الفصل العشرون

شعر الغزلين١

وإنما أقصر حديث اليوم على هؤلاء الغزلين من أهل البادية لا أجاوزهم إلى أولئك الغزلين من أهل الحاضرة كعمر بن أبي ربيعة والأحوص وغيرهما، بل لست أتناول في هذا الحديث طائفة من شعراء البادية قالوا الغزل وتأنقوا فيه، وظفروا بإجادته وإتقانه، ولكنهم لم يكونوا عشاقًا، أو لم يريدوا أن يكونوا عشاقًا، كما كان جميل وقيس بن ذريح والمجنون، أو كما أرادوا أن يكونوا، وإنما كانوا أصحاب لذة وعبث، وأهل دعابة مجون، فلم يقصر الله اللذة والعبث والدعابة والمجون على أهل الحاضرة، وإنما وفر منها حظوظًا مختلفة لأهل البادية، فإذا كان عمر بن أبي ربيعة ممثلًا للهو شبان الحضر في الحجاز؛ فقد نرى في يوم من الأيام أن يزيد بن الطثرية كان يمثل لهو شبان البدو.

وخلاصة القول أنا نستطيع أن نقسم الغزل في ذلك العصر إلى ثلاثة أقسام؛ الأول: هذا الغزل العفيف الذي يمثله شعر جميل وقيس بن ذريح والمجنون، والذي هو بدوي خالص، والذي نتخذه موضوعًا لحديثنا اليوم. الثاني: هذا الغزل الذي يمثل لهو الحضر وعبث أهله، والذي يمثله عمر والأحوص والعرجي وغيرهم من شعراء مكة والمدينة. والثالث: هذا الغزل الذي ليس بالعفيف إلا في لفظه والذي يمثل لهو أهل البادية وعبث شبابهم، على نحو من البداوة والسذاجة يذكر بالعصر الجاهلي ويخالف أشد المخالفة ما نجد في مكة والمدينة بعد الإسلام، ومن زعماء هذا الغزل يزيد بن الطثرية وغيره ممن سأحدثك عنهم في غير هذا الفصل.

أما هذا الفصل فقد قلت: إني أريد أن أقصره على شعراء القسم الأول من الغزل، على العذريين وأصحاب النسيب العفيف، وفي الحق إنه ليس من اليسير أن نتبين لهؤلاء الشعراء شخصيات متمايزة متباينة، فكلهم قد نسي نفسه أو فني في موضوعه فناء محا شخصيته وأخفاها على مؤرخي الآداب إخفاء تامًّا، ومن هنا اختلط أمرهم على الرواة اختلاطًا شديدًا، فهم يضيفون إلى المجنون شعر جميل وقيس بن ذريح، وهم يضيفون إلى قيس بن ذريح شعر جميل وشعر المجنون، وهم يضيفون إلى جميل شعر ابن ذريح وابن الملوح، ماذا أقول! بل هم يضيفون إلى كل واحد من هؤلاء الشعراء شعر كثير من أولئك الشعراء الذين لم يتح لأسمائهم الخلود ولم يعرف عنهم إلا بعض ما قالوا من الشعر، ولعلك تذكر ما رويت لك في حديثٍ مضى عن الجاحظ من أنه كان يقول: ما ترك الناس شعرًا مجهول القائل ذكرت فيه ليلى أو لبنى إلا نسبوه إلى المجنون أو إلى قيس بن ذريح، وتستطيع أن تقول أنت: ما ترك الناس شعرًا مجهول القائل فيه ذكر بثينة أو عزة إلا نسبوه إلى جميل أو إلى كثير، بل تستطيع أن تقول: ما ترك الناس شعرًا مجهول القائل فيه ذكر عفراء إلا نسبوه إلى عروة بن حزام، وعلى هذا النحو تستطيع أن تمضي.

والحقيقة التي ما أحسب أنها تتعرض للشك هي أن ليلى ولبنى وعزة وبثينة وعفراء وهندًا ودعدًا وسعاد، كل هذه أسماء ما أظن أنها تعين مسميات ممتازات، وإنما هي أسماء نساء اتخذها الشعراء لهذا المثل الأعلى الذي كانوا يلتمسونه ويطمحون إليه حين كانوا يتغنون الحب، سواء منهم في ذلك الشعراء المعروفون والشعراء المجهولون، ليلى ولبنى وبثينة بالقياس إلى هذا النوع من الغزل أسماء تشبه «هيلانة» بالقياس إلى القصاص من شعراء اليونان المتقدمين، لسنا ندري أوجدت حقًّا! بل أكبر الظن أنها لم توجد وإنما هي المثل الأعلى في الجمال والحب واللين والرقة والدعة وغير ذلك من هذه الخصال التي يتغناها الغزلون.

هنالك حقيقة أخرى ما أحسب أنها تتعرض للشك أيضًا وهي أن المجهولين من هؤلاء الشعراء الذين اصطنعوا الغزل العفيف وأكثروا القول فيه وظفروا بإجادته وإتقانه أكثر من المعروفين، بل أكاد أعتقد أنهم لا يكادون يحصون، بل أكاد أعتقد أن الكثرة من شباب الأعراب في ذلك العصر كانوا يصطنعون هذا النوع من الغزل فيتغنون الحب وحسان العذارى، ولكن دواوين الرواة وذاكرتهم ضاقت بهذه الأسماء الكثيرة التي لا يبلغها الإحصاء، فلم تثبت منها إلا قليلًا، وليس من شك أيضًا في أن هذا الفن الذي ظهر ظهورًا طبيعيًّا في هذا العصر، لأنه كان يترجم عن ميل عام وعواطف مشتركة لهؤلاء البدو، أقول: ليس من شك في أن هذا الفن لم يكد يظهر ويفتن به الناس حتى تخصص له شعراء قصروا حياتهم عليه واتخذوه لأنفسهم صناعة وحرفة، فهؤلاء الشعراء هم الذين أخفوا غيرهم من الأعراب المجهولين، وهم الذين بقيت أسماؤهم فحفظها الرواة واجتهدوا في أن يخلقوا حولها من القصص والأحاديث ما كان موضوعًا لبحثنا في الفصول الماضية، إذن لم يكن جميل وقيس بن ذريح والمجنون وغيرهم من هؤلاء الشعراء عشاقًا بالمعنى الذي يريد الرواة أن يخيلوه إلينا، وإنما كانوا شعراء، أو كان الذين وجدوا منهم شعراء قد اختصوا بهذا النوع من الشعر ووقفوا عليه حياتهم، لأنه كان فنًّا رائجًا في البادية حينئذ، اختصوا به كما اختص غيرهم بالهجاء، لأن الحياة الاجتماعية كانت تدعو إلى أن يختص به الشعراء، وكما اختص غيرهم بالمدح، لأن الحاجة كانت تدعو إلى أن يختص به شعراء، وكما اختص غيرهم بالشعر السياسي، وكما اختص غيرهم بوصف الخمر وهلم جرًّا.

ومن هنا كان من الحق أن نلاحظ أن الحياة الأدبية ليست من السهولة واليسر والسذاجة بحيث نظن أو بحيث كان يعتقد الرواة، وإنما هي معقدة أشد التعقيد، غامضة أشد الغموض، محتاجة إلى ألوان من البحث والعناء فيه لنستخلص شيئًا من حقائقها المجهولة، فمن الخطأ الفاحش أن نظن أن أكثر هذا الشعر الذي يروى لنا عن شعراء العصر الأموي الإسلامي قد صدر عن الفطرة والسليقة صدورًا طبيعيًّا من غير تكلف ولا صنعة، كما يتفجر الينبوع عن الماء دون أن يكون للإنسان في تفجيره عمل، ليس هذا حقًّا، وإنما الكثرة المطلقة من هؤلاء الشعراء كانوا عمالًا صناعًا يجدون في فنونهم ويكدحون ويخضعون لما يخضع له غيرهم من العمال والصناع وأهل الفن من هذه القوانين الطبيعية والاجتماعية المختلفة.

ومهما يكن من شيء، فنحن مضطرون إلى أن نقسم هذا الغزل العفيف نفسه إلى قسمين؛ أحدهما: هذا الغزل الذي قاله شعراء مجهولون ذهبت أسماؤهم، إما لأنهم لم يكثروا من الشعر ولم يتخذوه صناعة، وإما لأن حظهم من الإجادة لم يكن كحظ غيرهم من هؤلاء الذين بقيت أسماؤهم، والآخر: شعر هؤلاء الشعراء المعروفين الذين اتخذوا الغزل صناعة وفنًّا.

ولا بد من أن نجهتد في بيان الأسباب التي نشأ عنها هذا الفن في البادية العربية، ولعلك لم تنسَ ما قدمناه في غير هذا الفصل من حال هؤلاء الأعراب بعد أن استقر الأمر للمسلمين، فقد قلنا: إنهم كانوا في شيءٍ من اليأس والفقر غير قليل، وإن هذا اليأس والفقر قد أحدثا في البادية مثل ما أحدث اليأس والغنى في الحاضرة من نشأة هذا الفن الشعري، ولكن يأس البادية وفقرها أحدثا هذا الغزل العفيف على حين قد أحدث يأس الحاضرة وغناها هذا الغزل العابث الماجن.

يكفي أن توازن بين حياة البدو بعد الإسلام وقبله، لترى أن هناك فروقًا عظيمة بين هذين النوعين من الحياة، ولكن هذه الفروق تكاد تقتصر على الحياة المعنوية وحدها، فلم تكد الحياة المادية تتغير عند هؤلاء الناس بعد الإسلام، وإنما كانوا في ظل الخلفاء كما كانوا في عصر الجاهلية: يخضعون لقوانين البداوة ويقاسون من شظفها وخشونتها مثل ما كانوا يقاسون في العصر الجاهلي، وربما أتيح لهم شيء من سعة الحياة، ولكنه لم يكن كثيرًا ولا موفورًا، ذلك لأنهم لم يكونوا يشتركون في الحياة السياسية، فإن فعلوا فلم يكونوا يحتفظون بالحياة البدوية، أريد أن البدويين الذين كانوا ينتظمون في الجيش أو يتصلون بالخلفاء والأمراء والعمال لم يكونوا يحتفظون بحياة البداوة، وإنما كانوا يتحضرون فيستقرون في العراق أو الشام أو مصر أو غيرها من بلاد المسلمين، أما الذين كانوا يبقون في الجزيرة العربية فقد كانوا لا يكادون يستمتعون بشيءٍ من هذه الثروة الضخمة التي أفاءها الإسلام على المسلمين.

وربما كان من الحق أن نلاحظ أن هؤلاء الناس من أهل البادية كانوا قد احتملوا أعباء في الإسلام لم يكونوا يحتملونها في الجاهلية، أريد أعباء الصدقة والزكاة، فقد كانوا قبل الإسلام أحرارًا لا يؤدون إتاوة ولا يخضعون لنظام إلا ما اصطنعوا لأنفسهم من نظمهم الخاصة فيما بينهم، أما بعد الإسلام فقد ضربت عليهم الضرائب وأخذوا بالصدقات في سائمتهم، ولعل ما كانوا يظفرون به بعد الكد من ثمرات الأرض لم يكن بمأمنٍ من العشر، وإذن فقد ضيقت الحياة الجديدة عليهم بعض التضييق، أضف إلى هذا شيئًا آخر، وهو أن الإسلام قد أخذ على هؤلاء الناس شيئًا من طرق الكسب التي كانت مألوفة في الجاهلية؛ لأن الإسلام أقر السلام بين القبائل البدوية وحال بينها وبين ما كانت تتخذه مجدًا وشرفًا ومكسبًا من الغزو وضروب الإغارة، فلم يكن يتاح للقبائل بعد الإسلام أن تتغازى ويغير بعضها على بعض، كما كانت الحال في الجاهلية، وإذن فهذا نوع آخر من التضييق أحدثه الإسلام لهؤلاء الناس، ثم لا ننس أن الإسلام قد أدخل النظام في الحياة العربية، فقيد حرية الفرد والجماعة بهذه القيود المعروفة، وإذن فقد كانت الحياة المادية عند أهل البلاد بعد الإسلام شرًّا مما كانت عليه قبل الإسلام، ولهذا لم تدم الحياة الإسلامية المنظمة في البادية عصرًا طويلًا، ولم يكد يضعف سلطان الخلفاء أو لم يكد الخلفاء ينصرفون إلى تدبير البلاد المفتوحة حتى انتهز أهل البادية هذه الفرصة، فاستأنفوا ما كانوا فيه أيام الجاهلية من غزو وإغارة وحرب وخصومة، بل لم يدع أهل البادية فرصة تمكنهم من الفرار من أداء الصدقات والضرائب إلا انتهزوها واستفادوا منها، وربما كان من اللذيذ أن ندرس في يومٍ من الأيام أثر هذا في شعر أهل البادية.

لم تتغير إذن حياتهم المادية في جملتها، بل ظلوا يلقون من الضيق ويقاسون من الشظف مثلما كانوا يلقون ويقاسون في العصر الجاهلي، أما حياتهم العقلية والمعنوية بنوعٍ خاص فقد تغيرت تغيرًا شديدًا، وحسبك أن تقارن حياة بدوية متأثرة بهذه الطائفة من الآراء التي كان يتأثر بها الجاهليون، بحياة بدوية أخرى متأثرة بالقرآن الكريم وما فيه من دين وخلق وأدب وحكمة ونظام، لتشعر بالفرق بين نفسية البدوي المسلم في أول عهد الناس بالإسلام ونفسية البدوي الجاهلي، كان هذا الفرق عظيمًا وكان التوازن مختلًّا بين الحياة العقلية والحياة المادية، تغيرت الأولى تغيرًا تامًّا، ولم تتغير الأخرى أو لم ينلها من التغير إلا شيء قليل.

ومن هنا نشأ في نفوس هؤلاء الناس شيء من اليأس الذي أشرت إليه آنفًا ووصفته وصفًا مفصلًا في غير هذا الفصل، شيء من اليأس في الحياة المادية تبعه شيء من الأمل في حياة أخرى ليس واضحًا في هذه النفوس الساذجة وضوحه في نفوس أهل الحضر، ومن هذا اليأس والأمل تكون لهؤلاء البدو مزاج خاص لا هو بالبدوي الغليظ ولا هو بالحضري الرقيق، وإنما هو شيء بين بين.

ولعل أوضح ما يمتاز به هذا المزاج ميله إلى أن ينكب على نفسه انكبابًا خاصًّا، فيتعرف أسرارها ودخائلها، ويحاول أن يستكشف فيها هذه الحاجات الغريبة التي تشعر بها دون أن تستطيع لها إرضاء أو شفاء، لعل أوضح ما يمتاز به هذا المزاج شيء من الحزن الساذج المؤلم غير المحدود ولا البين، هذا الحزن العام الغامض الذي نستطيع نحن بوجه من الوجوه أن نتبين أسبابه في هذا اليأس وفي هذا الفقر وفي هذه العزلة التي كانت تحول بين هؤلاء الناس وبين العمل السياسي وغير السياسي، نستطيع نحن أن نتبين أسباب هذا الحزن فنفهمه ونفسره، أما أولئك الناس فلم يكونوا يتبينون هذه الأسباب ولا يشعرون بها، بل لعلهم لم يكونوا يشعرون بهذا الحزن نفسه، مثلهم في ذلك مثل غيرهم من الشعوب المختلفة التي أحدثت أعظم الأحداث وخضعت لضروب من الثورات المادية والعقلية العنيفة، حتى إذا هدأت العاصفة وأخذت الأمور تستقر في نصابها، نظرت هذه الشعوب فإذا هي لم تجنِ من هذه الثورات والاضطرابات العنيفة شيئًا أو لم تكد تجني منها شيئًا، فما أسرع ما يأخذها اليأس ويملكها الحزن، وتنشأ فيها فنون أدبية جديدة ما كانت لتنشأ فيها لولا هذه الثورات وما أحيت من أمل قوي تبعه يأس قوي، وما لنا نذهب بعيدًا والمثل قائم بين أيدينا لا تزال له حياته وقوته! أريد الشعب الفرنسي بعد الثورة، والأدب الفرنسي بعد أن أخفقت الثورة والإمبراطورية الأولى، والعقل الفرنسي في هذا العصر الذي يقع بين الإمبراطورية الأولى والإمبراطورية الثانية والذي أنتج هذا النوع من الأدب الحزين البائس بل اليائس الذي نقرؤه في «شاتوبريان» و«لامارتين» و«موسيه» و«فيني»، أتظن أنا كنا نقرأ هذه الآثار المحزونة المؤلمة التي تركها هؤلاء الكتاب والشعراء لو لم يحدث الشعب الفرنسي هذه الثورة العنيفة التي كانت على روعها وفظاعتها مفعمة بالآمال ثم انجلت عن «واترلو»؟ كلا! وما كنا لنقرأ شعر جميل والمجنون وابن ذريح لو لم تحدث الأمة العربية هذه الثورة العنيفة التي اضطرت لها العالم القديم وتغير لها فيه كل شيء، والتي كانت مملوءة أملًا والتي استتبعت ألوانًا من الفظائع والآثام فيما أحدثت من فتن وما شنت من حروب، والتي انتهت بالقياس إلى هؤلاء البدو إلى ما وصفت لك من هذه الحياة الخاملة الضيقة الخشنة الغليظة التي كان يحياها الأعراب في صحاري جزيرة العرب، حينما كان الخلفاء والأمراء ومن إليهم يستمتعون بالملك والمجد والثروة وألوان الترف.

إن الشبه لشديد جدًّا بين أثر الثورة الفرنسية في نفوس هؤلاء الشعراء والكتاب الذين ذكرتهم، وأثر الثورة العربية في نفوس جميل وقيس بن ذريح ومن إليهما من الشعراء الغزلين في البادية، الشبه شديد، ولكن على أن تلاحظ الفرق بين الأمة الفرنسية التي كانت متحضرة مترفة عالمة بارعة في الفن حينما أحدثت ثورتها، والأمة العربية التي كانت بادية ساذجة جاهلة خشنة العيش حينما أحدثت ثورتها أيضًا.

مهما يكن من شيء، فإن حركة عقلية وشعورية أنشأت في أهل البادية من العرب — بعد أن انتهت الفتوحات والفتن — فنًّا أدبيًّا يشبه من بعض الوجوه هذا الفن الذي أحدثته في فرنسا هذه الحركة العقلية الشعورية التي نشأت بعد فشل الثورة والإمبراطورية الأولى، والغريب أنك تجد في هذين الفنين العربي والفرنسي وجهين مختلفين في مظهرهما متفقين في أسبابهما، تجد عند العرب وعند الفرنسيين شعراء يئسوا فذكروا الحب وتغنوه في غير فجور ولا مجون، وآخرين يئسوا فلهوا وأسرفوا في اللهو وتغنوا لهوهم وإسرافهم، ولو أن أولئك وهؤلاء وجدوا من الحياة العملية ما يحول بينهم وبين اليأس، ويصرفهم عن أنفسهم إلى الحياة وعقباتها ومصاعبها لما تركوا لنا من الآثار ما تركوا، أتظن أن جميلًا وعمر بن أبي ربيعة — وهما يمثلان هذين اللونين من اليأس — كانا يقضيان حياتهما في حزنٍ عميق يمثله هذا الغزل العفيف أو هذا اللهو المبتسم، لو أنهما وجدا من الحياة العملية ما يصرفهما عن أنفسهما إلى هذا الجهاد الخصب المنتج الذي كان يمعن فيه أهل العراق والشام!

أظن أن الأسباب التي أثرت في نشأة هذا الغزل واضحة جلية الآن، وأظن أننا نستطيع أن ننتقل منها إلى شيءٍ آخر، إلى هذا الغزل نفسه وإلى خصائصه ومميزاته.

ولنلاحظ قبل كل شيء أن هذا الغزل كان يستطيع أن يكون أخصب وأغنى منه في حقيقة الأمر لو لم تحط به هذه الظروف الخاصة التي أنشأته وأشرفت على حياته، أريد، هذه البداوة وما استتبعته من سذاجة وجهل حَالَ بين هذا الغزل وبين أن يكون خصبًا غنيًّا حقًّا، وجعلت من اليسير أن نستغني ببعضه عن بعض وأن نحكم ببعضه على بعض، وحالت بين هؤلاء الشعراء وبين أن تكون لهم شخصيات قوية بارزة كهذه الشخصيات التي نجدها لشعراء الفرنسيين وكتابهم بين الإمبراطوريتين، فإنك تستطيع أن تستغني بجميل عن قيس بن ذريح أو بقيس بن ذريح عن جميل، بل تستطيع أن تستغني بواحدٍ من هؤلاء الشعراء عن الشعراء الآخرين جميعًا؛ لأنهم طرقوا موضوعًا بعينه هو الحب، وتناولوه بأسلوب واحد وعلى نحو واحد من اللفظ، فما أسرع ما انتهوا إلى أقصى ما كان يمكن أن يصلوا إليه! وما أيسر ما تشابهت ألفاظهم ومعانيهم وأساليبهم! حتى إنك لتضيف إلى أحدهم ما قاله غيره دون أن يحول بينك وبين ذلك حائل فني ما، كلهم أحب امرأة أو زعم أنه أحب امرأة، وكلهم اتخذ هذه المرأة مثالًا أعلى للجمال المادي والمعنوي، وكلهم وصفها بما يتصف به هذا المثل الأعلى من صفات الحسن والكمال، وكلهم اعتمد في تكوين هذا المثل الأعلى وفي وصفه على السنن الموروثة وألوان التشبيه التي سبقهم إليها الشعراء الأولون أو التي تواضع عليها الناس فيما بينهم، كلهم شبه صاحبته بالشمس والقمر، وكلهم وصف أجزاء صاحبته بما كان يصفها به غيرهم من الشعراء، وكلهم استعمل أو كاد يستعمل نفس الألفاظ ونفس المعاني التي كان يستعملها الشعراء من قبل.

فبم امتازوا عن هؤلاء الشعراء؟ بشيئين اثنين فيما أعتقد؛ أحدهما: أنهم قصروا حياتهم الفنية على الغزل، وكان الشعراء في العصر الجاهلي يعنون بالغزل كما يعنون بغيره من الفنون، وربما اتخذوه وسيلة في أكثر الأحيان لا غاية، أما أصحابنا هؤلاء فقد اتخذوا الغزل غاية لا وسيلة، ولم نعرف أنهم مدحوا أو عُنوا بفن آخر من فنون الشعر إلا ما كان يضطرهم إليه الغزل، فنحن نعلم مثلًا أن جميلًا هجا وفاخر، ولكنا نعلم أنه لم يهجُ رغبة في الهجاء، ولم يفاخر رغبة في الفخر، كما كان يفعل الأخطل والفرزدق وجرير، وإنما هجا لأن غزله اضطره إلى الهجاء، وفاخر لأن غزله اضطره إلى الفخر، هجا قومًا كانوا يعيبونه ويهجونه لغزله ونسيبه، وفاخر هؤلاء القوم أنفسهم، ولو لم يعرضوا له لما فاخر ولا هجا، ونحن نعلم أن قيس بن ذريح لم يجاوز الغزل إلى غيره من فنون الشعر، وقد أضيفت إليه أبيات مدح بها ابن أبي عتيق، ولكنا نعلم أن هذه الأبيات مصنوعة من جهة، وأنها — إن صحت — فلم يقلها قيس إلا لأن ابن أبي عتيق جد في وصل الحبل بينه وبين لبنى.

والآخر أن غزل هؤلاء الشعراء الإسلاميين أرقى بكثيرٍ من غزل الجاهليين من حيث إن غزل الجاهليين كان ماديًّا خالصًا في حين كان في غزل الإسلاميين شيء غير المادة، وأظن أن هذا يحتاج إلى شيءٍ من الإيضاح.

ما الذي كان يعنى به امرؤ القيس أو النابغة أو الأعشى إذا تغزلوا وذكروا النساء؟ لم يكونوا يعنون بذكر الحب وتأثيره في النفس ولا بهذه الآلام المختلفة التي تنشأ عنه، أي لم يكونوا يعنون بدخائل نفوسهم، وإنما كان الغزل عندهم ضربًا من الوصف، كانوا يصفون النساء كما كانوا يصفون الإبل، وقلما تجد عندهم عناية بالعاطفة أو حرصًا على تمثيلها، فإن وجدت عندهم هذه العناية بالعاطفة لم تلبث أن تزدري هذه العاطفة ازدراء؛ لأنها كانت عاطفة مادية غليظة إن صح هذا التعبير، كانت عواطفهم تصدر عن الشهوات وإيثار اللذة قبل كل شيء، ومن هنا تجد عند امرئ القيس والنابغة مثلًا هذا الوصف المادي الذي يتناول أجزاء المرأة فيصفها وصفًا تفصيليًّا يختلف حظه من العفة قوة وضعفًا، ولكنه مادي قبل كل شيء، فإذا تركوا هذا الوصف وانصرفوا إلى أنفسهم يصفون ما تعاني من الحب وما تلقى من آلامه، فهم يعرضون لذلك كما يعرضون لوصف اللذات وحاجتهم إليها ورغبتهم فيها، يصفون لذة الحب كما يصفون لذة الصيد ولذة الحرب، ومن قبل ذلك قلنا: إنهم كانوا يصفون النساء كما كانوا يصفون الإبل، كذلك كان الغزل في الجاهلية، كان وسيلة وكان ماديًّا، أما غزل الإسلاميين فلم يكن وسيلة وإنما كان غاية، ولسنا نستطيع أن نقول: إنه برئ من المادة وخلا منها خلوًّا تامًّا؛ فذلك غير صحيح، ولم يستطع الأدب العربي في وقتٍ من الأوقات أن يبرأ من المادة، وإنا نستطيع أن نقول: إن الغزل الإسلامي العذري أضاف إلى المادة شيئًا آخر جعله قوام الشعر، نزيد به الحب نفسه وما يترك في القلب من أثر، وما يبعث في النفس من عاطفة، وما يسبغ على المحب من كآبة وحزن، وما يحيي فيه من أمل ورجاء، لسنا نشك في أن جميلًا وقيس بن ذريح والمجنون قد وصفوا أجسام بثينة ولبنى وليلى، بل وصفوا هذه الأجسام وصفًا مفصلًا لا يخلو من دقة وتحقيق، ولكنا لا نستطيع أن نشك في أن هذا الوصف المادي لم يكن الغرض الذي كان يرمي إليه هؤلاء الشعراء، إنما كان وسيلة إلى الغرض الذي كانوا يرمون إليه، وهو وصف النفس وما تلقى بالحب من شقاء أو سعادة ومن بؤس أو نعيم.

انتقل إذن موضوع الغزل في الإسلام، كان في الجاهلية جسم المرأة فأصبح في الإسلام نفس العاشق، ومن هنا لم يكن العذريون المسلمون يصفون المرأة كما كانوا يصفون الإبل، ولم يكونوا يذكرون لذة الحب كما كانوا يذكرون لذة الصيد، وإنما كانوا يصفون المرأة كما ينبغي أن يصفها إنسان يشعر ويحس ويمتاز بشيء من الشعور والحس لا يخلو من رقة ورقي معًا، لم تكن المرأة عند هؤلاء الشعراء حاجة تطلب أو شيئًا يطمع فيه، وإنما كانت شطرًا من النفس لا تطيب للنفس حياة إلا به، ولعلك تقرنا على أن هذا رقي عظيم، وعلى أن العقل العربي والشعور العربي عندما بلغا هذا الطور من تصور المرأة والحكم عليها والميل إليها، كانا قد جاوزا كل المجاوزة طور الوحشية التي كان يعيش فيها الجاهليون، وليس غريبًا أن يعظم الفرق بين هذين الطورين فقد كان بينهما القرآن، وأثر القرآن في نفوس المسلمين عظيم.

وأريد أن أضرب لك أمثالًا تشخص هذا التطور تشخيصًا ظاهرًا قويًّا، فأبدأ بهذه الأبيات من شعر جميل وألفتك إلى أنها مادية في أولها ولكنها لا تلبث أن تترك المادة إلى المعنى، وأن تتناول الصلة بين العاشقين في رقة ولطف وحنان ما كان ليجدها قلب كقلب امرئ القيس، وأحب أن تلتفت إلى أن هذا الشعر كغيره من شعر جميل وأصحابه لا يخلو من أبيات مصنوعة دسها المغنون، ولكن شيئًا من الفقه الأدبي يمكنك في يسر من أن تفرق بين المطبوع والمصنوع:

وكأَنَّ طارقَها عَلَى عَلَلِ الْكَرَى
وَالنَّجمُ وهْنًا قَدْ دنا لِتَغَوُّرِ
يسْتَاقُ ريحَ مُدامَة معْجُونةٍ
بذَكِيِّ مِسْكٍ أو سَحِيقِ الْعنْبَرِ
إِني لَأَحْفَظُ غَيْبَكُمْ ويَسرُّنِي
إِذْ تَذْكُرِينَ بِصالحٍ أَن تذْكَرِي
ويَكُونُ يَوْم لا أَرَى لَكِ مُرْسَلًا
أَوْ نَلْتقي فِيهِ علَيَّ كأَشهُرِ
يا لَيْتَني أَلْقَى المَنِيَّةَ بَغتَةً
إِنْ كانَ يَوْمُ لِقَائِكُم لَمْ يُقْدَرِ
أَوْ أَسْتَطِيعُ تَجلُّدًا عَنْ ذِكْرِكُمْ
فيُفِيقُ بعْضُ صَبابَتي وتَفكُّري
لَوْ قَدْ تُجنُّ كما أُجَنُّ مِنَ الهوَى
لَعذَرْتَ أَوْ لَظلَمْتَ إِنْ لمْ تَعْذِر
واللهِ مَا لِلقَلْبِ مِنْ عِلْمٍ بِهَا
غيْرَ الظُّنُونِ وغيْرَ قَوْلِ المُخْبرِ
لا تَحْسَبي أَنِّي هجَرْتُكِ طَائِعًا
حدَثٌ لَعَمْرُكِ رَائعٌ أَن تُهْجَرى
فَلَتَبْكِيَني البَاكِيَاتُ وإنْ أَبحْ
يَوْمًا بِسرك مُعْلِنًا لمْ أُعْذَرِ
يهْواكِ ما عشْت الفؤَادُ فَإِن أَمُتْ
يَتبَع صَدَايَ صَدَاكِ بيْن الأَقبُرِ

فهل ترى ألذ من هذه النجوى وأعذب من هذا الحدث؟ وهل تقدر هذا الجمال الفني الذي يمثله هذا الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ثم من الخطاب إلى الغيبة، كلما دعا إلى ذلك موضوع الحديث؟ ثم هل تعلم أرقى من هذا الكلام عاطفة وأرقى منه شعورًا؟

وانظر إلى هذه الأبيات التي قالها بعد أن حاول لقاء بثينة فلم يوفق إليه، فرجع كئيبًا، وأخذ نساء الحي يلمنه ويعرضن له بحبهن ووصلهن:

أَبثيْنُ إِنكِ قدْ ملَكْتِ فأَسجحِي
وخُذِي بحظِّكِ مِنْ كرِيمٍ واصِلِ
فَلَرُبَّ عَارِضةٍ علَيْنَا وصلها
بِالْجِدِّ تَخِلطُهُ بِقَوْلِ الهَازلِ
فأَجبْتُهَا في القَوْلِ بَعْدَ تَسَتُّرٍ
حُبِّي بُثَيْنَةَ عَنْ وصَالك شاغِلي
لَوْ كان في صدْرِي كقدرِ قُلامَةٍ
فضلًا وصَلْتُكِ أَوْ أَتَتكِ رَسَائِلي
ويَقُلنَ إِنَّكَ قَدْ رَضِيتَ بِبَاطِلٍ
مِنهَا فهَلْ لَكَ في اجتِناب البَاطل
ولبَاطِلٌ مِمَّن أُحِبُّ حدِيثهُ
أَشْهَى إِلَيَّ مِن البَغيضِ الْباذِلِ
لِيُزِلْنَ عَنْكِ هَوايَ ثُمَّ يَصِلْنَني
وإِذا هوِيتُ فما هوَايَ بِزَائِلِ
صادَتْ فُؤَادِي يَا بُثيْنُ حِبَالكمْ
يَوْم الحَجُونِ وأَخْطأَتكِ حبائِلِي
منَّيْتِني فلَويْتِ ما مَنَّيتِني
وجَعَلْتِ عَاجلَ ما وعَدْتِ كآجلِ
وتَثَاقَلَتْ لَمَّا رَأَتْ كَلَفِي بِهَا
أَحْببْ إِليَّ بذَاكَ مِن مُتَثَاقِلِ
وأَطَعْت فيَّ عوَاذِلًا فَهَجَرْتِني
وعصيْتُ فيكِ وقَدْ جَهَدْن عَواذِلِي
حاوَلْنَني لَأَبُتَّ حَبْلَ وصَالِكُمْ
مِنِّي، ولسْتُ وإِنْ جهِدْن بِفَاعِلِ
فَردَدْتهُنَّ وقد سَعَيْنَ بهَجْرِكمْ
لَما سَعَيْنَ لهُ بِأَفْوَقَ نَاصلِ
يعْضَضْنَ مِنْ غَيظٍ علَي أَنَامِلا
وودِدْتُ لَوْ يعْضَضْنَ صُمَّ جَنَادِلِ
ويَقُلْنَ إِنَّكِ يا بُثَيْنُ بَخيلَة
نَفسِي فِدَاؤُك مِنْ ضنِين باخِلِ

رويت لك هذه الأبيات على علاتها في رواية أبي الفرج مع تغيير قليل جدًّا في ترتيب الأبيات الأولى لم يكن منه بد لاستقامة المعنى، ولست أشك في أن هذه الأبيات وغيرها من شعر الغزلين تروى في كتاب الأغاني وقد فقدت ترتيبها الطبيعي؛ لأن أبا الفرج لا يلتفت إلا إلى الغناء وأصوات المغنين، فأما النظام الطبيعي للقصيدة فلا يحفل به، وعندي أن هذه الأبيات التي نحن بإزائها قد رويت معكوسة وأن آخرها يجب أن يقع في أولها، وشيء من التأمل يقنعك بهذا، ولكن لهذا البحث موضعًا آخر، أما الآن فأنا ألفتك إلى الأبيات الأولى من هذا الشعر وإلى لطف هذا التخلص من تلك التي كانت تتبع جميلًا وتطمعه، تريد أن تصرفه عن صاحبته إلى نفسها، ثم ألفتك أيضًا إلى هذا الجمال الفني الذي يمثله الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة، وإلى هذه الجمل المعترضة التي يأتي بها الشاعر إما للتأكيد وإما للتلطف في حديث صاحبته، ثم ألفتك إلى هذه السهولة في اللفظ والمعنى، فكل هذه الخلال التي تجدها في أكثر شعر جميل تبعدك كل البعد عن شعر الجاهليين وغزلهم.

•••

ولأنتقل بك من جميل هذا البدوي المتحضر في شعره إلى رجل آخر احتفظ في شعره بالبداوة دون أن يخطئه الجمال الفني أو يقل حظه من الرقة وشرف العاطفة، وهو قيس بن ذريح، وأروي لك من شعره الجميل هذه الأبيات:

أُقَضِّي نَهَارِي بِالْحدِيثِ وبِالْمُنَى
ويَجْمَعُني والْهَم باللَّيْلِ جامِعُ
نهارِي نَهارُ النَّاسِ حتى إِذا بَدَا
لِيَ اللَّيْلُ هَزَّتني إلَيْكِ المَضاجعُ
لقَدْ رَسَختْ في القَلْبِ مِنْك مَوَدةٌ
كما رَسَختْ في الرَّاحَتْينِ الْأَصَابعُ
أَحَالَ علَيَّ الْهَمُّ مِنْ كُلِّ جانِبٍ
ودامتْ فَلَمْ تَبْرَحْ عَليَّ الْفَواجع
أَلا إِنمَا أَبْكِي لما هُوَ واقِعٌ
فهلْ جَزعِي مِنْ وشكِ ذلك نافِعُ
وقد كُنْتَ أَبْكِي والنوَى مطْمئِنَّة
بِناوبِكمْ مِنْ عِلمِ مَا الْبَيْنُ صَانِعُ
وأَهْجُرُكُمْ هجْرَ البَغِيضِ وحُبُّكُمْ
عَلى كَبِدي منْه شُئونٌ صَوَادع
وأَعمِدُ لِلأَرْضِ التي لَا أُريدُها
لِترْجِعَني يَومًا إِليْكِ الروَاجِعُ
وأُشْفِقُ مِنْ هِجرَانِكمْ وتَروعُنِي
مخافَةُ وشْكِ البَيْنِ والشَّمْلُ جامِعُ
فمَا كلُّ ما منَّتْكَ نفْسُك خاليًا
تُلاقي، ولا كلُّ الْهَوى أَنْتَ تَابعُ
لَعَمْرِي لَمَنْ أَمْسَى ولُبْنَى ضجِيعُهُ
مِنَ النَّاسِ ما اخْتيرَتْ عَلَيْهِ المَضَاجعُ
فَتِلكَ لُبَيْنى قدْ تَرَاخى مزارهَا
وتلْكَ نَواهَا غَرْبَةٌ مَا تُطاوِعُ
ولَيْسَ لِأَمرٍ حَاولَ الله جمْعهُ
مُشِتٌّ ولا مَا فرَّقَ الله جامعُ
فلا تَبْكِين في إِثْرِ لبْنَى نَدَامةً
وقَدْ نَزَعَتْها من يَدَيْكَ النَّوازعُ

أما أنا فأرى أن هذه القصيدة آية من آيات الغزل العربي، فيها جمال اللفظ ورصانته، وفيها جلال المعنى ومتانته، وفيها جمال هذه النفس التي تألم هذا الألم الشريف، وتذعن لقضاء الله وقدره هذا الإذعان الشريف.

وأحب أن تقدر معي جمال هذا البيت وما فيه من صدق وسذاجة طبيعية وجودة للتشبيه:

لقَدْ رسَخَت في القَلبِ مِنْك مودَّةٌ
كما رسختْ في الراحتينِ الْأَصابعُ

انظر إليه! أراد أن يشبه ثبوت حبه ومتانته، فلم يلتمس التشبيه بعيدًا من نفسه، وإنما وجده فمد إليه يده أو لم يمدها، وجده في يده «كما رسخت في الراحتين الأصابع»، ثم أحب أن تلتفت إلى هذا اليأس والإذعان اللذين ذكرتهما في أول هذا الفصل، أحب أن تلتفت إلى هذا البيت وتحدثني أيمثل اليأس والإذعان تمثيلًا صحيحًا:

ولَيْسَ لِأَمْرٍ حاوَلَ اللهُ جَمْعَهُ
مُشِتٌّ ولا مَا فرَّقَ الله جامِعُ

أحب أن تقرأ هذه القصيدة وتقرأها، فإنك لا تجد فيها نفس الشاعر وحده إنما تجد فيها نفس هؤلاء الغزلين جميعًا، بل تجد فيها نفس البادية العربية في هذا العصر، أحب أن تقرأ هذه القصيدة وتقرأها وأن تقرأ أمثالها من شعر قيس وجميل وغير قيس وجميل، فإنك ستجد في هذا الشعر ما تسكت به الذين يزرون الأدب العربي ويجحدون مكانة الشعر العربي ويخدعون بجمال الشعر الإفرنجي، والله يعلم أنهم ما فهموه ولا ذاقوه، فيزعمون أن العرب لم يحدثوا شيئًا ولم يفهموا الجمال ولم يقدروه؛ إنهم ليزعمون ذلك، وإنهم ليتحدثون به إلى الشباب، وإنهم ليكتبونه في الصحف والكتب، والله يعلم ما زعموه ولا كتبوه ولا تحدثوا به إلا عن جهل فاحش للأدب العربي والإفرنجي جميعًا.

ولكني أشعر بأني أشط عن موضوع هذا البحث، فلأعد إليه ولأختمه بهذه الأبيات القليلة التي قالها مجهول ونسبت إلى المجنون، والتي تمثل بداوة الغزل العربي ناصعة خلابة في جمالها الساذج الطبيعي وهي:

تمُرُّ الصَّبَا صَفْحًا بِسَاكنِ ذِي الغَضَا
ويَصْدَعُ قَلْبي أَنْ يَهُبَّ هُبوبُها
إِذا هَبَّتِ الرِّيحُ الشمالُ فَإِنَّمَا
جوَاي بِما تُهْدِي إِليَّ جَنُوبُها
قرِيبَةُ عَهْدٍ بالْحبيبِ، وإِنمَا
هَوَى كل نَفسِ حيثُ كانَ حبِيبُها
وحسْبُ اللَّيالي أَن طَرحْنكَ مَطْرَحًا
بدَارِ قِلًى تُمْسي وأَنْتَ غَرِيبُهَا
حَلالٌ لِلَيْلَى شَتْمها وانْتِقاصُها
هنيئًا، ومغْفُور لِليَلى ذُنُوبهَا

ألفتك إلى هذه البداوة في قوله: «ويصدع قلبي أن يهب هبوبها» في قوله: «بدار قلى تمسي وأنت غريبها» يريد وأنت غريب فيها، ثم ألفتك إلى هذه المعاني الساذجة الحلوة الخلابة لا لشيءٍ إلا لأنها ساذجة، ألفتك إلى هذا كله، وأود لو تقرأ وتقرأ ما لم أستطع أن أرويه لك من شعر هؤلاء الغزلين، وهو كثير، كثير بحيث يمكننا من أن نتصور هذه النفس اليائسة البائسة الهائمة في طلب المثل الأعلى وإن كان قليلًا جدًّا بالقياس إلى ما ذهبت به الأحداث.

والآن وقد ألممنا بالغزلين وأشعارهم وأخبارهم إلمامة قصيرة ولكنها نافعة، فقد نستطيع أن ننتقل منهم إلى طائفة أخرى من الشعراء في الفصول المقبلة.

١  نُشرت بجريدة «السياسة» في أول أكتوبر سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤