الفصل الخامس والعشرون

الغزلون:١ يزيد بن الطثرية

وكذلك لا أحدثك اليوم عن زعيم الغزلين من أهل الحجاز عمر بن أبي ربيعة؛ لأني أريد أن أستقصي الغزلين ما استطعت إلى هذا الاستقصاء سبيلًا، ليكون البحث عنهم تامًّا مستوفى، وإذن فلا بد من أن أحدثك عن رجلين ممتازين، يمتاز أحدهما بأنه يشخص البيئة التي كان يعيش فيها تشخيصًا صحيحًا لذيذًا ممتعًا، وهو يزيد بن الطثرية، ويمتاز الآخر بأنه كان غزلًا متكلفًا لا يعشق أحدًا ولا يعشقه أحد، وهو مع ذلك متقن للغزل بارع فيه، وهو: كُثَيِّر.

وليكن يزيد بن الطثرية موضوع حديثنا اليوم، وإن لدي لشيئًا كثيرًا أريد أن أذكره عن يزيد بن الطثرية، ولكني سأكون في هذا الحديث ناقلًا أكثر مني كاتبًا، فنحن بإزاء قصة غرامية، وإن شئت فقل بإزاء سيرة غرامية بارعة رائعة في لفظها وفي معناها وفي نتائجها، والخير كل الخير ألا تشوه هذه القصة بالتخليص والتحليل، وأن نعرض منها عليك ما نستطيع عرضه، فستجد فيها لذة ونفعًا.

ولنلاحظ قبل كل شيء أننا لسنا بإزاء شاعر من أشراف مكة أو المدينة من أولئك الذين لجئوا إلى الغزل واللهو، حين حالت السياسة بينهم وبين الجد والعمل، وإذن فلن نلتمس تفسير شعره وغزله في الحياة السياسية والاجتماعية للمسلمين أيام بني أمية، ولسنا بإزاء شاعر من أهل البادية الحجازية التي وصفنا حالها في فصولنا الماضية وعرفنا أن غزلها لم يكن لهوًا ولا عبثًا، وإنما كان طموحًا إلى المثل الأعلى المعنوي، مصدري اليأس من الحياة العاملة والزهد فيها.

لسنا بإزاء شاعر من حاضرة الحجاز ولا من باديته، وإنما نحن بإزاء رجل آخر بعيد كل البعد عن السياسة وتأثيرها، بل نستطيع أن نقول: إنه شديد الاتصال بالحياة البدوية الخالصة التي لم تكد تعرف من الإسلام إلا أنه دين يأخذ الناس بالصلاة والزكاة، وبواجبات أخرى مادية ثقيلة على هؤلاء الناس الذين عاشوا أحرارًا وكانوا يودون لو يعيشون أحرارًا.

لم يتصل صاحبنا هذا بالحجاز ولا الحجازيين، ولم يعرف ما كان فيه الحجاز وأهله من لهوٍ ويأس، كما أنه لم يتصل بالشام ولا بما كان فيه من ضخامة السلطان الأموي، ولا بما كان يحيط بهذا السلطان من كيد ودس، ولا بما كان يصدر عن هذا السلطان من بأس وانتقام، كما أنه لم يتصل بالعراق وما كان فيه من هذه المذاهب السياسية والدينية المختلفة التي كانت تنشأ وتصطدم في الكوفة والبصرة.

لم يتصل بشيءٍ من هذا كله، ونستطيع أن نقول: إنه لم يعلم بشيءٍ من هذا كله، ولم يفترض له وجودًا، وإذن فهو لم يتأثر به في شعره ولا في حياته، ولم يصدر في هذه الحياة ولا في ذلك الشعر إلا عن بداوته الخالصة وطبيعته الصريحة.

على أن هذه البداوة نفسها تأثرت بشيئين مختلفين: تأثرت بالإسلام فسهلت بعد شدة، ولانت بعد عنف، وصفت بعد غلظة، ثم تأثرت في العصر الذي كان يعيش فيه صاحبنا بانتقاض الأمر على بني أمية واضطراب سلطانهم، وضعف الحكومة المركزية عن أخذ أهل البادية بالطاعة والإذعان للنظام، فعادوا إلى ما كانوا فيه أو إلى شيء يشبه ما كانوا فيه قبل الإسلام، وظهرت بينهم الخصومات وألوان العداء، فأخذوا فيما كانوا فيه في أثناء العصر الجاهلي من غزو وغارة، ومن حرب وجهاد متصل، ولا ينبغي أن ننسى أن صاحبنا قد قتل في غزوة من هذه الغزوات أول عهد بني العباس.

هو إذن يمثل نوعًا آخر من أنواع الغزلين، يمثل هؤلاء الفتيان من أهل البادية المتعمقة في بداوتها الذين كانوا يحيون حياة حرة طلقة لا تكاد تتأثر بشيءٍ خارجي، وإنما تصدر عن الطبيعة المطلقة المرسلة، وليس من شك في أن هؤلاء الفتيان قد كانوا كثيرين جدًّا، وفي أن حياتهم كانت خليقة بالبحث والدرس والعناية؛ لأنها تمثل لنا حياة البادية العربية الحرة في العصر الإسلامي من جهة، وتعيننا على تصور العصر الجاهلي بوجهٍ ما من جهة أخرى، ولكن الرواة شغلوا عن هؤلاء الفتيان بفحول الشعراء وزعمائهم في العراق والشام والحجاز، ولم يكادوا يعنون بأهل البادية من هذه الناحية، وكل عنايتهم بالبادية انحصرت أو كادت تنحصر في أخذ اللغة عن أهلها، ورواية شيءٍ عنها من غريب الشعر والرجز، فأما حياة فتيانها وكهولها وفتياتها ونسائها فقد انصرف الرواة عنها انصرافًا تامًّا.

وماذا كان يعني الرواة من أمر هذه البادية وأهلها، وهي بعيدة كل البعد عن أن تؤثر في الحياة العامة بوجهٍ من الوجوه، وهي منقطعة إلى حياتها البدوية منغمسة فيها، لا تكاد تشعر بأن في الوجود شيئًا آخر غيرها! أضف إلى هذا أن الرواة كانوا يؤثرون من غير شك أن يحيوا في هذه البلاد السهلة الغنية التي يجدون فيها من اليسر واللين ما يسهل عليهم الحياة ويتيح لهم ما يطلبون من رواية الشعر وتدوين التاريخ.

فقليل جدًّا من هؤلاء الرواة من كان يجتنب الحجاز والعراق والشام ليقذف بنفسه في صحاري البلاد العربية ويخالط أحياء هذه الصحاري، ومن هنا ضاعت علينا حياة البادية العربية الإسلامية، وضاع علينا قسم عظيم جدًّا من الأدب العربي، لعله لم يكن أقل ثروة ولا خصبًا ولا روعة مما حفظنا.

على أن حياة هذا الفتى العربي البدوي، الذي نتحدث عنه اليوم، تعطينا صورة من هذا الأدب، إن لم تكن قوية مفصلة، فهي واضحة بعض الوضوح صادقة أشد الصدق.

لم يكن يزيد بن الطثرية غزلًا ليس غير، وإنما كان فتى من فتيان العرب بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة؛ أي إنه كان يحيا حياة لهو وعبث وفخر وغزو وكرم وهجاء، كان يستمتع بقوته وشبابه وطبيعته الحرة الطلقة، فيأنس إلى الحياة ولذاتها في غير تكلف ولا تصنع ولا استتار، وكان يستمتع بهذه الحياة استمتاعًا طبيعيًّا ساذجًا لم تفسده الحضارة ولم تكدر صفوه.

ومن هنا لم يكن فاحش اللفظ ولا منكر السيرة، ولست تجد فيما حفظ لنا من شعره وسيرته شيئًا تكرهه، إلا حوارًا واحدًا وقع بينه وبين امرأة من أهل البادية لم يخل من تصريح تمقته أذواقنا الخلقية، ولكنه يضحكنا ويلذنا من الوجهة الأدبية الخالصة.

كان يزيد بن الطثرية من بني قشير من قيس غيلان، وكان حيه يقيمون في بادية اليمامة، ويقال: إن الطثرية هي وإن كانت يمانية من بني جرم؛ فإنها تنتهي إلى طيئ، وإذن فقد اجتمعت في صاحبنا شدة المضرية وسهولة اليمانية، وكان يزيد من أجمل الناس وجهًا، وأحسنهم صورة، وأرقهم لفظًا وأعذبهم حديثًا، وكان فتانًا للنساء مفتونًا بهن، والغريب من أمره أنه كان يفتن النساء ويفتتن بهن، وأن الطبيعة أرادت أن تكون الصلة بينه وبينهن أفلاطونية خالصة، ولم يمنعه ذلك من أن يعشق، ومن أن يؤلمه العشق ويبرِّح به ويجشمه خطوبًا وأهوالًا.

على أن الذي يعنينا من أمر يزيد بن الطثرية ليس هو يزيد وإنما هي الصلة بين رجال البادية ونسائها، هذه الصلة التي يظهر أنها كانت تختلف اختلافًا شديدًا باختلاف القبائل والأحياء، وقد قلت في أول هذا الفصل: إني سأكون ناقلًا أكثر مني كاتبًا في هذا الحديث، فلأترك للرواة أن يحدِّثوك بشيءٍ من خبر يزيد، وأنا أحب أن تنظر إلى هذا الحديث نظر عناية وتدبر في اللفظ والمعنى جميعًا.

… وأن الناس أمحلوا حتى ذهبت الدقيقة من المال، وتهتكت الحيلة، فأقبل صِرْم من جَرْم ساقته السنة والجدب من بلاده إلى بلاد بني قشير، وكانت بينهم وبين بني قشير حرب عظيمة، فلم يجدوا بدًّا من رمي قشير بأنفسهم لما قد ساقهم من الجدب والمجاعة ودقة الأموال وما أشرفوا عليه من الهلكة، ووقع الربيع في بلاد بني قشير؛ فانتجعها الناس وطلبوها، فلم يعدُ أن لقيت جرم قشيرًا، فنصبت قشير لهم الحرب، فقالت جرم: إنما جئنا مستجيرين غير محاربين، قالوا: مماذا؟ قالوا: من السنة والجدب والهلكة التي لا باقية لها، فأجارتهم قشير وسالمتهم وأرعتهم طرفًا من بلادها، وكان في جرم فتى يقال له: ميَّاد، وكان غزلًا حسن الوجه تام القامة آخذًا بقلوب النساء، والغزل في جرم جائز حسن، وهو في قشير نائرة، فلما نازلت جرم قشيرًا وجاورتها أصبح مياد الجرمي فغدا إلى القشيريات يطلب منهن الغزل والصبا والحديث، واستبراز الفتيات عند غيبة الرجال واشتغالهم بالسقي والرعي وما أشبه ذلك، فدفعنه عنهن وأسمعنه ما يكره، وراحت رجالهن عليهن وهن مغضبات، فقالت عجائز منهن: والله ما ندري أرعيتم جرمًا المرعى أم أرعيتموهم نساءكم! فاشتد ذلك عليهم فقالوا: وما أدراكُنَّه؟ قلن: رجل منذ اليوم ظل محجرًا لنا ما يطلع منا رأس واحدة، يدور بين بيوتنا! فقال بعضهم: بيتوا جرمًا فاصطلموها، وقال بعضهم: قبيح، قوم قد سقيتموهم مياهكم، وأرعيتموهم مراعيكم وخلطتموهم بأنفسكم، وأجرتموهم من القحط والسنة، تفتاتون عليهم هذا الافتيات! لا تفعلوا، ولكن تصبحوا وتقدموا إلى هؤلاء القوم في هذا الرجل فإنه سفيه من سفهائهم، فليأخذوا على يديه، فإن يفعلوا فأتموا لهم إحسانكم، وإن يمتنعوا ويقروا ما كان منه يحل لكم البسط عليهم وتخرجوا من ذمتهم، فأجمعوا على ذلك، فلما أصبحوا غَدَا نفر منهم إلى جرم فقالوا: ما هذه البدعة التي قد جاورتمونا بها؟ إن كانت هذه البدعة سجية لكم فليس لكم عندنا إرعاء ولا إسقاء، فبرِّزوا عنا أنفسكم وأذنوا بحرب، وإن كان افتياتًا فغيروا على من فعله، وإنهم لم يعدوا أن قالوا لجرم ذلك، فقام رجال من جرم وقالوا: ما هذا الذي نالكم؟ قالوا: رجل منكم أمس ظل يجر أذياله بين أبياتنا ما ندري علام كان أمره! فقهقهت جرم من جفاء القشيريين وعجرفيتها، وقالوا: إنكم لتحسون من نسائكم ببلاء، ألا فابعثوا إلى بيوتنا رجلًا ورجلًا، قالوا: والله ما نحس من نسائنا ببلاء، وما نعرف منهن إلا العفة والكرم ولكن فيكم الذي قلتم، قالوا: فإنا نبعث رجلًا إلى بيوتكم يا بني قشير إذا غدت الرجال وأخلف النساء، وتبعثون رجلًا إلى البيوت، ونتحالف أنه لا يتقدم رجل منا إلى زوجة ولا أخت ولا بنت ولا يعلمها بشيءٍ مما دار بين القوم، فيظل كلاهما في بيوت أصحابه حتى يردا علينا عشيًّا بالماء، وتخلى لهما البيوت ولا تبرز عليهما امرأة ولا تصادق منهما واحدًا فلا يقبل منهما صرفًا ولا عدلًا إلا بموثق يأخذه عليها وعلامة تكون معه منها، قالوا: اللهم نعم.

فظلوا يومهم ذلك وباتوا ليلتهم، حتى إذا كان من الغد غدوا إلى الماء وتحالفوا أنه لا يعود إلى البيوت منهم أحد دون الليل، وغدا مياد الجرمي إلى القشيريات، وغدا يزيد بن الطثرية القشيري إلى الجرميات، فظل عندهن بأكرم مظل لا يصير إلى واحدة منهن إلا افتتنت به وتابعته إلى المودة والإخاء، وقبض منها رهنًا وسألته ألا يدخل من بيوت جرم إلا بيتها، فيقول لها: وأي شيء تخافين وقد أخذت مني المواثيق والعهود وليس لأحدٍ من قلبي نصيب غيرك! حتى صليت العصر، فانصرف يزيد بفتَخ كثير وبراقع، وانصرف مدهونًا مكحولًا شبعان ريان مُرَجل اللِّمة، وظل مياد الجرمي يدور بين بيوت القشيريات مرجومًا مقصيًّا لا يتقرب إلى بيت إلا استقبلته الولائد بالعمد والجندل، فتهالك لهن وظن أنه ارتياد منهن له، حتى أخذه ضرب كثير بالجندل، ورأى اليأس منهن وجهده العطش؛ فانصرف حتى جاء إلى سمرة قريبًا إلى نصف النهار، فتوسد يده ونام تحتها نويمة حتى أفرجت عنه الظهيرة وفاءت الأظلال، وسكن بعض ما به من ألم الضرب وبرد عطشه قليلًا، ثم قرب إلى الماء حتى ورد على القوم قبل يزيد، فوجد أمة تذود غنمًا في بعض الظعن، فأخذ برقعها وقال: هذا برقع واحدة من نساءكم، فطرحه بين يدي القوم، وجاءت الأمة تعدو فتعلقت ببرقعها فرُدَّ عليها، وخجل مياد خجلًا شديدًا، وجاء يزيد ممسيًا وقد كاد القوم أن يتفرقوا فنثر كمه بين أيديهم ملآن براقع وفتخًا، وقد حلف القوم ألا يعرف رجل شيئًا إلا رفعه، فلما نثر ما معه اسودت وجوه جرم وأمسكوا بأيديهم إمساكة، فقالت قشير: أنتم تعرفون ما كان بيننا أمس من العهود والمواثيق وتحرج الأموال والأهل، فمن شاء أن ينصرف إلى حرام فليمسك يده؛ فبسط كل رجل يده إلى ما عرف فأخذه وتفرقوا عن حرب، وقالوا: هذه مكيدة يا قشير، فقال في ذلك يزيد بن الطثرية:

فَإِنْ شِئْتَ يَا مَيَادُ زُرْنا وَزرْتُمُ
ولَمْ تَنْفَسِ الدُّنيَا عَلَى مَنْ يُصيبُهَا
أَيَذْهَبُ مَيادٌ بِأَلْبَابِ نِسْوتِي
وَنِسوَة مَيادٍ صَحِيح قُلُوبُهَا

فقال مياد الجرمي:

لعَمْرُكَ إِنَّ جمْع بني قشَيْرٍ
لِجَرْمٍ فِي يَزيدَ لظَالِمُونَا
أَليْسَ الظلمُ أَن أَبَاكَ مِنا
وأَنكَ في كَتِيبَةِ آخرِينا
أَحَالِفةٌ عَليْك بَنُو قُشيْر
يَمِينَ الصَّبْرِ أَمْ متَحَرِّجُونَا

ليس لديَّ من الوقت ولا من المكان ما يمكنني من شرح هذه القصة والتعليق على ألفاظها وأسلوبها ومعانيها، فكل ذلك محتاج إلى شرح، وكل ذلك محتاج إلى تفسير، ولكني أسرع فأقول: إني لا أقبل هذه القصة على علاتها، ولا أصدق ما فيها من تفسير، وأكاد أرجح أن فيها كذبًا ونحلًا مصدره العصبية المضرية.

ولكن هذه القصة في جملتها تمثل شيئًا خليقًا بالعناية، وهو أن الصلة بين الرجال والنساء كانت سهلة ميسورة مستحبة في اليمانية، وكانت عسيرة ممقوتة في المضرية، كما أنها تثبت شيئًا آخر وهو أن يزيد بن الطثرية قد كانت بينه وبين النساء الجرميات صلة ما.

على أننا لسنا في حاجةٍ إلى هذه القصة لنثبت أن يزيد كان على اتصال بالجرميات؛ فإن حياة يزيد وشعره يثبتان ذلك إثباتًا لا شك فيه.

ليس من شك في أن الجدب قد اضطر بني جرم إلى جوار بني قشير، وفي أن الصلة اشتدت بين يزيد وبين الجرميات أو بينه وبين امرأة بعينها من الجرميات يقال لها: وحشية، فكان بينهما حب ومودة، ونشأت عن هذا الحب قصة كالقصص التي نشأت عن حب جميل وبثينة، وعن حب قيس بن ذريح ولبنى، تمتاز بكل ما تمتاز به هذه القصص، ففيها مرض العاشق وإشرافه على الموت ويأس الأطباء منه، وفيها احتيال هذا العاشق في زيارات صاحبته واختلاسه هذه الزيارات وتكلفه الأعاجيب، بل فيها أن يزيد احتال في زيارة صاحبته مرة فراح عليها بين الغنم يمشي على أربع، وقد اتخذ من اللباس ما يقرب الشبه بينه وبين الكباش، وفيها هذه الخصلة الأخرى التي تمتاز بها هذه القصص، وهي استعداء الحكومة على العاشق وتدخل السلطان في هذه الأمور الغرامية الخالصة، ولكن الذي نستطيع أن نصدقه من كل هذه القصة هو أن يزيد قد عشق وحشية وعشقته وحشية أيضًا، وكان بينهما تزاور، فغضب لذلك «فُدَيْكٌ» الجرمي وهو زعيم أسرة وحشية هذه، وأنذر نساء أسرته إنذارًا شديدًا وخوفهن الموت، فاستل سيفه وضرب به بين أيديهن غلامًا له ترويعًا لهن وتخويفًا، ولكن وحشية لم تخف ولم يأخذها الروع، فاتصلت المواعيد بينها وبين يزيد، وعرف ذلك فديك فاتخذ زبية وأضرم فيها نارًا خفيفة وانتظر حتى خرجت وحشية للقاء صاحبها، فسقطت في الذبية واحترقت رجلها، وأخذها غلمان فديك فردوها إلى بيتها، ونشأ الهجاء بين فديك ويزيد، فقال فديك:

شَفَى النَّفْسَ مِنْ وَحْشِيَّةَ اليَوْمَ أَنها
تهَادَى وقَدْ كانَتْ سرِيعًا عَنِيقها
فإِلا تدَعْ خَبْطَ الْموَاردِ في الدجُّى
تَكُنْ قَمِنًا مِن غشيَة لا تُفِيقهَا
دَوَاءُ طبِيبٍ كان يَعْلَم أَنَّهُ
يدَاوِي المَجَانِين الْمُخَلَّى طَرِيقُهَا

فأجاب يزيد:

سَتَبْرأُ مِنْ بعدِ الضَّمانَةِ رِجْلُهَا
وَتأْتِي الذِي تَهْوى مُخَلى طَرِيقُهَا
عَلَيَّ هَدَايا الْبُدْنِ إِن لَمْ أُلاقِهَا
وَإِنْ لَمْ يكُنْ إِلا فُدَيْكٌ يسُوقُهَا
يُحَصِّنهَا مِنِّي فُديْكٌ سفاهَةً
وَقَدْ ذَهَبَتْ فِيهَا الْكُبَاسُ وحُوقُهَا
تذِيقونهَا شَيْئًا مِنَ النار كُلَّمَا
رَأَتْ مِن بَني كَعب غُلامًا يَسُوقُهَا

وقال يزيد أيضًا:

يَا سُخْنَةَ العيْنِ للْجَرمِيَّ إِذْ جَمَعَتْ
بَينِي وَبَيْنَ مَزَارٍ وحْشةُ الدَّارِ
خُبِّرْتهُمْ عذَّبوا بِالنَّارِ جارتَهُمْ
وَمَنْ يُعَذِّبُ غَيْرَ اللهِ بِالنَارِ

ويظهر أن الأمر اشتد بين يزيد وفديك فاستعدى عليه صاحب اليمامة، ولكن تدخل السلطان في هذا الحب لم يكن كتدخله في حب جميل وقيس بن ذريح، فلم يهدر دمه ولم ينفه من الأرض، وإنما تقدم إلى أخيه في تأديبه، وكان له أخ يسمى ثورًا — سنعرض له بعد حين — وكان ثور هذا رفيقًا بيزيد محبًّا له، فلم يتجاوز في تأديبه أن حلق لمته تشويهًا له وصرفًا للنساء عنه، فقال يزيد في ذلك:

أَقولُ لِثَوْرٍ وَهُوَ يحلِقُ لِمَّتِي
بِحَجْناءَ مَرْدُودٍ عَليْهَا نِصَابُهَا
ترَفَّقْ بِهَا يَا ثوْرُ لَيسَ ثَوابُهَا
بِهذَا وَلكِن غَيْرُ هذَا ثَوَابُهَا
أَلا رُبَّمَا يَا ثَوْرُ قَد عَلَّ وَسْطَهَا
أَنَامِلُ رَخْصَاتٌ حَديثٌ خِضَابُهَا
وتَسلُكُ مِدْرَى الْعَاجِ فِي مُدلهِمَّةٍ
إِذَا لَمْ تفرجْ مات غَمًّا صُؤَابُهَا
فَرَاحَ بِها ثَوْرٌ تَرِفُّ كأَنهَا
سَلاسلُ دِرْعٍ لِينها وَانْسِكَابهَا
منعمَةٍ كالشَّرْبَةِ الْفرْدِ جَادَها
نِجاءُ الثرَيَّا هطلهَا وذِهَابُهَا
فأصْبَحَ رأسِي كالصخَيْرَةِ أَشرَفَت
عَلَيْهَا عِقَابٌ ثم طارَت عقابها

على أن الخصومة بين يزيد وغيره من الناس لم تقف عند الحب، بل تجاوزته إلى شيءٍ آخر، فقد قلت: إن يزيد كان من فتيان العرب ينفق حياته في اللهو والحب، وكان متلافًا يسرف في الاستدانة، وكان أخوه يبيح له ماله، ويحمل عنه دينه، وكأنه أسرف في الدين، فتقاضاه دائنه، وهو رجل يعرف بالبربري، وحبسه الحاكم عقبة بن شريك في هذا الدين، فقال في سجنه:

فَلَوْ قَل دَيْنُ الْبَرْبَرِي قَضَيْتُهُ
ولكِنَّ دَيْن الْبَرْبَرِي كثِيرُ
وَكُنْت إِذا حلت عَلَيَّ دُيُونهمْ
أَضُمُّ جَنَاحِي مِنهُمُ فأَطِيرُ
عَلَيَّ لهُمْ فِي كلِّ شَهْرٍ أَدِيةٌ
ثمانونَ وَافٍ نَقدُهَا وَجَزُورُ
نَحِنُّ إِلى ثوْرٍ ففِيمَ رَحِيلُنَا
وثَوْرٌ عَلَيْنَا فِي الحَيَاةِ صَبُور
أَشدُّ على ثَوْرٍ وثَوْرٌ إِذَا رَأَى
بِنَا خَلةً جَزْلُ الْعَطَاءِ غَفُورُ
فَذلِك دَأبِي مَا بقِيت ومَا مَشَى
لِثَوْرٍ عَلَى ظَهْرِ الْبِلَادِ بَعِيرُ

وقد طال عليه السجن وضاقت به الحال فاجتهد حتى خلص من سجنه وعمد إلى نجيب لقيه يقال له: ابن الكميت، فركبه ومضى به إلى اليمامة حتى وصل إلى عقبة، فلما عرفه عقبة أنكر ما فعل من الأمر، ولكن يزيد مدحه بقصيدة من أجود ما قال أهل البادية، فعفا عنه عقبة، وأبرأه من دينه، ووهب له النجيب وحكمه في ماله، وإليك بعض هذه القصيدة:

وَمُدَلَّةٍ عِنْد التَّبَذُّلِ يفْتَرِي
مِنْهَا الْوِشَاحُ مخصرًا أُمْلودَا
نازعْتُهَا غُنْمَ الصِّبا إِن الصِّبا
قدْ كان مِني لِلْكَوَاعِبِ عِيدَا
يا لَلرجَالِ وَإِنَّمَا يَشْكو الفَتَى
مَرَّ الْحَوَادِث أَوْ يَكُونَ جَليدا
بَكَرَتْ نَوَارُ تَجُدُّ باقِيَة الْقُوَى
يوْمَ الْفِراقِ وتُخْلِفُ الموعُودَا
وَلَرُبَّ أَمْرِ هوًى يَكُونُ نَدَامَة
وسَبيلِ مَكْرَهَةٍ يَكُون رَشِيدَا

ثم يقول:

لا أَتَّقِي حَسَكَ الضَّغَائِنِ بِالرُّقى
فِعْلَ الذَّلِيلِ وإِنْ بَقِيتُ وَحِيدا
لكِنْ أُجَرِّدُ لِلضغائِنِ مِثْلَها
حتى تموتَ وَلِلحُقودِ حقودَا

ومما يتم تمثيل هذه الشخصية البدوية اللاهية العابثة في مزح ورضاء، هذه القصة التي كانت له مع أخيه ثور.

فقد زعموا أنه راح في إبل أخيه فمر بنسوة حسان، فطلبن إليه أن يطعمهن لحمًا، فسألهن سكينًا وعقر لهن ناقة وأقبل عليه أخوه يلومه ويضربه فقال:

يا ثَوْرُ لا تَشْتمَنْ عِرْضِي فِدَاكَ أَبِي
فإِنَّما الشَّتم لِلْقَومِ الْعوَاوِيرِ
مَا عَقرُ نابٍ لأَمْثَالِ الدُّمى خردٍ
عِينٍ كِرَامٍ وَأَبْكارٍ معَاصِيرِ
عطفن حَوْلِي يُسَائِلْن القِرى أُصُلًا
وَليسَ يَرْضيْن مِني بِالْمَعاذِيرِ
هَبْهُن ضيْفًا عَرَاكمْ بَعْد هَجْعَتِكمْ
فِي قِطْقطٍ مِنْ سَقِيطِ الليْلِ مَنْثُورِ
وَليْس قُرْبَكُمُ شَاءٌ وَلا لَبَنٌ
أَيَرْحَلُ الضَّيْفُ عَنْكُمُ غَيْرَ مَحْبُورِ
مَا خَيْرُ وارِدةٍ لِلْمَاءِ صَادِرَةٍ
لَا تَنْجلِي عَنْ عَقِيلِ الرِّجْلِ مَنْحُورِ

ولقد أريد أن أفصل القول في شعر يزيد، وأبين مكانة هذا الشعر من الجودة والمتانة والرقة التي يمتاز بها شعر أهل البادية في هذا العصر الأموي خاصة، ولكني قد أطلت، فانظر إلى هذه الأبيات، فستجد فيها أحسن مثالًا، لا أقول يزيد وحده، بل أقول لنفسية هؤلاء الفتيان الذين كانوا يحيون حياته ويلهون لهوه:

أَلا حَبَّذَا عيْنَاكِ يَا أُم شُنْبُل
إذَا الْكُحْلُ في جَفْنَيْهمَا جالَ جَائلُهُ
فِدَاكِ مِنَ الْخُلَّانِ كل مُمزَّجِ
تَكُونُ لِأَدْنَى مَن يُلَاقِي وَسَائلهْ
فَرَحْبًا تَلَقانَا به أُمُّ شُنْبُلٍ
ضَحِيًّا وأَبْكَتْنَا عَشِيًّا أَصائلُهْ
وكُنْت كأَنِّي حِين كانَ كلامُهَا
وَداعًا وَخِلِّي مُوثَقُ الْعَهْدِ حامِلُهْ
رَهِينٌ بِنفسٍ لَمْ تُفكَّ كُبُوله
عَنِ الساقِ حتى جَرَّدَ السَّيْفَ قَاتلهْ
فَقَال: دعُونِي سَجْدَتَيْنِ وأُرْعِدتْ
حِذار الرَّدَى أَحْشَاؤُهُ وَمَفَاصلُهُ
بنَفسِيَ مَنْ لَوْ مَرَّ برْدُ بَنانِهِ
عَلَى كبِدِي كانتْ شفَاءً أَنَاملُهُ
ومَنْ هَابني في كلِّ شَيْءٍ وَهبتُهُ
فَلا هُوَ يُعْطِيني ولا أَنَا سَائله
١  نُشرت بجريدة «السياسة» في ٢٦ نوفمبر سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤