الفصل الثالث والعشرون

الغزلون:١ عبيد الله بن قيس الرقيات

صاحبنا اليوم شاعر معروف بالغزل، يذكر مع أصحاب النسيب من قريش وأهل الحجاز عامة، ولكنه ليس كهؤلاء الغزلين الذين اتخذناهم موضعًا لبحثنا إلى اليوم، فهو لم يقصر جهوده الفنية على الغزل، وهو لم يقصر حياته على اللهو والعبث، وإنما تنوعت حياته وتنوع حظه من الفن الشعري، فكان في حياته العاملة صاحب لهو وجد، وكان في حياته الشاعرة صاحب غزل ومدح ووصف وفخر ونضال سياسي، ويظهر أن النضال السياسي وحده هو الذي ينبغي أن نتخذه وسيلة إلى فهم هذا الشاعر في حياته العملية والشعرية، فنحن إذن بعيدون كل البعد عن هؤلاء الشعراء الذين لم تخطر لهم السياسة على بال، أو الذين لم يحاولوا أن يأخذوا منها بحظ، لأنهم علموا مقدمًا أن ليس لهم فيها نصيب، فوقفوا حياتهم على اللهو واللعب وذكر النساء.

نحن بعيدون عن عمر بن أبي ربيعة وعن جميل وأصحابه، بل نحن بعيدون عن هؤلاء الشعراء الذين حاولوا أن تكون لهم منزلة سياسية، فلما أخفقوا في ذلك اضطرهم اليأس من الحياة العاملة إلى نوع من الحياة ملؤها اللهو والدعابة والمجون، كالعرجي الذي حدثتك عنه في الأسبوع الماضي، وإنما نحن بإزاء شاعر يخالف أولئك مخالفة شديدة، خطرت له السياسة وخلبت عقله فغرق فيها إلى رأسه، واحتمل من آلامها وأثقالها شيئًا كثيرًا جدًّا، وأثر ذلك في شعره وفي حياته تأثيرًا ظاهرًا غلب على كل شيء من الأشياء التي يمكن أن تعمل في حياة الشعراء، فهو إلى الشعراء السياسيين أقرب منه إلى الشعراء الغزلين، ولكنه مع ذلك كان غزلًا، ماهرًا في الغزل، أو قل متفوقًا فيه، وربما صح أن يقدم على العرجي والأحوص، بل قد استباح بعض المتقدمين لنفسه أن يقرنه إلى ابن أبي ربيعة، وليس يعنينا الآن أن نثبت أنه أشعر من ابن أبي ربيعة، أو دون ابن أبي ربيعة في الشعر، وإنما الذي يعنينا قبل كل شيء هو أن نتبين شخصيته وما بينها وبين شعره من صلة؛ أي أنْ نتبين الخصائص التي يمتاز بها شعره، حتى إذا فرغنا من ذلك كان من اليسير علينا أن نقدر هذا الشعر وننزله منزلته من أدب الأمويين.

وقد أراد الله أن يجعل هذا يسيرًا، فحفظ لنا مقدارًا صالحًا من شعر عبيد الله بن قيس الرقيات يجمعه ديوان مخطوط في دار الكتب المصرية طبعت منه نسخة في «فيينا»، ونستطيع إذن أن نقرأ هذا الديوان ونحكم عليه.

وأنا أحب أن تقرأ أخبار هذا الشاعر في كتاب أبي الفرج، فستشعر بشيء شعرت به، وهو أنه حلو النفس، خفيف الروح، عذب الشعر، خصب الخيال قويه، وستشعر بأن أبا الفرج قد قصر في ذات هذا الشاعر، فلم يروِ من شعره إلا أطرافًا موجزة مقتضبة، كل أثرها في نفسك هو أن تستثير الإعجاب والأسف على أن ما حفظ من شعره قليل، ولكن هذا الأسف يزول حين تعلم أن له ديوانًا محفوظًا، وأنك تستطيع أن ترجع إلى هذا الديوان، فإذا رجعت إلى هذا الديوان فستشعر بشيء آخر شعرت به أيضًا، وهو أن الجيد من شعر هذا الشاعر كثير أكثر مما ينبغي، إن جاز مثل هذا القول، وأن الرديء من شعره قليل أقل مما ينبغي، إن أبيح مثل هذا التعبير.

وأنا أستبيح لنفسي مثل هذا التعبير، لأني أريد في هذه الأحاديث أن أقدم إليك صورة صادقة ولكنها موجزة من الشعراء الذين أدرسهم، وقد أستطيع أن أقدم إليك صورة صادقة من صاحبنا هذا، ولكني أجد مشقة شديدة في الإيجاز، فليس من اليسير أن تختار من شعره، فكل شعره أو أكثره حري أن يختار، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل أنت مضطر إلى أن تروي له شعرًا كثيرًا أكثر مما يحتمل هذا الحديث.

وهنا ألاحظ شيئًا يكاد يختص به عبيد الله بن قيس الرقيات: وهو أنه كان صاحب لهو وسياسة، وأنه اتخذ الغزل وسيلة إلى اللهو والسياسة، فكان يتغزل حينًا ليلهو أو ليصف عواطف نفسه حقًّا، وكان يتغزل حينًا آخر لا للهو ولا لوصف حب صادق، بل ليعبث بخصومه السياسيين، إذ يذكر نساءهم بما يحسن وبما لا يحسن، وقد رأينا العرجي يتغزل بجيداء أم محمد بن هشام، وبجبرة زوج محمد بن هشام، ليغيظ محمد بن هشام هذا، وكذلك فعل عبيد الله بن قيس الرقيات قبل العرجي، فسن له ولغيره هذه السنة، وبلغ من هذا الغزل الهجائي ما لم يبلغه أحد من شعراء العصر الأموي، فلم يكن يكتفي بالنسيب المألوف يذكر فيه المرأة التي يريد أن يهجو أهلها كما كان يفعل العرجي، وإنما كان يتخيل القصص والأخبار فيقصها في شعره مسرفًا في تفصيلها إسرافًا شديدًا.

لم يكن عبيد الله بن قيس الرقيات شريرًا ولا سيئ الدخيلة، وإنما كان — مع الخصومات السياسية التي اندفع فيها اندفاعًا شديدًا — محبًّا لقومه، يؤثرهم على الناس جميعًا ويحرص على كرامتهم أشد الحرص، ومن هنا تظهر في غزله الهجائي خصلة جميلة، رقيقة مؤثرة، لا نجدها عند غيره من الهجائيين السياسيين؛ وهي أنه كان يخاصم الرجال دون النساء، وكان يتخذ النساء وسيلة إلى حرب الرجال، فكان يحرص الحرص كله على ألا يؤذيهن أو يذيع بينهن الفاحشة كذبًا وزورًا، بل كان يمضي إلى أبعد من هذا، كان يريد أن يتملق هؤلاء النساء، وأن يرضيهن عن نفسه، وأن يحبب إليهن هذا الغزل الهجائي الذي كان يسوء أزواجهن وأبناءهن وعصبتهن بوجهٍ عام.

كان يخاصم بني أمية، فتغزل بأم البنين امرأة الوليد بن عبد الملك، وبنت عبد العزيز بن مروان، يريد من غير شك أن يغيظ عبد الملك وابنه الوليد وأخاه عبد العزيز وغيرهم من رجالات بني أمية، ولكنه لم يكن يريد أن يسوء أم البنين ولا أن يؤذيها ولا أن يعرضها لمكروه تسمعه أو تلقاه، بل كان يريد أن يتلطف لها ويتحبب إليها، وأن ينزل شعره من نفسها منزلة الرضا والإعجاب، وأنت تعلم أن النساء في ذلك العصر — ولا سيما نساء الأشراف والأسرة المالكة — كن يحببن الغزل ويكلفن به ويطلبنه إلى الشعراء، فليس غريبًا أن يطمع ابن قيس الرقيات في إرضاء أم البنين، وهو يخاصم أباها وعمها وزوجها، وسأروي لك بعد حين قصيدة ذكر فيها أم البنين ذكرًا مفصلًا تفصيلًا، من شأنه أن يؤذي ويسيء، ولكنه احتاط لنفسه ولأم البنين، فزعم أن هذه القصة الطويلة المفصلة إنما وقعت له في المنام، فكرامة أم البنين موفورة، وهي خليقة أن تتيه بهذا الجمال الذي أحدث في نفس الشاعر ما أحدث حتى ملك عليه يومه ونومه، وإذن فليس على الشاعر نفسه لوم إذا غرق في الرقاد.

وقد وصل ابن قيس الرقيات من هذا الغزل الهجائي إلى كل ما كان يريد، فأحفظ بني أمية عليه أشد إحفاظ حتى هدروا دمه، وأبرءوا ذمتهم ممن آواه كما سترى، ولكنه أرضى أم البنين عن نفسه، وبلغ منها مبلغًا حسنًا، حتى شفعت له وكسبت له أمان عبد الملك.

هذا الغزل الهجائي، الذي يكاد ابن قيس الرقيات يكون مبتدعه، خليق بالعناية، فهو لون من الألوان الفنية الجديدة التي استحدثها الشعراء المسلمون، ولكنه شديد الخطر من جهة أخرى؛ لأنه يلبس عليك أمر الشاعر ويجعل حكمك على عاطفته عسيرًا جدًّا، فأنت لا تكاد تتبين أجاد هو في غزله أم لاعب؟ أمادح هو صاحبته لأنه يحبها أم لأنه يكره أهلها؟ وأنت مضطر إلى أن تنظر إلى هذا الغزل من حيث هو فن مجرد من النفسية الصادقة للشاعر ومن عواطفه الحقيقية، وفي الحق أنك لا تكاد تجد فرقًا بين غزل ابن قيس الرقيات، فمهما تختلف موصوفاته فهو قوي، رقيق، خلاب شديد الحرارة، سهل التناول، سواء أكان الشاعر يتغزل بأم البنين يهجو قومها، أم بإحدى هؤلاء الرقيات اللائي كان يذكرهن حتى غلب عليهن اسمه، أم بأي امرأة أخرى كان يحبها أو يرى فيها جمالًا وروعة.

ولقد يكون من الحق أن نقول: إن عبد الله بن قيس الرقيات لم يعرف هذا الحب العذري، بل لم يعرف الحب العادي، الذي يقصر حياة الرجل أو شطرًا من حياته، على امرأة واحدة تلائم هواه، وإنما كان يحب النساء جميعًا، يحبهن حبًّا قويًّا يوشك أن يكون طاهرًا، يحبهن لا ليلهو بهن بل ليتخذ منهن مثله الأعلى في الجمال، ومن هنا نستطيع أن نقول: إنه كان صادق اللهجة في كل ما كان يقول من غزل، لأنه كان يحمل في نفسه صورة من جمال النساء يخلعها على من أراد أن يذكرها في شعره لأي سبب، وكانت هذه الصورة تسمى أم البنين حينًا، ورقية بنت عبد الواحد حينًا آخر، وكثيرة مرة ثالثة، وثريا مرة رابعة، وسعدة، وسلامة، إلى غير ذلك من أسماء النساء اللاتي لم يكن خيالًا متكلفًا وإنما كن أشخاصًا يستمتعن بالحياة حقًّا.

وقد أراد حظ ابن قيس الرقيات أن يحبه النساء كما أنه يحب النساء، وأن يحببنه لا للهو واللذة، بل لميل بعيد من اللهو واللذة، وأراد حظه أن يكون مدينًا بحياته لامرأتين، آوته إحداهما بالكوفة حين أهدر الأمويون دمه، فلبث عندها سنة كاملة وتركها وهو لا يعرف إلا اسمها، وشفعت له الأخرى عند عبد الملك فظفرت له بالأمان، وكذلك أراد حظ قيس ألا يستطيع لهاتين المرأتين مكافأة إلا بالغزل والنسيب، فقد تغزل بهما جميعًا، ولسنا نشك في أنه تغزل بكثيرة ليشكرها على ما قدمت إليه من معروف.

وأكاد لا أعرف شاعرًا، أرق لهجة وأعذب لفظًا وأحسن أدبًا في مخاطبة النساء وذكرهن، من ابن قيس الرقيات حين يذكر كثيرة هذه، وانظر إلى قوله فيها:

عادَ له مِنْ كَثِيرَةَ الطَربُ
فَعيْنُهُ بالدُّموعِ تَنْسَكِبُ
كُوفيَّةٌ نازِحٌ مَحَلَّتُها
لا أُمَمٌ دارُها ولا صَقَبُ
واللهِ ما إِن صَبَتْ إِلَّي ولا
إن كانَ بَيْني وبَينها سَبَبُ
إِلَّا الَّذِي أَوْرَثَتْ كَثِيرَةُ في الـ
ـقَلْبِ وللْحُبِّ سَوْرَةٌ عجَبُ
لا بارَكَ اللهُ في الْغَوانِي فما
يُصْبِحْن إِلَّا لَهُنَّ مطلَبُ
أَبْصَرْنَ شَيْبًا عَلا الذؤَابةَ في الرْ
رَأْسِ حدِيثًا كأَنَّهُ الْعَطَب
فَهُنَّ يُنْكِرْنَ ما رَأْيْنَ ولا
يُعْرَف لِي في لِداتِي اللعِبُ

على أني أريد أن أتم ابن قيس الرقيات قبل أن ألم بشعره، فلأوجز لك مذهبه السياسي، أو قل حياته السياسية.

كان صاحبنا من أنصار عبد الله بن الزبير، وكان مغاليًا في نصر الزبيريين، يحبهم أشد الحب، ويبغض خصومهم من بني أمية بغضًا شديدًا، جاهد معهم بسيفه ولسانه أشد جهاد، ومدحهم أحسن مدح، حتى إن عبد الملك بعد أن عفا عنه لم يستطع أن يغفر له قوله في مصعب بن الزبير، وقد خرج مع مصعب هذا في العراق على عبد الملك، ولزمه حتى أحس مصعب أنه مقتول، فأذن له في أن ينصرف وحباه مالًا كثيرًا، ولكن الشاعر أقسم لا يَريم حتى يعرف سبيل مصعب، فما زال معه حتى قتل، ثم فر فبلغ الكوفة فلجأ إلى أول دار لقيته، وفي هذه الدار صادف امرأة أنصارية آوته سنة كاملة، وكانت تغدو عليه كل يوم فتحييه وتسأله حاجته ولا تسأله عن اسمه، وهو لا يسألها عن اسمها، حتى سمع ذات يوم الصائح العام ينادي ببراءة الذمة ممن يؤْوي ابن قيس الرقيات، فنزل إلى صاحبته فأنبأها باعتزام الرحلة، قالت: لا يرعك هذا الصياح، فنحن نسمعه منذ سنة، ولكنه أصر على الرحلة، فلما كان المساء قدمت إليه راحلتين وزادًا ووهبته عبدًا، وانصرف عنها وقد أبت أن تنبئه من هي، وإنما علم أن اسمها كثيرة وأنها خزرجية، فمضى حتى بلغ المدينة فاستجار بعبد الله بن جعفر، فأجاره وأحسن مثواه، وكتب فيه إلى أم البنين وإلى عبد العزيز بن مروان أبيها، فشفعت فيه عند عبد الملك وضمنت له الأمان، ثم دخل هو على عبد الملك فمدحه بهذه القصيدة التي قدمت لك شيئًا من غزلها، وفيها يقول مادحًا:

ما نَقَمُوا مِنْ بَني أُمَيَّةَ إِلَّا
أَنَّهُمْ يَحْلُمونَ إِن غَضِبُوا
وأَنَّهُمْ مَعْدِنُ المُلوكِ فَلا
تَصْلُحُ إِلَّا عليهمُ الْعَرَبُ
إِنَّ الْفَنيقَ الذي أَبوهُ أَبو الْعَا
صِي علَيْهِ الوَقارُ والْحُجُبُ
خَليفَةُ الله فَوْقَ مِنبَرِهِ
جَفَّتْ بِذَاكَ الأَقْلامُ والكُتُبُ
يَعْتَدِلُ التَّاجُ فَوْقَ مَفْرقِهِ
عَلَى جَبِينٍ كأَنَّهُ الذهَبُ

ولكن عبد الملك أبى عليه أن يأخذ عطاءه من بيت المال، فشكا ذلك إلى عبد الله بن جعفر، فعوضه أضعاف ما حرمه عبد الملك، ثم اتصل بعبد العزيز بن مروان، وهو حينئذ أمير مصر من قبل أخيه، فمدحه مدحًا كثيرًا جيدًا، فيه ذكر لبابليون وحلوان وللنيل وسفائنه، وكنت أريد أن أروي لك منه شيئًا، ولكني أريد أن أجتنب الإطالة وأنصح لك بقراءته في الديوان، ومدح عبيد الله بن قيس الرقيات عبد الله بن جعفر مدحًا جيدًا آية في الإتقان.

فأنت ترى أنه اتصل بأحزابٍ ثلاثة مختلفة، اتصل بحزب الزبيريين، وفيهم قال أجود مدحه، واتصل بالأمويين وفيهم قال الكثير الجيد، واتصل بالهاشميين وفيهم أحسن المدح وأجاده، ولم يكن مع ذلك متلونًا ولا فاسد الضمير.

وأحسب أني أصيب الحق إن قلت: إنه كان قرشيًّا قبل كل شيء، وإن له مذهبًا سياسيًّا لم يتغير قط، وهو أن السلطان الأعلى يجب أن يكون لقريش قولًا وفعلًا، فإذا كان قد كره بني أمية فهو لم يكرههم لأنهم بنو أمية، وإنما كرههم لأنهم اعتزوا على القرشية خاصة والمضرية عامة بالقبائل اليمانية.

شيئان اثنان يختصران الرأي السياسي لابن قيس الرقيات؛ الأول: أن السلطان يجب أن يكون لقريش وأن تعتز قريش فيه بمضر. والثاني: أن من الإثم والخيانة أن تنقسم قريش على نفسها، وأن تتفرق كلمتها هذا التفرق المنكر الذي كان بعد موت معاوية. وسأروي لك في آخر هذا الفصل قصيدة طويلة تختصر رأيه السياسي هذا، وتمثل عواطفه الوطنية القرشية تمثيلًا قويًّا صادقًا، ولكني شديد الحيرة، فبين يدي ست عشرة قصيدة مختارة من شعر ابن قيس الرقيات، وأنا أرى أن ليس بد من إظهارها وإذاعتها لتظهر شخصية الشاعر واضحة، ولتظهر الحياة السياسية في قريش واضحة أيضًا، ولكن من لي بالصحف التي أنشر فيها هذا الشعر الكثير! ومن لي بألا تغضب «السياسة» ولا يحتج أصحابها وكتابها على هذا الاحتلال الأدبي الذي يسرف في العدوان! أنا إذن مضطر إلى أن أشير إشارة إلى هذه القصائد، وألا أروي لك منها إلا أربعًا.

أما إحداها ففي اللهو، وهي تمثل لك نفسية الشاعر وفهمه للحياة، كما أنها تمثل لك خفته الشعرية وميله إلى العبث اللفظي، ولِمَ أرويها كلها؟ يحسن أن أكتفي منها بهذه الأبيات:

بكَرَتْ عَلَيَّ عواذلي
يَلْحَينْني وأَلومُهنهْ
ويقُلنَ شَيبٌ قد عَلا
ك وقد كَبرْتَ فقلت إِنَّهْ
إنَّ العواذلَ لُمْنَني
ولنْ أُطيعَ أُمورَهُنَّهْ
فيما أُفيدُ من الغنى
واللهُ سَوْفَ يُهينهُنَّهْ
ولقد عصيت الناهيا
ت الناشرات جيوبهنه
حتى اروعيت إلى الرشا
د وما اروعيت لنهيهنه

والأخرى قصيدة يتوجع فيها، وقد جاءته أنباء الحرة ومقتل نفر من إخوانه، فيها هذا العبث اللفظي، وفيها سهولة تفطر القلب، وما أظن إلا أنها صنعت للنائحات:

ذهبَ الصِّبا وتركتُ غِيَّتِيهْ
ورَأَى الغواني شَيْبَ لِمَّتِيَهْ
وهَجرْنَني وهَجرْتُهُنَّ وقد
عَنَّتْ كرائمُها يطُفنَ بِيهْ
إِذ لِمَّتي سَوْداءُ ليس بها
وَضَحٌ ولم أُفْجَعْ بإِخوَتِيَهْ
الحاملينَ لواءَ قوْمهِمُ
والذائِدين وراءَ عَوْرَتِيَهْ
إِنَّ الحوادثَ بالمدينةِ قد
أَوْجَعْنني وقَرَعنَ مرْوَتِيَهْ
وجبَبْنَني جَبَّ السَّنامِ فلمْ
يَتركْنَ رِيشًا في مناكبِيَهْ
وأَتى كِتابٌ من يزيدَ وقد
شُدَّ الحِزامُ بسَرْج بغلتِيَهْ
ينْعَى بني عبدٍ وإِخوَتَهُمْ
حَلَّ الهلاكُ عَلى أَقارِبيَهْ
ونَعَى أُسَامة لي وإِخوتَه
فظلْلتُ مُسْتَكًّا مسَامِعيَهْ
كالْهَارب النَّشْوانِ قَطرَهُ
سمَلُ الزِّقَاقِ تُفيضُ عَبْرَتِيَهْ
سَدِمًا يُعَزِّيني الصحيحُ وقد
مرَّ المَنون عَلَى كريمتِيَهْ
كيفَ الرُّقادُ وكلما هَجَعتْ
عَيني أَلَم خَيالُ إِخْوَتِيَهْ
تَبكي لهمْ أَسماءُ مُعْوِلَةً
وتقولُ لَيلَى وَا رَزِيَّتِيَهْ
واللهِ أَبرَحُ في مُقَدِّمةٍ
أُهْدِي الجيوشَ عَلَيَّ شِكَّتِيَهْ
حتى أُفَجِّعَهمْ بإِخوَتهمْ
وَأَسُوقُ نِسْوَتَهُمْ بنِسْوتيهْ

ولندع الآن رثاءه، وإن كان فيه أجود مما رويت لك، لننتقل إلى هذه القصيدة التي ذكر فيها أم البنين والتي أشرت إليها آنفًا، وأنا أترك للقصيدة وصف نفسها، وهي مدح مصعب بن الزبير:

أَلَا هَزَأَتْ بنا قُرَشِيـ
ـيَةٌ يهْتَزُّ موْكِبُها
رَأَتْ بي شيبَةً في الرأ
سِ منِّي ما أُغَيبُها
فقالتْ أَبْنُ قَيْس ذا؟
وغَيرُ الشَّيبِ يُعْجِبُها
رأَتْني قد مَضى مِنِّي
وغَضَّاتٌ صواحبُها
ومثلك قدْ لَهْوتُ بها
تمامُ الحُسنِ أَعْيَبُها
لَهَا بَعْلٌ غَيُورٌ قا
عدٌ بالْبابِ يَحْجُبُهَا
يَراني هكَذا أَمْشِي
فيُوعِدُها وَيَضْرِبُها
ظَلِلْتُ عَلَى نَمارِقها
أفَدِّيها وأَخْلُبُها
أُحدِّثُها فتُؤْمنُ لي
فأَصْدُقُها وأَكذِبُها
فدَعْ هذا ولكنْ حا
جَة قد كنتُ أَطْلبُها
إِلى أُمِّ البنينَ مَتى
يُقرِّبُها مُقربُها
أَتَتْني في الْمَنامِ فقُلـ
ـتُ هذا حينَ أَعْقبُها
فلمَّا أَنْ فَرِحْتُ بها
وَمالَ عَلَيَّ أَعْذَبُهَا
شربْتُ بِرِيقِها حتى
نَهِلْتُ وَبِتُّ أُشرِبها
وبِتُّ ضَجِيعَها جَذْلا
نَ تعجِبُني وأُعْجبُها
وأُضْحِكُها وأُبكيها
وأُلْبِسُها وأَسْلُبُها
أُعالِجُها فَتَصْرَعُني
فأُرْضِيها وأُغْضِبُها
فكانتْ لَيْلة في النَّوْ
مِ نَسْمُرُها ونلعبُها
فأَيْقَظَنا مُنادٍ في
صلاةِ الصبْح يَرْقُبُها
فَكان الطَّيْفُ من جِنِّيـْ
ـيَةٍ لَمْ يُدْرَ مَذْهَبُها
يُؤَرِّقُنا إِذا نِمْنا
ويبْعُدُ عنكَ مَسْرَبُها

ثم يمضي بعد ذلك في مدح مصعب، وماذا تريد أن أقول لك في هذا الشعر؟ وهل تعرف أعذب منه لفظًا وأجود منه معنى وأخف منه روحًا!

وبين يدي قصيدة كافية يتغزل فيها شاعرنا بإحدى زوجات عبد الملك، ولكني أعدل عنها إلى هذه القصيدة التي وعدتك بروايتها، والتي قلت: إنها تختصر مذهب ابن قيس في السياسة، وهي في مدح مصعب، وهي التي أحنقت عبد الملك على الشاعر، ولكنها أطول من أن تروى كلها، فلأجتزئ منها بأبيات أختارها، وإن كانت كلها مختارة:

حَبَّذَا العيْشُ حينَ قوْمي جميعٌ
لَمْ تُفَرِّق أُمُورَها الأَهواءُ
قبْلَ أَنْ تطْمعَ الْقَبائلُ في مُلـْ
ـكِ قُريشٍ وتَشْمَت الأَعْدَاءُ
أَيُّها المُشتهي فَنَاءَ قريشٍ
بيدِ اللهِ عُمرُها والْفناءُ
إِن تُودعْ منَ الْبلادِ قريش
لا يمكن بَعْدَهُمْ لِحَيٍّ بقاءُ

ثم يمضي في الفخر البديع بقريش لا يفرق بين أحزابها السياسية، حتى يصل إلى مصعب، فيقول فيه هذه الأبيات التي غاظت عبد الملك:

إِنَّما مُصْعَبٌ شِهابٌ مِنَ الله
تَجَلتْ عنْ وجهِهِ الظلماء
مُلكهُ مُلْكُ قُوةٍ ليس فيه
جَبروتٌ ولا به كِبْرِياء
يتقي الله في الأُمورِ وقد أَفـ
ـلحَ منْ كان همه الاتِّقاء

ولأدع هذه الآية الشعرية كارهًا، فقد أسرفنا في الإطالة، ولأختم هذا الحديث بهذه الأبيات الحلوة:

حبذَا الإِدْلالُ والغُنْجُ
والتي في طرْفِها دَعَجُ
التي إِن حَدَّثت كذَبتْ
والتي في وَصلِها خَلَجُ
تلكَ إِنْ جادَتْ بِنَائِلِها
فابْنُ قيسٍ قلبُهُ ثلِجُ
وترى في البيْتِ صُورَتَها
مِثْلَ ما في البِيعَةِ السُّرُجُ
حدِّثُوني هل عَلَى رجلٍ
عاشِق في قبْلَةٍ حَرَجُ

أعيد ما قلته غير مرة من أن في الشعر العربي لهذا العصر كنوزًا خليقة أن تستكشف وأن تدرس على وجهها، ولكن كثيرًا من الناس لا يعلمون.

١  نُشرت بجريدة «السياسة» في ٢٤ سبتمبر سنة ١٩٢٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤