الفصل الثالث عشر

ساعة مع عنترة١

قلت لصاحبي: تَحَدَّثْ أَنْتَ عن عنترة إن شِئْتَ؛ فإني لا أعرف من أمره شيئًا، أو لا أكادُ أَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ إِلَّا أنَّ النَّاسَ كَانوا يَذْكُرونه ويتحدثون بحُسْنِ بَلائه في الحرب، وقل أنت في عنترة ما أحببت؛ فإني حسن الاستعداد للاستماع لك، والرِّضا عما تقول، والتصديق لما تقص من الأحداث والأنباء، ولقد كثُرَ الحَدِيثُ عن هذا البطل الجاهلي القديم، كما لم يَكْثُر عن أحد من الأبطال الذين عاصروه، وقلَّ مع ذلك ما يمكن الاطمئنان إليه من هذه الأحاديث التي ملئت بها الأسفار الضخام، والتي أعانت الناس قرونًا، وما تزال تعينهم، على أن يتخفَّفُوا من أَثْقَال الحَيَاةِ، ويُلقوا عن أنفسهم أعباءها إذا أقبل الليل وفَرَغُوا لأَسْمَارِهم؛ فلا بأس بأن نقبل باسمين ما يروى عنه من الأخبار والأساطير.

ومن يدري! لعل ما يرفضه العقل من أحاديث الأجيال الماضية، أجدر أن يُقبل، وأحرى أن يُصدَّق، مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاء التي يَرَاها العَقْلُ حقائق ثابتة، وأمورًا لا يستطيع الشكُّ أنْ يعرض لها، فهذه الحقائق الثابتة التي تحمل اليقين، أو ما يُشبه اليقين، إلى النَّاس، كَثيرًا ما تَحْمِلُ إليهم الحزن اللاذع واليأس الممضَّ، وكثيرًا ما تصرفهم عن الخير صرفًا، وتَدْفَعُهم إلى الشر دفعًا، وتُفسد في نفوسهم صور ما كانوا يحبون من الآمال العراض والمثل العليا، وتمحو من قلوبهم أثر ما كانوا يَحْرِصُون عليه من الثقة بالنفس، والاطمئنان إلى الناس.

قالَ صَاحِبِي وهو باسم كالعابس: إنَّ شَكَّكَ المُظْلِم هَذَا ليغيظني ويحفظني، وإنَّ إِغْرَاقك في طلب الحق، والتَّحَفُّظ حين تُروى لك أنباء القدماء وأحاديثهم، لخليقٌ أَنْ يَرُدَّ قلبك إلى شيء من القسوة الساخرة، أو من السخرية القاسية لا أحبه لك، ثم انْجَلى العبوس عن وجهه وأشرق الابتسام في ثغره، وقال: ولستُ أدري ماذا تنكر من أمر عنترة! وما الذي تشك فيه من أنبائه وأخباره! لقد كان شجاعًا مِقْدامًا، وأي غرابة في أن يكون رجل من الناس شجاعًا مِقْدَامًا، لقد كان يفعل الأفاعيل، ويملأ قلوب خصومه فزعًا ورعبًا، ويغير من حوله كل شيء.

وأي غرابة في هذا كله أو بعضه! صدقني إنَّ العَقْلَ الإِنْسَانِيَّ يغر نفسه فتغتر، ويخدع نفسه فتنخدع، وهو مغرور حين يُصدق، وهو مغرور حين يكذب، وهو مغرور في حالي الشك واليقين جميعًا.

وإنَّ بين المعاصرين الذين نَلْقَاهُم فنَسْمَع منهم، ونتحدث إليهم، وتقص علينا أنباؤهم وآثارهم، فيما يُحيط بهم من الأشياء، ومن يحيط بهم من النَّاسِ، لَقَوْمًا ستُنْكِرُ الأَجْيَالُ المُقْبِلَةُ مِنْ أَمْرِهِم مَا تُنْكِرُه أنت من أمر عنترة، ولو أنهم عاشوا منذ قرنين أو قرون لأنكرتهم ولشككت فيهم، كما تنكر عنترة وتشك فيه، وهل تظن أن الأجيال المُقبلة ستصدق ما سيؤثر لها عن عنترة هذا العصر الحديث!

ألستَ ترى أنهم سَيَلْقَوْنَهُ بمثل ما تلقى أنت به عنترة العرب الجاهليين من الشك والإنكار، ومن السُّخْرِية والدُّعابة، ومن الاستماع لأحاديثه مُبتسمًا، وإظهار التصديق لهذه الأحاديث في كثيرٍ من الرفق والإشفاق، وأنت تضمر التكذيب العنيف البغيض!

قلتُ: ومَنْ عسى أن يكون عنترة هذا العصر الحديث؟ قال: فابحث إن كنت لا تعرفه عن أعظم الناس المعاصرين حظًّا من البطولة وأحسنهم بلاء، كلما ألمت مُلِمَّة أو ادلهم خطبٌ، وأشدهم صرفًا للناس إلى نفسه وحديثه عن كل شيء، وعن كل إنسان، وعن كل حديث، وأَحَقُّهم أن يُستقبل بحديثه الليل إذا آن أوان السمر وأراد الناس أن يتخففوا كما تقول من أثقال الحياة، ويلقوا عن أنفسهم أعباءها ويتسلوا عن آلامها، باللذيذ الطريف من لهو الحديث.

قلتُ: ما أرى إلا أن يكون وزير التقاليد، قالَ: هو هذا، أفتَظُنُّ أنَّ الأجيال المُقبلة ستصدق من أخباره ما يُذاع ويُشاع، وما تصدقه أنت الآن كل التصديق؟ ألستَ ترى أن وزير التقاليد إذا بَعُدَ بِهِ العَهْدُ، وطال عليه الزمان فسيصبح أسطورة من الأساطير، وقصة من القصص، وسيُنْكِرُ الناس من أمره وأحاديثه مثل ما تنكر أنت من أمر عنترة وأحاديثه! فقد كان القدماء يرون عنترتهم مُعجبين به مُصدقين لأخباره، كما تعجب أنت بوزير التقاليد وتُصَدِّق أَخْبَاره، وتتخذه مثلًا أعلى في كل ما يُمكن أن تُتَّخَذَ فيه المُثل العليا! ثُمَّ بَعُدَ العهدُ وطال الزَّمنُ، فذهب القدماء، وذهب معهم بطلهم العظيم، وأخذت أنت وأمثالك تشكون فيهم وفيه، وسيبعد العهد، وسيطول الزمن، وسيخلف خلف من الناس لا ينظرون إلى وزير التقاليد، إلا كما تنظر أنت إلى عنترة، ولا يعجبون بوزير التقاليد، إلا كما تُعجب أنتَ بِعَنْتَرة، ولا يُصدقون ما يروى لهم عن وزير التقاليد، إلا كما تصدق أنت ما رُوي لك عن عَنْتَرة، ومع ذلك فهل تستطيع أن تشك في هذا البلاء الحسن الخالد العظيم الذي أبلاه وزير التقاليد في الجامعة، وفي وزارة المعارف، وفي فروع التعلم، وفي مدارس الصناعة والزراعة، وفي معاهد التمثيل؟ كلا ليس إلى الشك في هذا البلاء من سبيلٍ الآن، ولكن سيكون إلى الشك فيه بعد حين ألف سبيل وسبيل.

وأنت تشك فيما يُضَافُ إِلَى عَنْتَرَة القديم من الشعر، وتزعم أنَّ الرُّواة قد صنعوه صنعًا، وحملوه عليه حملًا، فسيخلف من الناس خلف يشكون فيما يُضاف إلى وزير التقاليد من الخُطب والمقالات والأحاديث، ومن يدري! لعلهم يزعمون أن قد كان في عصر وزير التقاليد من الموظفين الموصولين به والمنقطعين إليه، من كانوا يصنعون الخطب والمقالات والأحاديث، ينفقون فيها بياض النهار وسواد الليل، حتى إذا استقامت له أذاعوها في الناس، وحملوها على الرجل حملًا، وهو منها بريء كل البراءة! ومن يدري لعلهم يمارون فيما قد يُرْوَى لهم من الشعر الرَّائع الذي يُوصف فيه الدجاج، وتُصور فيه الأرانب، ويزعمون أنَّ وزير التقاليد لم يعرف أرانب ولا دجاجًا، ولم يقل فيها شعرًا ولا نثرًا، وإنما هو كلام حمل عليه حملًا، وأُضيف إليه إِضَافَةً، وذهب به أصحابه مذهب الدعابة والمزاح؟

لا تُسرف في الشك إذن، ولا تغل في المراء، ولا تستقبل أحاديث عنترة وشعره بهذا الاستخفاف؛ فإنَّ لكل عصر عنترته، والرجل العاقل هو الذي يجتنب الغُرور ما استطاع اجتنابه، ويَطَّرِحُ الشَّكَ مَا اسْتَطَاع اطراحه، ويصدق ما يقوله الناس دون إغراق في البحث والاستقصاء، وفي التحقيق والتمحيص، ومع ذلك فما الذي يعنيك من أحاديث عَنْتَرة إن صحت أو لم تصح! وما الذي يعنيك من شعر عنترة إن ثبت أو لم يثبت! ألم نتفق منذ أخذنا في هذه الأحاديث على أننا لا نلتمس فيها تحقيقًا ولا تمحيصًا؟ وإنما ندع التحقيق والتمحيص للجامعيين في جامعتهم، ونلتمس هذا الجمال الفني الذي يعجب القلوب، ويلذ العقول، ويرد إلى النفوس أملًا بعد يأس، وابتهاجًا بعد اكتئاب، ونشاطًا بعد فتور! فهل تستطيع أنْ تُنكر أنَّ أَحاديث عنترة وما يُضاف إليه من الشعر مملوءة كلها بهذا الجمال الفني الذي أرضى الناس وأَمْتَعهم قرونًا طوالًا، وسيُرضيهم ويُمْتِعهم قرونًا طوالًا أخرى؟

وهؤلاء اليونان الذين فُتِنْتَ بهم فتونًا، وجُنِنْتَ بهم جنونًا، كانوا يعجبون بهوميروس وأبطاله وأحاديثه، وكانوا يُؤمنون بوجود هذا الشاعر ووجود أبطاله، وصدور أحاديثهم عنهم، كما صورها في شِعْرِه الخالد، ثم جَاء العَقْلُ الحديث، فغير هذا تغييرًا، ورفضه رفضًا، فهل قَلَّ من أجل ذلك إعجاب الناس بهوميروس وشعره، وبأبطال هوميروس وأساطيرهم!

قلتُ: فإني لا أفهم فيم كل هذا الحديث الطويل، ولم أنكر شيئًا، ولم أمارِ في شيء، وإنما دعوتُك إلى ما تُحب من الحديث، وأعلنتُ إليك استعدادي لما ترغب فيه من الاستماع.

قال: فإني لا أحب هذه السخرية، ولا أرضى مِنْكَ هذا الترفع الذي يحملك على إظهار ما تظهر من عطف وإشفاق على القدماء وأحاديث القدماء، وعلى المُحدثين الذين يُصدقون هذه الأحاديث ويَطْمَئِنُّون إليها.

قُلتُ: فَإِنِّي لا أَتَرَفَّعُ ولا أُظْهِرُ عَطْفًا ولا إِشْفَاقًا، وإِنَّما أَنَا مُخْلِصٌ كل الإخلاص فيما أُعلن إليك من حُبِّي لعنترة وأحاديثه، وحرصي على أن أسمع لما ستقص عليَّ من هذه الأحاديث، ولما ستظهر لي من جمال ذلك الشعر الجميل.

قال: ومن زعم لك أني قد استحلت قصَّاصًا يُحَدِّث بأحاديث عنترة، كما يفعل المُتحدثون في هذه القهوات الوطنية! هذه أشياء أحبها وأكلف بها، ولو استطعت لأنفقت وقتي كله في الاستماع لها، والاختلاف إلى مجالسها، ولو استطعت لانصرفت عن أكثر هذا الجد الذي أنفق فيه وقتي، إلى قراءة هذه الكُتب التي تقص أنباء عَنْتَرَة، وسيف، وأبي زيد، ومن يُشبههم من الأبطال.

نعم! هذه أشياء أُحِبُّها وأكلف بها، وأرى فيها المتاع كل المتاع، ولكن لا أحسنها، ولا أُجيد التحدث بها، كما يُجيده أصحابها، إنَّما أُحِبُّ أَنْ أَتَحَدَّث، أو نتحدث إنْ شِئْتَ، عن هذه القصيدة المطولة التي تُضَافُ إلى عنترة، وتُعَدُّ بين السَّبْعِ أَو بينَ العَشر المُطولات، والتي مهما تُنْكِرُها وتشك فيها، فلن تستطيع أن تنكر أنها قصيدة قديمة، كان القدماء يُنشدونها، ويتغنون بكثيرٍ من أبياتها في القرن الأول للهجرة، وكان علماؤهم يرضون عنها ويعجبون بها، ويسجلونها بين روائع الشعر العربي القديم في القرن الثاني والثالث للهجرة.

قد لا يكفيك هذا، ولكنه يكفيني، ويَجِبُ أَنْ تكتفي به أَنْتَ حين تَخْرُج من طور المُحَقِّق المُمَحِّص، إلى طَوْرِ الفَنَّان الذي يَلْتَمِسُ المُتعة والجمال، وأنا أعرف أنك لا تَطمئن إلى ما في هذه القصيدة من سهولةٍ ولين، قَلَّمَا يُوجدان في الشعر النجدي القديم، ولكنك تطمئن إلى شعر الحطيئة وهو من نجد، وفي شعره مثل ما في هذه القصيدة من هذه السهولة التي لا تَخْلُو مِنْ فَخَامَةٍ، ومن هذا اللين الذي لا يبرأ من جزالة.

ولستُ أدري ما بالك قد وكلت بإنكار الشِّعْرِ القديم كُلَّمَا ظَهَرَتْ فيه سُهولة، أو بَدَا فيه لين، مع أنك تُريد أن تُحبب إلينا الشعر القديم، وهل تظن أنَّ شيئًا يستطيع أن يُحبب إلينا هذا الشعر ويُزَيِّنُه في قُلُوبِنَا، ويَحْمِلُنا على أنْ نَسْمَعَهُ ونتبعه ونحفظه وننشده ونتغناه، كما يستطيع ذلك ما قد يظهر فيه من سهولة ويبدو فيه من لين؟

إنك تُحِبُّ قصيدة لبيد، وأنا أيضًا أُحبها، ولكنك تَسْتَطيع أن تكتب في نقد هذه القصيدة وإطرائها فصولًا طوالًا دون أن تظفر بتحبيبها إلى نفوس الشباب؛ لأنَّها أَضْخَمُ وأَفْخَمُ من هذه النفوس الرَّقيقة المُترفة، إِنَّما يُحب الشباب قصيدة لبيد حين تُتَرْجَم لهم ترجمة، وتُفَسَّر لهم تفسيرًا، وتُعْرَض عليهم صورها الشعرية الرائعة في لغتهم السهلة المألوفة، فأما قصيدة عنترة هذه فاقرأها على الشباب، فسيفهمون منك أكثرها، لا يحتاجون إلى تفسير، ولا إلى ترجمة؛ لِأَنَّها واضحة جَلِيَّةٌ، ولأنها سهلة اللفظ، قريبة المعنى، ليس بينها وبين نفوسهم حجاب من هذه الجزالة التي تكاد تبلغ الغرابة.

ومع ذلك فقد ذهب صاحب هذه القصيدة مذهب غيره من الشعراء القدماء فسار سيرتهم، واتبع سنتهم، وذَكَرَ الدِّيَارَ كما ذكروها، ووصف النَّاقة كما وصفوها، وافتخر بالكرم والجود والنَّجْدَةِ، كما افتخروا بكل هذه الخِلَالِ، ولكنه أسهل ولم يحزن، ويسر ولم يعسر، وارتفع عن الإسفاف والابتذال، دون أن يتورط في الغلظة والإغراب، وانتهى إلى معانٍ قَلَّمَا انتهى إلى مثلها غيره من الشُّعراء.

وما أرى أن ابن سلام قد أخطأ حين قال: إنَّ هذه القصيدة نادرة فهي نادرة حقًّا، ولستُ أدري أتحس حين تقرأ هذه القصيدة مثل ما أحس، وتجد مثل ما أجد! فإني أحس كأن القصيدة طائفة من الأنغام الموسيقية الكثيرة المُختلفة فيما بينها أشد الاختلاف، ولكن فيها نغمة واحدة متصلة منذ تبدأ القصيدة إلى أن تنتهي، تظهر واضحة حينًا وتحسها النفس، وإن لم تسمعها الأذن حينًا آخر. وهذه النغمة التي تكوِّنُ وحدة هذه القصيدة كما كونت الوحدة في قصيدة لبيد، هي حديث الشاعر إلى صاحبته، واستحضار صُورتها في نفسه منذ ابتدأ إلى أن انتهى.

ولكن بين هذه النغمة في قصيدة عنترة وقصيدة لبيد فرقًا واضحًا جدًّا، فهي في قصيدة عنترة حلوة رقيقة، تُمَازِجُ النَّفْسَ فتمتزج بها؛ لأنَّ عَنْتَرة فيما يظهر قد كان حلو النفس، رقيق القلب، قوي العاطفة، جاءه ذلك من أنه عز بعد ذلة، وتَحَرَّرَ بعد رِقٍّ؛ فهو قد تألم في طفولته وصباه، واحتمل الأذى في شَبَابِهِ وأَيُّ أَذًى!

هذا الذل يداخل النفس، ويختلط بها اختلاطًا، فيصفي عواطفها تصفية، ويُلطف مِزَاجَها تَلْطيفًا، على حين تجد هذه النَّغمة من لبيد غليظة بعض الشيء، لا تخلو من خشونة وجفاء بدوي، فلبيدٌ يَتَحَدَّثُ عن صاحبته في أوَّلِ القَصيدة، ويَذْكُرها في أثناء القصيدة ولا يَنْسَاها، ولكنه ليْسَ مُتهالكًا عليها، ولا فانيًا فيها، ولا مُتَحَرِّجًا من الإعراض عنها، وجزاها بمثل ما تجزيه به من الهجران والصد؛ فهو يلقى قطيعة بقطيعة، ونأيًا بنأى، أما عنترة فيقول لصاحبته:

ولَقَدْ نَزَلْتِ فَلَا تَظُنِّي غَيْرَهُ
مني بِمنزِلةِ المُحَبِّ المكْرَمِ

وفي عنترة تحبب إلى صاحبته، وتَهَالك عليها، وحنين مُتصل إليها؛ فهو إذا فخر لا يفخر على صاحبته، وإنما يفخر لها، يُريد أن يُقنعها بأنه خليق أن تُحبه وتميل إليه، وليست رِقَّة عَنْتَرة مقصورة على صاحبته، بل هو رقيق بالقياس إلى عدوه الذي يقتله ويمثل به، أليس يقول:

فَشككتُ بالرُّمْح الطَّوِيلِ ثيابَهُ
ليس الكرِيمُ عَلَى القنا بِمُحَرَّمِ

بل هو رقيق على فَرَسِهِ، يَأْلَمُ لِأَلَمِهِ، ويشقى لشقائه، ويرى بكاءه، ويسمع توجعه حين تَعْبَثُ به رماح الأعداء، ويجعل نفسه ترجمانًا له، فيقول:

فازْوَرَّ من وقع القَنَا بِلَبانِهِ
وَشَكا إِليَّ بعَبْرَةٍ وتَحَمْحُمِ
لوْ كانَ يَدْرِي ما المحَاوَرة اشتكى
وَلَكان لوْ علِم الكلامَ مُكَلِّمي

وَفي عَنْتَرة معنى الرُّجولة العربية الكاملة؛ فهو رقيق دون أن تنتهي الرقة به إلى الضعف، وهو شديد دون أن تنتهي الشدة به إلى العنف، وهو صاحب شراب، دون أن ينتهي به السكر إلى ما يُفْسِدُ الخُلق والمروءة، وهو صاحب صحو، دون أن ينتهي به الصحو إلى التقصير عما ينبغي للرجل الكريم من العطاء والندى، وهو مقدم إذا كانت الحرب، وهو عفيف إذا قُسِّمت الغنائم، وهو يحاول أن يصف من أخلاقه ما يُشَرِّف به الرجل العربي الكريم، فيذكر هذه الخصال التي أشرت إليها، ثم يحس كأنه لم يحظ بخلاله كلها، وأخلاقه كلها، فيقول هذا الشطر الرائع:

وكما عَلِمتِ شَمائِلي وتَكرُّمي

وكثير جدًّا من أبيات هذه القصيدة قد ظَفِرَ بِحظٍّ عظيمٍ مِنَ الإيجاز والامتلاء، والبراءة من اللغو والفضول، حتى جرى مجرى الأمثال فأي الناس لا يتمثل قوله:

وإِذا شَرِبْتُ فإِنني مُستهلِكٌ
مالي وعِرْضِي وافرٌ لم يُكْلَمِ
وإِذا صَحَوْتُ قما أُقَصِّرُ عن نَدًى
وكما عَلِمتِ شمائِلي وتكرُّمي

وأي الناس لا يتمثل قوله:

يُنبئْكِ مَنْ شهدَ الوَقيعةَ أَنَّني
أَغْشى الوَغَى وأَعِفُّ عند المَغْنمِ

وأي الناس لا يتمثل قوله:

ولقد خَشِيتُ بأَن أَموت ولم تَدُرْ
للحرْبِ دائِرةٌ على ابْنَيْ ضَمْضَم

وأي الناس لا يتمثل قوله:

الشَّاتِمَيْ عِرْضِي ولم أَشْتُمْهما
وَالنَّاذِرَيْنِ إِذا لم الْقَهُمَا دمي

أليس من هذا الشطر الأخير أخذ جميل بيته المشهور:

فلَيْتَ رجالًا فيكِ قد نَذرُوا دَمي
وهَمُّوا بقْتلي يا بُثَيْنَ لَقُوني

وأي الناس لا يتمثل قوله:

إِن يفْعلا فلقد تركْتُ أَباهُما
جَزَرَ السِّباعِ وكلُّ نَسْرٍ قَشعَمِ

كل هذه القَصِيدة، أو أكثر هذه القصيدة، يجري مجرى المثل، ويُنشد على اختلاف العصور والبيئات والظروف، فلا يُملُّ إنْشَادُه، ولا تحس النفس نبوًّا عنه أو نفورًا منه، وإِنَّما تحس كأنها تجري فيه، وكأَنَّ هذا الشعر مرآة صافية صادقة لِكُلِّ نَفْسٍ كَريمة، ولكُلِّ قَلْبٍ ذكي، ولكل خلق نقي.

تستطيع أن تقرأ القصيدة من أولها إلى آخرها، فستجد فيها هذا المعنى الذي أشرتُ إليه، لا فرق في ذلك بين غزلٍ ووصفٍ، وفَخْرٍ ووَعِيدٍ، ولا أَكَادُ أَسْتَثْنِي إِلَّا هذه الأبيات القليلة التي ذكر الشاعر فيها ناقته، ومع ذلك؛ فإنَّ هذه الأبيات إن لم تَجْرِ مَجرى الأمثال، وإذا كانت كغيرِها مِمَّا قال الشُّعراء في وصف الإبل؛ فإنها لا تخلو من شيءٍ طريف.

انظر إلى هذا البيت الذي يُشَبِّهُ فيه الظليم وقد تبعته النعام بالعبد الأسود وقد ثابت إليه الإبل، وانظر إلى هذا التعبير الظريف عن العبد الأسود الذي لا يُحْسِنُ الإعراب عما يريد:

تَأْوِي له قُلُصُ النعامِ كَمَا أَوَت
حِزَقٌ يَمانِيةٌ لِأَعْجَمَ طِمْطِم

وهل يمكن أن أهمل هذه الأبيات التي كان القُدماء يحبونها ويعجبون بها أشد الإعجاب، وهي هذه التي يَصِفُ فيها ثغر صاحبته بالجَمَال وطيب النَّشر، فيَذْكُر فأرة المسك، ويَذْكُر الرَّوْضَة الأنف التي ألحَّ عليها الغيث حتى زكا نبتها، وحتى كثر فيها الذباب مُبتهجًا نشوان، مُتغنيًّا بما يجني من طيباتها:

وَكأَن فأْرةَ تاجِرٍ بِقَسِيمةٍ
سبَقَتْ عَوارِضُها إِلَيْكَ مِنْ الفَمِ
أَو رَوْضةً أُنفًا تَضَمَّنَ نَبْتهَا
غَيْثٌ قليلُ الدمْنِ ليسَ بِمُعْلمِ
جادتْ عليهِ كلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ
فتَركنَ كلَّ قرَارةٍ كالدرْهمِ
سحًّا وتسْكابًا فَكل عَشِيةٍ
يجرِي عليها الماءُ لم تتَصرَّمِ
وَخَلا الذبابُ بها فليسَ ببارِحٍ
غَرِدًا كفِعْلِ الشَّارِبِ المُترنمِ
هَزِجًا يَحُكُّ ذراعهُ بذِراعِه
قَدَحَ المُكِبِّ على الزنادِ الأَجْذمِ

وانظر معي إلى هذه الأبيات الأربعة، فلست أعرف أبلغ منها في تصوير الحنين والحب واليأس معًا:

حيِّيتَ منْ طَلَلٍ تقادَمَ عهدُهُ
أَقوى وأَقفَرَ بعْدَ أُمِّ الهيْثَمِ
حَلَّتْ بأَرضِ الزائرين فأَصْبَحَتْ
عَسِرًا عَلَيَّ طِلابُكِ ابنَةَ مَخرَمِ
عُلقْتُها عرَضًا وأَقتُلُ قوْمها
زَعْمًا لَعمْرُ أَبيكَ ليسَ بمَزَعَمِ
ولقد نزَلْتِ فلا تَظُنِّي غَيْرَه
مِني بمنزلةِ المُحبِّ المكْرَمِ

كل القصيدة جيدة، وكل أبياتها خليق أن نطيل الوقوف عنده، والتفكير فيه، والإعجاب به. قلتُ: فإني لا أُنكر عليك من هذا شيئًا، ولكنِّي لم أفهم إقحامك لوزير التقاليد في هذا الحديث.

قال: فإني يا سيدي رأيتُك فاترًا عن حديث عنترة القديم، فأردت أن أُثير فيك النشاط بذكر عنترة الحديث.

١  نُشرت بجريدة الجهاد في ٨ مايو سنة ١٩٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤