الفصل الثاني والعشرون

الغزلون:١ العرجي

أريد اليوم أن أحدثك عن شاعرٍ ظريف خفيف الروح محبب إلى النفس، فيه خصال الرجل العربي حقًّا، لا أريد عربي البادية، ولا أريد الحضري الفقير، وإنما أريد العربي الذي قضى الله له مولدًا كريمًا وثروة ضخمة ومكانة ممتازة، فاستمتع بهذا كله كما ينبغي أن يستمتع به، وظفر من هذا كله بما يستتبع من الخلال الحسنة والسيئة، فأنت تجد عنده مزايا الثروة ونقائصها، وأنت تجده مصدرًا لكل ما يصدر عن الأرستقراطية من خير وشر، وأنت تجده مثلًا صادقًا لهذه الطائفة من الشباب الحجازي الذي حدثتك عنه غير مرة، وزعمت لك أنه كان حسن المولد ضخم الثروة قوي المروءة، عظيم الحظ من الذكاء، ولكنه كان مع ذلك، أو قل كان لذلك نفسه، مبعدًا عن الحياة السياسية العامة، مضطرًّا إلى أن ينفق أيامه في اللهو واللعب، ويبلي حياته في العبث والمجون.

حدثتك عن هذا الشباب غير مرة، وسأحدثك عنه غير مرة أيضًا، فإن حياة هؤلاء الشبان الذين كانوا زهرة الأرستقراطية الإسلامية، سواء أكانت هذه الأرستقراطية معتمدة على الدين أم على المولد أم على الثروة أم على هذه الأشياء جميعًا، أقول: إن حياة هؤلاء الشبان خليقة بالدرس والعناية؛ لأنه كان قد قدر أن أبناء الذين أسسوا الدولة الإسلامية الأولى يجب أن يكون لهم أثر عظيم في حياة المسلمين، فلو أن الخلفاء من بني أمية أشركوهم في حديث الأمر كما اشترك آباؤهم في قديمه لتغيرت من غير شك وجهة الحياة السياسية الإسلامية، ولقامت دولة بني أمية على الشورى لا على الاستبداد، ولحيل بين المسلمين وبين الثورات التي مزقت دولهم تمزيقًا، ذلك أن هذا الشباب القوي الذكي الخصب كان يستطيع أن يقيم شيئًا من التوازن المتين بين سلطة الخلفاء وسلطة الزعماء، يمنع هؤلاء الخلفاء من الظلم والإسراف في الانقياد للعصبيات، ولكن الخلفاء فهموا هذا حق الفهم واستيقنوا أن اشتراك الشباب الحجازي في أمور الدولة يقبض سلطانهم ويضطرهم إلى شيءٍ من الحكم الدستوري، منافٍ كل المنافاة لما كانوا يسمون إليه من الحكم المطلق، فلم يروا بدًّا من إبعاد هذا الشباب من أمور الدولة واضطراره إلى أرض الحجاز لا يجاوزها إلا بإذن، ولا يخرج منها إلا في حاجة ماسة.

ولقد جاهد هذا الشاب الحجازي جهادًا عنيفًا في سبيل الاحتفاظ بمنزلته التي تركها له أصحاب النبي فما كانت ثورة ابن الزبير، وما كانت ثورة الحرة، وما كان خروج الحسين بن علي، إلا مظاهر لهذا الجهاد، ولكن هذا الشباب الحجازي لم يوفق، وتمت الكلمة للاستبداد الأموي، واضطر أبناء الصحابة والخلفاء الراشدين إلى هذه الحياة الفارغة يحيونها في الحجاز، ولم يحل بينهم وبين الاشتراك في أمور الدولة فحسب، بل حيل بينهم وبين الحياة في غير الحجاز من أقطار البلاد الإسلامية، وتخير بنو أمية عمالهم أو كثرة هؤلاء العمال من غير هذه الأرستقراطية الحجازية، ورأينا أبناء أبي بكر وعمر وعثمان وزهرة الشباب الهاشمي مضطرين إلى أن يحيوا في ضياعهم، فأما أكثرهم فانصرف إلى اللهو والمجون، وأما أقلهم فانصرف إلى الدين والتقى، ووقف فريق بين بين، يحتفظ بمكانته الدينية، ويأخذ مع ذلك بحظه من متاع الحياة.

ولعلك تعلم أن هذا الماجن الذي ازدان به الحجاز حينًا، وهو ابن أبي عتيق، كان من سلالة أبي بكر، وأن العرجي الذي أريد أن أحدثك عنه اليوم كان من سلالة عثمان، ولعلك تعلم مكانة عبد الله بن جعفر وهذا الجلال الديني الذي كان يحيط به، وأنه لم يكن يكره أن يسمع الغناء ولا أن يختلف إلى مجالس المغنيات، ليس لهذا كله مصدر، فيما أعتقد، إلا أن الخلفاء من بني أمية حالوا بين هذه القوة العاملة وبين العمل، ففسدت لذلك أمور الدولة من جهة، وأمور هذا الشباب الحجازي من جهةٍ أخرى.

لم يكن بد من أن يكون لأبناء الذين أسسوا الدولة الإسلامية أثر في الحياة الإسلامية، وقد أبى الخلفاء عليهم أن يؤثروا في السياسة فأثروا في الأدب والحضارة، نعم، أثروا فيهما آثارًا باقية، فنحن مدينون لهم بالغزل، ونحن مدينون لهم بالغناء، ونحن مدينون لهم بكل هذه الناحية الحلوة الظريفة من الحضارة الإسلامية أيام بني أمية.

وأحب أن تلاحظ معي أن هذه الناحية الحلوة الظريفة من الأدب الأموي والحضارة الأموية ظلت نقية طاهرة بريئة من الإثم والفحش إلى حدٍّ ما، احتفظ بها الحجاز وزهد فيها خلفاء الشام، فلما جاوزت الحجاز إلى قصور دمشق، ولما أراد الخلفاء أن يلهوا كما كان يلهو شباب الحجاز، ولما انتقل الغزل والغناء والعبث من الأرض المقدسة إلى قصور بني أمية، ظهر فيها هذا الفساد الذي ننكره حين نراه.

أليس مما يلفتك أنك لا تكاد تظفر بشيء من الفحش في عبث هؤلاء الحجازيين ولهوهم؟ بل إنك ترى الفقهاء والمحدثين وأصحاب الزهد والنسك يستعذبون هذا الظرف الحجازي ويستحبونه ولا يتحرجون من الاستماع له، بل من الاشتراك فيه ما ظل حجازيًّا، حتى إذا انتقل إلى الشام ظهر النفور منه والسخط عليه.

رضي الفقهاء قليلًا أو كثيرًا عن ظرف ابن أبي ربيعة، وعبث العرجي، ومجون ابن أبي عتيق، ولكنهم أنكروا لهو يزيد بن معاوية، وسخطوا على عبث يزيد بن عبد الملك، وكفَّروا الوليد بن يزيد، ومصدر ذلك فيما أظن أن شباب الحجاز كان يلهو بمقدار، وكانت مكانته الدينية والاجتماعية وخوفه من رقابة الخلفاء يعصمانه من مجاوزة الحدود، أما شباب بني أمية فلم يكد يعرف اللهو حتى اندفع فيه إلى غير حد، لا يخشى مراقبة ولا يحفل بسلطان.

نحن مدينون لهذا الشباب الحجازي، بدوه وحضره، بالغزل والغناء، وقد حدثتك عن غزل أهل البادية، وأحدثك الآن عن غزل أهل الحاضرة، وأبدأ بهذا العرجي الذي كان من سلالة أحد الخلفاء الراشدين.

كان عثمان جده الثاني، وكان كغيره من أبناء الخلفاء والصحابة غنيًّا ضخم الثروة، يتردد بين مكة وإقطاع له قريب من الطائف يسمى العَرْج فنسب إليه، وقد حاول أن يكسب لنفسه منزلة تلائم مولده وثروته، فأبلى في الغزو بلاء حسنًا مع مسلمة بن عبد الملك، وأنفق في سبيل الله أموالًا ضخمة، تحدثوا أن ضائقة أصابت الجيش فوقف ثروته على إطعام المسلمين ووكل غلامين له بقِدْره يقومان عليه طوال الليل، وتحدثوا أيضًا أن ضائقة أصابت الجيش في بعض غزواته فتقدم العرجي إلى تجار أن يقضوا حاجات المسلمين وأن يرجعوا بذلك عليه، فرجعوا عليه بعشرين ألف دينار، وانتهى الأمر إلى عمر بن عبد العزيز فقال: بيت المال أحق بهذا، وأدى عن العرجي دينه للتجار، ومع ذلك لم ينفعه عند بني أمية بلاؤه في الحرب ولا سخاؤه بالمال، كما لم ينفعه عندهم اتصاله بعثمان، مع أن دولتهم قامت على الثأر لعثمان، فلم يولوه عملًا ولم يكلوا إليه أمرًا، واضطر إلى أن يعود إلى الحجاز فيحيا فيه يائسًا محزونًا، حياة غيره من أبناء الصحابة والخلفاء.

كان كريمًا إذن، وكان شجاعًا، وكان — فيما ذكر الرواة — أرمى الناس بالسهم وأبراهم له، كما كان فارسًا شديد الحذق بالفروسية، وكان ذكي القلب عزيز النفس قوي الفطنة، وكان مع ذلك مبعدًا عن الحياة العاملة، فلم يكن بد لهذه الملكات من أن تظهر وتؤتي ثمرها في اللهو والعبث، إذ حيل بينها وبين هذه وتلك دون أن ينحاز إلى إحداهما، ودون أن تستطيع إحداهما أن تأخذه الجد، وقد أخذ العرجي بحظه من اللهو والعبث فنهج منهج ابن أبي ربيعة، ولكنه خالفه من وجهين؛ أحدهما: أن ابن أبي ربيعة كان هادئًا وادعًا مطمئنًّا إلى لين الحياة وخفض العيش وحديث النساء، كان حمامة من حمام الحرم، كل حظه من الحياة أن يحب وأن يتغنى في الحب، ولهذا استطاع أن يهون على أخيه، فقد حضرت الوفاة عمر بن أبي ربيعة فجزع عليه أخوه الحارث إشفاقًا عليه من عذاب الله، فاستطاع عمر أن يهون على أخيه وأن يقسم له ما أتى فاحشة قط.

أما العرجي فقد كان فيه فضل من قوة وعنف، ولم يكن له بد من أن يصرف هذا الفضل، وقد حاول أن يصرفه في سبيل الدولة، فأبى عليه الخلفاء ذلك، فصرفه في سبيل نفسه، وكان أقرب إلى الفاتكين منه إلى أهل الدعة والهدوء، كان ينفق حياته في الصيد والشرب، ولم يكن يكتفي من النساء بالحديث والغزل، وإنما كان يطلب إليهن أكثر من هذا، فكان اسمه خطرًا أيضًا.

والآخر أن عمر بن أبي ربيعة كان قانعًا في حياته العامة كما كان قانعًا في حياته الخاصة، فلم تكن له أطماع سياسية ولم يكن له أعداء سياسيون، وكأنه كان يحتقر السياسة وأهلها، فقصر شعره على النساء، وصرفه عن الخلفاء ومن يتصل بهم فلم يمدح أحدًا ولم يهجُ أحدًا.

أما العرجي فقد حاول الحياة السياسية وأراد أن يكون له شأن في أمور الدولة فلم يفلح، وأحسب أنه لم يتعز عن هذا الإخفاق، فأضمر للخلفاء ومن اتصل بهم حقدًا وبغضًا، وكأن هذا الإخفاق قد أثر في نفسه تأثيرًا قويًّا فأصبح سيئ الخلق فاحش اللسان قليل الرضا عن الناس، ينصرف عنهم ما صرفه عنهم اللهو والعبث، فإذا اضطر إلى مواجهتهم لم يجدوا منه خيرًا، ومن هنا هجا ناسًا وعادى ناسًا آخرين، وانتهى به عنفه في حياته الخاصة وسوء خلقه في حياته العامة إلى أن ضُرب وشهر وسجن حتى مات في السجن.

ولا بد من ملاحظة هذين الأمرين لفهم شعر العرجي وما روي لنا من أخباره، فإلى عنفه وفتكه وتهالكه على اللذة يرجع قسم من شعره وأخباره، وإلى سخطه السياسي وحقده على رجال الدولة يرجع القسم الآخر من هذا الشعر وهذه الأخبار.

ولعلك تريد الآن أن تعرف رأينا في شعر العرجي، وقد قدمنا هذا الرأي في أول هذا الحديث حين قلنا: إن العرجي كان ظريفًا خفيف الروح محببًا إلى النفس، فإنا نجد هذه الخلال كلها في شعر العرجي، وستجدها أنت فيه أيضًا، وقد اتفق رأينا في هذه المرة مع رأي القدماء، فقد كان أهل الظرف والأدب منهم، بل كان الفقهاء والنساك أيضًا، يحبون شعر العرجي ويكلفون به كلفًا شديدًا، ولهم في ذلك أحاديث لا تكاد تظفر بمثلها لشاعرٍ آخر، ومن هذه الأحاديث ما يضحك، ومنها ما يرضي ويحمل على الإعجاب.

تحدث مصعب بن عبد الله عن أبيه قال: أتاني أبو السائب المخزومي ليلة بعد ما رقد السامر فأشرفت عليه، فقال: سهرت وذكرت أخًا لي أستمتع به فلم أجد سواك، فلو مضينا إلى العقيق فتناشدنا وتحدثنا! فمضينا فأنشدته في بعض ذلك بيتين للعرجي:

باتا بِأَنْعَمِ لَيْلةٍ حتى بدَا
صُبْح تَلَوَّحَ كالأَغَرِّ الأَشْقرِ
فَتلَازَمَا عِندَ الْفِراقِ صبابة
أَخْذَ الْغَرِيمِ بفَضْلِ ثَوْبِ المُعْسِرِ

فقال: أعده عليَّ، فأعدته، فقال: أحسن والله! امرأته طالق إن نطق بحرف غيره حتى يرجع إلى بيته، قال: فلقينا عبد الله بن حسن بن حسن، فلما صرنا إليه، وقف بنا وهو منصرف من ماله يريد المدينة، فسلم ثم قال: كيف أنت يا أبا السائب؟ فقال له:

فَتلَازَمَا عندَ الْفراق صَبابةً
أَخْذَ الْغَرِيمِ بفَضْلِ ثَوْبِ المُعْسِرِ

فالتفت إليَّ فقال: متى أنكرت صاحبك؟ فقلت: منذ الليلة! فقال: إنا لله! وأي كهل أصيبت منه قريش! ثم مضينا فلقينا محمد بن عمران التيمي قاضي المدينة يريد مالًا له، على بغلة له، ومعه غلام على عنقه مخلاة فيها قيد البغلة، فسلم ثم قال: كيف أنت يا أبا السائب؟ فقال:

فَتلَازَمَا عِندَ الْفِراقِ صبابةً
أَخْذ الْغَرِيمِ بفَضْل ثَوْبِ الْمُعْسِرِ

فالتفت إليَّ فقال: متى أنكرت صاحبك؟ قلت: آنفًا، فلما أراد المضيَّ قلت: أفتدعه هكذا! والله ما آمن أن يتهور في بعض آبار العقيق، قال: صدقت، يا غلام، قيد البغلة، فأخذ القيد فوضعه في رجله، وهو ينشد البيت ويشير بيده إليه يريد أن يفهم عنه قصته، ثم نزل الشيخ فقال لغلامه: يا غلام، احمله على بغلتي وألحقه بأهله، فلما كان بحيث علمت أنه قد فاته أخبرته بخبره، فقال: قبحك الله ماجنًا! فضحت شيخًا من قريش وغررتني.

وتحدث داود الثقفي قال: كنا في حلقة ابن جريج وهو يحدثنا، وعنده جماعة فيهم عبد الله بن المبارك وعدة من العراقيين، إذ مر به ابن نيزن المغني وقد ائتزر بمئزرٍ على صدره، وهي إزرة الشطار عندنا، فدعاه ابن جريج فقال له: أحب أن تسمعني، قال: أنا مستعجل، فألح عليه، فقال: امرأته طالق إن غناك أكثر من ثلاثة أصوات، فقال له: ويحك! ما أعجلك إلى اليمين! غنني الصوت الذي غناه ابن سريج في اليوم الثاني من أيام منى على جمرة العقبة، فقطع طريق الذاهب والجائي حتى تكسرت المحامل، فغناه:

عوجي علي فسلمي جبر

فقال له ابن جريج: أحسنت والله! ثلاث مرات ويحك! أعده، قال: من الثلاثة، فإني قد حلفت! قال: أعده، فأعاده فقال: أحسنت! فأعده من الثلاثة، فأعاده، وقام ومضى، وقال: لولا مكان هؤلاء الثقلاء عندك لأطلت معك حتى تقضي وطرك، فالتفت ابن جريج إلى أصحابه فقال: لعلكم أنكرتم ما فعلت! فقالوا: إننا لننكره عندنا بالعراق ونكرهه، قال: فما تقولون في الرجز؟ — يعني الحداء — قالوا: لا بأس به عندنا! قال: فما الفرق بينه وبين الغناء؟

ولهذه الأبيات نفسها قصة أخرى مع عطاء وابن سريج ليست أقل من هذه القصة ظرفًا، ولعلك تعلم قصة أبي حنيفة مع جاره الذي كان يسكر ويتغنى في كل ليلة بقول العرجي:

أَضَاعُوني وأَي فتى أَضاعوا
ليومِ كرِيهَةٍ وسِدَاد ثَغرِ

ثم انقطع الغناء عن أبي حنيفة ليلة، فسأل عن جاره فعلم أن العسس قد أخذوه، فجد أبو حنيفة حتى أطلقه من سجنه، ثم قال له: هل أضعناك يا فتى؟ قال: لا والله! قال أبو حنيفة: فعد إلى ما كنت فيه من غناء فليس فيه بأس.

وأخبار أخرى تروى عن شعر العرجي ورواجه بين الظرفاء والفقهاء من أهل الحجاز، وتجدها في كتاب الأغاني.

ولم يكن العرجي ظريفًا في شعره وحده، بل كان ظريفًا في سيرته أيضًا، ولا سيما مع النساء، ولست أروي لك من ظرفه هذا إلا قصة واحدة.

قالوا: مر العرجي في بعض نزهته بأم الأوقص، وهو محمد بن عبد الرحمن المخزومي القاضي، وكان يتعرض لها، فإذا رآها رمت بنفسها وتسترت منه، وهي امراة من بني تميم، بصر بها في نسوة جالسة وهن يتحدثن، فعرفها وأحب أن يتأملها من قرب، فعدل عنها ولقي أعرابيًّا من بني نصر على بكر له ومعه وطبا لبن، فدفع إليه دابته وثيابه، وأخذ قَعوده ولبنه ولبس ثيابه، ثم أقبل على النسوة، فصحن به: يا أعرابي، أمعك لبن؟ قال: نعم، ومال إليهن وجلس يتأمل أم الأوقص، وتواثب من معها إلى الوطبين، وجعل العرجي يلحظها وينظر أحيانًا إلى الأرض كأنه يطلب شيئًا، وهن يشربن من اللبن، فقالت له امرأة منهن: أي شيء تطلب يا أعرابي في الأرض؟ أضاع منك شيء؟ قال: نعم، قلبي! فلما سمعت التميمية كلامه نظرت إليه، وكان أزرق، فعرفته فقالت: العرجي بن عمر ورب الكعبة! ووثبت وسترها نساؤها وقلن: انصرف عنا لا حاجة بنا إلى لبنك، فمضى منصرفًا وقال في ذلك:

أَقولُ لِصاحِبيَّ ومثْلُ ما بِي
شَكاهُ المَرْءُ ذُو الوَجْدِ الأَليمِ
إِلى الأَخَوَيْنِ مِثْلِهما إِذا ما
تأَوَّبَه مُؤَرِّقَةُ الْهُمُومِ
لِحَيْني والْبَلاءِ لقِيتُ ظُهْرًا
بِأَعْلَى النَّقعِ أُخْتَ بَني تَميمِ
فَلمَّا أَن رَأَتْ عَيْنَايَ منها
أَسِيلَ الْخَدِّ في خَلْقٍ عميمِ
وعَيْنَيْ جُؤْذَرٍ خَرِق وثَغْرًا
كلَوْنِ الأُقْحُوَانِ وَجيدَ ريمِ
حَنَا أَتْرابُهَا دوني عَليَها
حُنُوَّ الْعَائِداتِ عَلَى السَّقيمِ

لقد كنت أريد أن أروي لك قصة أخرى ظريفة قاسية للعرجي مع أمة يقال لها كلابة، ولكني قد أطلت، ولست أريد أن أسرف في الإطالة، ولست أكتب هذه الأحاديث لأقول كل ما أريد، وإنما قصاراي أن أحبب إليك قراءة الأدب العربي وأرسم لك نهج هذه القراءة.

كان العرجي كما قلنا عفيفًا شديد البغض لرجال الحكم، وقد قتله عنفه وبغضه هذان، زعموا أن هشام بن عبد الملك، لما استخلف ولى على مكة خاله محمد بن هشام المخزومي، فأخذ العرجي يسرف في هجاء محمد بن هشام، ثم لم يكتف بالإسراف في الهجاء فأخذ يتغزل بأم الوالي وزوجه، ويدفع غزله إلى المغنين، فما أسرع ما تنطلق به الألسنة! قال في أم الوالي هذه الأبيات المشهورة:

عُوجي علَينا رَبَّةَ الهَوْدَجِ
إِنك إِلَّا تَفْعَلِي تَحْرجَي
إِني أُتيحَتْ لي يَمَانِيَةٌ
إِحْدَى بَني الحارثِ من مَذْحِجِ
نَلْبَثُ حوْلًا كامِلًا كُلَّهُ
لا نَلْتَقي إِلَا عَلَى مَنْهجِ
في الحجِّ إِن حَجَّتْ وماذا مِنًى
وأَهْلُهُ إِن هِيَ لَمْ تحْجُجِ

وقال في زوجه جبرة:

عُوجى عَلَيَّ فَسَلِّمي جبْرُ
فِيم الصُّدُودُ وَأَنْتُمُ سَفْرُ
ما نَلْتقِي إِلَّا ثَلَاثَ مِنى
حتى يُفَرِّقَ بَيننَا النَّفْرُ
الحوْلُ بَعْدَ الحوْلِ يَتْبَعُهُ
ما الدَّهْرُ إِلَّا الْحَوْلُ والشَّهْرُ

فوجد عليه محمد بن هشام وجدًا شديدًا، وأخذ يلتمس العلل للإيقاع به، فما أسرع ما وجد عليه سبيلًا!

كان العرجي عنيفًا فزعموا أنه خاصمه أحد الموالي، فسبه وبالغ في سبه، فرد المولى عليه، فأمهله العرجي حتى إذا كان الليل هجم في نفر من رجاله على دار المولى، فأمر أصحابه فأوثقوه وفضحوا امرأته أمامه ثم قتلوه وحرقوه، فاستعدت المرأة عليه محمد بن هشام، فقبض عليه وضربه وحلق رأسه وصب عليه الزيت وعرضه للناس، ثم سجنه فظل في السجن تسع سنين ولم يخرج منه إلا ميتًا، ثم جاء الوليد بن يزيد فاتخذ قصة العرجي علة للانتقام من خالي هشام، فضربهما ثم أرسلهما إلى يوسف بن عمر، فعذبهما واستصفى أموالهما وأتلفهما ضربًا.

ونختم هذا الحديث بهذه الأبيات التي قالها العرجي في سجنه، والتي تمثل نفسيته السياسية قبل السجن وبعده:

أَضاعوني وأَيَّ فتى أَضاعوا
لِيَوْمِ كرِيهةٍ وسِدادِ ثَغْرِ
وصَبرٍ عندَ مُعتَرَكِ المنايا
وَقد شُرِعَتْ أَسِنَّتُها بنَحْرِي
أُجَرَّرُ في الجوَامع كُلَّ يَوْمٍ
فَيا للهِ مظْلَمَتي وصبْرِي
كأَنَّي لَمْ أَكنْ فيهم وسيطًا
وَلَمْ تَكْ نِسْبَتي في آلِ عَمْرو
١  نُشرت بجريدة «السياسة» في ٢٤ أكتوبر سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤