الفصل الثاني عشر

ساعة مع الحطيئة١

وَمَا كَادَ يَسْتَقِرُّ بِصَاحبي مَجْلِسه عِنْدي حتى ابْتَدَرني بالسؤال، وهو يبتسم ابتسامة فيها شيء مِنْ سُخرية، فَقَالَ: أَتَعْلَمُ لِمَاذَا أحب الحطيئة؟ قلتُ: ومن أَعْلَمني ذلك؟ إنما أعلم أنك تحبه وتغلو في حبه، فَأَمَّا تَعْلِيل هذا الحُب فأمره عندك، وقد أنبأتني بأنَّك سَتُبين لي عنه إذا التقينا اليوم، فقُل ما عِنْدَك؛ فإني مُستمع لك.

قَالَ: إِنَّمَا أُحِبُّ الحطيئة يا سيدي؛ لأنَّه عبد من عَبيدِ الشِّعْر، لا سيد من سادته؛ فليس أبغَض إليَّ ولا أثقل عليَّ من هؤلاء الذين يُؤثرون أنفسهم، ويزعمون لها القوة والتفوَّق، ويتحكمون في الفن كأنهم قد ملكوا أعنته، وهم لا يتحرجون من أن يقولوا ذلك ويجهروا به، أليس من القول المُستفيض في أحاديث الناس حين يتكلَّمون، وفي رَسَائِلِهم حين يكتُبون، وفي نقدهم وتقريظهم حين ينقدون ويقرظون: إنَّ فُلانًا قد مَلَكَ أَعِنَّة البيان؟ فإني أبغض هذا الذي يملك أعنة البيان، وأزعم أنَّه إنْ كان صَادِقًا فبَيَانُه أكذب البيان، وأدبه أسخف الأدب، وإنتاجه أسمج الإنتاج، وهو لا يعدو أن يكون مُشَعْوذًا مُتَكَثِّرًا، يقول عن غير علم، ويصدر عن هذه الطبيعة السَّهْلَة التي لا تكلف صاحبها جهدًا ولا عناء، ولا تحمله مَشَقَّة ولا نَصَبًا، وإنَّما تستجيب له كُلَّما دعاها، وتدفعه إلى الإنتاج دون أن يسألها الإنتاج، فهي خليقة أنْ تُغْرِيه وتُغْوِيه، وأنْ تَخْدَعه عن نفسه وتخدع الناس عنه، وأنْ تُخيل إليه أن سهولة إنتاجه آية من آيات الخصب، ومظهر من مظاهر الثروة والغِنَى، على حين أنَّها ليست في أكبر الظَّن إلا آية من آيات الثرثرة، ومظهرًا من مظاهر التَّفَيْهُق الذي لا خير فيه.

إنَّما الأديب عندي هو الذي يصنع أدبه، ويعمله عملًا، ويتهيأ له، فيُطيل التهيؤ، ويُفكر فيه فيمعن في التفكير، ويَتَكَلَّفُ لذلك من الجهد والمَشَقَّة ما يُضْنِيهِ ويعنيه، فيُوَفَّق حينًا، ويخطئه أحيانًا التوفيق، ويَشْقَى بما يلقى من الجهد والكد، وينعم بما يُتَاحُ له من الإصابة والتوفيق.

هذَا الشَّاعِرُ الذي يَغْتَرِفُ مِنْ بَحْرٍ لا يُعجبني؛ لأنَّه قد يَغْتَرِف فيصيب الجيد ويُصيب الرَّديء، ولأَنَّه حين يغترف من بحر لا يعدو أنْ يَكُون أداة يَعْبَثُ بها شيطانُ الشعر، فيُنْطِقها بما يشاء كما يشاء، لا مُتخيرًا ولا مُجودًا، أمَّا الشَّاعِرُ الذي ينحت من صَخْرٍ؛ فهو الذي يُعْجِبُني ويُرْضِيني؛ لأنَّه لا يقولُ الشِّعْرَ وإنَّما يعمله، كما تحدث شاعرك الفرنسي الذي فتنك فتونًا، ولأَنَّ الشِّعْرَ لا يصدر عن طبعه وحده، وإنَّما يصدر عن طبعه وعقله وإرادته، وأنا يا سيدي إنسان أَكْره أنْ أَكُون أداة، وأُحِبُّ أَنْ أَشْعُر بأَنِّي أُريد، وبأنِّي لا أقول ولا أعمل إلا حين أُريد.

وهذا الحطيئة الذي يتحدث عن نفسه لأنَّه كان يعوي في أثر القوافي كما يعوي الفصيل، والذي يقول الأصمعي عنه: «إنه كان من عبيد الشعر.» أحبُّ إليَّ ألف مرة ومرة من هؤلاء الشعراء الذين تَنْهَالُ عليهم القوافي انهيالًا، ويَنْثَالُ عليهم الكلام انثيالًا، وتواتيهم المَعَانِي والأَلْفَاظ دُون أن يطلبوها أو يُلِحُّوا عليها في الطَّلب، وهو أحب إليَّ ألفَ مرة ومرة من هؤلاء الشعراء الأحرار الذين يتصرفون في القول، كما يتصرف المالك في ملكه، دون أن يتصرف القول فيهم قليلًا أو كثيرًا.

نعم يا سيِّدِي! إنِّي لا أَخَافُ أَحَدًا على الأدب كما أخاف هؤلاء الأدباء المطبوعين، وهؤلاء الشعراء الموهوبين، الَّذين يُرْسِلُون أَنْفُسهم على سَجِيَّتِها، ثم يفرضون علينا ما تجري به أَلْسنتهم، وتجيش به نفوسهم من الجيد والرديء على أنَّه عفو الخاطر، ونتاج البَدِيهة، قد برئ من التكلف، وسلم من التصنع، وارتفع عن العمل والاحتيال.

وليس معنى هذا أنَّ الشاعِرَ المُتكلف المُتصنع المُحتال كما أفهمه أنا، وكما فهمه الحطيئة وأمثاله، ليس مَطْبُوعًا ولا مرسلًا نفسه على سجيتها، كلا! إنما هو مطبوع، ولكن لأنَّه يُرِيدُ أنْ يَكُون مَطْبُوعًا، وهو مرسل نفسه على سجيتها؛ لأنه يُريدُ أَنْ يُرسلها على سجيتها، وهو ينتهي إلى الإجادة بعد البحث والدرس، وبعد التحقيق والتَّمحيص، وبعد الاجتهاد الطويل في اختيار الجيد، وإسقاط الرديء ثم الاجتهاد الطويل بعد ذلك في اختيار أجود الجيد وإسقاط ما عداه، هو رَقيبُ نفسه قبل أن يُرَاقِبَهُ غيره، وهو ناقد فنه قبل أن ينقده غيره، وهو مُنتَهٍ إلى حيث انتهى الحطيئة، وهو مُلْزِمٌ لِلأَصْمَعي وأشباه الأصمعي أن يبرئوا شعره من العيب، ويرفعوه عن كل ابتذال، لهذا كله يا سيدي أُحب الحطيئة وأكبره، وأتخذه لي أُستاذًا وإِمامًا لو أني موكل بقول الشعر، ولكنِّي أَتَّخِذُه لي أستاذًا وإمامًا فيما أحاول من كتابة النثر أحيانًا، فقانون التَّجْوِيد الأدبي ليس مَقْصُورًا على الشعر وَحْدَه، بل هو يتناول الشعر والنثر جميعًا، بل قانون التجويد والجد فيه والحرص عليه لا يتناول الأدب وحده، وإنما يتناول الفنَّ كله.

وما أشد إعجابي بهذه الأبيات التي يُضِيفها القُدَمَاءُ إلى الحطيئة، سواء أرَضيت أنت نسبتها إلى الحطيئة أم أَنْكَرْتَهَا عَلَيْه! فهي تُمَثِّلُ مَذْهبه، ومذهب أُستاذه وأَصْحَابه، أصدق تمثيل وأنفعه:

الشِّعْرُ صَعْب وطَويلٌ سُلَّمُهْ
إِذا ارتقَى فِيهَ الَّذِي لا يَعْلَمُهْ
زَلَّتْ بِهِ إِلى الْحضِيض قَدَمُهْ
وَالشِّعْرُ لا يَسْطِيعُهُ من يَظلِمهْ
يُرِيدُ أَن يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ
مَن يسِمِ الْأَعْداءَ يَبْقَ مِيسَمُه

وإذا لم تُعْجِبك هذه الأبيات التي تُعجبني، فما أَشُكُّ في أنَّ أبيات كعب تُعجبك وتُرضيك، وهي أصدقُ تَمْثيلٍ لمذهب المدرسة في الشعر وطريقتها في قوله أو في عمله إن أردت التدقيق.

واقرأ هذه الأَبْيات، فهي إلى أن تكون تصويرًا لمذهب من المذاهب، أدنى منها إلى أن تكون مُفَاخَرَةً ودِفَاعًا عن شاعر من الشعراء:

فَمنْ لِلْقوافي شَانَها من يَحُوكُها
إِذا ما ثَوَى كَعْبٌ وفوَّزَ جَروَلُ
كَفيْتُكَ لا نَلْقَى مِنَ النَّاسِ واحِدًا
تَنخَّل مِنْها مِثْلَ ما نَتَنَخَّلُ
نُثقفُهَا حَتَّى تَلينَ مُتُونُها
فَيَقْصُرَ عَنْها كُلُّ مَن يَتَمثَّلُ

فهم يتنخلون الشعر ويصفُّونه، ولا يُرسِلُونَهُ إِرْسَالًا، ولا يُهْمِلُونه إهمالًا، وهم يُقَوِّمون الشعر تقويمًا، ويثقفونه تثقيفًا، يُحَاوِلُونه ويُزَاوِلُونه، ويُدِيرُونه في عُقُولهم، ثم يُدِيرُونه فيما بينهم، ثم لا يُذِيعُونه في النَّاسِ حتى يرضوا عنه ويطمئنوا إليه، ومن هُنَا تستطيع أنْ تَقْرَأ ما أحببتَ مِنْ شِعْرِ الحطيئة في المدح والهجاء، وفي الوصف والرثاء، وفيما يعرض له من الغزل القليل، فلن تنكر منه شيئًا، قد اخْتَار لكَ شِعْرَه قبل أن تحتاج أنت إلى الاختيار.

واقرأ معي هذه الأبيات التي كانت مصدر امتحان عمر بن الخطاب له بالسجن، ثم حدثني أين ترى فيها العيب، أو تحس فيها النقص؟ وأي بيت منها تحتاج إلى أن تسقطه أو تلغيه:

والله مَا مَعْشَرٌ لامُوا امرَأ جُنُبًا
في آلِ لأْي بْنِ شَماسٍ بأَكْياس
لقَدْ مَريْتُكُمْ لَوْ أَن دِرَّتَكم
يَوْمًا يَجِيءُ بها مَسْحِي وإِبْسَاسِي
وقَدْ مَدَحْتُكُمْ عَمْدًا لِأُرشدَكُم
كَيْما يَكُونَ لَكم مَتْحِي وإِمْراسي
وقَدْ نَظَرْتُكُمُ أَبْنَاءَ صَادِرَةٍ
لِلْخِمْسِ طالَ بِها حَوْذِي وتَنْسَاسي

فانْظُر إليه كيف بدأ هذه الأبيات بلومِ آل الزبرقان؛ لأنَّهم أَنْكَرُوا عليه تَحَوُّله إلى آل شماس ومدحه إياهم، ثم أَرَادَ أَنْ يُبين عذره فيما صنع من ذلك، فأبان عن غرضه في أجمل صورة وأروعها وأدناها إلى أفهام هؤلاء الناس من أهل البادية، حين مثل حاله معهم بحاله من النَّاقَةِ ذَاتِ اللبن القليل، أو غير ذات اللبن، يُرِيدُ أنْ يَحْلِبَها فلا تدر له شيئًا. فَمَا يَزَالُ يمري ضَرْعُها ويمسه ويَمْسَحُه، يتكلف من ذلك ما يُرِيدُ وما لا يُريد، لعله يظفر بشيء، ولكنَّه لا يُصيبُ شيئًا، ثم هو ينتظر وينتظر فلا يُفيده الانتظار شيئًا.

وانظر إلى كل ما قصد إليه من التشبيه والتمثيل، فلن ترى شيئًا غريبًا، وإنَّها هي كلها معانٍ قريبة مَأْلُوفة يَرَاها الأَعْرَابُ ويَعِيشُون عليها، كلها معان لا تعدو حياة الأعرابي حين يبتغي اللبن عِنْد نَاقته، أو حين يَبْتَغِي الماء مُستقيًا من البئر، أو حين ينتظر، فإذا هو يُوقت انتظاره بما تعودت العرب أن يُوقتوا به في حياتهم اليومية، من إِيرَادِ الإِبِلِ وإِصْدَارها حين يُوردون ويصدرون، وهو في هذا كله يتبع زُهيرًا ويَسِيرُ على نَهْجِهِ، فإني لم أنسَ بعد ذلك التمثيل البديع الذي ذهب إليه زُهير حين أراد أن يُصَوِّرَ اضطراب عبس وذُبيان بين الحرب المهلكة والسلم المدخولة، فشبه هذا كُلَّه بما يكون من رَعْي الإبل، ثم ورودها إلى الماء، ثم انصرافها إلى المرعى، كذلك فعل الحطيئة فأحسن الإحسان كله؛ لأنَّه إنَّما يقول شعره، أو يصنعه للأعراب، فلا بدَّ مِنْ أَنْ يفهم عنه الأعراب قبل أن يفهم عنه غيرهم من الناس، والظريف الجميل الرَّائع أَنَّنا نحنُ نفهم عنه كما فهم عنه الأعراب، ونُعْجَب به كما أعجب به الأعراب، وأيُّ النَّاسِ يَسْتَطيع أنْ يَجْحَد جمال هذه التشبيهات الرَّائعة السَّاذجة، التي تكسب روعتها من هذه السذاجة نفسها! ثم اقرأ معي هذين البيتين:

لَمَّا بَدا ليَ منكمُ غَيْبُ أَنْفُسِكم
ولم يكنْ لجِراحي منكمُ آسِي
جَمَعْت يَأسًا مُرِيحًا من نَوالِكُم
ولنْ تَرَى طاردًا للحُرِّ كاليَاسِ

أترى إلى البيت الأول، وإلى الشطر الثاني من هذا البيت خاصة، وإلى تشبيه الفقر والبؤس والحاجة بالجرح، وإلى تشبيه العطاء الذي يذود الفقر ويدفع البؤس ويرضي الحاجة بطبِّ الطبيب الذي يأسو هَذِه الجراح، أترى أيسر من هذا التعبير، وأَدْنَى إلى الفَهم، وأحسن وقعًا في النفس، وأبلغ تأثيرًا في القلب! ثم انظر إلى هذا اليأس المُريح الذي انتهى إليه في البيت الثاني، ثم انظر إلى قوله: «ولن ترى طاردًا للحر كالياس.» كيف أرسله مثلًا صادقًا خالدًا على اختلاف الأزمنة وتباين الظروف، وكيف جعله مصدر ثروة للشُّعراء الذين افتنوا بعده في اليأس وإراحته لليائسين! ثم اقرأ معي:

ما كانَ ذَنْبُ بَغِيضٍ أَن رأَى رَجُلًا
ذَا فاقةٍ حَلَّ في مسْتوْعَرٍ شَاسِ
جارًا لِقَوْمٍ أَطالوا هُونَ منزلهِ
وغادرُوه مُقيمًا بَينَ أَرْماسِ
مَلُّوا قِراهُ وهَرَّتْهُ كلابُهُمُ
وجَرَّحُوهُ بِأَنْيابٍ وأَضراسِ

أترى إليه كيف يدفع عن بغيض لوم اللائمين، وإِنْكَارِ المُنكرين! فبغيض لم يزد على أنَّ رَجُلًا بائسًا قد أَقْبَل مُستجيرًا فلم ير من جاره برًّا ولا عطفًا ولا كرمًا، وإنَّما نزل عندهم منزلًا وعرًا، وأحسَّ منهم مللًا وسأمًا، ثم صدودًا وإعراضًا، ثم جاءته منهم الملامة، وانتهى إليه التقريع والتعنيف، فعطف عليه بغيض فواساه وآسى جِرَاحَهُ، وأَرْضَى نفسه وحفظ كرامته، وأحسن منزله، أَفَيُلام صاحب البرِّ لِأَنَّ غيره أَبَى أَنْ يَكُون برًّا؟ أفيلام المعترف بالجميل لأنه أبى أن يكون جاحدًا كنودًا؟ ثم اقرأ معي:

لا ذنْب لي اليوْم إِن كانت نفوسُكُم
كفَارِك كَرِهت ثَوْبِي وإِلْباسِي
من يَفعَلِ الخيْرَ لا يَعْدَم جَوازِيَهُ
لا يَذْهَبُ العُرْفُ بَينَ الله والنَّاس
دَعِ المَكارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيتِها
وَاقعُدْ فإِنَّك أَنتَ الطَّاعمُ الكاسي

وتستطيع أن تمضي في القصيدة كلها فلن تجد فيها بيتًا واحدًا ينبو كله، أو ينبو جزء من أجزائه، أو يستحق إسقاطًا أو إلغاء، وليس من شك في أنَّ الحطيئة نفسه قد أسقط من هذه الأبيات ما أسقط، وألغى منها ما ألغى، ولم يدع إلا ما رجح أنه خليق بالبقاء.

وَلَو أَنَّكَ تَرَكْتَ هذه القصيدة إلى داليته المشهورة، ولم تقرأ منها إلا هذا المدح الخالد الذي يبقى على الدَّهر، لما كان تأثُرك بجمال هذا الشعر وروعته، وصدقه ودقته، وصفاء لفظه، وارتفاع معناه، بأقل من تأثرك بما رأيت في هذه القصيدة التي ننصرف عنها الآن. واقرأ هذه الأبيات:

وَإِنَّ التي نَكَّبْتها عن مَعاشِرٍ
غِضابٍ عَلَيَّ أَن صَددْتُ كما صَدُّوا
أَتَتْ آل شَمَّاس بن لأْيٍ وإِنَّما
أَتاهُمْ بها الأَحْلامُ والْحَسَبُ الْعِدُّ
فإِنَّ الشَّقَّى من تُعادِي صُدورُهم
وذو الجدِّ مَن لانُوا إِليْه ومن ودُّوا
يَسُوسُون أَحلامًا بعيدًا أَناتها
وإِنْ غَضِبوا جَاءَ الحفِيظَةُ والجَدُّ

أليس من هذا البيت الأخير قد أخذ الأخطل؟ أو أليس بهذا البيت الأخير قد تأثر الأخطل حين قال بيته المشهور:

شُمْسُ العداوة حتى يُسْتقَا دَلهمْ
وأَعظمُ الناسِ أَحلامًا إِذا قدَرُوا

ثم اقرأ:

أَقِلُّوا عَليْهِم لا أَبَا لِأَبِيكُم
من اللَّوْمِ أَو سُدُّوا المكانَ الذي سَدُّوا
أُولئك قوْمٌ إِن بَنَوْا أَحْسَنُوا البِنَا
وإِنْ عَاهَدُوا أَوْفَوا وإِن عَقَدوا شَدُّوا
وإِن كانَت النُّعْمَى عليْهم جَزَوْا بها
وإِن أَنْعَموا لا كَدَّروها ولا كَدَّوا
وإِن قال موْلاهم عَلى جُلِّ حادثٍ
منَ الدَّهْرِ ردُّوا بَعضَ أَحْلامِكم رَدُّوا
وتعذُلني أَفناءُ سعدٍ عليهمُ
وما قلتُ إِلا بالذي علمَتْ سَعْدُ

لا تخدع نفسك، ولا يخدعك غيرك عن الحق؛ فقد كانَ الحطيئة بهذه القصيدة — ما روينا منها وما لم نروِ — أُستاذ الأخطل وإمامه حين مدح بني أُمية بشعره الخالد في رائيته المشهورة.

وللحطيئة في هؤلاء الناس شعر كثير. له دالية أخرى مطلعها:

آثَرْتُ إِدْلاجي عَلَى لَيْلِ حُرَّة
هَضيم الحَشَا حُسانةِ المُتجَردِ
إِذا النوْمُ أَلهاها عَنِ الزادِ خِلْتُها
بُعيْدَ الكَرى باتَتْ علَى طي مُجْسَدِ
إِذا ارتفَقتْ فَوْقَ الفِراشِ تَخالها
تخافُ انبتات الخَضْرِ ما لم تَشدَّدِ
عميقَةُ ما تَحتَ النِّطاقِ وفوْقَهُ
عَسيبٌ نَما في ناضِرٍ لم يُخضَّدِ
تراها تَغُضُّ الطَّرْفَ دوني كأَنَّما
تَضَمنَ عيناها قَذى غيْرَ مُفْسِدِ
وتُغرِقُ بالمِدْرَى أَثِيثًا نباتهُ
عَلى واضح الدِّفْرى أَسيلِ المقَلِّدِ
تَضوَّعَ رَياها إِذا جئتَ طارقًا
كريحِ الخُزامَى في نباتِ الخَلا الندِي
لها طِيب رَيَّا إِن نأَتني وإِن دنَت
دنَت وعْثَة فوْق الفِراشِ المُمَهدِ

وَإِنَّما أقرأ هذه الأبيات عليك لتجد نفحة يَسِيرَةً مِنْ غَزَلِ الحطيئة الذي يقدمه بين يدي ما يقصد إليه من المدح والهجاء، وإنَّك لتُوافِقني، من غير شَكٍّ، عَلَى أنَّ الحطيئة ليس ضعيفًا ولا فاترًا ولا رخوًا حين يقصد إلى الغزل، كما أنه ليس ضعيفًا ولا فاترًا ولا رخوًا حين يقصد إلى غيره من الفنون.

وهل تذكر همزيته التي أولها:

أَلا قالت أُمامَةُ هل تعَزَّى
فقلتُ أُمامَ قد غلِب العَزاءُ

فما أشكُّ في أنَّ هذه القصيدة الرائعة قد تأثرت بقصيدة زهير التي مطلعها:

عَفَا من آلِ فاطِمة الجِواءُ

والتي كَثُرَ فيها كما تقولُ خَلْطُ الرُّواة، ولكن قصيدة الحطيئة هذه لم يُفْسِدها الخلط، ولشد ما أُحِبُّ أن أقرأها عليك، وأنْ أَقِفَ مَعَكَ عِنْدَ بعض أبياتها. قُلتُ مُبْتَسِمًا: وهل تظن أني لم أقرأ هذه القصيدة، ولم أقف عند أبياتها جميعًا؟ قال: هذا صحيح، لقد فتنني الحطيئة، وأنساني أني أتحدث إليك، وخيل إليَّ أني أكتب فصلًا لصحيفة من الصحف، أو ألقي مُحاضرة على جماعة من الطلاب، ومع ذلك فإني أُحب أن تسمع مني هذه الأبيات التي قالها الحطيئة يفضل فيها صاحبه علقمة بن علاثة على عامر بن الطفيل؛ فإنِّي أَرَى في هذه الأبيات جَذَالة وصلابة ومَتَانة وارْتِفَاعًا، وأَجِدُ فيها جمالًا لا أَعْرِفُ كَيْفَ أُصَوِّره ولكنه يملك عليَّ أمري، ولو أني أطعت نفسي لقلت: إني أجدُ في هذه الأبيات رجولة الشعر. ثم اندفع ينشد:

يَا عامِ قد كُنْتَ ذا بَاعٍ ومَكْرُمَةٍ
لو أَن مَسْعاه من جارَيْتهُ أَمَمُ
جارَيت قَرْمًا أَجادَ الأَحْوصانِ به
طلْقَ الْيَديَنِ وفي عِرْنِينِه شَمَمُ
لا يَصعُبُ الأَمْر إِلا رَيثَ يركَبُهُ
ولا يَبيتُ عَلَى مالٍ له قَسمُ
ومثْله من كِلَابٍ في أَرُومَتِها
يُعْطَى المقاليد أَو يُرمَى له السَّلمُ
هابَت بَنُو مالكٍ مجدًا ومَكرُمَة
وغايَةً كانَ فيها الموْتُ لو قَدمُوا
وما أساءوا فِرارًا عن مُجَلِّيَة
لا كاهنٌ يَمْترِي فيها ولا حَكَم

وله قصيدة أخرى يمدح بها علقمة وأولها …

قلتُ: حَسْبُك! فَإِنِّي أَفْهَمُ أَنْ أُلِحَّ عليك أنا في رواية هذا الشعر لأحملك على حُبِّ الشعراء القدماء، فأمَّا أن تستحيل داعية، وقد كنت مدعوًّا؛ فهذا غريب.

١  نُشرت بجريدة الجهاد في ١٧ أبريل سنة ١٩٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤