الفصل الحادي والعشرون

عود إلى الغزلين:١ وضاح اليمن

كنت أريد أن أنصرف عن الغزلين إلى طائفة أخرى من شعراء العصر الأموي، ثم بدا لي، فآثرت العودة إليهم، لأتم البحث، ولأن هؤلاء الغزلين من الحضر ليسوا أقل حظًّا في الإجادة من أولئك الغزلين من أهل البادية، بل ربما كان درس الغزلين الحاضرين أعظم نفعًا وأشد غناء من درس الغزلين البادين، ذلك لأن الغزلين من أهل الحضر يمثلون نحوًا من أنحاء الحضارة التي عاشوا فيها، ومن الخير أن نلم بهذه الحضارة الإسلامية في أول عهدها بالظهور والإزهار، وقد يعنينا درس هذا الغزل الحضري وما يتصل به من ألوان الحياة في أيام بني أمية على أن نفهم هذا العبث الذي نجده مستأثرًا بالحياة الأدبية أيام بني العباس، فإن السنة الشعرية لم تنقطع بين هذين العصرين: عصر دمشق وعصر بغداد.

ثم قد نجد من درس الغزلين الحاضرين أيام بني أمية ما يمكننا من تحديد الفروق الفنية والنفسية بين هؤلاء الشعراء الأمويين الذين كانوا أشد تأثرًا بالحياة العربية القديمة، وهؤلاء الشعراء العباسيين الذين كانوا أشد تأثرًا بالحياة الفارسية الجديدة، ولكل هذا نفعه وقيمته، ثم إن هؤلاء الشعراء الحاضرين لهم شخصياتهم البارزة وآثارهم القوية في تكوين الأدب الإسلامي والنفس العربية الإسلامية، فلا بد من درسهم والإلمام بأطرافهم من حياتهم وآثارهم، وكيف نستطيع بعد أن درسنا جميلًا وقيس بن ذريح والمجنون أن نهمل الأحوص والعرجي وعمر بن أبي ربيعة وعبيد الله بن قيس الرقيات! على أني لا أحدثك اليوم عن واحد من هؤلاء، وإنما أحدثك عن رجلٍ آخر لست أدري في الحق أوجد بالفعل أم لم يكن إلا خيالًا اخترعه القصاصون اختراعًا وانتحلوا شعره انتحالًا، ونسجوا ما حوله من الأحاديث والأخبار ما فيه لذة ومتعة وما يدعو درسه إلى تأمل وتفكير؟

أريد أن أحدثك عن هذا الشاعر الذي يلقبونه وضاح اليمن، والذي فتن به بعض أساتذة الأدب المحدَثين حتى خيل إليهم أنه اخترع الشعر التمثيلي وأضافه إلى تراثنا الأدبي القديم، اخترع الشعر التمثيلي لا لأنه وضع قصة تمثيلية شعرية، ولا لأنه تصور شيئًا يشبه القصص التمثيلية أو يقاربها، بل لأن قصيدة من شعره فيها شيء من الحوار، فخيل إلى هؤلاء الأدباء أنه قد اخترع التمثيل منذ أدخل الحوار في الشعر، ونسوا أن الحوار ليس هو التمثيل، وإنما هو أصل من أصول التمثيل، ونسوا أيضًا أن هذا الحوار الذي يجدونه في شعر وضاح والذي سأظهرك عليه بعد حين قد سبق إليه الشعراء جميعًا في جاهليتهم وإسلامهم فحاور امرؤ القيس عشيقاته، وحاور ابن أبي ربيعة أخدانه، وحاور جميل بثينة، وحاور كثير عزة، وحاور ابن ذريح لبنى، ومهما يكن من شيء فليس عسير أن ننكر ما زعم هؤلاء الأساتذة المحدثون لوضاح اليمن من استكشاف التمثيل الشعري، وأن نبين أن مصدر هذا الزعم إنما هو أن هؤلاء الأساتذة يجهلون التمثيل من جهة، ويريدون أن يضيفوا إلى الأدب العربي ما فيه وما ليس فيه، حتى لا يظهر فضل للأدب اليوناني أو الأدب الأوروبي على أدبنا العربي.

الجهل من ناحية، والغرور من ناحية أخرى، هما اللذان أحدثا هذه الفكرة السخيفة في نفس طائفة من أدبائنا.

إنما العسير حقًّا هو أن نقطع بشيءٍ في أمر هذا الشاعر: أوجد أم لم يوجد؟ أقال هذا الشعر أم لم يقله؟ أوقعت له هذه الأخبار أم لم تقع؟ مسائل عسيرة ولكن حلها ليس مستحيلًا.

أنا أشك في وجود هذا الشاعر شكًّا قويًّا، وحسبك أن رواته يختلفون فيه اختلافًا كثيرًا، فمنهم من يزعم أنه عربي حميري، ومنهم من يزعم أنه من سلالة الفرس الذين جاءوا اليمن مع سيف بن ذي يزن ليردوا عنها غارة الحبشة، ومنهم من يحاول التوفيق بين هاتين الروايتين، فيزعم أنه عربي ولكن أباه مات عنه طفلًا، فتزوجت أمه رجلًا من سلالة هؤلاء الفرس الذين كانوا يسمون «الأبناء» وشب الطفل في حجر هذا الفارسي، ثم جاءت عمومته تطلب فادعاه الفارسي، وكانت حول الغلام خصومة رفعت إلى الحاكم فقضى للعرب على الفارسي، قالوا: وكان الغلام بارع الجمال فأعجب به الحاكم فمسح على رأسه وقال له: أنت وضاح اليمن، فغلب عليه هذا اللقب.

غير أن هذه القصة المتكلفة، وهذا التوفيق الغريب بين الروايتين لا يثبتان أمام شيء نجده في أخبار وضاح، وهو أنه بينما كان في دمشق متصلًا بقصر الوليد بن عبد الملك — كما سترى بعد حين — تلقى كتابًا من اليمن فيه نعي أبيه وأخيه، فرثاهما بقصيدةٍ قافية طويلة يرويها أبو الفرج، وإذن فلم يمت عنه أبوه وهو طفل، وإنما مات عنه وهو رجل في عنفوان قوته قد سما به المجد حتى اتصل بقصور الخلفاء.

ثم لا يختلف الرواة في أمر وضاح وحده، بل يختلفون في أمر عشيقته الأولى — فله عشيقتان — أفارسية هي أم عربية.

فكل هذا الاضطراب لا يحمل على الاطمئنان إلى وجود وضاح، ولكن هناك شيئًا آخر يحمل على الشك في وجود وضاح، وهو أن الغزلين الذين بعد صوتهم في القرن الأول والثاني للهجرة مضريون كلهم أو أكثرهم، سواء في ذلك منهم البادون والحاضرون، فمن كان من بينهم يمانيًّا كالأحوص الأنصاري؛ فإنما هو يماني النسبة ليس غير، قد اشتد اتصاله بالمضرية عامة وقريش خاصة، حتى لم يأخذ بحظه من العصبية اليمانية التي كانت قاعدة الحياة السياسية وآفتها في ذلك العصر، وقد حاولت اليمانية أن تدعي جميلًا ولكنها لم توفق؛ لأن النسابين اشتد اختلافهم في نسب قضاعة قبيلة جميل، حتى إن جميلًا نفسه كان يزعم ويعلن أنه من مَعَد.

كان الغزلون كلهم أو أكثرهم مضريين، وكانت العصبية بين المضرية واليمانية قد عظم أمرها وأخذت تحدث في الحياة السياسية العربية آثارها المنكرة المعروفة، فكانت المضرية لا تفتخر بشيءٍ إلا حاولت اليمانية أن تفتخر بما يعدله أو يفضله، وقد افتخرت المضرية بالغزلين من شعرائها في الإسلام، وكانت السنة المتصلة أن الغزل يمان؛ لأن امرأ القيس هو الذي مهد طريقه في الجاهلية، فلم يكن من اليسير على اليمانية أن تحتمل هذا الخذلان، وأن تسلم للمضرية بهذا التفوق الشعري الذي اغتصبته اغتصابًا وظفرت به في غير حق ولا وراثة، وإذن فلا بد من أن يكون لليمانية شعراء غزلون تقفهم أمام الشعراء الغزلين من المضرية، وليس وضاح هذا — فيما أرجح — إلا تجربة من هؤلاء الشعراء الذين كانوا اليمانيون يخترعونهم اختراعًا في القرن الثاني للهجرة ليفاخروا بهم المضريين.

اخترعت اليمانية وضاحًا وشعره — فيما أعتقد — حتى لا يقال: إنها خلت من شاعر غزل في الإسلام، وهبه قد وجد حقًّا، وقال الشعر واتصل بالخلفاء ووقعت له هذه الأخبار المعروفة كلها أو بعضها، فليس من سبيل إلى الشك في أن الكثرة المطلقة من هذا الشعر الذي يُضاف إليه منحولة مصنوعة لم يقلها ولم يعلم بها.

ولماذا؟ لأن هذا الشعر الذي يضاف إلى وضاح لا يمكن أن يكون قد صدر عن شاعر مات قبل أن ينتهي القرن الأول للهجرة.

أنت قد قرأت شعر الغزلين من أهل البادية وعرفت أنه يمتاز بمتانة اللفظ ورصانة الأسلوب، وهذه المسحة البدوية التي إن لم تكن شديدة الخشونة فليست شديدة النعومة، وأنت قد قرأت وستقرأ شعر الغزلين من أهل الحاضرة، وسترى أن هذا الشعر إذا برئ من خشونة البادية قليلًا أو كثيرًا فهو عربي، عربي بريء من الابتذال والسقوط وهذا اللين الذي يحملك على أن تقسم ما قال هذا الشعر عربي، وإنما هو صنعه مولد ضعيف.

شعر وضاح لين مسرف في اللين، سهل مفرط في السهولة، هو شعر مخنث إن أذنت لي باستعمال هذا اللفظ، ثم هو على لينه وخنوثته لا يخلو من تكلف منكر قد يخرجه أحيانًا عن أصول النحو، ثم هو على هذا كله لا يخلو من تكلف آخر في القافية لم يكن يذهب إليه الشعراء الأولون، تراه يتكلف قافية شينية مثلًا ويريد أن يطيل، والقافية الشينية عزيزة تعسر عليه، فيضطر إلى أن يصطنع جيد اللفظ وسخيفه؛ لأنه مفلس، ولأنه يريد أن يظهر مظهر الموسر، وانظر إلى هذه القصيدة فقد تغنيك عن إطالة القول:

طَرِب الْفُؤَادُ لِطَيْفِ روْضةَ غاشي
والْقَوْمُ بَينَ أَبَاطِحٍ وعِشَاشِ
أَنى اهْتَدَيتِ ودُون أَرضِكِ سَبْسَبٌ
قَفرٌ وحَزْنٌ في دُجًى ورَشاشِ
قالتْ تَكاليفُ المُحِبِّ كَلِفْتُها
إِن المُحِبَّ إِذا أُخِيفَ لَمَاشي
أَدْعُوكِ رَوْضَةُ رحْبَ واسْمُكِ غيْرُهُ
شَفقًا وأَخشَى أَن يَشِي بِكِ واشِي
قالَتْ فَزُرْنا قُلت كَيْفَ أَزُورُكُمْ
وأَنا امْرُؤ لخُروجِ سِرِّكِ خاشِي
قالت فَكن لِعُمُومَتي سَلْمًا معًا
والْطفْ لإِخْوتِي الذينَ تُمَاشِي
فتزورُنا مَعَهُمْ زِيارةَ آمِنٍ
والسِّرُّ يا وضاحُ لَيس بِفَاشي
ولَقِيتهَا تمْشي بِأَبْطَحَ مرَّةً
بِخَلاخِلٍ وبِحُلَّةٍ أَكْبَاشِ
فظَلِلْتُ معْمُودًا وبِتُّ مُسهَّدًا
ودُمُوع عَيْني في الرِّداءِ غوَاشِي
يا روْضُ حُبُّك سلَّ جِسْمي وانْتَحَى
في الْعَظْمِ حَتى قَد بَلَغتِ مُشَاشي

أترى إلى هذه القصيدة في ألفاظها ومعانيها وقوافيها؟ ولنبدأ فلنلاحظ أن معنى هذه القصيدة أقرب إلى ما نجده في حياة المدن أثناء العصور المتأخرة منه إلى ما نعلم من أخلاق العرب في العصور الأولى، فهذه المرأة التي تريد وضاحًا أن يزورها، فإذا ذكر لها عسر ذلك أغرته بأن يتلطف لأعمامها وإخوتها حتى تكون الصداقة بينه وبينهم، فتسهل عليه زيارتها معهم دون أن يتعرض لخطر أو أن يذاع سرهما، أقول: إن هذه المرأة أقرب إلى أن تكون بغدادية من الطبقات المنحطة في أهل بغداد منها إلى أن تكون عربية يمانية أو مضرية قريبة عهد بأخلاق البادية وما فيها، لا أقول من عفة وطهارة، ففي البادية فحشها وفجورها، بل أقول من كرامة وسذاجة وترفع عن مثل هذه الدنيات.

وأما القافية فقد لاحظت من غير شك مطلع القصيدة الذي يقول فيه:

طرف الفؤاد لطيف روضة غاشي

وما أحسبك في حاجة إلى أن أنبهك إلى موضع «غاشي» من العسر والحرج، وفطنت إلى قوله:

إن المحب إذا أخيف لماشي

وفطنت إلى قوله:

وأخشى أن يشي بك واشي

دون نصب الفعل، وفطنت إلى غير ذلك مما تشتمل عليه القصيدة من مهلهل اللفظ ورديء القافية.

ولست أريد أن أطيل برواية الكثير من شعر وضاح، فقد تجد ذلك في كتاب الأغاني، وأنا أوصيك بالقافية التي يرثي بها أباه وأخاه، وأروي لك هذه الأبيات التي يجزع فيها على أم البنين وقد أخذتها علة:

حَتَّامَ نَكْتُمُ حُزْنَنا حتَّامَا
وعَلامَ نَسْتَبْقي الدُّموعَ عَلاما؟
إِنَّ الذي بِيَ قدْ تَفاقَمَ واعْتَلى
وَنَمَا وزَادَ وأَوْرَثَ الأَسْقاما
قدْ أَصْبحتْ أُمُّ الْبنينَ مَرِيضَةً
نَخْشَى ونُشْفِق أَنْ يكون حِماما
يا ربِّ أَمْتِعني بِطُولِ بَقائها
وَاجْبُرْ بِها الأرْمَالَ والأَيْتاما
واجْبُرْ بها الرَّجُلَ الْغرِيبَ بأَرْضِها
قدْ فارَق الأَخوالَ والأَعْمَامَا
كَمْ راغِبين وراهِبين وبُؤسٍ
عُصِموا بِقُرْبِ جَنابها إِعصاما
بجِنَابِ ظاهِرة الثَّنا مَحْمُودةٍ
لا يُسْتَطاعُ كلامُها إِعْظامَا

فمن زعم أن هذا الشعر عربي قد صدر عن قائله في القرن الأول للهجرة، فإني أزعم أنه لم ينشأ في القرن الأول ولا في الثاني، وإنما أنشأه ناظم جاهل لا حظ له من قوة، ولا نصيب له من فن القرن الثالث أو الرابع للهجرة، ويحدثنا أبو الفرج أن كتابًا غثًّا مصنوعًا كان في أيدي الناس عن الوضاح، وأنه كره أن ينقل منه شيئًا، وإذن فوضاح اليمن هذا بطل غرامي من أبطال العامة، لا من أبطال الخاصة كأولئك الذين درسنا أخبارهم في الفصول الماضية.

على أن اللذيذ من أمر الوضاح ليس شعره ولا نسبه، وإنما هو هذه القصة الغرامية التي أنشئت حوله، والتي اشتركت في تكوينها عناصر مختلفة: منها السياسي ومنها العصبي ومنها المبالغات العامية، والتي ما زالت تصلح موضوعًا لقصة غرامية موسيقية حديثة على نحو ما يسيمه الفرنج بالأوبرا.

زعموا أن وضاحًا أحب في أول أمره امرأة يقال لها روضة، يمانية أو فارسية، وزعموا أنها أحبته، وزعموا أن حبهما ذاع بين الناس، فلما خطبها أبى عليه أهلها ما أراد على نحو ما هو معروف في القصص الغرامية لذلك العهد، ولكن هذه القصة اختزلت اختزالًا، فلم يستطع الشاعر أن يحتفظ بغرامه ويتعرض لأخطار الحب، ولم يتح للسلطان إهدار دمه كما هي العادة في القصص الغرامية، ذلك لأن «روضة» أصابها الجذام فلم تصبح أهلًا للعشق، وإنما أصبحت أهلًا للرحمة، وقد رحمها الشاعر وعطف عليها، ومع أن أكثر شعر وضاح إنما هو في روضة هذه، فإن قصته الحقيقية التي عبثت بحياته بل عصفت بها، والتي أشرت إليها آنفًا إنما هي سيرته مع أم البنين.

أم البنين هذه بنت عبد العزيز بن مروان، وزوج الوليد بن عبد الملك، كانت جميلة فاتنة، يشهد بذلك شعر عبيد الله بن قيس الرقيات فيها، وقد استأذنت زوجها في الحج فأذن لها، فبلغت مكة في جوار حسان لم ير أهل مكة مثلهن، وكن سافرات يتعرضن للغزلين من أهل الحجاز، وكان الوليد قد توعد الشعراء إن تغزلوا بالملكة أو إحدى وصائفها، ولكن الملكة كانت تريد أن يتغزل بها الشعراء كما تغزلوا بأخت زوجها فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر بن عبد العزيز، وكما تغزلوا بسكينة بنت الحسين، وكما تغزلوا ببنت معاوية من قبل، وكما كانوا يتغزلون بكل شريفة وردت مكة، لا يريدون بذلك إثمًا ولا نكرًا، وإنما يذهبون في ذلك مذهب المدح والدعابة، فطلبت إلى كثيرٍ وإلى وضاح أن يذكراها، فأما كثير فخاف الخليفة وأراد أن يرضي الملكة، فذكر جارية لها يقال غاضرة، وأما وضاح فتغزل بالملكة نفسها، ولم ينقل الرواة إلينا ما قال فيها، ولكنه نمي إلى الوليد فحنق عليه واغتاله.

هذا ما يمكن أن يكون صحيحًا من القصة، وهو الموضوع الذي نسجت حوله هذه القصة المتقنة التي سأوجزها في أسطر، والتي قلت: إنها تصلح موضوعًا لمأساة موسيقية حديثة.

زعموا أن أم البنين أحبت وضاحًا وأحبها وضاح، وكانت بينهما دعابة ثم جاوز الأمر الدعابة إلى ما هو شر منها، قال: وأهدي إلى الوليد جوهر أعجبه فأراد أن يهديه إلى أم البنين، فأرسله إليها مع خادم له ودخل الخادم على الملكة فرأى عندها وضاحًا، قال: فأسرعت الملكة إلى صندوق فأخفت فيه صاحبها، ثم أخذت الجوهر من الخادم وقد رأى ما صنعت فطمع فيها، وأراد أن يستغل ما يعلم، فطلب إليها أن تمنحه حجرًا من هذا الجوهر، قالوا: فأبت عليه ذلك وسبته، فانصرف محنقًا حتى بلغ الخليفة فأنبأه بما رأى، فأظهر الخليفة تكذيبه وأمر به فقتل، ثم نهض من فوره فدخل على الملكة، فإذا هي تتمشط، فجلس على الصندوق الذي وصفه له الخادم، وأخذ يتحدث إلى الملكة في ملاطفة حتى سألها أن تهدي إليه هذا الصندوق، فلم تستطع رده، فأمر بالصندوق فاحتمل إلى مجلسه، ثم أمر فاحتفرت بئر في هذا المجلس، ثم ألقي الصندوق في البئر، وهيل عليه التراب وسويت الأرض، ورد البساط إلى مكانه ولم يعرف أحد لوضاح خبرًا، ولم تنكر الملكة من زوجها شيئًا.

قال أبو الفرج: إن هذه القصة مصنوعة، وضعها أحد الشعوبية، وقد كانت بينه وبين «أحوى» ملاحاة أيام بني العباس، وأكبر الظن أن هذه القصة موضوعة كلها، ولكنها في نفسها جيدة مؤثرة صالحة كما قلت لأن تكون موضوع مأساة موسيقية.

فأنت ترى أمر وضاح هذا كله نكر في نكر؛ فشخصه موضوع شك وشعره منحول، وأخباره متكلفة، ومع ذلك فنحن نجد في شعره شيئًا لا يخلو من جودة، وأنا أوصيك باللاميتين اللتين مدح بهما الوليد.

وأختم هذا الحديث بهذه الأبيات التي أشرت إليها في أول الفصل والتي خيلت إلى بعض الأدباء المحدثين أن وضاحًا قد استكشف الشعر التمثيلي، وإنما أروي هذه الأبيات لأن فيها سذاجة حلوة إن لم تمثل النفس العربية فهي تمثل النفس العامية البغدادية:

قالَتْ: أَلا لا تَلِجَنْ دارَنا
إِنَّ أَبانا رَجَلٌ غائرُ
قُلْتُ فإِني طالبٌ غِرَّةً
مِنه وسَيْفي صارِمٌ باترُ
قالتْ فإِنَّ الْقَصْرَ منْ دونِنا
قلت فَإِني فَوْقَه ظاهِرُ
قالتْ فإِنَّ الْبَحْرَ من دونِنا
قُلت فَإِني سَابحٌ ماهِرُ
قالتْ فَحَوْلي إِخْوَةٌ سَبْعة
قُلتُ فَإِني غالبٌ قاهِرُ
قالتْ فَلَيثٌ رابضٌ بَيْننَا
قُلت فَإِني أَسَدٌ عاقِرُ
قالتْ فَإِنَّ الله مِنْ فَوقِنا
قُلتُ فَربِّي رَاحِمٌ غافِرُ
قالَتْ لقدْ أَعْيَيْتَنا حُجة
فَأْتِ إِذا ما هجَعَ السَّامرُ
فاسقُطْ عَليْنا كَسقوطِ النَّدَى
لَيْلَة لا نَاهٍ ولا زاجرُ
١  نُشرت بجريدة «السياسة» في ١٧ أكتوبر سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤