الأعمى المُبصر … ناجي

إبراهيم ناجي

شيء واحد كان يحسُّه ناجي بوضوح … هو وحدته، والوحشة التي كان يعانيها، والإخلاص الساذج الممزَّق الذي تتمسك به نفسه الشفافة الحانية.

عاش وإحدى عينيه مفتوحة على حقائق بشعة من الحياة، والعين الأخرى نصف مغلقة، تثقلها الأحلام.

هكذا وصف ناقد من معاصرينا الشاعر إبراهيم ناجي … والحقيقة تخالف رأي الناقد … فقد عاش ناجي وإحدى عينيه مغلقة، والأخرى نصف مفتوحة.

ومن خلال هذه الفتحة راح ناجي يرى حقائق مشوَّهة ليست واضحة، وبالعين المغلقة راح يحلم بعيدًا عن المجموع أحلامًا حاول أن يفرضها على الواقع … ولهذا السبب لم يلمع شِعره — رغم جدته وقوته — لأنه لم يدرك سر القوة التي تجعل من الواقع عالمًا أقوى وأجمل وأعذب من الأحلام … فناجي واحدٌ من الذين لم يكتشفوا سر انقلاب الأوضاع حتى بدت بشعةً رهيبة، فارتدوا مُنطَوين على يأس قاتل … ولكنهم أحيانًا كانوا ينطلقون، كلٌّ منهم بنفسه ثم يعود منفردًا كما انطلق … فلم يُتَح له ولا لغيره من أمثاله أن يشعروا بالقوة التي تمنحها الجماهير للذين يُعبِّرون عن إرادتها، فظل حياته كلها يجترُّ أحزانه، ويُغَني للحياة غناءً كأنه الأنين … بائسًا يائسًا يثير الرثاء.

ولكنَّ ناجي رغم ذلك لم يفقد أبدًا القدرة على الإبداع … وكان له فضل عظيم على شِعرنا المعاصر؛ فقد استطاع تحريره من أصفاد ثقيلة قعدت به عن تحقيق أهدافه زمنًا طويلًا … وفتح أمامه طريقًا واسعًا انتهى به على أكتاف شباب الجيل المعاصر إلى دنيا الجماهير، يخاطبها ببساطة ويترجم أمانيها في عذوبة، أو يدفع بعجلة الحياة في إصرارٍ إلى الأمام.

شيء واحد كان يحسُّه ناجي بوضوح … هو وحدته، والوحشة التي كان يعانيها، والإخلاص الساذج الممزَّق الذي تتمسك به نفسه الشفافة الحانية.

أرنو إلى الناس في جموعهم
أشقَتْهم الحادثات أم سعدوا

تصور، إنه لا يدري … وهو نفسه لا ينكر ذلك … فهو أعظم من غيره … إنه لا يدَّعي خبرته بالناس والحياة والسر كما قلت، إنه كان غريبًا عن دنيا الناس … لم يكن يحيا معهم ولا بينهم.

إني غريب تعالَ يا سَكَني
فليس لي في زحامهم أحد

طرف واحد

ومن أجل هذه الوحدة عاش ناجي طول حياته حائرًا لا يستقر على حال … ولعل هناك سببًا آخر، هو غرامُه العنيف الذي كان يعيش فيه ويعيش له … غير أنه — وهنا العقدة — كان غرامًا من طرف واحد … فقد كان هو وحده الذي يحب … أما الطرف الآخر، أو الأطراف الأخرى، فلم تكن تحسُّ بوجوده … وإن أحسَّت، فلم يكن هذا الإحساس يزيد عن كونه شاعرًا مشهورًا ورجلًا من الظرفاء.

والعقدة التي حولت كثيرين من أعلام الفن، أمثال لوتريك وكافكا، إلى هوة سحيقة من اليأس، هي نفسها التي أمدت ناجي بالأمل … وحلت عقدة لسانه فجعلته لاذعًا، ومن هنا أيضًا جاءت شهرته كواحد من الظرفاء.

فناجي الفنان كان ضئيلًا قصيرًا، غير متناسق الأعضاء، ولأنه لم يكن مؤمنًا بشيء على الإطلاق فقد سخر من كل شيء، وأثار السخرية على كل شيء … حتى على عمله وعلى نفسه.

روى مرةً أنه عاد مريضًا مشرفًا على الموت، فوصف له الدواء واشتراه من جيبه، ثم منحه جنيهًا وانصرف.

ومضت أيام طويلة حتى التقى بزوجة الرجل المريض، وكانت سعيدة مبتهجة، وسألها ناجي عن حالة زوجها فأجابت مسرورة: الحمد لله ربنا يخليك لنا يا دكتور … الجنيه بتاعك جِبنا به دكتور كويس، وربنا شفاه والحمد لله … ويضحك ناجي حتى يستلقي على قفاه.

كلب بوليسي

وخلال أيام الظلام، عندما فرض الطاغية فاروق على القاهرة أن تنام في السادسة من مساء كل يوم … كان ناجي يحمل تصريحًا يُخَوِّل له حق التجوُّل في أي وقت يشاء.

ثم ذات ليلة هاجم كلبٌ ضال ناجي أثناء سيره في الطريق، وعضَّه في ساقه فلزم الفراش، وراح ناجي يروي القصة لأصدقائه، قال: أنا ماشي الساعة واحدة، والكلب ماشي ورايا … أطرده ما فيش فايدة … أزوغ منه ألقاه ورايا … افتكرته في الأخر كلب بوليسي … ورحت مِطلَّع التصريح، وعلى طول يا أفندم وراح هاجم عليَّ وعاضضني.

ويضحك ناجي ويقول: ظهر أنه كلب جاهل ما بيعرفش يقرأ.

آجرني

ومرة خرج ناجي من عيادته بشبرا فشاهد جنازة يبدو من مظاهرها أنها لرجل فقير ووحيد أيضًا، فلم يكن خلف النعش سوى أربعة رجال يبدو أن الصدفة وحدها هي التي جمعتهم، وسار ناجي بدافع الشهامة مع المُشيِّعين، ثم خطرت له فكرة رائعة، لماذا لا يشترك في حمل النعش حتى يكسب ثوابًا … ونفَّذ الفكرة على الفور … يقول ناجي: ودخلت على الراجل اللي شايل من قُدام … وقلتله: آجرني (تعبير يقال في مثل هذه المناسبة) فراح مآجرني على طول زي ما يكون كان منتظرني … وشلت الخشبة يا أستاذ من شبرا لغاية شبرا البلد … والميت الله يرحمه كان تقيل … والدنيا حر … ولا واحد عاوز يآجرني … وصلنا شبرا البلد، حمدت ربنا لأن التُّرب هناك، لكن المصيبة الكبرى إن واحد من المشيعين لقيته بيسأل العسكري ببلاهة: وحياتك قليوب من أي ناحية؟

ويقول ناجي: وعندئذٍ سقطت فوق الأرض، والميت من فوقي وعندما أفقت لم أجد أحدًا … سوى الظلام.

شاعر ملكي

وكان — رحمه الله — يستقلُّ عَرَبة مع صديق له في طريقهما إلى الإسكندرية عبر الطريق الزراعي، وأوقفت العربة إحدى نُقط المرور لسبب ما … وأراد الصديق أن يدلل على أهمية صديقه لعسكري المرور، فقال له مشيرًا إلى ناجي: الدكتور إبراهيم ناجي الشاعر الكبير.

ونظر العسكري في بلاهة إلى الدكتور ناجي ثم قال متسائلًا: بتجول شاعر؟ … أُمَّال يعني لابس ملكي ليه؟!

إحراز قصيدة

وكان ناجي يضيق ضيقًا شديدًا بشاعر شاب ثقيل الظل يصر دائمًا على أن يُسمع ناجي قصائده التافهة … ولم يكن ناجي يجرؤ على جرح شعور هؤلاء الشبان الذين كانوا يتهافتون على صداقته … ولكنه لم يكن يخفي ضيقه بشاعرنا الثقيل … فقد كان يتبعه كظلِّه … ثم ظهر ناجي مرة وحيدًا وليس معه أحد … وأقبل عليه أصدقاؤه يهنئونه: مبروك، خير إن شاء الله، مات ولا ايه؟

وصمت ناجي قليلًا ثم قال: أبدًا، سمعت دلوقت أن البوليس قبض عليه.

– قبض عليه، ليه؟

– ضبطوا معاه قصيدة … ولو أنكر إنها بتاعته، أنا حشهد ضده.

بين الدكاترة

ونقده طه حسين نقدًا قاسيًا؛ فوصفه بأنه أديب بين الأطباء، طبيب بين الأدباء. وعلَّق المرحوم ناجي على هذا النقد القاسي بنكتة فقال: أنا من هنا ورايح حكون طول النهار مع «الدكتور» طه حسين و«الدكتور» طه بدوي … عشان أحس إني أديب … هو مش قال عليَّ إني أديب بين «الدكاترة».

لو جلس

وكان يحب الشاعر أبا نواس ويُفضِّله على كل الشعراء القدامى، وكان يقول: إن أبا نواس نقطة تطور في الطريق الذي لا يقف ولا يجمد — طريق الفن — ويستشهد ببيتين من شِعره ليدلل على عظمته … وفي هذين البيتين كان أبو نواس يسخر سخرية مرة من أصحاب المذهب الاتِّباعي في قرض الشِّعر … الذين يبدءون بذِكْر الأطلال والرسوم الدَّارسة، ويقضون الساعات الطوال وقوفًا يبكون على الذي كان.

قل لمَن يبكي على رسم درس
واقفًا ما ضر لو كان جلس

علي علي

وسأل شاعرٌ شابٌّ الدكتور ناجي عن رأيه في شعراء العصر الحديث … فأجاب: أعظمهم شوقي.

وسأل الشابُّ: مَن يأتي بعده؟

وفكر ناجي قليلًا ثم قال: يأتي بعده … علي علي.

وقال الشاب مستنكرًا: مين علي علي ده؟

وأجاب ناجي: والله ما عرف.

وهكذا عاش ناجي ساخرًا متفكهًا يجترُّ أحزانه في صمت … وإن كانت أحزانه قد طَبَعت شِعره … وحولته حتى أصبح رمزيًّا … يحلم بشيء لا يراه … وهكذا أيضًا غلب التشاؤم واليأس على نظرته للحياة … وكان يراها تافهة لا تستحق العناء. وكان يخشى الغد ويهابه؛ فلم يكن يدري أن الغد سيكون حتمًا من نصيب الجماهير … ولذلك لم يحاول أن يشترك في صُنع الغد … لأنه لم يكن يؤمن به.

إن غدًا هُوَّةٌ لناظرها
تكاد الظنون ترتعدُ
أُطِلُّ في عُمقِها أُسَائِلُهَا
أفيكِ أخفَى خيالَه الأبدُ

مش دكاترة

ومرِض طويلًا قبل وفاته … وحزَّ في نفسه أن المبلغ الذي ادَّخره طول حياته استنزفه الأطباء لعلاجه … علاجه هو، الأديب الطبيب الذي كان يفحص المريض ثم يشتري له الدواء والطعام، ثم يمده بشيء من المال إن استطاع، وعندما شُفي من مرضه قال ضاحكًا: كل ما اجيب واحد دكتور ياخد فلوس فلوس … اللي ما لقيت واحد رفض … يكونش احنا مش دكاترة.

النهاية

وعندما مات كان في عيادته يمارس عمله … وفجأة سقط على الأرض يتلوَّى من الألم … وقبل أن يسعفوه كان قد مات … وذهب الشاعر الأديب الظريف إبراهيم ناجي. الرجل الذي قضى حياته كلها، وإحدى عينيه مغلقة والأخرى نصف مفتوحة، حتى مات، فقدِّر له أن يُغلقهما … ولن يستطيع فتحهما بعد ذلك أبدًا … فقد ترك من خلفه شِعرًا مثل عينيه، لا يكاد يكشف ما في دنيا الناس من أوضاع خاطئة … إلا قليلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤