهم إلى نينوى، فتبعه سكان وادي العاصي بجيوش عديدة وقوة عظيمة، فأعاد الكَرَّةَ عليهم وقتل منهم خلقًا كثيرًا. ولم يزل سائرًا بجيوشه حتى بلغ حماة فخرج لحربه ملكها «أيدكولينا»، وانضمت إليه ملوك سوريا — وفي جملتهم ملك دمشق وأخاب ملك الإسرائيليين وتسعة ملوك أُخَر — فدارت رحى الحرب عَلَى السوريين وقُتِلَ منهم ١٤ ألفًا، ثم تبع ملك نينوى أهل دمشق فقتل منهم ٢٠ ألفًا، وأراد قتل ملكهم فهرب إلى البحر ونزل فيه عَلَى السفن فنجا بنفسه.

ثم مَلَكَ بعد سلمناصر «نيرر» حفيده فجدَّد شن الغارة عَلَى السوريين، غير أن مدته لم تكن كمدة سابقيه ذات حروب هائلة. وفي سنة ٧٤٥ قبل الميلاد تولى مملكة الآشوريين تجلت فلاصر الثاني، فجمع قواته وسار إلى سورية فضعضع أهلها، وجاء إلى حماة فاستسلمت له ولم يقاومه ملكها المسمى «أنبال»، فساق منها ألوفًا إلى بلاده أسرى كما ساق ألوفًا من غيرها، ثم عاد مرة ثانية فأذل الرقاب وهلك العباد وخرب البلاد، وقد أُحصي ملوك سوريا الذين خضعوا له فكانوا ٢٥ ملكًا.

ثم مَلَكَ الآشوريين رجل يقال له سرعون، فكان بينه وبين الحثيين سكان وادي العاصي شحناء أدَّت إلى أن جاء إلى بلادهم فقتل منهم عالمًا لا تُحصى، واستاق البقية أسرى فأسكنهم في بلاد نينوى مركز الآشوريين، وأسكن في وادي العاصي من قومه غيرهم وذلك سنة ٧١٧ قبل الميلاد، وبهذه المرة انقرضت مملكة الحثيين من وادي العاصي، كما انتشر بعدهم الآراميون سكان دمشق الأقدمون المنسوبون لسام؛ فلهذا يُطلق التاريخ عَلَى السوريين عمومًا اسم الساميين؛ لأن سكان وادي العاصي وإن كانوا قديمًا من ذرية حام هم وسكان أرواد وصور وتلك الأماكن غير أنهم انقرضوا، ومن بقي منهم اندمج في الأكثرين وهم الدمشقيون وغيرهم ممن يُسَمَّوْنَ بالآراميين نسبةً لآرام ابن سام.
  • صناعة الحثيين: من أهم صنائع الحثيين صنعة العمارة، ونحت الحجر، وإتقان التحصين، وإخراج المعادن الحديدية، والزراعة وغرس الشجر، وصناعة الأحذية وغيرها.
  • زيهم: كانوا يلبسون الثوب القصير، ويشدون وسطهم بشيء يضعون فيه الخنجر، ويفتحون للثوب شقين طويلين من الجانبين، ويلبَسون على رءوسهم قبعة طويلة مستديرة عَلَى الرأس مخروطة من فوق يحزمونها بمناديل ملونة ونقوش غريبة، وتلبس النساء ثوبًا طويلًا يستر الكعبين يشدُدن عليه حبلًا ويعقِدنه من الوراء.
  • أسلحتهم: فأس ذو حدين، ورمح، وقوس وعصا.
  • أشكالهم: كان لون وجوههم أبيض أحمر، لا يحلِقون لحاهم، ولكن يحلقون رءوسهم ويتركون في وسطها شعرًا مستطيلًا مثل سكان البادية الآن، ويجعلون في أذن رجالهم حلقة.
  • عاداتهم: كانوا يحتفلون بالميت احتفالًا مدهشًا فيستأجرون له النائحات، ويدفنون أعزَّ شيء عليه معه، ويضعون شيئًا من الزيت في القبر، ويُنزلون مع المرأة حُلِيَّها وثيابها الجميلة، وينحتون القبر حجرًا كبيرًا كالصندوق على مقدار حجم الميت، ويقِفون حول القبر ثم يُهيلون عليه التراب. وكان لهم في كل أسبوع مجتمع يبيعون فيه ويشترون يَقدِم إليه خلق كثيرون.
  • مساكنهم: أعظم بلادهم مدينة قادس، وحمص، وحماة، وكركميش التي تُسمى الآن إيرابوليس.
  • عبادتهم: يقال إن الحماتيين كانوا يعبدون صنمًا يُسمونه أسيما، وقيل كانت مدينة بعلبك هي محل العبادة لجميع السوريين، فقد كانوا يعبدون الصنم المشهور باسم بعل — ومعناه في لغتهم الإله — ويعتقدون أنه هو الإله، وهو في نظر عامتهم ذات الشمس أو المشتري، وما قلعة بعلبك إلا بيت للصنم القديم، فقد كانوا يقصدونه من جميع الجهات في مواسم معلومة، وينهمكون عَلَى أحوال وحشية من الرقص عَلَى نغم المزامير والطبول، ويجلدون أنفسهم بالسياط حتى يَبرز الدم، وربما قطع البعض يد نفسه أو رجله، ويذبح الأب ولده تقرُّبًا للصنم، وتنذر المرأة إباحة نفسها مدة تقربًا، ويمتنعون عن أكل السمك، ويحترمون الطيور إلى غير ذلك، وقد كان في مدينة حمص هيكل للصنم المذكور أيضًا ولكن دون ذاك.

هوامش

(١) قادس بلدة كبيرة كانت في وسط ماء بحيرة حمص.
(٢) بلدة قديمة عَلَى شط الفرات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤