الفصل الرابع عشر

ساعة مع سويد بن أبي كاهل١

قلتُ لصاحبي وهو يتهيأ لقراءة إحدى المطولات المعروفة: أرح نفسك وأرحني اليوم من هذه المطوَّلات؛ فقد أكثرنا القول فيها، وتعالَ نَقرأ مُطولة أُخرى، ليست شَائِعَةً ولا ذَائِعَة في هذه الأيام، وإنْ أَذَاعَتْهَا المطبعة في غير كتاب، وإنْ كانت في العصر القديم شَائِعَة ذائعة يُحِبُّها العرب، ويكلفون بها، ويتمثل الخطباء المُجيدون بأبياتها، ويحرصُ الرُّواة على رِوَايَتِها، ويُؤثرونها على كثيرٍ من الشِّعر، ويَزْعُمون أنَّ العرب كانت تسميها اليتيمة.

قال صاحبي: وما عسى أن تكون هذه القصيدة؟ قلت: هي عينية سويد بن أبي كاهل، وهو كما تعلم شاعر جاهلي أدرك الإسلام وعمر فيه غير قليل، وجهل الرُّواة أكثر أمره، ولم يعرفوا عنه إلا أنه كان مختلط النسب، ينتسب في ربيعة حينًا، وفي مضر حينًا آخر، وقد اجتهد الرواة في تعليل هذا الاختلاط، فزعموا أنه ولد في قيس من مضر، ثم تزوجت أمه أثناء طفولته رجلًا من ربيعة فانتسب إليه وإلى قبيلته.

والشاعر على كل حال يَمْدَحُ الربعيين في قصيدته هذه التي سنقرؤها، ويهجوهم ويمدح المُضريين في قصيدةٍ أخرى، أو في قصائد أخرى.

ويُحَدِّثُنا الرُّواة أنَّ هَذَا الشَّاعِرَ كان هجَّاء فاحش اللسان، وأنَّ أميرًا من أُمراء الكوفة حبسه في الهجاء فأطال حبسه، ولم يخرجه من السجن إلا جماعة من عبس، وهي قبيلة قيسية مضرية كما تعلم، وإنما أعانته هذه القبيلة لما أهدى إليها من المدح والثناء، فهي قد عرفت له يده عندها.

ولا يكاد الرواة يعرفون بعد هذا من أمر الشاعر شيئًا إلا أنَّ شعره كان يجري مجرى المثل على ألسنة الخطباء والأمراء والشُّعراء؛ فقَدْ تَمَثَّل به عبدُ اللهِ بْنُ الزُّبير، وتمثَّل به الحَجَّاجُ، وتمثل به الفَرَزْدَقُ أيضًا، وتمثل به غير هؤلاء من أعلام الناس.

وكان الأصمعيُّ — فيما روى أبو الفرج — يعجب بعينيته هذه إعجابًا شديدًا، وكان ابنُ سلام يزْعُم أنَّ له شِعرًا كثيرًا، ولكنَّ هَذه العينية امتازتْ مِنْهُ وبرزت عليه، ثم حاول ابن سلام أن يروي له شيئًا من هذا الشعر الكثير فلم يزد على بيتٍ واحد، وروى أبو الفرج له أبياتًا مُتفرقة من قصائد مُختلفة، ولم يَرْوِ له ابنُ قتيبة حين أراد أن يترجم له إلا أبياتًا من هذه العينية الرَّائعة.

وأَظُنُّني قد أَلْمَمْتُ بأكثر ما عرفه القُدماء من أَمْرِ هذا الرجل، فهم كما ترى لم يعرفوا منه إلا هذه القصيدة، وهي خَلِيقَةٌ أَنْ تُعْرَف وتُحْفَظ حقًّا، ولستُ أدري كيف لم تُرْوَ بين هذه المطولات التي كثر فيها الكلام وانتشرت حولها الأساطير، ولكنَّ في الشعر القديم قصائدَ أخرى جيادًا ليست أقل جودة ولا روعة من هذه المطولات السبع أو العشر، وهي مع ذلك لم تظفر بمثل ما ظفرت به المطولات من العِناية وكثرة الذِّكر والرِّواية، وليس عبث الحظ مقصورًا على الناس؛ فهو ينالُ الأَشياء أَيْضًا، وهو ينالُ الشِّعر والنثر فيما ينال.

وأظنك ستُوافقني على أنَّ هَذِه المُطَوَّلة البديعة مِنْ أَرْوع الشعر العربي وأرقاه، ومن أعذبه وأحسنه موقعًا في السمع ومسلكًا إلى النفس، وإذا كان شعر صاحبها قد ضاع؛ فإنَّها تكاد تغني عما ضاع من شعره؛ لأنها تصور مذهبه في الشعر، وحظه من إجادته تصويرًا قويًّا واضحًا؛ ذلك لأنها جمعت ألوانًا من فنون الشعر التي كان يطرقها القدماء، وأكبر الظن أنها جمعت فنون الشعر التي كان يطرقها سويد نفسه، ففي القصيدة غزل طويل مُكَرَّرٌ، وفي القصيدة وَصْفٌ، وفيها فَخْرٌ بِقَوْمِهِ، وفيها فخر بنفسه، وفيها بعد ذلك هجاءٌ لخصومه ومنافسيه، وما أَظُنُّه طَرَقَ فنًّا آخر غير هذه الفنون، إلا أن يكون المدح الذي يغني عنه الفخر أحسن الغناء.

وشاعِرُنَا كَمَا سترى قوي الحسِّ جِدًّا، دَقِيقَ الشعور جِدًّا، وهو كذلك مَالك لأمر الشِّعْرِ، يُصَرِّفه كما يُحب، لا يَجِدُ في تَصريفه مَشَقَّةً ولا جهدًا.

وإذا جَازَ أنْ نتخذ قصيدته هَذِه نموذجًا لِشِعْرِهِ الذي ذهب عَنَّا، فقد كان الشاعر مُطيلًا؛ لأنَّ قصيدته هذه قد نيفت على المائة، وقد كان الشاعر سهل الفظ في غير إسفاف ولا ابتذال، وقد كان الشاعر لا يتحرج من اصطناع الكلمات التي تغرب بعض الشيء، إذا أطال القصيدة، أو دفعته القافية إلى شيءٍ مِنَ البَحث والتفتيش عن الألفاظ.

وسترى حين تقرأُ القَصِيدة أنَّ الشاعرَ كان يُحسن بناء قَصيدته، فلا يضطرب فيها، ولا يختلط عليه الأمر، وإنما يتصور الأغراض التي يريد أن يقول فيها الشعر، ثُمَّ يُلائِمُ بينها مُلاءمة حَسَنَةً، ثم يتمثل قصيدته كما يتمثل المهندس صور البناء الذي يُريد أن يُقِيمَه، ثم يندفع في إنشاد القصيدة فلا يكف حتى يتم ما كان يريد أن يقول.

وهو في هذه القَصيدة يَقْصِدُ إلى غرضين واضحين؛ فأمَّا أوَّلُهما: فهو الفخر بقومه من بني بكر بن وائل. وأما الآخر: فهو الفخر بنفسه خاصة، ومُهاجمة الذين كانوا يعيبونه ويريدونه بالسوء. ولكنه لا يُسرع إلى هذين الغرضين إسراعًا، وإنما يسعى إليهما مُتمهلًا، كأنَّه مالك لوقته كله لا يدفعه دافع، ولا يُعجله مُعجل، إنَّما هو يَسْعَى مُتروِّضًا مُتَنزهًا في جنَّاتِ الشِّعْرِ، يتغنى بما يثور في نفسه من العواطف والأهواء والخواطر. والغَزَلُ أول شيء يثور في نفسه؛ فهو يتغزل ويطيل في غزله، حتى إذا شفى نفسه من ذكر صاحبته، شَخْصها أولًا، وخيالها بعد ذلك، انتقل من الغزل إلى الوصف، فوصف البيداء، ووصف السراب، ووصف الخيل التي يقطع بها البيداء، ثم انتهى إلى قومه فوصفهم وفخر بهم، مُستأنيًا مجودًا، حتى إذا بلغ حاجته من الفخر بقومه، لم يثب إلى الفخر بنفسه وثوبًا، ولم يندفع إليه اندفاعًا، وإنما تمهل واستأنى، واستأنف الشعر من جديد، كأنه يُرِيدُ أنْ يَقُول قصيدة أخرى غير قصيدته الأولى، فهو يصرِّع كما تعود الشعراء التصريع في المَطالع، وهو يَسْتَأنف الغزلَ بِصَاحبته مرة أُخرى، فإذا أتمَّ حظه من الغزل، استأنف الوصف، فوصف ناقته، واتخذ وصفها سبيلًا إلى وصف الصيد وكلابه، وسهام الرُّماة، وما يكون بين الثَّور الذي يُشبه به ناقته وبين الكلاب من طراد، فيه فزع ومكر، وفيه كيد وإقدام، وفيه ثقة بالنفس وإشفاق من الخصم. ثم يفرغ من هذا كله لما أراد إليه من الفخر بنفسه، وإحصاء ما يستطيع إحصاءه من مفاخره ومآثره، ثم يُنَحِّي على عدوه ومنافسيه فيُهاجمهم أشد مهاجمة، ويأخذهم أخذًا عَنيفًا، ثم يختم قصيدته بهذا البيت، الذي يلمؤه بما شاء من التحدي والتصدي، والمُخاصمة والمُقاومة، وانتظار من يجرؤ على لقائه ومناهضته بقولٍ أو عمل:

هَلْ سُوَيدٌ غير ليث خادرٍ
ثَئدَتْ أَرْضٌ عليهِ فانْتَجَعْ

قال صاحبي: ما رأيتُ كاليوم ناقدًا يأخذ الشعر من آخره، ويبدأ القصيدة من حيث انتهت. قلت: لا تعجل إنما أردتُ أنْ أُقيم بين يديك هذه الصورة التي أقامها الشاعر لنفسه، وجعلها آخر قصيدته، كأَنَّما أَرَادَ أنْ تبقى في نفس الذين يسمعونه ويقرءونه، فلا يقع في نفوسهم منه إلا هذا التأثير القوي، تأثير الليث العزيز الأبي، الذي يستقرُّ إلا أن يهيجه هائج، والذي يطمئن في الأرض ما اطمأنت به الأرض، فإذا ضاقت به، أو فسدت عليه، أو سيم فيها ما لا يُحِبُّ، تحول عنها إلى أرض أُخرى مُلائمة له لا يلقى فيها شرًّا، ولا يسأم فيها ضيمًا.

وإذا كنت متعجلًا إلى قراءة القصيدة من أولها؛ فانظر معي إلى هذا الغزل، واقرأ معي هذه الأبيات، واعجبْ مَعي بما ستَجِدُ فيها من سذاجة حلوة، قد اتَّخَذَها الشَّاعِرُ وسيلة إلى وصف أشياء قد أكثر الشعراء من وصفها، فحببها إليك، ونفى عن نفسك ما قد يعتريها من الملل، إذ نظرت في أشياء طالما عرضت عليها:

بَسطَتْ رابِعَةُ الْحَبْلَ لنا
فَوَصلْنَا الْحَبْل مِنَها مَا اتَّسَعْ

فهو لا يشكو من صَاحِبَتِهِ شَيئًا، لا يضيق بها لأنَّها لم تَضِقْ بِهِ، وَلَا يَزْوَرُّ عَنْهَا لِأَنَّها لم تَزْوَرَّ عنه، وإنما وصلته فَوَصَلَهَا، وآثَرَتْهُ فآثرها، وصَفَا لهما العيشُ ما استقامت لهما الحياة.

فإذا كان هناك فراق آذاه، ونأيٌ أضناه، فصاحبته لم ترغب في فراق، ولم تعمد إلى النأي، وإنَّما هي خطوب الأيام، وصروف الأحداث.

ولكن انظر إلى هذا المطلع كيف ذهب فيه مذهب المثل، ومذهب المثل البدوي الساذج القريب؟ فشَبَّه ما يكون بين الحبيبين المُتواصلين في مودة وإسماح، بالحبل قد أخذ بطرفيه شخصان لا خُصومة بينهما ولا مُقاومة ولا مُشَادَّة، وإِنَّما هي السَّمَاحَةُ واللينُ، ثم انظر إليه كيف يصف صاحبته فيقول:

حُرةٌ تَجْلُو شتِيتًا وَاضِحًا
كَشُعاعِ الشَّمْسِ في الْغَيْم سَطعْ

ويُعجبني من هذا البدوي تشبيه ما يكون من صفاءِ الثَّغْرِ النَّقي الوَاضِح النَّاصع بين الشفتين بشعاع الشَّمس حين يظهر أثناء الغيم.

وليس أدلَّ على بداوة هذا الشاعر وبعده عن تكلف المُترفين، من هذا البيت الذي يأتي بعد ذلك، والذي يُصور صاحبته معنية بأسنانها، تصقلها وتجلوها بالسواك الناعم الناضر حتى يظهر ناصعًا نقيًّا:

صَقلتهُ بِقَضِيبٍ ناضِرٍ
مِنْ أَرَاك طَيِّبٍ حَتَّى نَصَعْ
أَبْيَضَ اللوْنِ لَذِيذًا طعْمُهُ
طَيِّبَ الريقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعْ

وانظر إلى قوله: «إذا الريق خدع» فهو أيضًا يُصَوِّر سذاجة الشاعر وبداوته، وبُعْدَه عن تكلف المُترفين، فصاحبته مَعْنِيَّة بالنظافة لا تهمل ثغرها، فهي لا يفسد فمها إذا فسدت الأفواه، ولا يتغير رِيقها إذا تَغَيَّر الرِّيق.

وواضح أنَّ هذا كلام لا يقُوله المُترفون، وإنَّما يُهملُونه ويتجافون عنه، ولكنَّ صَاحِبَنا بَدوي يُصور بيئة بدوية، ثم انظر إليه كيف أراد أن يصف صورتها، فلم يصفها مُباشرة، وإنَّما عَكَسها في المرآة، وزَعَم أنَّ صَاحِبَته تمنحها للمرآة منحًا، فقال:

تَمْنَحُ الْمِرْآةَ وَجْهًا وَاضِحًا
مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في الصَّحْوِ ارْتَفعْ
صَافِيَ اللوْنِ، وَطَرْفًا سَاجِيًا
أَكْحلَ الْعَينيْنِ ما فِيهِ قمَعْ
وَقرُونًا سابغًا أَطْرافها
غَللتْها رِيحَ مِسْكٍ ذِي فَنعْ

وهذا كله شعر جميل، ولكِنَّه مَأْلُوف تحبه النفس، وتستطرفه لسذاجته وجمال لفظه لا لشيءٍ آخر.

فانظر بعد ذلك إلى هذه الأبيات التي يتحدث فيها عن الخيال:

هَيَّجَ الشَّوْق خيالٌ زَائرٌ
مِنْ حَبِيبٍ خَفِرٍ فيهِ قَدَعْ

ولا تخفك كلمة «القدع» هذه فمَعنَاها الحياء، وأحسب القافية هي التي دعتها فجاءت غير مُستكرهة، ولا نابية بالبيت:

شاحِطٌ حازَ إِلى أَرْحُلِنَا
عُصبَ الغَابِ طَرُوقًا لَمْ يُرَعْ

فَهذا الخَيالُ الذي فيه خفر وحياء، لم يَمْنَعْه خفره وحياؤه أنْ يَجْتَاز الآماد البعيدة، وأن يقتحم عصب الغاب في غير خوف ولا روع ليزور الشاعر، وإذن فكلمة «القدع» هنا لها معناها وقيمتها.

آنِسٌ كانَ إِذا ما اعْتادنِي
حالَ دُونَ النوْمِ مِني فامْتَنعْ

وفي الشطر الثاني لهذا البيت أصل المعنى الذي جود فيه بشار في بيته المشهور:

لَمْ يَطُلْ لَيْلِي ولكِنْ لمْ أَنَمْ
ونَفَى عنِّي الكَرى طَيْفٌ أَلَم

وظَاهِرٌ جِدًّا أنَّ بَشَّارًا قد زَادَ في هذا المعنى، ولكنَّ زِيادَتَهُ ليست مُبْتَكَرة ابتكارًا، وإنما هي مُوجودة بالقُوَّة — كما يقولُ الفلاسفة — في الأبيات التي ستقرؤها، والتي يصف فيها الشاعر طولَ الليل، وتَثَاقُله وإبطاءه في الحركة، ورجوعه كُلَّمَا ظَنَّ الشَّاعِرُ أَنَّه قَد انْقَضَى! ذلك أنَّ شاعرنا إنما يصف طول الليل ويُلح فيه، بعد أنْ ذكر الأرق الذي دفعه إليه إلمام الخيال به دفعًا، فالطولُ إذن ليس مُحققًا في نفسه، وإنَّما هو يأتي من أرق الشاعر، وعجزه عن النوم، وضيقه بالليل! فالليل في حقيقة الأمر لم يطل، وإنما أرق الشاعر فاستطاله واستثقله، وهو المعنى الذي قصد إليه بشار، بعقله الفلسفي المُتحضر، وبصيرته النَّافذة، وبراعته في الإيجاز.

ولكنْ انْظُر مَعي إلى هذا البيت، فستعجب بصدوره عن هذا البدوي:

وكَذَاكَ الحُبُّ ما أَشْجَعَهُ
يَرْكَبُ الهوْل ويَعْصِي مَنْ وزَعْ

ألستَ تَرَى في إِضَافَة الشَّجاعة إلى الحُبِّ، وفي وصف الحب بركوب الهولِ، وعِصْيَانِ الوَازِع، تعليلًا رائعًا جميلًا، لإقدام الخيال على هذه الزِّيارة البعيدة المخوفة، مع ما فيه من الخفر والحياء! وكان الحق أن يتقدم هذا البيت فيأتي قبل البيت الذي سبقه، وأكبرُ الظن أن الشاعر قد وضعه هذا الموضع ولم يتأخر إلا في أفواه الرواة.

وانظر بعد ذلك وصفه لطول الليل:

فأَبِيتُ الليْلَ مَا أَرْقدهُ
وبِعيْنَيَّ إِذا النَّجْمُ طَلَعْ
وإِذَا ما قلْتُ ليْل قَدْ مَضَى
عطَفَ الْأَوَّلُ مِنهُ فَرَجَعْ
يَسْحَبُ اللَّيْلُ نُجُومًا ظُلَّعًا
فَتواليهَا بَطِيئاتُ التَّبَعْ
ويُزَجيهَا عَلَى إِبْطائها
مَغْرَبُ اللَّوْن إِذا اللوْنُ انقَشَعْ

وأنا مُعجب جدًّا بقول الشاعر:

وبعيني إذا النَّجم طلع

وإن كان بعض الرُّواة يغير هذه الرِّواية فيُفسد البيت فيما أظنُّ حين ينشد «ويعنيني إذا النجم طلع».

ولكن ما ترى في هذه الصورة التي يعرضها الشاعر عليك، فيَزْعُم لك أنَّ الليل قد طال وطال، حتى كأنَّ كل قطعة منه إذا مضت في طريقها أمدًا، عادت إلى حيثُ كانت، واستأنفتْ طَرِيقَها مَرَّةً أُخرى؟ وما ترى في هذه الصورة الثانية التي يعرضها عليك، فيزعم لك أن الليل يقود النجوم، وأن هذه النجوم تمشي مُتثاقلة مُبْطِئة، كأنَّما أَدْرَكها الظلع الذي يدرك الإبل فيعوقها عن المشي السريع المُستقيم وهي مُبطئة، وتواليها مبطئة أيضًا، ومن ورائها الصبح يحدوها، دون أن يَستطيع أن يدفعها أمامه دفعًا سريعًا، كمَا أنَّ الليل يَقُودُها دونَ أنْ يَستطيع أن يَحْمِلَها على أن تُسرع من ورائه.

فهي بليدة على قائدها، وهي بليدة على سائقها! أما أنَا فأَرَى في هذا شِعْرًا جميلًا رائعًا، وَأَنَا أَعْلَمُ أنَّ الشُّعراء قد أكثروا في هذا المعنى، ولكني أُحِبُّ سَذَاجَة الشاعر في تصويره وهدوئه، وبُعْدِهِ عن التكلف في عرضه، وأحب هذه الحياة التي يبعثها الشاعر في الليل والصبح، والنُّجوم بين الليل والصبح، بل أحب هذا التشخيص الذي يحمل الشاعر على أن يجعل الليل قائدًا، والصبح سائقًا، والنجوم إبلًا تُقاد وتُساق.

ويمضي الشاعر في تصوير حُبِّه لصَاحِبَتِهِ، وفي تصوير ما لحديثها من جمالٍ، وفي تصوير هذا السِّحْرِ الذي اخْتَبَلَهُ وَمَلَك عَلَيْهِ أَمْرَه، حتى ينتهي إلى وصف الطريق والخيل فيقول:

وَفلَاةٍ واضِحٍ أَقْرَابُهَا
بَاليَاتٌ مِثْلُ مُرْفَتِّ القَزَعْ

ولا ترُعك هذه الألفاظ التي تظهر غريبة، فالمعنى الذي قصد إليه الشاعر واضح جميل؛ فهو يُريد أنَّ هذه الفلاة على بُعْدِها وَاضِحَةُ النواحي، بالية قد تفرقت أعلامها، كما يتفرق الشعر في الرَّأس الأصلع، أو كما يتفرق الغيم الضئيل في السماء:

يَسْبَحُ الآلُ عَلَى أَعْلَامِهَا
وعَلَى البِيدِ إِذا اليوْمُ مَتَعْ
فَركِبْنَاهَا عَلَى مَجْهُولهَا
بِصِلابِ الْأَرْضِ فيهنَّ شَجَعْ

ثم يَمْضِي في وَصْفِ الخَيل، حتى ينتهي إلى هذا التشبيه الجميل، الذي يُصور فيه الخيل وهي مُسرعة كأنَّها القَطَا تنصب من الجو إلى الماء لتحسوه:

يدرعْنَ الليْلَ يَهْوِينَ بِنَا
كهُوِي الْكدْر صَبَّحْنَ الشرَعْ

ثم ينتهي بعد ذلك إلى قَومِهِ بني بكر؛ فانظر إليه كيفَ يصفهم فيجيد:

لِبَنِي بَكْرٍ بِهَا مَمْلَكةٌ
مَنظرٌ فِيهمْ وفيهم مُسْتَمَعْ
بُسطُ الْأَيْدِي إِذا ما سُئِلُوا
نُفُعُ النَائلِ إِنْ شَيءٌ نَفَعْ
مِنْ أناسٍ لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقهمْ
عاجِلُ الْفُحْشِ ولا سُوء الْجزَعْ

وهو يمضي في هذا الفخر بقومه، كأحسن ما تعَوَّد الشُّعراء أن يمضوا، فيصفهم بالشَّجاعة والإباء، وبالكرم والجُود، في أحسن لفظ وأمتنه، وفي أجمل أسلوب وأَرْصَنِهِ، حَتَّى إذا شفى نفسه من ذلك، استأنف شعره وابتدأ الغزل من جديد فقال:

أَرَّق العَيْنَ خَيالٌ لَمْ يدَعْ
مِنْ سُلَيْمَى ففُؤادِي مُنْتَزَعْ
حل أَهْلِي حَيْثُ لا أَطْلُبُها
جانِب الحَضْر وحَلَّتْ بالفَرَعْ
لا أُلاقيها وقلْبِي عِنْدَها
غَيْرَ إِلْمامٍ إِذا الطرْفُ هَجَعْ

ثم يمضي في هذا الغزل الجميل الهادِئ، الذي يُصور شوقًا حزينًا هادئًا، حتى ينتهي إلى الوصف، فيُشبه ناقته بثور يَسبح في الآل، وقد أوجس خيفة لأنَّه أحسَّ نبأة من صائد، وأحسَّ كِلاب الصَّيدِ؛ فهو يعْدُو غير جاد في العدو لأنَّه وَاثِقٌ بنفسه، مُقَدِّرٌ أَنَّه سيسبق الكلابَ وإنْ لَمْ يُسرف في العدو، والكلابُ على جشعها تعدو في أثره، متثاقلة بعض الشيء لأنَّها تخاف أن يكر عليها فيصيبها بقرنيه، ويسفك من دمائها غير قليل، فهي تسعى غير متهالكة، وهو يعدو غير مسرف، حتى إذا أحس قُربها منه جدَّ في العدو، ثم ينتهي من هذا الوصف إلى استئناف الفَخْرِ بقَومه وبنفسه، وانظر إلى هذه الأبيات الحسان:

كَتَب الرحمنُ والْحَمْدُ لَهُ
سَعَةَ الأَخْلاقِ فِينا والضلَعْ
وإِبَاءً لِلدَّنِيَّاتِ إِذا
أُعْطِي المَكْثُور ضَيْمًا فَكَنَعْ
وبناءً للمعالِي إِنما
يَرْفَعُ اللهُ ومن شَاءَ وضَع
لا يُرِيدُ الدَّهْرَ عَنْها حِولا
جُرَع الموْتِ ولِلْمَوْتِ جُرَعْ
نِعَمٌ لله فينا ربَّها
وصنيعُ اللهِ واللهُ صنَعْ
كيْفَ باسْتقرَارِ حُرٍّ شاحِطٍ
بِبِلادٍ ليسَ فيها مُتَّسَعْ

نعم كيف باستقرار حر شاحط ببلاد ليس فيها مُتَّسَعٌ، ولا سيما حين يكثر من حولك الأعداء، وتنتشر الخصومات، ويسعى بك الساعون، ويكيد لك الكائدون! وما أعرف شعرًا أجمل ولا أروع، ولا أبلغ في تصوير الرجل الشجاع ذي القلب الذكي، والنفس الأبية، يصبر للعدو، ويتحداه غير حافل به، ولا آبه له، من هذه الأبيات التي تمثل بها الحجاج ذات يوم:

رُبَّ مَنْ أَنضَجْتُ غَيْظًا قَلْبَهُ
قَدْ تَمنَّى لِيَ مَوْتًا لَم يُطَع
ويَرانِي كالشَّجا فِي حَلْقِهِ
عَسِرًا مخْرَجُه ما يُنْتَزَعْ
مُزْبِدٌ يَخْطِرُ مَا لمْ يَرَنِي
فإِذا أَسمَعْتهُ صَوْتِي انْقَمعْ
بِئْسَما يَجْمَع أَنْ يَغتابنِي
مَطْعَمٌ وَخْمٌ ودَاءٌ يُدَّرَعْ
ويُحيِّيني إِذا لاقَيْتُهُ
وإِذا يَخْلُو لهُ لَحْمِي رتَعْ

ثم يمضي في هذا الفخر الجميل بنفسه، وفي هذا الوصف الرَّائع لعدوه، حتى ينتهي إلى هذه الأبيات، التي يُصور فيها انهزام خصمه له، وقد أعيته الحجة، وعجز عن الخصام فيقول:

فَرَّ مني حَيْثُ لا يَنْفَعُهُ
مُوقَر الظَّهْرِ ذَليل المُتضَعْ
ورأَى مِنِّي مقامًا صَادقًا
ثابِتَ المَوْطِن كتَّام الوجعْ
ولِسانًا صَيْرَفيًّا صارِمًا
كحُسامِ السَّيْفِ ما مسَّ قَطع

وعلى هذا النَّحْوِ الجَزِل السَّهْلِ الرَّصِينِ الرَّائع يمضي الشاعر، حتى يُتم قصيدته بذلك البيت الذي تملؤه الهيبة والرَّوعَةُ، والذي ابتدأت به هذا التحليل.

وأحسب أن هذه القصيدة ليست قصيدة واحدة، وإنما هي تأتلف من قصيدتين، قيلتْ أُولاهما في الجاهلية، وقيلتْ أُخراهما في الإسلام، أو هي قصيدة واحدة بُدئت في الجاهلية، ثم أَضاف إليها الشاعرُ في الإسلام هذه الأبيات التي يكثر فيها ذكر الله والتحدُث بنعمته، وتصور فيها الغيبة على نحو ما صورت في القرآن الكريم.

قال صاحبي: مهلًا، لا تدفع نفسك إلى هذا النحو من التحقيق؛ فليس يعنيني منه شيء، ولكن ألست ترى أنَّ هذه القصيدة خليقة أن يرويها الشُّبان، ويُؤدبون بها تأديبًا؟ ففيها يجدون الرُّجولة الكَامِلَة، والمُروءة التي تعلمهم كيف يثبتون للأيام، ويحتملون المكروه، ويلقون عداء العدو، وكيد الكائدين.

قلتُ: وما يمنع أن يرويها الشُّبان، وأن تُفسر لهم، وأن يؤخذوا بحفظها وفهمها! فهي أيسر عليهم، وأدنى إليهم، من كثير مما يحفظون ويدرسون.

١  نُشرت بجريدة الجهاد في ١٥ مايو سنة ١٩٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤