الفصل السابع عشر

الغزل والغزلون:١ نشأته وأسبابها وفن القصص الغرامي

لذيذة جدًّا قراءة الأغاني في أرض ما أحسب أنه قرئ فيها قبل اليوم، في أقصى الغرب الفرنسي. نعم! فقد اصطحبت معي هذا الكتاب، وما قرأتُ فيه يومًا إلا ذكرتُ قِصَّة ذلك الرجل القديم الذي كان كُلما ارتحل اصطحب أجمالًا تحمل له ما يحتاج إليه من الكتب في رِحْلَتِهِ، فلَمَّا ظهر كتاب الأغاني استغنى عن تلك الأَجْمَال وما كانت تَحْمِلُ من أسفار، واكْتَفَى باصطحاب هذا الكتاب.

أذكر هذه القصة كُلَّما قرأت في كتاب الأغاني، وليس يعنيني أن تكون القصة صحيحة أو غير صحيحة، ولكني أؤكد أن في هذا الكتاب ما يغني عن الأجمال، وعَمَّا يُمْكِنُ أن تحمل من أسفار، وإنَّ مِنَ اليسير جدًّا أنْ يَسْتَغْنِيَ به الباحثُ عن كثير من كتب الأدب والتاريخ.

ولكن شأن الأغاني في هذه الأيام كشأن غيره من كُتب الأدب والتاريخ التي تركها لنا القدماء؛ فهو — كهذه الكتب — في حاجةٍ شديدة جدًّا إلى أنْ يُقرأ، وإلى أن يفهم، وإلى أنْ يستخلص منه العلم على النحو الذي يُلائم العقول في هذا العصر الذي نعيش فيه.

ولقد يكون من الحقِّ أَنَّ كثيرًا منَ الشُّبان والشيوخ في مصر وفي غيرها من البلاد الشرقية يستطيعون أن يقرءوا هذا الكتاب وغيره من كتب الأدب والتاريخ، دون أن يستفيدوا منها فائدة قيِّمة، بل رُبَّما كانت قراءة هذه الكُتب بعيدة كل البعد عن أن تنفعهم أو تجدي عليهم.

ذلك أن اختلاف العصور شديد الأثر في العقول وفي حاجاتها وفي استعدادها للفهم والدَّرْسِ؛ فَقَدْ كان القُدَمَاءُ يجدون في أخبار أبي الفرج وفي أخبار الطبري ما يكفيهم ويَسُدُّ حاجتهم إلى الحفظ والرواية، وكان ما كتب أبو الفرج والطَّبري وغيرهما من الأدباء والمؤرخين مُلائمًا كل المُلاءمة لعقول هؤلاء الناس الذين كانوا لا يبتغون من الأدب مِثْلَما نبتغي نحن الآن، والذين كانوا يستطيعون أن يتركوا عقولهم ومنطقهم إذا عرضوا لقراءة مثل هذه الكتب، وألا يعتمدوا على هذه العقول ولا على هذا المنطق إلا إذا عرضوا للفلسفة أو الكلام أو الفقه أو نحو ذلك من العلوم التي تحتاج إلى النظر وتدعو إلى الجدال.

كانوا يعتمدون في قراءة الأدب والتَّاريخ على الرِّواية من جهة، وعلى الذَّوق من جهةٍ أُخرى، وكانوا يرضون الرِّضا كله إذا رويت لهم الأخبار عن هؤلاء الثِّقات الذين اعتمد عليهم القُدَماء في نقل السير والأخبار، كما كانوا يرضون الرضا كله إذا وقعت إليهم القصيدة الجيدة أو المقطوعة المُختارة فلاءمت أَذْوَاقَهُم ومثلهم الأعلى في الفن.

أما نحنُ فأشدُّ من هؤلاء القدماء طمعًا وأكثر منهم تحفظًا، لا تكفينا أسماء الثقات من الرُّواة، ولا يكفينا جمال القصيدة وجودة المقطوعة، وإنما نُرِيدُ أنْ نَتَّخِذَ كل شيء موضوعًا للبحث والنقد والتحقيق والتحليل، ولا نكاد نفرق في ذلك بين الأدب والعلم.

ونحنُ مُحِقُّون؛ لأننا لا نبتغي من الأدب والتاريخ رواية الأعاجيب والعظات، ولا إرضاء الذوق والمَيل الفَنِّي، وإنَّما نتخذ الأدب والتاريخ مرآة للأُمَمِ، وسبيلًا إلى فهم حياتها العَقْلِيَّة والشِّعرية، وإلى فهم ما خضعت له من ألوان النظم المختلفة.

وإذن فنحنُ أَشَدُّ طَمَعًا مِنَ القُدَمَاء، وأَكْثَرُ مِنْهُم حِرْصًا على التحقيق ومَيلًا إلى التحليل، وإذن فليس يكفينا أن نقرأ الأغاني، وتاريخ الطبري، وإنما نريد أن نفهم هذين الكتابين وأَمْثَالهما على الوَجْهِ الذي يُلائم طريقتنا في الفهم، ومنهجنا في الدرس والتحليل.

ومن هنا لا يجد القراء جميعًا لذة ولا مقنعًا في قراءة كُتب القدماء؛ لأنَّهم جَميعًا لا يَمْلِكُون مَنَاهِجَ البَحْثِ القيِّم عن آثار القُدماء، ومن هنا كان من الحق أنْ نَقُول: إنَّ كتاب الأغاني وتاريخ الطبري وأمثالهما ليْسَتْ كُتُبَ أَدَبٍ وتاريخ، وإنما هي مصادر للأدب والتاريخ.

ومن هنا نستطيع أنْ نَقُولَ: إِنَّ اللغة العَرَبية تَخْلُو إلى اليوم، وستخلو، من كتب الأدب والتاريخ إلى أن يُتِيحَ لها اللهُ كتبًا في هذين الفنين تُلائم عقولنا الحديثة، وتحقق أطماعنا الحديثة، وترضي حاجاتنا العلمية والفنية.

ولكن ما لي ولهذا النَّحو من الكلام، وأَنَا إِنَّما ابتدأتُ هذا الفصل لأتحدث إليك عن الغزلين وأخبارهم، أو لأتحدث إليك عن القصص الغرَامي أيام بني أُمَيَّة! وكيف استبحت لنَفْسي أَنْ أُجاوز هذا الموضوع المُحَدَّد إلى هذا النحو من نقد كتب القدماء والحُكم عليها أو لها! ذلك أني أريد أن أنتقل من هذا النقد إلى تفسير هذه المواقف المُختلفة التي أقفها من كتب القدماء، وآداب القدماء، وأحكام القدماء، والتي يدهش لها كثير من المُعاصرين، ويسخط عليها كثير من المُتعصبين؛ فَأَنَا لَا أَفْهَمُ الأدب العَربي كَمَا كَانَ يفهمه القُدماء وكما لا يَزَالُ يفهمه أَنْصَار القديم من أدباء اليوم، وأنا لا أحكم على الظواهر الأدبية كما كان يحكم عليها القُدَماء، وكما لا يزال يحكم عليها شيوخ الأدب في أيامنا، وإنَّما أَفْهَمُ الأدب العربي وأحكم على ظواهره كما يَنْبَغي أن يفهمه ويحكم على ظواهره رجل يعيش في القرن العشرين، ويفهم كما يفهم أهل هذا القرن، ويطمع في مثل ما يطمع فيه أهل هذا القرن، ويرى كيف يفهم الأوروبيون أدب اليونان والرُّومان وغيرهم من الأُمم القديمة، وهو لا يقلدهم تقليدًا، ولا يتكلف مُحَاكاتهم، وإِنَّما كذلك فطر، وعلى هذا النَّحو وَحْدَه يستطيع أن يفهم؛ فليس عليه لوم ولا جناح، إذا لم يسطتع أنْ يَأْخُذ روايات القُدماء كلها على أنها نَقْد رائج كما يقول الفرنسيون، ولا أن يصدق هذه الروايات، لا لشيء إلا لأن الثقات قد رووها؛ فهو يعتقد أن هؤلاء الثقات قد يخطئون في الرواية، وقد يخطئون في الفهم، وقد يكون من الحق أنهم عاشوا في عصرهم دون أن يفهموه، كما يعيش كثير منا في عصرنا دون أن يفهموه.

وإذن فَمِنْ حَقِّي عليك ألا تُسْرِفَ في لَومِي إذا رأيتني أنكر ما يُروى من أخبار المجنون، وقيس بن ذُريح وجميل وغيرهم من الغزلين، بل الحق عليك أن تمضي معي في هذا السبيل التي أنتهجها، والتي ينبغي أن تكونَ سبيلك إذا أردت أن تَعِيش في عصرك حتَّى ننتهي معًا إلى أقصاها، فإما أن نَتَّفِقَ، وإذن فهو الخير، وإما أن نَفْتَرِق وإذن فلا بأس عليك ولا عليَّ.

أنا إذن أرى في العصر الأموي رأيًا يُخالف آراء النَّاس، كما رأيت في العصر العَبَّاسي رأيًا خالف آراء الناس، أرى أنَّ الرُّواة والأُدباء لم يفهموا عصر بني أُمية على وجهه، وإِنَّما تَوَرَّطوا بالقياس إليه في ألوان من الخطأ مصدرها في أكثر الأحيان أنهم لم يُحَكِّموا العقل والنقد، وإنما اكتفوا بالذوق وعَدَالة الرُّواة، ولستُ أُريدُ أَنْ أُجَاوِز موضوع البحث إلى أكثر من هذا الحد. فلنعد إذن إلى حيث ابتدأنا من أمر الغزلين.

أذكر أني عرضت في السنة الماضية للغَزَل أَيَّام بني أمية فقسمته ثلاثة أقسام مختلفة؛ الأول: غزل العُذريين الذين كانوا يتغنون في شعرهم هذا الحب الأفلاطوني العنيف، كجميل وعروة وقيس بن ذريح والمجنون. والثاني: غزل الإباحيين الذين أُسميهم «المُحققين» وهم الذين كانوا يتغنون الحب ولذاته العملية كما يفهمها الناس جميعًا، وزعيم هؤلاء عمر بن أبي ربيعة. والثالث: الغزل العادي الذي ليس هو في حقيقة الأمر إلا استمرارًا للغزل القديم المألوف أيام الجاهليين، أُريد به الغزل الذي لا يقصد لذاته كما يقول أصحاب المنطق، وإنما يتخذ وسيلة إلى غيره من فنون الشعر، إلى المدح والهجاء والوصف ونحوها، أريد به هذا الغزل الذي كان الجاهليون يَبْتَدِئون بِهِ قَصَائِدَهُم والذِي ظَلَّ الإِسْلَامِيون يبتدئون به قصائدهم إلى اليوم، وهو الغَزَلُ الذي تجده في شعر جرير والفَرَزْدَق والرَّاعي وغيلان وغيرهم من شُعراء هذا العصر، وما أزال أحتفظ بهذا التقسيم دونَ أَنْ أُغَيِّر منه شيئًا، ولكني لست في حاجة اليوم لأعرض لهذا الغزل العادي الموروث؛ فقد يكون خضع للتطور في العصر الإسلامي كما خضع للتطور غيره من فنون الشعر، وقد نعرض لهذا في يوم من الأيام.

وإنما أعنى عناية خاصة بالقسمين الأولين: غَزَل «العُذريين» من جهة، وغزل «المُحققين» من جهةٍ أخرى، وأحاول أنْ أَلْتَمِسَ الأسباب المختلفة التي أنشأت هذين الفنين في أيام بني أُمية، فألاحظ شَيئًا أُحب أن يلتفت إليه القرَّاء، وهو أَنَّا لا نَجِدُ هذين النوعين من الغزل في الشام، ولا في العراق، ولا في مصر، وإنَّما نَجِدُهما في الحجاز، وما يليه من البلاد العربية الخالصة.

أَمَّا الشام والعراق، وهما الإقليمان اللذان كانا مُجتمع الحياة السياسية الأُموية، إذ كانت الشَّامُ مُستقر الخِلَافَةِ، وَكَانَ العِرَاقُ مُسْتَقَر المُعَارَضَة. أقول: أَمَّا الشام والعراق فلا نجد فيهما إلا نوعين من الشعر؛ أحدهما: الشعر العادي من مدح وهجاء ووصف. والثاني: الشعر السياسي الذي كانت تناضل فيه الأحزاب.

وإذن فما تفسير هذه الظاهرة؟ وما بالنا لا نجد الغزل بقسميه إلا في الحجاز، وما يليه من البادية؟

ثم هناك مُلاحظة أخرى أُحِبُّ أَنْ يَلْتَفِتَ إليها القُرَّاءُ أَيْضًا؛ وهي أنَّ هذين القِسْمين من الغزل كانا مُتقاربين لا متجاورين، أُريد أَنَّ العُذريين والإباحيين كانوا جميعًا في الحجاز وما يَلِيهِ، وَلَكِنَّهُم لم يكونوا يعيشون في بيئة واحدة، وإِنَّما كان فَرِيقٌ مِنْهُم يتحضر، وفريقٌ منهم يبدو.

فأما المحققون أو الإباحيون، فكانوا يتحضرون، يعيشون في مكة والمدينة، وأما العُذريون فكانوا يبدون في بادية الحجاز أو نجد.

وفي الحق أنَّ عُمر بن أبي ربيعة كان مَكيًّا قَضَى حَيَاتَهُ كُلَّها في مكة، وأنَّ الأحوص بن محمد كانَ مَدنيًّا قضى حياته في المَدينة، وفي الحق أيضًا أنَّ جميلًا كانَ بَدويًّا في وادي القرى، وأنَّ قيس بن ذُريح كان بدويًّا يعيش في بادية المدينة، وأنَّ المجنون — إن صحت أخباره — كان نجديًّا يعيش في بادية نجد.

وإذن فالغزلُ بقسميه عربي خالص، ولستُ أريد بهذا اللفظ معناه العام، وإنما أريد معناه الجغرافي؛ أي إنَّ هذا الغزل بقسميه قد نَشَأَ في جزيرة العرب خاصة، فَأَمَّا عفيفه فكان في البادية، وأَمَّا القِسْمُ الآخر، فكان في الحاضرة.

ومُلاحظة أُخرى أُحب أنْ يَلْتَفِتَ إليها القُرَّاء أيضًا، وهي أنَّا إِذَا دَرَسْنَا أخبار الغزلين المُحققين أو الإباحيين، رأيناهم كلهم أو أكثرهم من أبناء المهاجرين والأنصار، أو مِنَ المُتصلين اتصالًا قويًّا بأبناء المهاجرين والأنصار، وإذا درسنا أخبار العُذريين رأيناهم من قبائل أعرابية ليس لها شأن عظيم في الإسلام، وإنما هي مُحتفظة احتفاظًا شديدًا ببداوتها القديمة، وعاداتها الجاهلية الموروثة.

أفلا نستطيع أن نَسْتَخْلِص من هذه الملاحظات كلها شيئًا؟ بلى. ولكني أُرِيدُ أَنْ أُضِيف إِلَيْهَا قبل الاستنتاج مُلاحظة أخرى، وَهِي أَنَّا نَجِدُ في الحِجَازِ، وفي مكة والمَدينة خاصة فنًّا آخر نشأ مع هذا الغزل الإباحي، وهو فن الغناء؛ ولستُ في حاجة إلى أن أُثبت لك أنَّ الغناء نشأ في الحجاز، وأنه أزهر في مكة والمدينة، وأنه لم يكن في دمشق إلا غريبًا، كان يرتحل إليها من الحجاز حين كان يطلبه الخُلفاء.

فماذا نستطيع أن نستنتج من هذا كله؟ نستطيع أن نستنبط أنَّ بِلَادَ العَرَبِ — بعد أن تَمَّ الفتح للمسلمين وبعد أن جاهدت في الاحتفاظ بالسلطان السياسي، وأخفَقَتْ في الجهاد إخفاقًا شنيعًا، وانتقل مركز الحكم منها إلى الشام، كما انتقل مركز المعارضة منها إلى العراق — انصرفت أو كادت تنصرف عن الاشتراك في الحياة العامة، وفرغت للحياة الخاصة؛ فانكبت على نفسها وأَحَسَّتْ شَيئًا مِنَ اليَأْسِ والحُزْنِ غَير قليل، فَهِي كَانَتْ مهد الإسلام ومَصْدَر قُوَّتِهِ، وَمِنْهَا انْبَعَثَتْ الجيوش الفاتحة التي أخضعت الأرض، وأزالت الدول، وفيها نشأت الخلافة، ومنها امتد سُلطان الخلافة على الأرض، ثم هي ترى نفسها جردت من كل شيء؛ فأنتقلت عاصمة الخلافة إلى الشَّام، وانتقل جهاد الأحزاب السياسية إلى العراق، وأَسَاءَ خُلفاء الشام ظنهم ببلاد العرب، فعَامَلُوها مُعَامَلة شديدة قاسية، وأخذوها بألوان من الحكم لا تخلو من العنف.

ثم لم تكن هذه البلاد العربية خاضعة لليأس وحده، وإنما كانت خاضعة أيضًا لشيء آخر يُناقض اليأس أشد المُناقضة، أو قُل يُلائم اليأس أشد المُلاءمة، أُريد به الثَّراء ووَفْرَة المَالِ، فقد كانَ أَبْنَاءُ المهاجرين والأنصار في مكة والمدينة مثرين، وكانت أيديهم مُمْتلئة بما وَرِثوا من هذا الفيء الذي أفاءه الله على آبائهم أيام الفتح، ثم كانوا يَحْتَفِظُون بمكانتهم، ويمثلون الأرستقراطية العربية، ثم كان الخلفاء يصانعونهم وإن كانوا يعاملونهم مُعاملة قاسية، كانوا يُكرمونهم إكرامًا مَاديًّا؛ كانوا يُدرون عليهم الأموال، ويوسعون عليهم في العطاء مراعاة لمكانتهم واصطناعًا لهم، وكانوا في الوقت نفسه يمسكونهم بمعزلٍ عن الحياة السياسية العملية.

وإذا اجتمع اليأس من الحياة العملية إلى الثروة والغِنَى، فَمَاذا عسى أنْ يُنْتِجا؟ اللهو والإسراف فيه والعكوف عليه، وكذلك أنتج اليأس والثروة في مكة والمدينة، فلها هؤلاء الشُّبان الأَشْرَاف الأَغْنِياءُ اليائسون، وأسرفوا في اللهو، وتعزوا به عن هذه الخَيْبَة التي أَصَابتهم في الحياة العامة.

وَمِنْ هُنا نَشَأَ عُمَرُ بن أَبي رَبِيعَة وأمثاله في مكة، ونشأ الأحوص بن محمد وأمثاله في المدينة، ونشأت حولهم هذه الطوائف من المغنين وأهل المزاح.

وإلى جانب اليأس والثروة وآثارهما في مكة والمدينة، نستطيع أن نضيف مؤثرًا آخر عمل في بادية الحجاز وما يليها من البلاد العربية. ونحن قبل أن نذكر هذا المؤثر نُعْلِنُ أنه في حاجةٍ شديدة إلى الدَّرس، وأنه قد أظهر آثاره في مظاهر مُختلفة، وأنه قد يجد صعوبة شديدة من شيوخ الأدب في هذه الأيام.

وما نحسب أنَّهم يقرون رأينا فيه، ولكنه مع ذلك حقٌّ لَا سَبِيلَ إلى الشك فيه، وهو نتيجة اليأس مع الفقر، نُريد به الزُّهد وشيئًا يُشْبِه التَّصوف.

كان أهل مكة والمدينة يائسين، ولكنهم كانوا أغنياء فلهوا كما يلهو كل يائس، وكانَ أهْلُ البادية الحجازية يائسين، ولكِنَّهُم كانوا فُقَرَاء فَلَمْ يُتح لهم اللهو، وقد حيل بينهم وبين حياتهم الجاهلية، وقد تأثروا بالإسلام، وبالقرآن خَاصَّة، فَنَشَأ في نُفُوسهم شيء من التقوى ليسَ بالحضري الخَالِص، وليس بالبدوي الخالص، ولكن فيه سَذاجة بدوية، وفيه رقة إسلامية، وانصرف هؤلاء النَّاس عن حُروبهم وأَسْبَاب لهوهم الجَاهِلي، كما انْصَرَفُوا عن الحياة العملية في الإسلام إلى أنفسهم؛ فانْكَبُّوا عليها واستخلصوا منها نغمة لا تخلو من حزن ولكنها نغمة زهد وتصوُّف، وأنا أَعْلَمُ أنَّ لفظ التصوف هنا لا يؤدي معناه الذي أريده، فقُل إنهم انصرفوا إلى شيءٍ من المثل الأعلى في الحياة الخلقية.

وظهر هذا الزهد أو هذ الميل إلى المثل الأعلى في مظهرين مُختلفين اختلافًا شديدًا:
  • أحدهما: الزهد الديني الخالص الذي قد تجد له صدى في أشعار هؤلاء الخوارج، الذين كانوا يتركون هذه البوادي ليَنْضَمُّوا إلى جيوش الخوارج في بلاد الفرس، والذين يظهر في شعرهم شيء من الزُّهد والتقوى وشدة الإيمان وسذاجته لا نجده في شعر غيرهم من الشعراء.
  • والآخر: هذا الغزل العفيف الذي هو في حقيقة الأمر مرآة صادقة لطموح هذه البادية إلى المثل الأعلى في الحب من جهة، ولبراءتها من ألوان الفساد التي كانت تغمر أهل مكة والمدينة من جهة أخرى.

وإذن فهذان القسمان من الغزل أثر من آثار الحياة السياسية في أيام بني أمية؛ اضطرت هذه الحياة السياسية أهل الحجاز إلى الابتعاد عن العمل وأوقعت في قلوبهم اليأس، ولكنها أغنت قومًا فلهوا وفسقوا، وأفقرت قومًا آخرين فزهدوا وعفوا وطمحوا إلى المثل الأعلى؛ كذلك أفسر ظهور هذين الفنين من الغزل.

ثم لا ينبغي أن أنسى مؤثرًا آخر أثر في هذين الفنين تأثيرًا عظيمًا، وهو الغِناء؛ فليس من شك في أن المغنين كانوا يتخذون أشعار الإباحيين من أهل مكة والمدينة، والعذريين من أهل البادية، موضوعًا للحن والغناء، ولكن هذه الأشعار التي كانت تصدر صدورًا طبيعيًّا عن الفريقين كانت بطبيعتها أقلَّ من أن تكفي حاجة المُغنين وهذه الألوان المُختلفة التي كانوا يتخذونها من اللحن والغناء.

وإذن فقد كان هؤلاء المُغَنُّون أَنْفُسَهُم يَصْطَنِعُون ضروبًا من الشعر الإباحي والعذري يغنون فيها، ورُبَّمَا كَانَ هُنَاكَ شُعراء يصنعون لهم هذه الضروب من الشعر ويُضيفونها إلى أهل البادية حينًا وإلى أهل الحاضرة حينًا آخر.

ومن هنا نجد في هذه الأشعار التي تضاف إلى الفريقين من الغزلين ألوانًا مُختلفة من الشعر، منها ما لا تشك في أنه فطري قد صدر عن الطبيعة دون تكلف ولا تصنع، لأنه يصف عاطفة قوِيَّة أو يُمَثِّل شعورًا حادًّا أو يحتفظ ببداوة لا تحتمل الشك، ومنها ما تظهر فيه الصنعة ويلمس فيه التكلف لمسًا، وتشعر حين تقرؤه أو تسمعه أَنَّه قد عُمِل ليغنى فيه لا ليصف عاطفة ولا ليمثل شعورًا.

نحسب أَنَّا قد وَصَفْنَا مع ما تحتمله صحيفة سيارة من الوضوح نشأة النسيب أيام بني أُمية والأسباب التي دعت إليها، وقد أطلنا في هذا وتعمدنا الإطالة، لأنَّه سيُعيننا على فهم الموضوع الذي ندرسه، وهو القصص الغرامي أيام بني أمية.

نعتقد — ونرجو ألا يغضب المحُافظون من الأدباء — أنَّ القصص الغرامي أثر من آثار الغزل بقسميه، لا أن الغزل أثر من آثار هذا القصص، نعتقد أنَّ الشعراء من أهل البادية والحاضرة في البلاد العربية تأثروا بكل هذه المؤثرات التي ذكرناها، فقالوا ما قالوا من الشِّعر العفيف وغير العفيف وغنى فيه المغنون، ثم كَثُرَ هذا الشِّعر واحْتَاجَ النَّاسُ إلى تفسيره ووصل بعضه ببعض، فنشأت لإرضاء هذه الحاجة هذه الأقاصيص الغرامية التي يمتلئ بها كتاب الأغاني وغيره من كتب الأدب.

وقد يميل الباحِثُ إلى أن يَفْتَرِضَ عكس ما قَدَّمْنَا فيُقَدِّر أنَّ هذه الأقاصيص أُنشئت بادئ بدء لتلهية الناس وتسليتهم، وأن القُصَّاص نحلوا هذا الشعر الغرامي على اختلاف ألوانه تحلية لقصصهم ومبالغة في تعظيم شأنها.

ولكن هذا الافتراض بعيد عن أنْ يُلَائِمَ الحَقَّ، فَهُو يَسْتَلْزِمُ أن يكون كل شيء في هذه القصص وفي هذا الشعر مُتكلفًا مصنوعًا، وقد قَدَّمْنَا أَنَّ هذا الشِّعر ظاهرة طبيعية في البلاد العربية، والأشبه هو ما ذهبنا إليه من نشأة الغزل بقسميه أولًا، ثم نشأة القصص حول هذا الغزل ثانيًا.

على أنَّنا لا نُنْكِرُ أنَّ كثيرًا من هذا الشعر قد نحله القُصَّاص وتكلفوه تحلية لقصصهم وتزيينًا لها، وتَعليلًا لما ورد فيها من الأخبار، ويكفي أنْ تَقْرَأ أخبار هؤلاء الشعراء في الأغاني وغيره لتتبين من هذا الشعر شيئًا كثيرًا.

وخلاصة القول في هذا الموضوع: أَنَّا لا نَشُكُّ في أنَّ شُعَرَاء من أهل البادية والحاضرة في الحجاز قد انْقَطَعُوا لهذين النوعين من الغزل فأجادوهما وأكثروا منهما، ثم نشأت حول أَشْعَارِهم قصص ليس لها غرضٌ إلا تفسير هذه الأشعار ووصلها واتخاذها وسيلة إلى تسلية النَّاس.

وإذن فلسنا نُنْكِرُ وجود جميل، بل لسنا ننكر أنه أحب بثينة، ولسنا ننكر وجود قيس بن ذريح، بل لسنا ننكر أنه تغزل في لُبنى، ولكنا نزعم أن هذه الأخبار التي تروى عن حب جميل وقيس لبثينة ولبنى مصنوعة متكلفة في أكثر الأحيان، وأنَّ تكلفها أحدث إلى جانب هذين الفنين الشعريين اللذين ذكرناهما فنًّا نثريًّا جديدًا هو فن القصص الغرامي.

والآن يَحْسُن أن نتخذ هذه القصص أنفسها موضوعًا للبحث في فصل نقارن فيه بينها، ونُبَيِّنُ ما لها من مَزَايا، وما لها من عيوب، حتى إذا فرغنا من ذلك عَمَدْنَا إلى الشعر الغزلي نفسه فاتخذناه موضوعًا للبحث. وسيكون هذا كله موضوع الأحاديث المُقبلة.

البوليجين، في ٢٦ أغسطس سنة ١٩٢٤
١  نُشرت بجريدة السياسة في ١٠ سبتمبر سنة ١٩٢٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤