الفصل الحادي عشر

ساعة مع الحطيئة١

أَقْبَلَ عليَّ صاحبي جذلان فرحًا شديد النشاط، وهو يَقُولُ: أَمَّا أنا فلستُ أعدل بالحطيئة أحدًا، ولا بشعره شعرًا، ولا بحديثه حديثًا، فأنا مفتون بهذا الرجل، وبما يُروى له من الشعر، وبما يتصل حوله من الحديث.

قلتُ: لست أحسدك على هذه الفتنة، فما أراك قد فتنت بخير؛ لئن كان شعر الحطيئة جيدًا رائعًا، من أجود ما قال العرب وأروعه، فما كان الحطيئة ولا حديثه خليقين أن يفتنا أحدًا من أصحاب الجد.

قال وهو يضحك: فمن زعم لك أني من أصحاب الجد؟ أَوَلستَ أَنْتَ وأَمْثَالكَ من الذين يتجهمون للحياة والأحياءِ خَليقين أنْ تَمْلَئُوا الأَرْضَ جدًّا بعد أن مُلِئَتْ دُعابة وهزلًا؟ أوليس لي ولأمثالي من الذين يحبون الابتسام، ولا يقطبون جباههم لما تقبل به الأيام من الأمر، أنْ نَرْضى إذا سخطتم، ونبسم إذا عبستم، ونستقبل الحياة مُبْتَهِجين إذا استقبلتموها أنتُم مُكتئبين؟ ومن زَعَمَ لَكَ أنَّ حُبَّ الحُطيئة والافتتان به مظهر من مظاهر الهزل، أو دليل على الانصراف عن الجد!

قلتُ: فإني لم أزعم ذلك، وإنما زعمتُ أن الحطيئة لم يكن صاحب خير وبر ووفاء، فالكَلَفُ به والانصراف إليه كلف بالشر وانصراف إلى من لا يستحق أن يعنى به إلا العلماء الذين يدرسون ويكشفون، وقد عرفتك تكره الدرس والكشف، ولا تُحب أن تُلِمَّ إلا بما يلهيك ويسليك.

قال: فإن الحطيئة يلهيني ويسليني، ويُحَبِّب إليَّ القراءة في كتب القدماء، والتفكير فيما تركوا من الآثار، وأنا أزعم أن حديث الحُطيئة لا يُثير ضحكًا ولا ابتسامًا، وإنَّما يُثير في النَّفْسِ رِثاءً وَإِشْفَاقًا؛ فقد كانَ الحُطيئة في رأيي بَائسًا كَأَشَدِّ ما يكونُ البُؤس، مَحزونًا كألذع ما يكون الحُزن، مُكتئبًا كأقوى ما يكون الاكتئاب.

ولو قد استقامت الأُمور للحُطيئة، كما كانَتْ تُحب طبيعته أن تستقيم، لكان خليقًا أن يكون له شأن آخر.

قلتُ ضاحكًا: وكيف كان ذلك؟ قال مُبالغًا في الضحك: زعموا أنَّ ما أدركه الحطيئة من تطور الحياة العربية قد أفسد عليه أمره الخاص، وإن كان قد أصلح للعرب أمرهم العام؛ فإني أرى الحطيئة شابًّا ذكيًّا قوي العقل، حاد اللسان، قد اتصل بزُهير، وأَخَذَ يَخْتَلِفُ إليه مع ابنه كعب فيسمع منه، ويحفظ عنه، ويَرْوي شعره في الأندية والمجالس، ويحاول تقليده فيبلغ من ذلك ما يريد، ويظفر منه بما كان يظفر به كعب، ويرضى الأستاذ عن تلميذيه أو عن تلاميذه، ويجتهد في تأديبهم، وأخذهم بما كان يأخذ به نفسه من إتمام الشعر، وتجويده والعناية به جُمْلة وتفصيلًا.

قلتُ: وكيف تكون العِنَايَةُ به جُمْلَة وتَفْصِيلًا؟ قالَ: لَا تَقْطَع عليَّ حديثي؛ فإنَّ العِنَاية به جُملة هي العناية بالقصيدة من حيث هي قصيدة، والعناية به تفصيلًا هي العناية بالبيت، بل بالشطر، بل بالكلمة في البيت أو في الشطر، والعناية بالمعنى من المعاني يطرقه الشاعر، فلا يَدعه حتى يُحققه ويستوفيه، ولكنك قد ألهيتني، أو كدت تُلهيني بهذه المُقاطعة عما كنت آخذًا فيه؛ فإني أرى الحُطيئة كما قلت مُتَّصلًا بزُهير، يتعلم عليه الشعر، رواية وإنشاء، ويرى أن يكون مثله الأعلى في حياته كمثل أستاذه الذي كان الناس يعظمونه، ويكبرون من شأنه.

قصاراه أنْ يَتَّصِلَ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الأَشْرَاف يختصهم بالمدح والثناء، ويختصونه بالمنح والعطاء، وقد نعم زُهير حين اتصل بهرم بن سنان والحارث بن عوف المُرِّيين، وحصن بن حذيفة بن بدر وأمثالهم من سراة غطفان، فما يمنعه هو أن يتصل بجيل ناشئ من الأشراف، كما اتصل أستاذه بهذا الجيل الفاني.

وأكبر الظن أنَّ كَعْبًا كانَ كَزَمِيله الحطيئة، قد اتخذ أباه زُهيرًا مثلًا أعلى له في الشعر، وفي الحياة اليومية أيضًا، ونَحْنُ نَقْرَأُ في أخبار الحطيئة أنه كان يُصاحب كعبًا في الاختلاف إلى زُهير، وكان يُصَاحِبُه في الصيد واللهو، وكان يتعاون معه على قول الشعر، والإشادة بهذه المدرسة الشعرية التي أسسها أوس، ورَفَعَ أمرها زُهير، وكان يُرِيدُ أنْ يفرض هذه المدرسة على البيئة التي كان يعيش فيها فرضًا؛ فهو يستعين بكعب على ذلك، ويحمله على أن يقول الشعر يفضل فيه نفسه، ويفضل فيه الحطيئة، ويزعم لنفسه وللحطيئة التفوق في الإجادة والانفراد بالإتقان، ويضطر أخا الشماخ إلى أن يرد عليه فيقذع في الرد.

وقد أخذت أمور الحطيئة، فيما يظهر من الأخبار القليلة المُفَرَّقة التي بَقِيتْ لنا، تَجْرِي على ما كان يُحب؛ فهو قد اتصل بعلقمة بن عُلاثة الكلابي، وكان رجلًا من أشراف العرب وعظمائهم، وكانت مضاربه نحو الشام، وهمَّ الحطيئة أن ينقطع له، وأن يظفر منه بمثل ما ظفر به زُهير من أصحابه؛ فهو قد دافع عنه، وأحسنَ الإِشَادَة به، حين كانَتْ الخُصومة بينه وبين عامر بن الطفيل، ولكِنَّ أُمور العرب تتغير فجاءة، فإذا سُلطان قريش يندك، وإذا التوازن بين القبائل العربية في نجد والحجاز يَخْتَلُّ، وإذا وقعة حنين تحطم آخر مقاومة للعرب الجاهليين، وإذا كلمة الإسلام هي العليا، وإذا أشراف العرب وصعاليكهم وأوساطهم مصروفون عن هذه الحياة الجاهلية التي كانوا فيها، إلى هذه الحياة الجديدة التي كان الإسلام يدعوهم إليها دعاء، فأصبح يدفعهم إليها دفعًا، وإذا أنظار هؤلاء العرب على اختلافهم لا تتجه نحو العراق، حين كان ذلك السُّلطان العربي يضطرب في ظل الفرس، ولا تتجه نحو الشام حين كان ذلك السلطان العربي يضطرم في ظل الروم، ولا تتجه إلى مكة حين كانت قوة قريش وثروتها وقيامها دون البيت، وإنما تتجه نحو المدينة حين كان هذا السلطان الجديد ينهض في قوة وأيد، وفي بأس وسماحة أيضًا.

وحين كانت المُثُل العُليا الجديدة قد استقرت، وأخذت تبسط سُلْطَانَهَا على النفوس والقلوب، كما أخذت تبسط سلطانها على الأجسام أيضًا، فَأَمَّا كثرة النَّاس؛ فقد دخلوا في هذا الأمر أفواجًا، وأقبلوا على النَّبي يُسلمون أو يُؤمنون؛ وأمَّا أقلُّ النَّاس فقد أبوا وامتنعوا، ومنهم من أقام حيث هو، ومنهم من تفرق في الأرض، يهرب بحياته الجاهلية الغليظة التي كان يؤثرها من هذه الحياة الجديدة اللينة السَّمحة التي كان ينفر منها أَشَدَّ النُّفور!

وما أَرَى إلَّا أَنَّ كَعْبًا قد كانَ كَالحُطيئة، نَافِرًا مِنَ الحَيَاة الجديدة، مُنصرفًا عنها، مُتأذيًا بها، حَريصًا على حياته الأولى تلك، وعلى ما كان فيها من لهوٍ ومتاع وحُرية لا تحد، وما أظنُّ إلا أنه كان خليقًا أن تصيبه مثل ما أصاب الحطيئة، لولا أنَّه كان أرفع من الحطيئة شأنًا، وأنبه منه ذِكْرًا، وأظهر منه مكانًا، وأعجز منه عن الهرب والاستخفاء، فاضطر إلى أن يذهب إلى المدينة، ويلجأ إلى النبي ويعتذر مما قدَّم، ومنَّ الله عليه بالهدى، فثاب إليه ولزمه، ولم ينحرف عنه.

فأمَّا الحطيئة؛ فقد كان خامل الذِّكْرِ، لم يكن ابن زُهير، بل لم يكن معروف النَّسب، وإنما كان يضطرب بنفسه ونسبه بين القبائل؛ فهو مُضري حينًا، وربعي حينًا آخر، فكان هربه يسيرًا، وكان استخفاؤه هينًا. وأكبرُ الظنِّ أنه لم يحتج إلى الهرب، وإلى استخفاء، وإنما ظل كما كان لم يحفل به أحد.

والرُّواة كما نعلم مختلفون: فمنهم من يزعم أنه أسلم أيام النبي ووفد عليه، ثم ارتد مع المُرتدين أيام أبي بكر، ثم تاب مع التائبين بعد ذلك، ومنهم من يزعم أنه لم يسلم أيام النبي، وإنَّما ظلَّ على شِرْكِهِ وجَاهِلِيَّتِهِ، حتى كانت الرِّدَّة، فاشترك في مُقاومة المُرْتَدِّين للإسلام، اشترك بلسانه حين قال هذا الشعر الذي حفظ منه الرواة هذين البيتين:

أَطَعْنَا رَسُولَ اللهِ إِذْ كانَ بَيْننَا
فَيا لَهْفَتى ما بَالُ دِين أَبي بَكر
أَيُورِثُها بَكْرًا إِذا ماتَ بَعْدَه
فَتِلْكَ وَبَيْتِ اللهِ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ

ومهما يكن من شيء؛ فقد كان الحطيئة أخمل ذكرًا، وأهون شأنًا، من أن يظهر له خطر في الإسلام أيام النبي، ولكنه اضطر حين انهزم المرتدون إلى أن يذعن لما أذعنت له العرب، ويدخل فيما دخل فيه الناس، فاتخذ لنفسه من الإسلام رداء، لم يشك الرُّواة في أنه كان رقيقًا جدًّا يشف عما تحته من حب الجاهلية وإيثارها والحزن الشديد عليها، رداء لم يحمد الله عليه كما حمد لبيد حيث يقول:

الْحَمْدُ لِلهِ إِنْ لَمْ يَأْتِنِي أَجلِي
حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلامِ سِرْبالا

وأكاد أعتقد أنَّ الحطيئة لم يكد يظهر الإذعان والطاعة والدخول في دين الله حتى حدثته نفسه أن ينفض هذا كله، وأنْ يهرب إلى حيث يستطيع أن يعيش عيشته تلك التي كان يحبها ويهواها، فالرُّواة يُحَدِّثُوننا بأنَّه قصد إلى علقمة بن علاثة، ذلك الذي اتصل به في الجاهلية، ولم يكن ولاء علقمة للإسلام ظاهرًا ولا صادقًا ولا مقطوعًا به، ومن الرُّواة من يزعم أنه لم يُسلم، أو أنه أعان الروم على المسلمين.

على أنَّ الحطيئة لم يكن موفقًا؛ فقد اصطلحت الظروف كلها على أن تمكر به وتناله بما لا يحب. فلم يكد علقمة حتى بلغه أنه قد مات، فعاد محزونًا أسفًا، وقال قصيدته المشهورة التي يقول فيها:

وما كانَ بَيْنِي لَوْ لَقِيتُك سَالِمًا
وَبَيْنَ الغِنى إِلَّا لَيالٍ قَلائِلُ

ونظر الحطيئة بعد موت علقمة؛ فإذا هو وحيد أو كالوحيد في هذه البيئة العربية التي كان يُحبها ويهواها، ويتخذ لنفسه فيها آمالًا عراضًا من الثراء، وارتفاع الشأن، وبُعْد الصوت، وخفض العيش، ولين الحياة، يَرَى الناس من حوله قد تركوا كل ما كانوا عليه أو أكثر ما كانوا عليه، فأمَّا شَبَابُهم؛ فقد تحولوا إلى المدينة، أو أقاموا حيثُ كانوا، ولكن قلوبهم تحولت إلى المدينة حيث الدين، وحيثُ السلطان والقوة.

نظر الحطيئة فرأى كل شيء من حوله قد تغير إلا نفسه، فإنَّها ظلَّتْ كما كانت شديدة الحنين إلى العهد القديم، شديدة الامتناع على العهد الجديد، مُحتاجة مع هذا إلى أنْ تعيش، وإلى أن تعيش عيشة خمول وخمود، فالناس مُنْصَرفون عنِ الشِّعر، وأشراف العرب منصرفون عما كانوا فيه أيام زُهير من هذه الحروب والخصومات التي كانت تُطْلِقُ لسان زهير بما كان ينفعه من المدح والهجاء.

نعم، نظر الحطيئة، فإذا هو غريب في وطنه، خليعٌ أو كالخليع في داره، مُضطر إلى أنْ يلتمس الحياة والسؤال، يحملها من مكان إلى مكان، ومن حي إلى حي، ومن رجلٍ شَرِيفٍ إلى رَجُلٍ شَرِيفٍ، وإني لأراه، وقد وفد على المَدِينة يَلْتَمِسُ الرِّزق، وجمعت له قريش من العطاء، فإذا هو يقوم في المسجد ويدعو، من يحملني على بغلين؟ وإني لأراه كذلك، وقد خرج مع امرأته أمامة وابنته مليكة، ومعه أجمال له، فلمَّا أدركته القائِلَةُ نزل بمستراح وسرح أجماله، ثم يقوم للرواح، فإذا هو يفتقد جملًا من أجماله فيأخذ منه الحزن كل مأخذ، ويقول هذين البيتين:

أَذِئْب القَفْزِ أَمْ ذِئْبٌ أَنِيس
أَصابَ البَكْرَ أَمْ حَدَثُ اللَّيالي
وَنَحْنُ ثَلاثَةٌ وَثَلاثُ ذَوْدٍ
لَقَدْ جارَ الزَّمانُ على عِيالِي

فأين حياته هذه التي يملؤها البؤس واليأس، من حياته تلك التي كان يملؤها الأمل والرَّجاء حين كان يختلف إلى زُهير، ويشاركُ كعبًا في اللهو والصيد، ويحاول أن يتصل بعلقمة بن علاثة، أو بعيينة بن حصن، أو بزيد الخيل، وقد أسره ومنَّ عليه، أين حياته هذه البائسة اليائسة، من حياته تلك التي لم تكن تخلو من نعيم ومرح، والتي كان يملؤها الانتظار لما ستشرق عنه شمس الغد من ارتفاع الشأن وحسن الثراء.

على أن بأس الحطيئة وحزنه لم يكونا فيما أرى مقصورين على حياته المادية، بل كَانَا يَأْتِيَانِهِ مِنْ ناحيتين أخريين: كانا يأتيانه من دخيلة نفسه التي لم تطمئن إلى الدين الجديد، ولم تُؤمن به فيما يظهر إلا تكلفًا ورياء، واتقاء للسيف الذي لم يكن للعربي إلا أن يختار بينه وبين الإسلام، فنفس الحطيئة لم تكن ساخطة على حياته المادية وحدها، بل كانت ساخطة على حياته المعنوية أيضًا، كانت ساخطة على هذه الحياة التي حالت بين عواطفه الجاهلية، وبين أن تظهر وتنمو وتُؤْتِي ثمرها كما كان يُحب أن تؤتيه، وتذوق لذات الحياة وآلامها كما كان يحب أن يذوقها.

والنَّاحية الأُخرى هي ناحية جسمه؛ فقد كان الحطيئة قصيرًا جدًّا، قريبًا من الأرض، ولهذا سُمِّي الحطيئة كما يقول الرواة، وكان دميمًا قبيح المنظر مشوه الخلق، لا تأخذه العين، ولا تطمئن إليه، فكان منظره بشعًا، وكان من غير شك يحس اقتحام الأعين له، ونُبُوَّها عنه، فيسوءه ذلك ويؤذيه، أضف إلى هذا كله أنه لم يكن مستقر النسب، وإنما كان مدخولًا مضطربًا، ينتسب هنا وينتسب هناك، وكان العرب يعرفون منه ذلك ويذكرونه به، ويزدرونه من أجله، فكان الحطيئة مُهاجَمًا من جميع نواحيه، مُضطرًّا إلى أن يُدافع عن نفسه من جميع نواحيه أيضًا، كان سيئ الدين، فكان محتاجًا إلى أن يتقي عواقب سوء الدين. كان سيئ الحال، فكان مُحتاجًا إلى أن يرد عن نفسه عوادي الفقر والبؤس والإعدام، كان مشوه الخلق، فكان مضطرًّا إلى أن يحمي نفسه من السخرية والاستهزاء، وكان كل شيء يُقوي في نفسه سوء الظن بالناس، وقبح الرأي فيهم، وكان ابتلاؤه للناس يزيده إسراعًا إلى ذلك وإمعانًا فيه، فأصْبَحَ الحطيئة شيئًا مخوفًا مهيبًا يكره منظره، ويتقى لسانه، ويشترى الأعراض منه بالأموال.

ولأمر مَا تحدث الرُّواة بأن عمر بن الخطاب اشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، وقصة الحطيئة مع عمر رائعة حقًّا، تملأ النفس حُزنًا وأسى، وتملؤها إعجابًا بهذا الخليفة القوي الرحيم معًا، وتملؤها إعجابًا بالحطيئة أيضًا، فأما عمر فقد ارتفع إليه هجاء الحطيئة للزبرقان بن بدر بالقصيدة المشهورة التي يقول فيها:

دَعِ المَكارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِها
وَاقْعُدْ فإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعمُ الْكاسِي

فأظهر أنه لا يرى في هذا البيت شيئًا، وليس من شك في أنه كان يرى في البيت شيئًا، ومن ذا الذي يرتاب في فهم عمر للشعر وعلمه بأسراره ودخائله؟ وهو أذكي قريش قلبًا، وأنفذهم بصيرة، وأشدهم دقة حس، ورقة شعور، وهو الذي كان يُحب زُهيرًا ويقدمه على الشعراء لأسبابٍ فنية خالصة، ولكن عمر كان يريد أن يدرأ العقوبة بالشبهة، وأن يتجاوز للشاعر عن هذه الهفوة التي لا يتحرج منها الشعراء، وألا يعاقب على هذه القصيدة التي يقول فيها الحطيئة أصدق بيت قالته العرب في رأي أبو عمرو بن العلاء:

منْ يفعَل الخَيْرَ لا يَعْدم جوازِيهُ
لَا يَذهَبُ الْعُرْفُ بَيْن اللهِ وَالناس

وكان الزبرقان شاعرًا، ولم يكن حسان بعيدًا عن عمر، فلمَّا سَأَلَهُ لم يُنكر أن في البيت هجاء، وهجاء قبيحًا، فاضطر عُمَرُ إلى أنْ يُعَاقِبَ الحُطيئة، ومن الرُّواة من زَعَمَ أنَّه هَمَّ بِقَطْعِ لِسَانِهِ؛ ولكن هذا كذب من غير شك؛ فليس قطع اللسان من العقوبات التي أذن الله بها للخلفاء، وعمر أتقى لله، وأحرص على دينه من أن يتجاوز الحدود، إنما اكتفى عمر بحبس الحطيئة، ولو وسعه ألا يفعل لما فعل، ولكن العدل كان يقتضيه إرضاء الزبرقان، وقد استعطف الحطيئة عمر من سجنه بهذه الأبيات المشهورة، فعطف عليه، ورقَّ له، ويُقالُ: إنه بكى لما سمعها، ثم أطلق الشاعر، وأعطاه ما يمنعه من الهجاء.

ولستُ أدري أكان الحطيئة صادق اللهجة والعَاطفة في هذه الأَبْيَاتِ التي وجهها إلى قَلْبِ عُمَر! ولكن الشيء الذي لا شَكَّ فيه، أنَّه عَرَفَ كَيْفَ يبلغ قلب هذا الرجل العظيم، ويترك فيه أعظم الأثر وأبقاه، فاسمع هذه الأبيات فسترى أنها لم تفقد جمالها، ولن تفقده مهما تتغير الظروف وتتعاقب الأيام:

ماذا تقولُ لأَفرَاخٍ بِذِي مَرَخٍ
زُغْبِ الْحَواصِلِ لا ماءٌ ولا شَجَرُ
أَلْقَيْتَ كاسبَهْم في قَعرِ مُظْلمَةٍ
فاغْفرْ عَليكَ سَلامُ اللهِ يا عُمَرُ
أَنْت الْإِمامُ الذِي مِنْ بَعْدِ صاحِبِهِ
أَلْقَى إِلَيْهِ مَقالِيدَ النُّهَى الْبَشَرُ
ما آثَروكَ بِها إِذْ قدَّمُوكَ لَها
لَكِنْ لأَنْفُسِهمْ كَانَتْ بِكَ الإِثَرُ

وأما الحطيئة نفسه فهو خليق بالإعجاب حقًّا إذا تبينا موقفه مع الزبرقان بشيءٍ من الإنصاف؛ فهو قد اطمأن إلى الزبرقان حين عرض عليه جواره، وما فِيهِ مِنْ أَمْنٍ ولبن وتمر، وهو قد سبقه إلى أرضه ونزل ضيفًا على امرأته، وأقام وقتًا غير قصير يَنْتَظِرُ عَوْدَتَه، ويلقى من امرأة الزِّبرقان جودًا مدخولًا إلى حدٍّ ما؛ لأنَّها كانت تَجْهَلُ مكانه، أو لأنها كانت تغار من ابنته مليكة، أو لشيء آخر.

وكان خصوم الزبرقان من أبناء عَمِّه يغرون الحطيئة ويرغبونه، ويُلحون عليه بالإغراء والترغيب، والحطيئة يأبى عليهم، ولا يريد أن يأخذ الزبرقان بتقصير امرأته وجهلها، حتى إذا طال إهمالُ امرأة الزبرقان له، وإعراضها عنه، تحول إلى هؤلاء الذين كانوا يُغرونه، فتلقوه أحسن لقاء، ومنحوه فوق ما كان ينتظر، وانتظروا منه هجاء الزبرقان فلم يفعل، ودعوه إلى ذلك فلم يفعل، وألحوا عليه، وزادوا في إكرامه فلم يفعل، ولكنَّ الزبرقان جرَّ على نفسِهِ الشَّرَّ، فأغرى بأبناء عمه من هجاهم، واضطر الحطيئة إلى أن يدافع عن هؤلاء الذين أكرموه وأغنوه، فكان في دفاعه ما أغضب الزبرقان، وانتهى بالحطيئة إلى سجن عمر.

أترى إلى هذا الرجل كيف وَفَّى لصاحبه، واحتمل إعراض امرأته! وكيف وَفَّى لصاحبه بعد أن تَحَوَّل عنه، ولم يَهْجُه إلا كَارِهًا! على أنَّه لم يُسْرِف في هِجَائِهِ، وإنَّما غَاظَهُ وأحفظه حين أغرق في مدح خصومه وتفضيلهم عليه.

لا غرابة إذن في أنْ يكون الحطيئة شيئًا مخوفًا مرهوبًا، ما دامتْ ظُروف الحياة قد اضطرته إلى ما رأينا من سوء الحال. ولا غرابة في أن تشيع عنه الشائعات، وتكثر من حوله الأساطير، ويُصوره الرُّواة في هذه الصورة البَشِعَة التي نَجِدُها في الأغاني وفي طبقات الشعراء لابن قتيبة وفي طبقات الشعراء لابن سلام.

ولستُ أستبعد أن تكون ظروف الحياة هذه قد غيرت نفس الحُطيئة تغييرًا، فجعلته كما يقولُ الرُّواة جشعًا سَئُولًا مُلْحِفًا في السُّؤال، طويل اللسان، مُسرفًا في الاعتداء على الناس، ولكنْ لَا إِلَى الحَدِّ الذي صَوَّرَهُ الرُّواة، فهم يَزْعُمون أنه هجا أمه وأخاه وأباه، وانتهى به الأمر إلى هجاء نفسه، وهم يَروون له في ذلك كله شعرًا، وليس مِنْ شَكٍّ عندي، في أنَّ المُبالغة قد أثرت في هذه الأحاديث آثارها، ولكنها على كل حال تعطي من الحطيئة صورة كان القدماء ينفرون منها أشد النفور، ولكني أعطف عليها أشد العطف، فهي لا تدل إلا على أن الحطيئة كان بائسًا شقيًّا، غريبًا في هذا الطور الجديد من أطوار الحياة العربية، كأنما ارتحل العصر الجاهلي ونسيه وحيدًا في العصر الإسلامي؛ فهو ضائع الرشد، ضائع الصواب، قد فقد محوره، إن صح هذا التعبير. ولي على هذا دليلان؛ أَحَدُهما: أَنَّ أَكْثَرَ ما يُروى عن الحطيئة من النوادر وغريب الأحاديث إِنَّما يُروى عنه في الإسلام لا في العصر الجاهلي، فما بقي لنا من أخباره في العصر الجاهلي لا يُصَوِّره شاذًّا ولا غريبًا ولا مُضطرب النفس، إنما اضطربت نفسه في الإسلام؛ لأنَّ سَمَاحَة هذا الدين لم تمس قلبه الجاهلي العريق في جاهليته.

والآخر: أن أكثر ما يُروى من النوادر عن الحطيئة، لو حاولنا تأريخه، يكاد يرجع إلى أيام عمر وأوائل أيام عثمان؛ أي إلى هذا العصر الإسلامي الخالص، الذي سَيْطَرَ النِّظَامُ الإِسْلَامِيُّ الدقيق فيه على حياة العرب من جميع وجوهها.

فَلَمَّا تَقَدَّمَتْ أَيَّامُ عثمان، وأقبلت أيام معاوية، وظهر من سادة قريش وشبابها من عادوا إلى شيءٍ من حياة فيها غير قليل من بقايا الحياة الجاهلية، اطمأنت نفس الحطيئة بعض الشيء، ولعلها ابتسمت للحياة قليلًا؛ فقد اتصل الحطيئة بالوليد بن عقبة بن أبي معيط، عامل عثمان على الكوفة، وكان الوليد سيدًا من سادات قريش، لم تكد الفرصة تمكنه حتى استأنف حياة أقلَّ ما توصف به أنها لم تُرْضِ المُسْلِمِينَ، وأَنَّهَا حملت عثمان على عزله عن الكوفة، بل على أنْ يُقِيمَ عليه حد الشراب، فما تحدث الرُّواة.

اتصل الحطيئة بالوليد فمَدَحه، وما زلت أذكر حديثَ الوليد هذا مع لبيد، فلما عُزِلَ الوليد، كان الحطيئة أسرع الناس إلى مدحه ومواساته والثناء عليه، في هذه الأبيات التي عبثت بها الشيعة فيما بعد، فبدلتها تبديلًا، وصرَّفَتْهَا عن موضعها.

واسمع هذه الأبيات، فسترى فيها وفاء الحطيئة للوليد، وسترى فيها أيضًا صورة للمثل الأعلى عند الحطيئة للرجل الكريم:

شَهِدَ الْحطيْئةَ حِينَ يَلْقَى ربَّهُ
أَنَّ الْولِيدَ أَحَقُّ بالْعُذْر
خَلعُوا عِنَانَكَ إِذ جَرَيْتَ وَلَوْ
تَرَكُوا عِنَانَكَ لَمْ تَزَلْ تَجْرِي
وَرَأَوْا شَمائِلَ ماجد متَبَرعٍ
يُعْطِي عَلَى المَيْسُورِ والْعُسْرِ
فنُزِعْتَ مَكْذوبًا عَلَيْكَ وَلَمْ
تُرْدَدْ إلى عَوَزِ ولا فَقرِ

ويقول المُفَضَّل الضبي، فيما يروي ابن الشجري، إن من الرُّواة من يروي هذه الأبيات على نحوٍ آخر، وهو عندي وعندك، فيما أذكر، من تجني الشيعة على الحطيئة والوليد أيضًا، وهذه هي الرواية الأخرى:

شهدَ الْحُطَيْئَةُ حِينَ يلْقَى رَبَّهُ
أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بالْغدْرِ
نَادَى وَقَدْ كَمُلَتْ صَلاتُهُمُ
أَأَزِيدُكمْ ثَملًا وما يَدرِي
لِيَزِيدَهُمْ خيْرًا وَلوْ فَعَلوا
لَقَرَنْتَ بَيْن الشَّفْعِ والْوَتْرِ
فَأَبَوْا أَبَا وَهْبٍ ولَوْ فَعَلوا
زادَتْ صَلاتُهُمُ عَلَى العَشْرِ
كَفوا عنانَكَ إِذْ جَريْت ولَوْ
خلَّوْا عِنانَكَ لَمْ تَزَلْ تَجْرِي

فليس من شك عندك ولا عندي في أنَّ الرِّوَايَةَ الأولى هي الصادقة، وفي أنها تُمَثِّل حُزْنَ الحطيئة لما أصاب الوليد.

على أنَّا نَرَى الحطيئة رَاضيًا بعضَ الرِّضَا أو كُلَّه، حين تَقَدَّمَتْ به السِّنُّ، ودنت به الأيام إلى القبر، نراه عند سعيد بن العاص والي مُعاوية على المدينة، وهو كالوليد بن عقبة سيد من سادات قريش، قد اتخذ لنفسه ولمن يلوذ به من الناس حياة فيها كثير من المحافظة التي تذكر بعادات الجاهليين، ومن التجديد الذي كانت تقتضيه سُنَنُ الإِسْلَامِ؛ فهو كريمٌ يُطعم الناس، ويشهد عشاءهم بنفسه، ونحنُ نَرَى الحطيئة عنده في ليلةٍ من هذه الليالي التي كان يعشي فيها الناس، وهو يتحدث بأيام العرب وأخبارها وأشعارها، يُسمر بذلك ويجد في السمر به لذة، إليه يلجأ الفرزدق حين يريد زيادٌ أَنْ يُعَاقِبَهُ لاحتفاظه بِعَادَاتِ الجَاهِلِيَّةِ ولِإِسْرَافِهِ في الهِجَاء، وإليه يقصد الحطيئة نفسه ويمدحه بهذه الأبيات التي تُصَوِّرُ شاعرًا جاهليًّا حقًّا، يمدح شريفًا من أشراف الجاهلية، لا عظيمًا من عُظماء الإسلام.

وعند سَعِيد بن العاص يَلقى الحطيئة شاعرًا شابًّا هو الفرزدق، ويسمع منه مدح سعيد؛ فيُعجب به ويُثني عليه، ويراه صاحب لواء الشعر الجديد، وكأنَّه يَطْمَئِنُّ إلى ما سيلقاه من المَوتِ قَريبًا حين يَعْلَمُ أنَّ الشِّعْرَ لا بأس عليه.

أليس قد زعم الرُّواة أن الحطيئة حين حضره الموت وسأله من حوله أن يُوصي، أوصاهم بالشعر خيرًا! واسمع هذه الأبيات التي يقولها في مدح سعيد:

لَعَمْرِي لَقد أَمْسى على الْأَمرِ سائِسٌ
بَصِيرٌ بِما ضَرَّ الْعَدوَّ أَرِيبُ
جَرِيءٌ عَلَى ما يَكْرَه المَرْءُ صَدْرَه
وللفَاحِشاتِ المُنْدِياتِ هَبُوبُ
سعيدٌ وَما يَفْعَلْ سَعيدٌ فإِنَّهُ
نَجيبٌ فَلاهُ في الرباطِ نجيبُ
سَعيدٌ فَلا تَغرُرْكَ خِفَّةُ لَحْمِهِ
تَخَدَّدَ عَنْهُ اللَّحْمُ وهُوَ صلِيبُ
إِذا حافَ إِصْعابًا مِنَ الأَمْرِ صَدْرُهُ
عَلاهُ فَباتَ الْأَمْرُ وهُوَ رَكُوبُ
إِذا غابَ عَنَّا غابَ عَنَّا رَبِيعُنا
ونُسْقَى الغَمامَ الغرَّ حِينَ يَئُوب
فنِعْمَ الْفَتَى تَعْشُو إلى ضوءِ نارهِ
إِذا الريحُ هَبَّتْ وَالمَكانُ جديبُ

ولم يكد يفرغ صاحبي من إنشاد هذه الأبيات؛ فقد كان شديد الإعجاب بها، لا يلقي البيت حتى يعيده، ويطيل في تحليله والثناء عليه، فلما فرغ بعد لَأْيٍ من هذا الشعر وهَمَّ أنْ يمضي في حديثه، قلتُ له: حسبك! فما رأيت كاليوم مُحاميًا عن شاعر قديم. قال: إنك لتريد أن تقفني عن الحديث ولما أبدأ؛ فإني أتحدث عن شعر الحطيئة. قلتُ: فتحدث عنه إن شئت في الأسبوع المُقبل.

١  نُشرت بجريدة الجهاد في ١٠ أبريل سنة ١٩٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤