أعظم الظرفاء

عبد الله النديم

اللهمَّ اكتبني عندك في أمِّ الكتاب إنجليزيًّا، فإن لم يكن يا ذا الْمَنِّ، فاكتبني عندك خواجا، فإن لم يكن يا ذا الإكرام، فاكتبني عندك خديويًّا … أو باش أغا … أو أغا!

وجدت نفسي في حيرة شديدة عندما بدأت أكتبُ قصةَ عبد الله النديم … فقصة الرجل ذائعةٌ ومعروفة، فهو من أحب زعماء الثورة العرابية إلى الناس … لأنه كان يمثِّل المصري الأصيل، صاحب الروح الخفيفة، والنكتة الحلوة … ثم إن عبد الله النديم أكثر من شخصية، وأكثر من رجل، حتى حياته نفسها كانت تختلف عن حياة الآخرين.

بداية حزينة

لقد بدأت حياته حزينة … فتح عينيه على الحياة ووالده النَّجار الفقير يخوض في بحار من الهمِّ ومن الحُزن.

كانت الحالة في مصر سيئةً للغاية … وحُثالة خواجات أوروبا يعبُرون البحار على بواخر متشردة، ليصبحوا بعد قليلٍ سادةً وأثرياء.

وفتح النديم عينيه على الحياة في المدينة التي هاجر إليها أبوه … مدينة الإسكندرية، ليرى كل شيء متناقضًا يثير السخرية ويثير الاشمئزاز، خواجات ينعمون بكل شيء، وفقراء يشاركون الدجاج «النَّبش» بحثًا عن الطعام.

والخواجات لا يهدءون لحظة عن النهب وعن السلب، والفقراء يتفرجون على الموكب دون ضجةٍ … لم تكن هناك مقاومة، فلم تكن في مصر هيئاتٌ، وليس فيها نقاباتٌ.

والمصريون جميعًا يعيشون فُرادى، كلٌّ منهم مشغول بالبحث عن طعامِ يومه.

هكذا كان الحال والنديم طفلٌ صغير يجوب أزقَّة حي كوم الدِّكة بالإسكندرية … وعندما دفعه أبوه إلى المدرسة لم يجد النديم فيها شيئًا يثيره … كانت المدرسة في نظره عدة مقاعد صماء، ومدرس عجوز يلقي على التلاميذ بكلمات ميتة، لا روحَ فيها ولا حياة … فهجرها هي الأخرى غير آسفٍ عليها ليدخل مدرسة أعظم وأرحب وأكثر ضجةً وأكثر حياة … هي مدرسة الحياة.

بين الأزقَّة والمقاهي

وفي المقاهي الصغيرة المنتشرة داخل أزقَّة أحياء الإسكندرية، وحول الميناء، وجد عبد الله النديم ضالته، حيث يأوي كلَّ مساءٍ عشراتٌ من الحمَّالين والسقَّائين، بل والنشَّالين، يشربون أقداح الشاي، ويُغرقون همومهم في دخان الكيوف … ثم يقضون ليلهم كلَّه في الضحك والسخرية بجميع عباد الله، وبالأوضاع المقلوبة التي تجعل من بعض الناس سادةً، ومن البعض الآخر عبيدًا لا يجدون ما يأكلون.

وكان النديم يحوم حول هذه المقاهي كالفراشة، يستمع أولَ الأمر إلى ما يقوله هؤلاء الناس المكدودون، ثم يشاركهم السُّخرية بعد ذلك بكل شيء … السخرية بهم وبالخواجات، وبنفسه إذا لزم الأمر … فإن اهتزاز الأوضاع في زمانه لم يترك في نفسه أثرًا لاحترام أحد.

أول مراتب الشُّهرة

واشتهر النديم في المقاهي المنتشرة في المدينة وما حولها … وطار صيته حتى لم تعد هناك نكتة جديدة إلا ويُنسب أمرها للنديم.

ولقد محا الزمن فيما محا نُكت النديم في ذلك العصر الأول من صِباه. ولم يبقَ منها سوى النَّزر اليسير، ولكنَّها تدل دلالةً قاطعة على أن النديم لم يكن محترفَ نكتةٍ لوجه النكتة فقط، بل كان يعني من ورائها أمورًا عظيمة، بل هي، إن شئت الدقة، كانت بداية الثورة في كل الأوضاع المهتزة.

نكتة سياسية

فمثلًا كان الخواجات في ذلك العصر فوق القانون … لم يكن يجرؤ أحد على سجن الخواجا أو حتى إدانته … وفي هذا الصدد قال النديم إنَّ خواجا وقف أمام القاضي فسأله: إنت قتلت الرجل ده يا خواجا؟

وردَّ الخواجا: لا يا خبيبي … هو «كتل روخه»!

وهتف القاضي منشرحًا: براءة.

وجاء دور أحد أبناء البلد، فسأله القاضي: إنت ضربت الراجل ده بالسكين؟

وردَّ ابن البلد في ضراعةٍ: لا والنبي يا سيدي القاضي.

وسأله القاضي من جديدٍ: أُمال يعني هو اللي ضرب نفسه؟

وأجاب ابن البلد: أيْوة يا سيدي.

وعاد القاضي يقول: غريبة … فيه حد يضرب نفسه … إنت اسمك أيه؟

ورَدَّ ابن البلد الذَّكي في سرعة: اسمي … مخمد خسين!

والمعنى واضح طبعًا ومفهوم … وهو يدلُّك إلى أي مدًى كانت نكتة النديم تحمل مضمونًا عظيمًا، لا يستطيع مقال طويل أن يُظهره بهذه الصورة الرائعة.

عامل تلغراف

المهم أن النديم الذي كان يُلقي بالنكتة صباح مساء كان لا يجِد ما يأكله … والنكتة لا تُطعم أحدًا، والشِّعر والزجل لا يُغْني من الجوع، فقرر أن يتعلم حِرفة، وأصبح النديم بعد قليل عامل تلغراف.

ثم تشاء الأقدار أن يُعيَّن النديم في سراي والدة باشا عامل تلغراف، وهكذا دخل النديم القصور … حيث الصمت الكئيب، والعادات المضحكة … والملابس المزركشة.

ولم يكن النديم على استعداد لأن يَقبل حياته الجديدة … صحيح أنه ضَمِن العيش المستقرَّ، ولكن مَن قال إن الرجل صاحب الرسالة يَنشد الاستقرار في العيش؟

الأغا … باشا

كان في القصر رجل اسمه أغا باشا … كان سيد القصر غير منازعٍ، والويل لمَن يغضب عليه، والسعادة لمَن يرضى عنه … وكان منظر الأغا يدعو إلى الضحك، كان طويلًا وبدينًا إلى حد الإفراط، وكرشه المستدير يبرز أمامه، كأنه أُلصق بالصدفة في هذا الجسم الضخم … كأنه جسم فيلٍ … و«حبكت» النكتة على النديم فأنشد في الرجل زجلًا ظريفًا … غاية في النكتة والسخرية:

شوف الأغا في النغنغا
زي التيران في المزرعة
لو كنت أنا صاحب الأغا
كنت اشتريتله بردعة

وسمع الأغا زجل النديم فأمر بطرده من القصر، وأمر أيضًا بأن يُضرب بالقباقيب حتى يُغمي عليه!

وهكذا خرج النديم من القصر والدماء تسيل من رأسه ومن أنفه … إلى غير رجعةٍ.

الضاحك الباكي

وعاد النديم إلى الحياة الواسعة العريضة يُضحك الناس ويُسلِّيهم ويضمن غذاءه … ولكنه يُضحكهم على واقعهم البائس المُر … على أحوالهم المريضة والأوضاع الكسيحة المحيطة بهم، ويشير في جرأة إلى الأعداء الذين يكبلون حرية الناس، ويعوقون تقدُّمهم … استمع إليه يقول: شاهد خفيرٌ لصًّا يهبط من نافذة ومعه ملابس، ويهتف الخفير في اللص: مين اللي هناك؟

– أنا خواجا.

– لا مؤاخذة … كنت أحسبك مصراوي.

هكذا كان النديم يهوي بلسانه كالمطارق الضخمة ليحطمَ كل أعداء الشعب، ليقول للناس أفيقوا أيُّها اللاهون عن ركب الحياة.

نُكتة تاجر الخردوات

وعاش النديم تلك الفترة يَنزل ضيفًا على العُمَد والأعيان يأكل عندهم، ويعقد في منازلهم حلقات السَّمر التي تستمرُّ عادةً حتى الصباح … وهو ينتقل من بلدة إلى أخرى وصيته يسبقه، ونُكَته تطير عبر الحقول إلى القرى والكفور، فيُضحِك الفلاحين على الخواجات وعلى المصريين أيضًا.

ثم يستقر به المقام في المنصورة … وله مهنة في يده هذه المرة … تاجر خردوات. ولكن تاجر الخردوات الذي يحب النكتة لا يستطيع أن ينجح في بيع الخردوات، فهو يسخر بالزبائن، ويسخر ببضاعته.

«واحد زبون عاوز يشتري فانلة بياقة.»

«واحد فلاح امبارح طلب مني عِمَّة صيفي.»

«واحد خواجة أسلم ولف شال على البُرنيطة.»

ويُفلس النديم، ويجلس في المساء أمام الدكان الذي أصبح خاويًا، ويشير إلى الجمع الذي يلتف حوله ويقول: تعرفوا، إن أحسن صنف ماشي في الخردوات إيه؟

ويصيح الجمع المحتشد: إيه؟

ويجيب النديم: اللبان.

وكانت عادة عند تجار الخردوات أيام زمان هي توزيع قِطع اللبان مجانًا على الزبائن … وكان النديم يوزع اللبان على كل مَن يلقاه.

مع الأفغاني

ثم تنشب الثورة … ولكن قبل نشوبها بزمنٍ قصير مرَّ على أرض مصر رجلٌ كالطيف، قويٌّ كأبطال الأساطير، حادٌّ كالسيف … اسمه «جمال الدين الأفغاني» وكان عبد الله النديم قد عرف الطريق إليه يستمع في اهتمام إلى ما يقوله هذا الرجل العجيب … عن الحرية، عن النضال، عن الكفاح، عن احتمال الأذى والموت في سبيل مبادئ عظيمة … ثم تختطف السلطة المذعورة الرجل العظيم لتُلقيَ به خارج الديار منفيًّا … ولكنه قد أدَّى الرسالة، ووضع بذور الثورة في قلوب الرجال الذين سيحملونها بعد ذلك، وكان منهم الظريف الأديب، عبد الله النديم.

الثَّورة

ولكن مَن كان يتصور أن الثورة ستجتاح أرض مصر كلها بعد ذلك بأعوام … وأن المصريين سيهبُّون بالهراوات والعصِي والبنادق القديمة القليلة التي لديهم ليطالبوا بالدستور والبرلمان وبخلع الخديوي الخائن … ومَن كان يظن كذلك أن هذا الضابط الفلاح الطويل القامة، المهيب المنظر سيهب على رأس فرقته ليُعطي للطغاة درسًا؟ ثم مَن كان يظن أن هذا الزجَّال الذي لا مهنةَ له، والذي فشل في الوظيفة وفشل في الدراسة، ونجح في النكتة، هذا المصري الأصيل، عبد الله النديم، مَن كان يظن أنه سوف يحمل على عاتقه أخطر وأشرف مهام الثورة، وهي مهمة إثارة الجماهير ودفعها دفعًا نحو الثورة؟!

اللعنة للمتفرج

ولكن هذا هو الذي حدث، فلم تكد الثورة تتحرك، حتى تحرك عبد الله النديم يخطب الناس في حماسٍ ويكتب المقالات ليعلِّمهم:

«أيُّها المصريون، لا حيَّاكم الله ولا نجَّاكم، ما دُمتم تعيشون كالسائمة؛ تأكلون من حشائش الأرض، وتُقبِّلون أياديكم المُشققة ظهرًا وبطنًا.»

«أيها المصريون، شمُّوا رائحة أجسامكم، إنها نتنةٌ قذرة والنيل يجري بينكم، استمعوا إلى صرخات أمعائكم، وواديكم يملؤه الخير، أنصتوا إلى صوت الله يلعنكم، مع أنكم حفظة كتابه وحملة رسالته.»

«أيها المصريون، لعن الله مَن يكره الحرية، لعن الله مَن تعفُّ نفسه عن أطايب الطعام، لعن الله مَن يكره الراحة، لعن الله مَن يقعد متفرجًا، لعن الله مَن لا يتبعنا.»

وتصيح الجماهير ثائرةً: تحيا الثورة، تحيا الثورة!

إذن … فهذه هي الثورة … والجماهير التي رآها النديم في صباه تشرب الشاي وتدخن الحشيش وتضحك من الأعماق، يراها الآن تحمل الفئوس وتطلق البارود وتهتف بحياة الثورة.

في الميدان

وتنشب المعارك التي تمنَّاها النديم طويلًا، ويسقط الكثيرون صرعى، ويراه أحدهم مرة يسير بين جُثث القتلى الإنجليز … فيسأله: ماذا تفعل عندك يا عبد الله؟

ويرد النديم على الفور: أتأكد من موت هؤلاء الناس، ليطمئن قلبي، فأنا أخشى أن يكون عزرائيل خواجا.

حتى في ساحة القتال، لا ينسى النديم النكتة!

سميحة الشتوي

ويتزوج أحد أصدقائه خلال الثورة بفتاةٍ زنجية من جنوب الوادي … ويسأل أحد الأصدقاء عن اسم الزوجة، فيقول النديم: أظنُّ اسمها سميحة.

ويستفسر الصديق: سميحة إيه؟

ويردُّ النديم: لازم سميحة «الشتوي».

وأخيرًا، تنتهي الثورة، ويستسلم عرابي وبقية رجال الثورة اضطرارًا … ولكن أين طويل اللسان، صاحب النكت التي آذت أُذن الخديوي طويلًا، أين هو هذا المخلوق لتنكل به السلطة كيفما تشاء؟

نديم يخلف النديم

كان قد هرب مع خادمة بعد أن تنكَّر في زي أحد المشايخ، وراح يجوب القرى ويعبُر الحقول فيتلقاه الأصدقاء بفرح شديد. أصبح النديم، اليماني، والمغربي، والزعيم الذي هز المنابر والقلوب، يقتحم الأسواق لينشد زجلًا أو يلقي بنكاته … ويضحك ويقول بعضهم لنفسه: رحم الله النديم، لقد أعاد هذا الرجل ذِكراه.

لم يدرِ أحد وقتئذٍ، أن هذا الشيخ الذي هرِم ويبس، هو عبد الله النديم نفسه.

يفاجئه رجل مرة فيسأله عن اسمه، فيجيب النديم على الفور دون وعي: أنا النديم … ثم يستدرك على الفور: أنا النديم الأُدَباتي، وأدبي أحسن م الحاتي … ويظنُّه الرجل مجنونًا فينصرف.

يعود للثورة

ثم يُقبض على النديم بعد أعوام طويلة، ثم يُنفى، ثم يعود، فيجد أن كل شيء قد عاد إلى مكانه؛ الخونة في كراسي الحكم، والوطنيون تدلَّوا من حبال المشانق، وبعضهم تأكله الحسرة في المنفى، فيهبُّ النديم من جديد، وقلمه في يده هذه المرة، ولسانه يسبق قلمه … وكانت ثورةً جديدة.

ويهبُّ الإنجليز ومن خلفهم الخديوي ليلقوا به خارج مصر، فإنه الرجل الذي بقي من زعماء الثورة العرابية، ولم تستطع الأحداث أن تُسكت لسانه.

ويخرج النديم إلى تركيا، وقد ترك خلفه دعاء على طريقة دعاء نصف شعبان والناس تقرؤه في المقاهي، وحول حلقات الدخان وهم يضحكون: اللهم يا ذا الْمَن، ولا تمني إلا البِشر والإسعاد … اللهمَّ اكتبني عندك في أُمِّ الكتاب، إنجليزيًّا، وإذا كان عسيرًا عليك يا ذا المَن، فاكتبني عندك خواجا، فإذا لم يكن مقدورًا يا ذا الإكرام، فاكتبني عندك خديويًّا، فإذا لم يكن هذا يسيرًا أيضًا، فاكتبني عندك باشا أغا، أو أغا، اللهمَّ لا تكتبني عندك مصريًّا، ولا فلاحًا، إنك سميع مجيب الدعاء يا رب العالمين.

وفي تركيا مرِض النديم، فقد أجهده النضال الطويل، وعذَّبه المنفى.

وراء نعشه

وتحركت جرثومة السُّل تنهش في صدره، وتنهش في كيانه، ولكنها لم تستطع أن تُسكت لسانه.

ومات النديم في الثامنة والخمسين من عمره، وخرج بعض الرجال الذين كانوا يعرفونه يُشيِّعون جنازته، وسأل رجل كان يمشي في الطريق: مَن الذي في النعش؟

وأجاب شيخ مُهدم عجوز كان يسير في المقدمة … وعَبرات تنحدر على خديه … اسمه جمال الدين الأفغاني: إنه عبد الله النديم.

ومطَّ الرجل السائل شفتيه … ولم يفهم شيئًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤