من الإسكندرية إلى منوف

ذات يوم من عام ١٩٣٨م استيقظت من النوم لأجد أبي وأمي يحزمان الحقائب، الحكومة أصدرت قرارًا ضد أبي، النقل إلى مكان أخرى يُسميه أبي «منفى»، أو «منوف»، قرية أو بلدة صغيرة مجهولة، لا تظهَر فوق الخريطة، عشنا فيها عشر سنوات (من ١٩٣٨م حتى ١٩٤٨م)، لم يحصل فيها أبي على ترقية أو علاوة، اندرَج اسمه تحت القائمة السوداء، تحت بند «الموظَّفون المنسيون» في وزارة المعارف العمومية.

من الإسكندرية عروس البحر إلى بلدة مُظلمة صامتة، مدارسها الأولية الإلزامية يذهب إليها أطفال الفقراء بقوة القانون (الإلزام).

أصبح أبي مفتِّشًا على هذه المدارس في محافظة المنوفية، يَسير بقامته الفارعة في الشارع والناس تشير إليه: البيه المفتِّش!

في الإسكندرية لم يكن أحد في الشارع يُشير إلى أبي، لم يكن يحمل إلا لقب «أفندي»، أهل منوف منحوه لقب «البيه»، أصبحت بنت البيه المفتِّش، زارتنا ستي الحاجة ثُمَّ عادت إلى كفر طحلة تَحمل لقب «أم البيه».

أبي أصبح يردِّد هذا البيت من الشعر:

عِش في القرى رأسًا
ولا تَعش مع الأذناب مدنًا

وكنت أسأل أبي: مين هم الأذناب يا بابا؟ ويردُّ أبي: الأذناب هم النزرا والوزرا يا بنتي، وأعود أسأله: الوزرا يعني إيه يا بابا؟

ويقول أبي: «الوزرا يعني الوزر، والوزر يعني الذنب، والجمع ذنوب»، ويَضحك أبي طويلًا، ثُمَّ يشرح لي الفرق بين الذَّنْبِ والذَّنَبِ، يعني الذيل والجمع ذيول أو أذناب …

لم تكن منوف قرية مثل كفر طحلة، لم يكن لها عمدة، «المأمور» أكبر رأس في البلد، مركز البوليس، الجامع، الكنيسة، المدرسة، المحكمة، مكتب الصحة، محطة القطار، صهاريج المياه، حارة اليهود، والصاغة، أجزاخانة «يني»، مقهى «جرامينو»، بقالة زخاري، خمارة مخالي، مقلة الفول السوداني واللب، دكانة ألف صنف وصنف.

بَيتُنا في الدور الأول، يطلُّ على الحقول الواسعة الممدودة حتى القبور.

لم أكن أرى القبور من الشرفة الخارجية، تُسمِّيها أمي «الفرندة»، القبور مختبئة وراء المزارع، بعد أن يقطع الفلاحون أعواد الذرة تظهَر القبور من بعيد، رءوس العفاريت البيضاء متربِّصة وراء السحب.

صاحب البيت اسمه الحاج محمود، لم يُكمل بناء الدور الثاني حيث يسكن هو وزوجته «أم محمد»، وأولاده الأحد عشر، ستة من الصبيان وخمس بنات، يَرقدون في غُرَف بلا نوافذ ولا أبواب، في الشتاء يتكومون في غرفة واحدة على الأرض التراب، يسدون الباب والنافذة بالجلاليب القديمة، يدقونها بالمسامير في الجدران.

الحاج محمود تاجر أقمشة بدون دكان، يتجوَّل في الأسواق فوق حمارته العجوز.

جسمها نحيف ضامر، منحولة الوبر، عظامها بارزة تحت الجلد، تعلوه آثار جروح لم تلتئم، علامات حمراء على شكل كرابيج، فوق ظهرها هرم من الأقمشة الملفوفة أسطوانات طويلة، من فوقها يتربع الحاج محمود مدليًّا بساقيه، يَلكزها بركبتيه البارزتين كالخشب، يشدها من الحبل في عنقها، يلسعها على ظهرها بالعصا الخيزران، يَسعل، يبصق، يتمخط على الأرض.

«شدي حيلك يا عزيزة.

شيه … شيه.»

كان نحيفًا مثل حمارته، شعر رأسه منحولٌ مثل شعرها، رمادي اللون مثل لونها، جلبابه طويل واسع من الجبردين، طاقيته فوق راسه ذات خروم «شباك النبي»، عاد بها من الحجاز.

كل صباح أسمع سعاله من تحت سور الفرندة، أطلُّ عليهما يخرجان من الممر الضيق بين السور والحقول متشابهين توءمين، أنفاسها ترسم في الشتاء دوائر من الشبورة، الريح الباردة تلفَح أنفَيهما بدرجة واحدة، يَسعلان بصوت مشابه، يشتدُّ سعال الحمارة، يُصبح نهيقًا متقطِّع الأنفاس، يَضربها على مؤخِّرتها ببوز العصا، تُسرع الخطى، تلهث، فتحات أنفها، فمها، أذنبها، يسيل منها لعاب أبيض مثل زبد البحر، تتعثَّر أقدامها، تسقط فيسقط معها، يلعنها وأمها: «يا بنت القحبة»، تسبقه في الجري فيَجري وراءها، يضع ذيل جلبابه بين أسنانه، يلهث، يلعن، يسيل من فمه وأنفه لعاب أبيض. يتحشرَج نهيقًا في حلقها، تَشهق، دموع بيضاء تسيل من عينيها، يربت على عنقها بيده المعروقة، يُقرِّب فمه من أذنها الكبيرة المنتصبة.

«معلهش، حقك عليَّ يا عزيزة، معلهش! شي! شي.»

تهز الحمارة رأسها، تشهق بصوت متحشرج يشبه صوته: ش! ش! ش! معلهش!

ابنة الحاج محمود اسمها خديجة، تذهب معي إلى المدرسة الابتدائية، نلعب معًا أمام البيت «السيجة»، ننط الحبل، نجري في الحقول وراء الفراشات، أُعطيها قطعة من اللبانة في فمي، قطعة من العسلية المصاصة «الكرميلا».

في العيد الكبير مكافأتي مليم، يُسمونها «العيدية»، كان «المليم» له قيمة كبيرة، عرفت في المدرسة أن الجنيه يساوي مائة قرش، والقرش يُساوي عشرة مليمات.

أطبق بأصابعي الخمس حول هذا المليم العظيم، قرص أحمر اللون يلمع تحت الشمس … عليه صورة الملك، أتلفَّت حولي خوفًا من اللصوص، أجري إلى المقلة، دكان ألف صنف وصنف، أشتري البالونات، الزمامير، البمب، املأ جيوبي باللب الأبيض والأسمر، الفول السوداني المقشر، الحمص، الخروب.

أول يوم العيد في الفجر، الجزار يأتي، يذبح الخروف الضحية، يَحكي لنا أبي الحكاية، أراد الله أن يمتحن «سيدنا إبراهيم»، فأمره أن يذبح ابنه «سيدنا إسماعيل»، وضع الأب السكين على عنق الابن ليذبحه لولا أن هبَط الخروف من السماء.

أنام وأحلم أن الله أراد أن يَمتحن أبي، الخروف لم ينزل من السماء، قطعت السكين رقبتي، أهبُّ من النوم مذعورة، أتحسَّس عنقي، همستُ لأمي بأحلامي فقالت تطمئنني: ده كان زمان يا نوال، لكن الحمد لله دلوقتي ربنا يعرف كل حاجة في قلوب الناس من غير امتحانات.

كلمة «امتحانات» تُفزعني، لا أصدِّق كل ما تقوله أمي عن الله، لا أراها تقرأ القرآن، لا تعرف الحكايات التي يحكيها أبي عن الأنبياء، لا تؤدِّي الصلوات الخمس كل يوم، تصوم شهر رمضان فقط.

العيد الصغير يأتي بعد شهر رمضان، أفرح بالعيد الصغير أكثر من العيد الكبير، لا خروف يُذبح، لا ضحية، لا امتحانات، «الكعك» اللذيذ، البسكوت، تَنقشه أمي على شكل العصافير لها أجنحة، «الغريبة» أضعها في فمي تذوب في حلقي مثل قطعة السكر.

في الأعياد يَمتلئ بيتنا بالأقارب والزوار، على رأسهم ستي الحاجة، تتربَّع فوق الكنبة البلدي في الصالة، الملاليم الحمراء تُخشخش في حجر جلبابها الواسع، تَصطكُّ بعضها بالبعض برنين الموسيقى، نتجمَّع حولها نحن الأطفال نتنافس على «العيدية.»

تبدأ بإخواتي الصبيان الثلاثة، تُعطي كلًّا منهم مليمين، نحن البنات تعطي الواحدة مِنَّا ملِّيمًا واحدًا، ألقيه في حجرها بغضب، فتقول: ربنا قال البنت نص الولد يا عين أمك.

يرمقني أخي الأكبر «طلعت» بعين تَلمع بالزهو، تفوُّقي عليه في المدرسة يُصيبه بالإحباط، لا تُخففه إلا آية في القرآن، ينطقها بصوت أبي: للِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. في غرفتي، في سريري، أدفن وجهي، وأبكي.

أخي يلعب طول السنة ويسقط في الامتحانات، أشتغل في المدرسة وفي البيت بلا إجازات، لا ينوبني في النهاية إلا مليمٌ واحد وهو يأخذ مليمَين؟!

أنزوي في غرفتي بعيدًا عن الأعيُن، في الصالحة يَضحكون ويَفرحون بالعيد، في غرفتي أكتم الغضب والحزن، غرفتي الصغيرة بجوار المطبخ، لها نافذة ذات أعمدة حديدية صدئة، من خلال القُضبان أرى حمارة الحاج محمود راقدةً في بير السلم، ترمقني بعينين دامعتَين حزينتين، الوحيدة في الكون تُشاركني الحزن في العيد.

أتسلَّل من غرفتي إلى الحمام، أغسل وجهي، ألمح الخادمة مُنكفئةً فوق بلاط المطبخ تدعكه بالفرشة، كانت من عمري، اسمها زينب، أمي أيضًا اسمها زينب، لم يكن للخادمة أن تَحمل اسم ست البيت الكبيرة، أصبح اسمها «سعدية» على اسم الخادمة السابقة.

رفعت سعدية عينيها من فوق البلاط، دامعتان حزينتان مثل عيني حمارة الحاج محمود، هناك مَن هم أكثر تعاسة منِّي في الأعياد، الخادِمات والحمارات.

•••

السؤال عن عدالة الله كان يؤرِّقني، ينتابني الإحساس بالذنب، «ربنا هو العادل، عرفوه بالعقل»، فلماذا يتميَّز أخي طلعت دون وجه حق؟!

– ربنا عادل يا ماما؟

– طبعًا يا نوال.

أكَّدت أمي أن الله عادل، اطمأن قلبي.

لا أريد لأمي أن ترى دموعي في العيد، في الصالة تضحك بصوتها المَرِح، عيناها العسليتان يكسوهما بريق الفرح، لم أرَ الدموع في عينيها إلا مرةً واحدة.

دخلت إلى غرفتها في يوم العيد، لمحتْني في المرآة، مسحت عينيها بالمنديل.

– انتي بتعيطي يا ماما؟

– لا أبدًا.

– عينيكي حمرا يا ماما.

– كنت باحط فيها قطرة.

لم يكن في يدها زجاجة قطرة، لا شيء في يدها، إنها تُخفي عني شيئًا، هذا الشيء يجعل جسدي يقشعرُّ، أتشك أمي في عدالة الله؟ أتسأله لماذا يفضِّل الذكور؟

كأنَّ الله يختفي في الظُّلمة، أُخفي رأسي تحت الغطاء؟ أنهض من السرير مذعورةً، أتوضأ، أصلي، أدفن وجهي في سجادة الصلاة: «أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.» هذه العبارة أردِّدها المرة وراء المرة حتى يجفَّ حلقي.

أصبحتُ المثل الأعلى للصلاح والتقوى بين البنات في عائلة أبي وأمي، ابتهَجَ الجميع بالإيمان الهابط من السماء، أكثرهم ابتهاجًا ستي الحاجة، تراني راكعةً فوق سجادة الصلاة، دافنةً وجهي في الأرض، فتقول إنني بلغتُ سنَّ الرشد، إنني عرفتُ الله، إنني استويتُ مثل التينة البرشومي. إنَّ الله سيرسل إليَّ عريسًا من السماء، يقطفني مثل الثمرة من فوق الشجرة، وإلا سقطتُ إلى الأرض وأصابني العطب.

لم تكن أمي تفكر في العريس، كانت مشغولةً طول الوقت، بطنها يرتفع، تأتي الحكيمة وأسمع صراخ أمي، المولود يخرج من بطن أمي، لم أعرف كيف يدخل.

إذا سألت السؤال تَنهرني العيون، حياة النساء غريبة تحوطُها الأسرار، بطونهنَّ المرتفعة تبدو لي مخيفة.

كان أبي يؤمن بالتعليم مثل ستي الحاجة، تعليم البنات والأولاد، هي تؤمن بتعليم الصبيان فقط، علَّمت ابنها، وابن زوجها من امرأة أخرى، لم تُعلم بنتًا واحدةً من بناتها الخمس، بقين معها في القرية فلاحات، إلا عمتي الصغيرة نفيسة، أرسلت بناتها إلى المدارس مثل الأولاد.

لم يكن في منوف إلا المدارس الأولية والإلزامية، وبعض المدارس الابتدائية الحكومية، ومدرسة التجارة المتوسِّطة والصنايع، ومدرسة ثانوية واحدة للبنين. القادرون على دفع المصروفات كانت لهم مدارسهم الخاصة. في الفرندة المُطلة على الحقول، يجلس أبي ونحن الأطفال حوله، يحكي لنا عن معاركه الجديدة، الصراع يدور بين الأحزاب وداخل الحكومة، النوَّاب في البرلمان يُعارضون التعليم الإلزامي، صاح أحد الباشوات واسمه «البدراوي عاشور»: «أيها السادة، هذا التعليم المجاني يؤدي إلى أن يتحوَّل أصحاب الجلابيب الزرقاء إلى أصحاب جلابيب مكوية! سوف يتعلَّم أولاد الفلاحين ويُصبح من الصعب عليهم أن يمسكوا الفأس بعد ذلك.» أحد الباشوات الآخرين، اسمه وهيب دوس، قال: «تعليم أولاد الفقراء خطر اجتماعي هائل يؤدي إلى ثورات نفسية.» باشا آخر اسمه «طلعت حرب باشا» قال: «التعليم يؤدي إلى تفتيح الأذهان، وهذا خطر على الحكومة.»

أبي يقف في الفرندة كما كان يقف في الشرفة البحرية في الإسكندرية، يحكي لنا عن الصراعات في مجلس النوَّاب بين حزب الوفد وأحزاب الأقلية، الصراع داخل حزب الوفد بين النحاس باشا وأحمد ماهر باشا، يوجِّه أبي الحديث إلى إخوتي الصبيان: «تصوَّروا هذا الباشا من الأحرار الدستوريين مش عاوز الفقراء يأكلون العيش الحاف، عاوزهم يموتوا من الجوع! يتَّهم النحاس وحكومة الوفد أنَّها أغدقت النِّعم على الفلاحين والعمال والموظَّفين، فين النعم دي يا باشا؟! الأسعار بتزيد يوم ورا يوم، والماهية هي هي، وإن زادت شوية ملاليم يبقى خير من عند ربنا.»

في عام ١٩٤٠م قدمت حكومة الوفد إلى مجلس النوَّاب قانونًا ينص على عدم الحجز على بيت الفلاح المُفلس العاجز عن دفع الضرائب، صاح الباشوات من النوَّاب: هذه بلشفية!

سألت أبي: يعني إيه بلشفية؟ فقال: يعني شيوعية، يعني إيه شيوعية؟ يعني كل حاجة تبقى على «المشاع». لم أفهم ما معنى كلمة «المشاع»، ستي الحاجة فهمتها، قالت وهي تشوح بيدها الكبيرة المشققة: أهو الباشا ده زي العمدة في كفر طحلة، لا يمكن يرتاح إلا لما الفلاحين يموتوا من الجوع، لكن ربنا مع الفقرا دايمًا.

في الأعياد يتجمَّع في الفرندة أقارب أمي وأبي، تتزعَّم عائلة السعداوي ستي الحاجة أو عمتي رقية بلسانها السليط، تتزعَّم عائلة شكري بيه خالتي هانم أو فهيمة أو خالي يحيى أو زكريا.

صراع يدور في الفرندة أشبه بالصراع في مجلس النوَّاب، ينضمُّ الفلاحون من عائلة أبي إلى حكومة الوفد والنحاس، وتنضمُّ عائلة شكري بيه إلى الباشوات من أمثال أحمد ماهر والنقراشي وأحزاب الأقلية.

لم يكن أبي عُضوًا في حزب الوفد، أو أي حزبٍ آخر، يقول: إنَّ الأحزاب تتلاعَب بالشَّعب تحت اسم الدستور والنظام الديمقراطي. مشايخ الأزهر والإخوان المسلمين يتلاعبون باسم «الشيخ أبو دقن».

«تصوروا الشيخ أبو دقن يتعاون مع الملك والإنجليز تحت اسم الإسلام، ويقول لنا: «وأطيعوا أولي الأمر منكم»، ويقول للملك فاروق: الله معك، يردُّ عليه الملك يقول له: نعم الله معنا. دي شعوذة مش إسلام يا شيخ مراغي!»

كانت طنط هانم تحبُّ الملك فاروق، تؤمن أن الله معه فعلًا، عمتي رقية ترى أن الله مع النحَّاس، يتوتَّر الجو بين أقارب أبي وأمي، ترمق طنط هانم جلباب عمتي رقية بازدراء، يضع خالي زكريا ساقه فوق الساق الأخرى ويقول بطرف أنفه المرتفع: الله مع الملك طبعًا.

تشوِّح ستي الحاجة بيدها المعروقة في وجه خالي زكريا: وماله ياخويا، خليه معاه، لكن النحاس معاه كل الناس!

ينفجر الجميع في الضحك، ستي الحاجة تضحك حتى تدمع عيناها، تَمسحهما بطرف الطرحة السوداء وهي تهمس: «أستغفر الله العظيم، اللهم اجعله خير يا رب.»

•••

الحرب العالمية الثانية قامت، أجبر الإنجليزُ الفلاحين في مصر على زراعة مساحات أكبر من القمح والحبوب لإطعام جيوش الحلفاء، تدهور إنتاج القطن، زادت المُضارَبات في البورصة لصالح الإنجليز والباشوات، حالت ظروف الحرب دون نقل الأسمدة، ارتفعت الأسعار، حدَّد الإنجليز أسعارًا تعسُّفية للقطن المصري تقلُّ عن السعر العالمي؛ بحجة أن رفع سعر القطن لا يفيد إلا الباشوات، غضب الباشوات في حزب الوفد والأحزاب الأخرى، أعلنوا أن الإنجليز يَزرعون الحقد بين الطبقات في مصر، يُشجِّعون الشيوعية والإلحاد، انتهز الملك الفرصة ليَضرب حزب الوفد والنحاس، أقدم الملك على ما يُشبه الانقلاب الدستوري، أعلن تولِّيه زمام الأمور، لا أحد يستطيع أن يؤثر عليه إذا تبيَّن له صواب لأمر، يعمل لصالح شعبه، واثقًا من نفسه، متوكلًا على الله الذي يلهمه، الله دائمًا معه.

كان الملك فاروق شابًّا من حوله من الباشوات ومشايخ الأزهر، أشاروا عليه باستمالة الشباب؛ شاب اسمه «أحمد حسين» يتزعَّم حزبًا اسمه مصر الفتاة (تصوَّرتُ أن أعضاءه كلهم فتيات) أصبح مؤيِّدًا للملك، يَستخدم كلمة «الله» كشعار، بدأ الصراع بين النحاس وأحمد حسين، قال له النحاس: «أنت دسيسة، كلمة الله التي وضعتها في أول شعارك شعوذة؛ لأنَّ وضع كلمة الله في برنامج سياسي هو شعوذة.»

كان الإنجليز يتعاونون مع الملك والأحزاب الأخرى ضد النحاس، في أبريل ١٩٤٠م اتَّهم النحاس الإنجليز بمساندة الانقلاب الدستوري، طالب بجلاء القوات البريطانية بعد انتهاء الحرب مباشرة.

•••

كنت في التاسعة من عمري عام ١٩٤٠م، في الثانية ابتدائي، لم يُدخلني أبي مدرسة حكومية من المدارس التي يفتِّش عليها. وزارة المعارف تحشُر الأطفال في الفصول مثل السردين في العلب، تُعيِّن لهم أكثر المدرِّسين جهلًا وقسوة، يَجهلون مبادئ التعليم، يَضربون الأطفال بالعصا الغليظة.

أبي يَعقد الاجتماعات في الفرندة لهؤلاء المدرِّسين، يُلقِّنهم مبادئ التعليم واللغة والنحو والإعراب، يُهدِّدهم بخصم يوم أو يومين من المرتب إذا لم يُعملوا التلاميذ على النحو الصحيح.

أجلسُ في الركن أستمع إلى الدرس، أستوعب ما يَشرحه أبي، إذا سأل سؤالًا أرفع لهم إصبعي: تلميذة في ثانية ابتدائي تعرف أكثر منكم؟!

يجلسون في الفرندة فوق الكراسي من القشِّ، فوق رءوسهم طرابيش حمراء مُكرمشة، عيونهم نصف مغمضة، وجوههم ناحلة، سراويلهم متهدِّلة، مرتب الواحد منهم في الشهر جنيهان أو ثلاثة، تدرج وزارة أسماءهم تحت بند: «المُدرِّسون يُعلِّمون النشء الجديد مستقبل الأُمَّة الباهر.»

أبي يَسخر من وزارة «المعارف»، يُسمِّيها وزارة «المقارف» (جمع كلمة قرف). المدرِّسون هم «قاع مقرف»، لا يَعرف الواحد منهم الألف من كوز الذرة، الجنة تحت أقدام هؤلاء المدرِّسين، يُعلِّمون النشء الجديد مستقبل الأُمَّة المظلم بإذن الله.

في الأعياد، يطوف هؤلاء المدرِّسون على رُؤسائهم من النظار أو المفتشين حاملين الهدايا، أقفاص من البيض، البرتقال، التين البرشومي، أو ذبائح من الوز، والبط، والفراخ، تُشبه القرابين التي كانت تُقدَّم لإله يهوه في التوراة، يتشمَّم الرؤساء رائحة الشواء فيروق المزاج، فيكتبون تقارير سرية بدرجة «ممتاز يستحقُّ الترقية.»

كان أبي يَطردهم مع أقفاصهم وذبائحهم.

– النبي قبل الهدية يا سيد بيه.

– الهدية رشوة يا أفندية!

لم يكن في منوف إلا مدرسة واحدة ابتدائية للبنات غير تابعة للحكومة، هي المدرسة الإنجليزية، كانت تشمَل المقرَّرات والمناهج الحكومية، بالإضافة إلى تعليم اللغة الإنجليزية.

منذ الاحتلال البريطاني عام ١٨٨٢م بدأت المدارس الإنجليزية الخاصة تَنتشر في مصر، بعضها مدارس الإرسالية، وبعضها مدارس عادية تابعة النظام المصري، لا تخضَع لتفتيش الحكومة، الإجازة فيها يوما السبت والأحد (بدلًا من يوم الجمعة)، يُدرَّس الدين الإسلامي واللغة العربية مثل المدارس الحكومية، بالإضافة إلى تدريس الدين المسيحي لأطفال الأقباط، والدين اليهودي لأطفال اليهود.

كانت منوف «مركزًا» بلدة صغيرة، لا هي قرية مثل كفر طحلة، ولا هي مدينة مثل القاهرة أو الإسكندرية، تقع على خط سكة حديد شبين الكوم، القطارات السريعة لا تقف عندها، أغلبها حقول ومُزارعون، فيها بعض المصانع، أشهرها مصانع الدخان والسجائر، تَملكها عائلة الدفراوي، اشتهر منها بعض رجال السياسة والأحزاب؛ منهم صبري أبو علم في عهد النحاس باشا، ولبيب شقير أصبح رئيسًا لمجلس الشعب في عهد جمال عبد الناصر. شارع الكنيسة من الشوارع الكبيرة، يَسكنه عدد من العائلات القبطية، في نهايته كنيسة ضخمة يُصلصل جرسها يوم الأحد أو حين يموت أحد المسيحيين، حارة اليهود تُوازي شارع الكنيسة، تمتلئ بالمحلات الصغيرة وتجار الصاغة، وفي نهايتها الخمارة.

شارع المحطة أكبر الشوارع، يمتدُّ من محطة القطار والسوق الكبير إلى الميدان الصغير (حيث مكتب البريد وصهاريج الماء)، يَجتاز الكوبري (شارع الترعة)، ثُمَّ يزدحم بالناس والمحلات من كل الأنواع: الدخان والسجائر، عرائس مولد النبي، الكنافة، اللب، الكراريس، زمامير العيد، الباعة الجائلون يُنادون على بضائعهم راكبي الحمير أو عربات الكارو، المُتاجرون في القطن أو البرسيم، عازفو الموسيقى في الأعياد والمواسم، الضاربون على الدف والطبول، الحواة يُرقصون القرود ويبتلعون النار، المنادون المدَّاحون، الندابات النداهات الغوازي العالمات الراقصات في الحفلات والحانات، بيوت البغاء، والبوليس، والشحاذون، وذوو العاهات.

كنت أمشي كل يوم في هذا الشارع الرئيسي لأذهب إلى المدرسة، أغرق في البحر الخضم، المياه العميقة المتحرِّكة تطفو عليها وجوه بشر كالأعشاب السابحة، تنقلب إلى أمواج عالية، الشمس قوية ساطعة طول العام، بلا رعد ولا برق ولا مطر، ما عدا بعض الأيام في الشتاء، يصبح المطر مثل الفاكهة النادرة، أتلقَّى رذاذ المطر فوق وجهي كما يتلقاه الزرع الأخضر، عيون الفلاحين تتجه نحو السماء، تشكر الله على نعمته. يشتدُّ الجفاف، تَمتنع السماء عن المطر، يتجمَّع الناس في الجامع الكبير، يؤمهم الإمام الشيخ، يَرفعون أيديهم، يدعون الله أن يأمُر السحُب لتتجمَّع، والسماء أن تَنفجِر بالرعد والبرق والمطر، إذا انخفضَت مياه النيل يركعون لله، يطلبون منه المَغفرة وإطلاق مياه النيل بالفيضان.

كنتُ أمشي في الشارع تحت إبطي حقيبة المدرسة، الشارع الرئيسي ينتهي إلى ميدان كبير، فيه أجزخانة يني، مقهى «جرانيمو»، ومكتبة صغيرة يملكها رجل اسمه «شقير»، يقف وراء طاولة خشبية يبيع الأقلام والكراريس ودوايات الحبر.

«لبيب شقير» يقف بدل أبيه وراء الطاولة، يَبيع لي سن القلم الحبر بنصف مليم، قال لي: أنا زميل أخوك «طلعت» في المدرسة، خرجت من المكتبة دون أن أردَّ عليه، كانت أمي تحذرني من الرد على الصبيان الغرباء.

أصبح الأب «شقير» من التجار الأثرياء في منوف، يجمَع نصف المليم على نصف المليم ويَصنع الملايين، هكذا يقول أبي، لم يكن أبي ينظر إلى مِهنة التجارة باحترام، أهل منوف (المنوفية كلها) اشتُهروا بالبخل، «المنوفي لا يلوفي ولو أكلته لحم الخروفي» عبارة تجري على كل لسان.

كان «لبيب شقير» تلميذًا مُجِدًّا، يتفوق على أخي وأبناء المتعلمين والموظفين، يرسب أخي في الامتحان، فيقول له أبي: ابن مفتِّش التعليم يسقط وابن بياع الكراريس والقراطيس ينجح بتفوق؟!

منذ مكتبة شقير في منوف لم ألتقِ بلبيب إلا عام ١٩٨٠م (أربعون عامًا تقريبًا)، التقينا في أحد المؤتمرات الدولية في بيروت، دعاني إلى الغداء في مطعم طلَّ على «الروشة»، قال لي: «فاكرة منوف؟! كنتي تركبي البسكليتة في شارع الترعة، وكان الصبيان يجروا وراكي ويقولوا: شوفو البنت راكبة عجلة! وكُنَّا احنا شباب منوف نتجمَّع عند الكوبري في شارع الترعة عشان نشوف بنت البيه المفتش وهي راكبة العجلة، وكل واحد فينا يَحلم بيها ويقول لنفسه: لازم أنجح بسرعة عشان أتقدم لأبوها.»

كانت المرة الأخيرة التي رأيتُ فيها الدكتور لبيب شقير، سمعتُ أنه مات، لم أعرف عنه إلا القليل، في ١٥ مايو ١٩٧١م ضرب السادات رجال عبد الناصر فيما أسماه «ثورة التصحيح» للقضاء على مراكز القوى، كان الدكتور لبيب شقير (رئيس مجلس الشعب) واحدًا من هؤلاء، لم يدخل السجن مثل وزير الداخلية «شعراوي جمعة» أو غيره من الوزراء السابقين، كان من الأساتذة في القانون، تخرَّج في كلية الحقوق بدرجة الامتياز، انجذب إلى السياسة والحكم.

•••

ناظرة المدرسة الإنجليزية اسمها «مس هيمر»، تمرُّ علينا في طابور الصباح في يدها مسطرة طويلة تضرب بها البنات على أطراف أصابعهنَّ.

تفتش عن الأظافر غير المقصوصة، تنظر بعينَيها الزرقاوين من وراء النظارة البيضاء بين الأصابع أو تحت الأظافر، بطرف المسطرة تَفلق شعر الرأس، عيناها الضيقتان تبحثان عن القملة الصغيرة، مثل رأس دبوس الإبرة، أو بيضة القملة «السبانة» الأصغر حجمًا من القملة، تدس أنفها الطويل (المقوس الأحمر) تحت المريلة، تتشمَّم ملابس البنت الداخلية، ترفع طرف المريلة ببوز المسطرة تكشف عن القميص الداخلي أو السروال.

كان معنا في الفصل تلميذة اسمها «فاطمة» بنت المأمور، تقف في أول الطابور، تبتسم مس هيمر في وجهها وتقول لها: جود مورننج فاتيما.

– جود مورننج مس هيمر.

تمرُّ علينا دون أن تفتشها، لم تُفتِّش تلميذة أخرى اسمها إيزيس ابنة الدكتور مفتِّش الصحة، ولم تفتش «سارة» ابنة كوهين صاحب محلات الصاغة، وتُفتِّش خديجة ابنة الحاج محمود وغيرها من التلميذات الفقيرات، تلسعهنَّ على أصابعهن بالمسطرة، أو تُخرجهنَّ من الطابور.

فوق وجهي تمر عيناها الزرقاوان في برود وصمت، لم تَبتسم لي أو تقول لي جود مورننج، لم تفتِّشني أيضًا (لأني بنت المفتش)، لم يكن أبي يفتِّش على هذه المدرسة، يأتي إلى مكتب الناظرة أحيانًا، شكاوى في جيبه من أولياء الأمور عن الإهمال في تعليم اللغة العربية أو الدين الإسلامي، بعض الشكاوى لآباء يَخشون على بناتهم المسلمات من قراءة الإنجيل في طابور الصباح.

قبل أن تَنصرف الطوابير كانت مس هيمر تصعد إلى المنصَّة العريضة العالية، تمسك بين يديها الإنجيل (باللغة الإنجليزية)، تقرأ هذه الآيات والتلميذات والمدرسات يرددن وراءها:
Our Father Which are in Heaven, Hallowed be gouy name.
The kingdom come, The will be done in earth as it is in heaven, Give us this day our daily bread, Forgive us our debtors as we forgive our debtors, And not lead us into temptation, but deliver us from evil: for thine is the kingdom, and the glory, forever, Amen.
وتهبط مس هيمر من فوق المنصة، تصعد مكانها واحدة من المدرسات، تقرأ هذه الفقرة من الإنجيل باللغة العربية والتلميذات يردِّدن وراءها:

أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك. ليأتِ ملكوتك. لتكن مشيئتك في السماء كذلك على الأرض. خُبزنا كفانا، أعطنا اليوم. واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا. ولا تُدخلنا في تجربة. لكن نجنا من الشر. لأنَّ لك الملك والمجد إلى الأبد. آمين.

لم يكن أبي مثل غيره من الآباء في منوف، لم يكن يرى أن قراءة الإنجيل فها ضرر، بل إنها واجب، الإنجيل واحد من كتب الله الثلاثة، الإنجيل والتوراة فيهما هدى للناس ونور، هكذا قال الله في القرآن.

لم يكن أبي أيضًا ضد تعلُّم اللغة الإنجليزية، يقول لنا: تعلموا لغة الأعداء لتَنتصروا عليهم.

أحب اللغة الإنجليزية، أحبُّ اللغة العربية أكثر، أبي يُدرس لنا الأدب العربي في البيت، يقرأ معنا أبيات الشعر لأبي العلاء المعري أو غيره من الشعراء.

لأبي مكتبة في الصالة، تضمُّ كتبًا عربيةً قديمةً وحديثةً، المُعلقات ولسان العرب، الجاحظ وسيبويه والرازي والأصفهاني وكتابه الأغاني، أبو العلاء وأبو نواس وجرير والفرزدق وابن المقفَّع، ديوان الخنساء، دنانير، بثينة، أم جعفر الهاشمية، خديجة، عائشة، تراجم النساء في بيت النبوة، المازني والمنفلوطي وطه حسين وعباس محمود العقاد وديوان حافظ وشوقي والبارودي، وغير ذلك من الكتب.

أبي كان مغرمًا بأبي العلاء المعرِّي، يُردِّد دائمًا قولته المشهورة حين ينقد الشيخ المراغي أو غيره من مشايخ الأزهر: «سكان الأرض قسمان؛ قسمٌ عندهم عقول وليس عندهم دين، وقسم عندهم دين وليس عندهم عقول.»

أبي كان يُشجعني على القراءة والتفكير، جعلني أحب الأدب منذ الطفولة، لم أتعلم الكثير في المدرسة، مدرِّس اللغة العربية والدين يشبه المدرسين في المدارس الإلزامية، يرتدي طربوشًا مكرمشًا وبدلة مُكرمشة، يَهرش رأسه وما بين فخذية، يلسعنا على أردافنا بالعصا الخيزران، نُطلق عليه اسم «بعبع أفندي»، له عين أصغر من العين الأخرى، يَختفي سوادها تحت الجفن، فوق شفته العليا شارب أسود كثيف الشعر، تعلوه دائمًا ذرات مخاط أبيض، يمسحه بمنديل كبير فيه مربعات زرقاء، يقرأ من القرآن بصوت عالٍ وهو جالس القرفصاء فوق الكرسي، يتجمَّع اللعاب الأبيض عند زاويتي فمه، يتناثر الرذاذ في الجو.

كانت مس هيمر تفتِّش على المدرسين والمدرسات، في قدميها حذاء له كعب سميك من الكريب أو الكاوتش، تمشي بلا صوت، تفتح باب الفصل بلا صوت، تدخل فجأة فيَنتفض إسماعيل أفندي واقفًا، رافعًا يده اليمنى حتى يَلمس إبهامه جبهته (التحية العسكرية منذ الاحتلال التركي)، يمسح فمه بالمنديل: جود مورننج مس هيمر.

– جود مورننج مستر إسمائيل.

لم تكن مس هيمر تعرف اللغة العربية، لا تَستطيع أن تنطق حرف العين، تَقلبه إلى ألف أو ياء. لم يكن إسماعيل أفندي يَنطق كلمة «مورننج» يقلبها إلى «مورجن»، نَكتم الضحك نحن التلميذات.

تقف مس هيمر في مؤخِّرة الفصل، يعود إسماعيل أفندي إلى الجلوس والقراءة من القرآن، يُبلِّل إصبعه بطرف لسانه، يفرُّ الصفحة الواحدة وراء الأخرى، حتى يَعثُر على بعض الآيات المناسبة: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَوَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِقَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ.

لم تكن «مس هيمر» تفهم شيئًا من هذا، أو ربما كان تتفهَّم، لم أكن أعرف، كنتُ أظن أنها لا تعرف اللغة العربية، فما بال أن تفهم كلام الله في القرآن!

في النوم أفكر، هل ستدخل مس هيمر النار أو الجنة، في الحلم أراها تدخل الجنة بلا صوت كما تدخل الفصل، تصوَّرتُ أنها لن تدخل النار، تصورتُ أن إبليس لا يعرف إلا اللغة العربية، مس هيمر لن تفهمه حين يوسوس لها.

كنتُ أظن أن مس هيمر لا تحيض مثل النساء المصريات، لا تبول أيضًا، ترتدي دائمًا ملابس حريرية نظيفة مَكوية، الياقة منشأة، شعرها الأصفر ملفوف بعناية لا يمكن للريح أن تطير شعرة واحدة من رأسها، وجهها متورِّد مشرب بحمرة الدم مثل الإنجليز.

كنتُ أظنُّ أن مس هيمر أغنى من المأمور أو حتى الملك فاروق، سمعتُ من إسماعيل أفندي أن الله هو الذي يخلق الغنيَّ والفقير، تصورتُ أنَّ الله يحب مس هيمر والإنجليز أكثر مما يحب ستي الحاجة والمسلمين؛ لأنَّ الإنجليز أغنياء والمسلمين فقراء.

كانت معي في الفصل زميلة اسمها «حميدة» من عائلة الشقنقيري، ركبتُ في العيد عربة كارو، وراحت تُغني مع الأطفال، كانت العربة تجتاز المزلقان، وجاء القطار، سقطت «حميدة» تحت العجلات، فقدت ساقيها الاثنتين، أصبحت تَمشي على عكازين من الخشب، في حصة الألعاب الرياضية تجلس على الدكة في الفناء، تتطلَّع إلينا ونحن نجري، تُغمض عينيها تتحسَّس ساقيها، تتصور أنهما من لحم ودم.

كنتُ أرى عكازيها مركونين إلى جواري في الفصل، القشعريرة تَسري في جسدي، لم يكن في مقدوري النظر إلى جسدٍ أصابه التشوُّه، كنتُ أتطلَّع إلى الأجسام الصحيحة الموفورة الصحة والحيوية.

لم أحبَّ في المدرسة إلا حصة الموسيقى والألعاب الرياضية؛ تأخذُنا «مس إيفون» إلى الفناء الواسع في الهواء الطلق والشمس، نلعب الباسكيت بول والفولي بول والبنج بونج. «مس إيفون» شابة مصرية، من الصعيد، بشرتها سمراء بلون بشرتي، قامتها تقترب من قامتي، تَرتدي فستانًا قصيرًا فوق الركبتين، تلفُّ خصرها النحيف بحزام جلدي عريض، شعرها قصير مجعَّد تلفه بشريط عريض من التافتاه، حذاؤها من الجلد المطاط بدون كعب، خطوتها سريعة تُشبه القفز، شفتاها منفرجتان عن ابتسامة عريضة تكشف عن أسنان بيضاء كبيرة تُشبه أسنان أمي.

غرفة الموسيقى كانت في مؤخرة الفناء، يتربع البيانو الأسود الكبير ذو المفاتيح البيضاء، تجلس «مس إيفون» على المقعد الصغير «بدون ظهر» أمامها النوتة، أجلس إلى جوارها أتعلم العزف وأغني:

دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي، دو.

تسري الموسيقى في جسدي مثل تيار الدم، تَصعد إلى عنقي ورأسي، ثُمَّ تهبط إلى صدري وقلبي، أحس الخفقات تحت أضلعي، أكان هو الحب؟ هل أحببتُ الموسيقى أم مس إيفون؟

كنت أسمع الموسيقى والأغاني في الراديو، كلها أغاني الحب، حب الرجل للمرأة، أو حب المرأة للرجل، لم يكن من حولي رجل واحد يَخفق له قلبي، كان يكفي أن أمشي في الشارع لأكره كل الرجال وكل الصبيان.

يَرمقون جسدي بتلك النظرة المُحملقة مثل السهم ينطلق ويُصيب صدري، النهدان الصغيران أخفيهما تحت الحقيبة، أنطلق إلى المدرسة أجري، عيونهم تُطاردني من أبواب المقاهي والحوانيت أو فتحات الأزقة والحواري.

يلمحني أبي وهو جالس في مقهى «جرامينو»، يشرب القهوة، يلعب الطاولة مع الرجال، ينادي عليَّ لأذهب إليه أُسلِّم على أصدقائه: تعالي يا نوال سلمي على الدكتور مفتش الصحة، دي بنتي نوال، أكبر بناتي، تلميذة شاطرة عند مس هيمر وعاوزة تطلع دكتورة.

كلمة «دكتورة» ترنُّ في أذني مثل السحر، تَنتشلني من عيون الرجال إلى السماء، أطير بجناحَين، كنتُ أكره الدكاترة، خاصة الدكتور مفتش الصحة، له أصابع غليظة يقبض بها على ذراعي يغرز الإبرة في اللحم، أنفاسه لها رائحة السبرتو، أسنانُه صفراء بلون الدخان، يفحص صدري بالسماعة ويَضغط بإصبعه على ثديي، لم يكن لي ثدي بعد، مجرد برعم صغير مثل الدمل له بوز مدبب يؤلمني لأقل لمسة، فما بال أن يضغط عليه مثل ذلك الإصبع؟

في الحلم لم أكن أرى نفسي دكتورة تُمسك بإبرة طويلة تغرزها في أذرع الناس، كنت أرى نفسي جالسة إلى البيانو أعزف الألحان، أغني وأرقص، أدبُّ بقدمي فوق الأرض حاملة فوق رأسي قرص الشمس مثل الإلهة إيزيس.

في آخر العام كان هناك الاحتفال الكبير، اختارتْني مس إيفون من بين البنات لألعب دور إيزيس فوق خشبة المسرح، حفظتُ الدور عن ظهر قلب، تَعزف مس إيفون على البيانو من وراء الستار، أنا واقفة داخل الفستان الحريري الطويل، أبيض اللون، الضوء الملائكي الإلهي، حول رأسي تاج على شكل قرص الشمس تُشعُّ منه ملايين النجوم، أغنِّي وأبكي على موت الإله أوزوريس، يبكي معي الجمهور الجالس في الفناء، منهم أبي وأمي وإخوتي وأخواتي وزميلاتي في المدرسة، ثُمَّ تحدُث المعجزة، الإلهة إيزيس تُلامس بيدها لجسد الميت، تدبُّ فيه الحياة من الجديد، أدب بقدمي فوق خشبة المسرح، أرفع رأسي عاليًا في السماء، أرقص على دقات البيانو أغنية النصر، يدب الجمهور الجالس في الفناء بأقدامه فوق الأرض، يَهتفون في نفس واحد: برافو إيزيس، يقذفوني بالورد، بالفل والياسمين، يبتسمون حين يَرونني أمشي في الشارع، يشاورون عليَّ: «إيزيس أهه!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤