الفصل السادس والعشرون

الغزلون:١ كثير

وإنما أعده في الغزلين لأخرجه منهم، فالناس يُجمعون أو يكادون يجمعون على أنه أحد الغزلين الذين أتيحت لهم الإجادة، وقسم لهم التفوق في الغزل، وهم يقرنون اسمه باسم جميل فيقولون: كثير عزة، كما يقولون: جميل بثينة، وكما يقولون: مجنون ليلى، وهم بهذا نفسه يقدمونه على ابن ذريح، ويقدمونه على الأحوص والعرجي وغيرهما من أصحاب الغزل في بادية الحجاز وحاضرته، والرواة لا يكتفون بهذا بل يقدمونه على الشعراء عامة ويضعونه بين الفحول، فهو مقدم على ابن أبي ربيعة، وهو في مرتبة الفرزدق والأخطل وجرير والراعي، ولست أدري أكان الرواة منصفين في وضعه بين هؤلاء الفحول، وتقديمه على عامة شعراء العصر الأموي؟ وليس سبيل إلى الفصل في ذلك؛ فقد ضاع شعر كُثَيِّرٍ كله ولم يبقَ منه إلا الشيء القليل جدًّا، لم يبقَ منه إلا أبيات ومقطوعات لا تبيح الحكم له ولا عليه، وإذن فقد يكون شاعرًا فحلًا، وقد يصح أن يقرن إلى الفرزدق وإلى جرير، ولكن شيئًا لا يقبل الشك، هو أنه ليس من الغزلين المتقدمين، ولا يصح أن يقرن إلى جميل، ولا أن يقاس بابن أبي ربيعة، ولا أن يقدم على ابن ذريح.

ليس هو من هؤلاء كلهم في شيء، وإذا كان له أن يتقدم أو أن يظفر بمكانة عالية بين الشعراء فلا ينبغي أن يكون ذلك لغزله، وإنما ينبغي أن يكون ذلك لشيءٍ آخر قد يتاح لنا أن نعرفه بعد حين.

ستقول: وإذا لم يكن من الغزلين فلِمَ أضفته إليهم وحشرته فيهم؟ وقد أجبتك على هذا السؤال في أول هذا الحديث، فقلت: إني أعده في الغزلين لأخرجه منهم، وهل تظن أن الناس يقبلون بحثًا تناول الغزلين جميعًا وسكت عن كثيِّر، وهم كما قلت لك مجمعون على أنه غَزِلٌ مقدم بارع في الغزل! أليس من الحق على من يبحث عن الغزلين ويستقصيهم أن يزيل هذا الوهم ويمحو آثاره من نفوس الناس؟!

كل شيء في حياة كثيِّر يدلنا على أنه لم يكن غزلًا بطبعه، ولم يكن ماهرًا ولا موفقًا في تكلف الغزل، فهو لم يكن صافي الطبع ولا رقيق الحس ولا دقيق الشعور ولا قوي العاطفة ولا ذكي الفؤاد، وإنما كان بريئًا من هذا كله، وهو لم يكن على براءته من هذه الخصال حسن الخلق ولا مقبول الصورة، وإنما كان دميمًا قبيحًا بشع المنظر مضحكًا لمن يراه، مضحكًا لمن يسمعه ويتحدث إليه أيضًا، كان قصيرًا مسرفًا في القصر، حتى قال بعض الرواة: «لقد رأيته يطوف بالكعبة فمن حدثك أنه يزيد على ثلاثة أشبار فقد كذب.» وكان أحمق مسرفًا في الحمق ضعيف العقل إلى حد غريب، كان الناس يتخذونه هزؤًا وسخرية، والغريب من أمره أنه لم يكن يحس هذا الاستهزاء ولا يشعر بهذه السخرية، وإنما كان يصدق كل ما يلقى إليه، ويسمع المزاح فيجيب إليه جادًّا مقتنعًا.

زعموا أن نفرًا من قريش دخلوا عليه يعودونه وكان مريضًا فسألهم: بِمَ يتحدث الناس؟ قالوا: يتحدثون بأنك الدجال، قال: أما إذ قلتم هذا فإني لأجد في عيني هذه ألمًا منذ أيام، والدجال في الأساطير أعور.

وأشد من هذا غرابة أن أمر كثير لم يكن مقصورًا على الغفلة والحمق، وإنما كان يتجاوزهما إلى التيه والخيلاء، فالرواة يحدثوننا أنه كان من أشد الناس إعجابًا بنفسه ومن أغلاهم في الكبرياء، حتى لقد اتخذه معاصروه ولا سيما أهل المدينة سخرية في هذا أيضًا، فكانوا يتبعونه في شوارع المدينة يشتمونه وينالون منه، لعله يلتفت إليهم فلا يفعل، وربما غلوا في ذلك فيمد الرجل منهم يده إلى رداء كثير فينتزعه، فلا يلتفت إليه كثير بل يمضي في قميص، وكان إلى هذا كله يرى في نفسه الذكاء والفطنة، وربما رأى فيها القوة والبأس أيضًا، وقد حفظ الرواة لنا من هذا أخبارًا مضحكة.

زعموا أنه لقي الشاعر المعروف بالحزين فكان بينهما مزاح بدأه كثير حين قال للحزين: لست شاعرًا وإنما أنت نظام! فاستأذنه الحزين في أن يهجوه، فأذن له ساخرًا منه مزدريًا له، فهجاه الحزين ببيت لا نستطيع أن نرويه، فلم يكد يسمع هذا البيت حتى أخذته حفيظة منكرة، فنهض إلى الحزين فلكزه، ولكن الحزين قال له: لست من هذا في شيء، ثم مال إليه فرفعه في يده فإذا هو فيها كالكرة حتى خلَّص بينهما من حضر.

ومع هذا كله فليس من شك في أن كثيِّرًا قد كان شاعرًا مجيدًا، بل عظيم الحظ جدًّا من الإجادة، وما أظن أن محمد بن سلام الجمحي قرنه إلى الفرزدق وجرير تحكمًا أو عبثًا.

وقد حدثنا الرواة أنهم كانوا يحفظون له شعرًا كثيرًا، ويذكرون بنوعٍ خاص ثلاثين لامية لم يبقَ لنا منها إلا أبيات تكاد أو لا تكاد تؤلف قصيدته المشهورة التي مطلعها:

خليلَيَّ هذا ربع عَزَّةَ فاعْقِلا
قَلوصَيْكُمَا ثُمَّ ابْكِيَا حَيْثُ حلت

وكان أبو عبيدة فيما ذكروا يملي شعر كثير بثلاثين دينارًا، ولكننا سنرى أن إجادته ومنزلته بين الشعراء لم تأتياه من الغزل، وإنما وفق إليهما من سبيل السياسة والتقرب إلى الملوك والخلفاء.

كان كثير أصغر نفسًا وأردأ طبعًا وأشد حمقًا وغفلة من أن يتأثر بتلك المؤثرات المختلفة التي فصلناها في الأحاديث الماضية والتي كونت الغزلين من أهل الحاضرة والبادية في الحجاز، لم يكن كبير النفس، ولم يكن له أمل في الحياة السياسية العامة، ولا طمع فيما كان يطمع فيه شباب الحجاز من رفعة وسلطان، بل ربما كان من الحق أن نسأل أنفسنا قبل كل شيء: من كثيِّر؟ وإلى أي قبيلة من قبائل العرب ينتمي؟ فقد يظهر أن كثيِّرًا نفسه لم يكن يعرف من هذا شيئًا، أو لم يكن يريد أن يعرف من هذا شيئًا، أو كان يريد أن يعرف منه أكثر مما ينبغي أن يعرفه صاحب النسب الصحيح.

كان ينتسب في اليمن خزاعيًّا، وكان ينسب في مضر كنانيًّا، وكان اليمانيون والمضريون ينفونه ويزدرونه ويسخرون منه، وإذن فكيف يطمع في رفعة المنزلة وعلو المكانة؟! وكيف يقرن بهذا الشباب الأرستقراطي الحجازي الذي عبث به الطمع واليأس فاضطراه إلى اللهو والعبث واصطناع الغزل والغناء، ثم لم يكن كثيِّر من هؤلاء البدو الذين وصفنا حياتهم غير مرة، والذين قلنا: إن إهمال الدولة إياهم قد اضطرهم إلى أن يعكفوا على أنفسهم ويفرغوا لحياتهم البدوية، فنشأ عن ذلك ما كانوا فيه من حزن خالط نفوسهم وصرف شبابهم إلى هذا الحب البريء وهذا الغزل العفيف، اللذين ليسا في حقيقة الأمر إلا مرآة لما كانوا يطمعون فيه، ويطمحون إليه من المثل الأعلى.

ليس كثير من أولئك ولا من هؤلاء، ليس بدويًّا خالصًا، وليس حضريًّا ذا مكانة في الحضر، وإنما كان يتردد بين البادية والحاضرة، كان شديد الاتصال بقصر دمشق يمدح بني أمية ويتملقهم ويأخذ جوائزهم، وكان كاذبًا أحسن الكذب في هذا المدح والتملق، وكان بنو أمية يعلمون منه ذلك، كان يتردد بين مكة والمدينة، يعاشر أشرافهما، ويأخذ منهم ما أتيح له من جائزة أو عطاء.

كان ذا مذهب سياسي، أو قل كان له مذهبان متناقضان أشد التناقض، يرجعان آخر الأمر إلى مذهب واحد معروف في ذلك الوقت هو النفاق السياسي، كان فيما بينه وبين نفسه وفيما بينه وبين الله متشيعًا غاليًا في التشيع يرى مذهب الكيسانية، ويقدم محمد ابن الحنفية ويؤمن بالرجعة، وله في ذلك أعاجيب وشعر جيد، وكان فيما بينه وبين الناس نصيرًا لبني أمية يمدحهم ويغلو في مدحهم ويعاشرهم ويفاخر بعشرتهم.

ولم يكن التوفيق بين هذين المذهبين المتناقضين عليه شاقًّا ولا عسيرًا، فهو حين كان يمدح بني هاشم وبني أمية كان يخاصم الزبيريين الذين كانوا أعداء للأمويين والهاشميين معًا، ولعلك تذكر أني حدثتك في الصيف الماضي عن شاعر عباسي مسرف في التشيع، كان يذهب مذهب كثيِّر نفسه، كان كيسانيًّا يقدم ابن الحنفية ويؤمن بالرجعة، وكان مع ذلك يمدح بني العباس ويأخذ جوائزهم، وكان بنو العباس يغضون له عن تشيعه للعلويين، كما كان بنو أمية يغضون لكثيِّر عن تشيعه للعلويين أيضًا، هذا الشاعر هو السيد الحميري الذي كان ككثيِّر يتقرب ببني هاشم إلى الله، ويرضي بمدحهم عاطفته الدينية، ويتقرب ببني العباس إلى الدنيا ويرضي بهم حاجته إلى اللذة والثروة.

وكما أن كثيِّرًا كان يتخذ ابن الزبير وسيلة إلى إرضاء الهاشميين والأمويين؛ لأنه كان خصمًا مشتركًا للحزبين؛ فقد كان السيد الحميري يتخذ بني أمية وسيلة لإرضاء بني علي وبني العباس، وكما أن كثيِّرًا كان أحمق مغفلًا مسرفًا في الإيمان بالسخف والاطمئنان إليه، فلم يكن حظ السيد الحميري من الحمق والغفلة وضعف العقل قليلًا، حتى إن الرواة ليضيفون إلى كثير شعر السيد، كما يضيفون إلى السيد شعر كثير، بل هما يشتركان في شيءٍ آخر؛ كلاهما كان سيئ الصلة بأبويه، فقد يحدثنا الرواة أن السيد ولد لأبوين من الخوارج الغلاة في مذهب الخوارج، فكان كارهًا لهما مسيئًا إليهما، وهم يحدثوننا أيضًا أن كثيرًا كان يعق أباه ويسيء إليه.

وهما يكاد يشتركان في خصلة أخرى! لكنها أقوى عند كثير منها عند السيد: كلاهما كان منفرًا صارفًا للنساء، أما كثير فلقبحه ودمامته وقصره، وأما السيد فلنتن إبطيه.

ولعلك تذكر ما رويت لك من شعر الحميري في الرجعة، وأنا أروي لك الآن شيئًا من شعر كثير فيها، فانظر إلى هذه الأبيات الجيدة التي يتعجل بها عودة ابن الحنفية إلى الأرض ليرفع فيها لواء بني هاشم:

أَلا قُلْ لِلْوَصِيِّ فدَتْكَ نَفْسي
أَطَلْت بِذَلِك الْجَبَلِ المُقَامَا
أَضَرَّ بِمعْشَرٍ والوْك منَّا
وسَمَّوكَ الْخلِيفَةَ والإِمَامَا
وعَادَوْا فِيك أَهْلَ الأَرْضِ طُرًّا
مُقَامُكَ عَنْهُمُ ستينَ عامَا
وَمَا ذَاقَ ابْنُ خَوْلَةَ طَعْمَ موْتٍ
وَلَا وَارَت لَهُ أَرْضٌ عِظاما
لَقَدْ أَوْفَى بِمُورِقِ شعْبِ رضْوَى
ترَاجِعُهُ المَلَائِكَةُ الْكلامَا
وَإِنَّ لهُ بِهِ لَمقيلَ صِدْقٍ
وأَنْدِيَةً تُحَدِّثُهُ كِرَاما
هَدَانَا اللهُ إِذْ جُزْتمْ لِأَمْر
بِه وَلدَيْهِ نلْتمِسُ التَّماما
تمامَ مَوَدةِ المَهْدِي حتَّى
تَرَوْا رَايَاتِنا تتْرَى نِظامَا

ولعلك تلاحظ معي أن غياب محمد ابن الحنفية إن كان قد أضر بقوم فليس «كثير» من هؤلاء القوم؛ فهو لم يعادِ فيه أهل الأرض طرًّا كما يقول، وإنما عادى فيه عبد الله بن الزبير وحزبه ليس غير.

وانظر إلى هذه الأبيات التي يدافع فيها عن محمد ابن الحنفية حين حبسه ابن الزبير، وأراد تحريق بني هاشم، وهي من جيد الشعر السياسي:

منْ يرَ هذا الشَّيْخَ بِالخَيْفِ مِنْ مِنى
مِن الناس يَعْلم أَنَّهُ غَيرُ ظالِمِ
سَمِيُّ النبِي المُصْطفى وَابْنُ عَمهِ
وَفَكاكُ أَغْلالٍ وَنفَّاعُ غَارمِ
أَبَى فهْو لا يَشْرِي هُدًى بِضَلالَةٍ
وَلَا يَتَّقِي في الله لَومةَ لائِمِ
ونَحْن بِحمْدِ اللهِ نَتْلُو كتَابَهُ
حُلُولًا بِهذَا الْخَيْفِ خَيْفِ المَحارمِ
بِحَيْث الْحَمَام آمِنُ الروْعِ سَاكِنٌ
وحَيْث الْعَدُوُّ كالصَّدِيقِ المُسالِمِ
فمَا فرَح الدُّنْيَا بِبَاقٍ لأَهْلِهِ
وَلَا شدَّةُ الْبَلْوَى بِضرْبَةِ لازِمِ
تُخبِّرُ مَنْ لاقيت أَنَّكَ عَائِذٌ
بلِ الْعَائِذُ المظْلومُ فِي سِجنِ عَارِمِ

وكان ابن الزبير يسمى العائذ، ويزعم أنه يعوذ بالبيت وحرمه.

وانظر إلى هذه الأبيات التي اختلف الرواة فيها فأضافها بعضهم إلى السيد، وأضافها بعضهم الآخر إلى كثير، وهي أبيات مشهورة تخص مذهب الكيسانية في الإمامة:

أَلا إِنَّ الأَئمة مِنْ قُرَيْشٍ
ولَاةُ الْحَقِّ أَرْبَعَةٌ سَواءُ
عَلِيٌّ وَالثلاثَة مِنْ بنِيهِ
هُم الْأَسْبَاط ليْسَ لَهُمْ خَفَاءُ
فَسِبْطٌ سِبْطُ إِيمَانٍ وبِرٍّ
وسبْطٌ غيبَتْهُ كرْبَلَاءُ
وَسبط لا ترَاهُ الْعَيْنُ حتى
يَقُودَ الْخيْل يتْبعُهَا اللِّوَاءُ
تَغَيَّبَ لا يُرَى عنهمْ زمَانًا
بِرَضْوَى عِندَه عَسلٌ وَمَاءُ

وانظر إلى هذه الأبيات يفخر بها بتلطف ابن الحنفية به وعطفه عليه وسؤاله عنه:

أَقَرَّ الله عَيْنِي إِذْ دَعَاني
أَمِين اللهِ يَلْطفُ فِي السُّؤَال
وَأَثْنى فِي هوَايَ عَليَّ خيْرًا
وَسَاءلَ عَن بَنيَّ وكيْفَ حَالِي
وكيف ذكَرْتُ حال أَبِي خبيبٍ
وزَلة فعلِهِ عِند السؤَالِ
هُوَ المَهْديُّ خبرناهُ كَعْبٌ
أَخُو الأَحْبار فِي الْحِقبِ الْخَوالي

وأبو خبيب هذا هو عبد الله بن الزبير، وليس من شك في أن محمد ابن الحنفية كان يحمد لكثيِّر نضاله عنه وهجاءه لابن الزبير، ولكن البيت الأخير من هذه المقطوعة يلفتنا بنوعٍ خاص؛ لأنه يمثل عقلية كثير وأمثاله من غلاة الشيعة الذين كانوا صادقين في غلوهم يستبيحون فيه الكذب ويعتقدون مع ذلك أنهم لا يكذبون، ذلك أن كثيرًا لم يلق كعب الأحبار، ولا يمكن أن يكون كعب قد خبره بما ذكر من أن ابن الحنفية هو المهدي، وقد سأله بعض معاصريه: أأخبرك كعب حقًّا؟ قال: لا، قال محدثه: وإذن فكيف قلت ما قلت؟ أجاب: بالتوهم، وكذلك كان السيد الحميري يتلمس الفرص وينتحلها إذا لم يجدها، ليذيع فضل بني هاشم ويثبت حقهم في الإمامة.

على أن شيئًا واحدًا يعنينا من أمر كثير مع بني هاشم، وهو أنه كان صادقًا في حبهم، وكان ساذجًا في هذا الحب أيضًا، وكان هذا الحب الصادق الساذج ينتهي به أحيانًا إلى شيءٍ من الحنان مؤثر شديد التأثير، وينتهي به أحيانًا إلى شيءٍ من الغفلة مضحك شديد الإضحاك، كان شديد العطف على أطفال بني هاشم يسميهم: الأنبياء الصغار، ويقول كلما رآهم: بنفسي الأنبياء الصغار! وكان يأخذ عطاءه فيمر بالكتاب حيث كان أطفال بني هاشم فيهب لهم الدراهم.

وقال الرواة: وكان مع هؤلاء الأطفال صبي من ولد عثمان، وكان أخا هؤلاء الأطفال الهاشميين لأمهم، وكان يختلف معهم إلى الكتاب، وكان إذا رأى كثير يفرق الدراهم على إخوته تعلق به وقال يا عم: هب لي، فيجيبه: لا، لست من الشجرة.

قلت: إن هذا الحب الصادق الساذج لبني هاشم كان ينتهي بكثيِّر إلى الغفلة أحيانًا، وكان بنو هاشم يعلمون من كثير وغيره من شيعتهم صدق هذا الحب، وسذاجته فلا يحجمون عن استغلاله والانتفاع به.

ويحدثنا الرواة أن أبا هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية كان يعلم من كثير من هذه السذاجة ويريد أن يمسكه فيها ويحتفظ بسلطانه عليه، فكان يكلف أرصادًا من أصحابه أن يرقبوا كثيرًا وينقلوا إليه مختلف أمره، فإذا حضر كثير مجلسهم قال له: قلت كذا وكذا، وفعلت كيت وكيت، فيبهر كثير، حتى قال له ذات يوم: أشهد أنك رسول الله.

كان بنو هاشم يستغلون حب كثير، ويقبلون منه نفاقه ومدحه لبني أمية، ولِمَ لا؟! ألم يك بنو هاشم أنفسهم يدارون بني أمية ويسالمونهم ما عجزوا عن مناوأتهم وإشهار الحرب عليهم! ثم أي الأحزاب السياسية يستطيع أن يستغني في أي عصر من العصور عن هؤلاء المنافقين السياسيين الذين أتيحت لهم ألسنة طوال وأخلاق مرنة، فهم ينتفعون وينفعون.

ولهذا كان بنو أمية يصنعون مع كثيِّر صنيع بني هاشم، فيقبلون منه نفاقه السياسي ويقرونه عليه، وكانوا يعلمون حق العلم أنه ليس صادقًا في مدحهم ولا مخلصًا في الدفاع عنهم، وكانوا مع ذلك يجيزونه ويقربونه ويستزيدونه مدحه، ويذيعون هذا المدح في القصر وفي دمشق وفي العراق حيث كان خصومهم السياسيون بنوعٍ خاص.

وهذه الحادثة تعطيك صورة من المداراة السياسية وحرص الزعماء السياسيين المهرة على استغلال النفاق السياسي.

قالوا: لما خرج عبد الملك لحرب مصعب بن الزبير، لحظ في عسكره «كثيِّرًا» يمشي مطرقًا وكأنه حزين، فدعاه فسأله: أتصدقني إن أنبأتك بما في نفسك؟ قال: نعم! قال: فاحلف بأبي تراب: فحلف كثيِّر بالله ليصدقنه! قال عبد الملك: لا بد من أن تحلف بأبي تراب، فحلف له بأبي تراب، قال عبد الملك: تقول في نفسك: رجلان من قريش يلقى أحدهما الآخر لحربه فيقتله والقاتل والمقتول في النار، وما آمن أن يصيبني سهم فيقتلني فأكون معهما، قال كثيِّر: ما أخطأت يا أمير المؤمنين، قال عبد الملك: فعد من قريب، وأمر له بجائزة، وكان عبد الملك إذا أراد الصدق من كثيِّر في أمر من الأمور لا يرضى منه إلا أن يحلف بأبي تراب.

إذن فقد كان كثيِّر لا يخفي على بني أمية تشيعه للهاشميين، وكان مع ذلك يمدحهم ويأخذ جوائزهم؛ أي إنه كان يأجر نفسه من خصومه السياسيين وكان خصومه السياسيون يقبلون منه هذا فرحين به مبتهجين له، ومن ذا الذي لا يبتهج بأن يرى خصمه السياسي يهين نفسه ويذلها فيمدحه ويقدمه رغبة في المال؟! وكذلك كانت صلة السيد الحميري بالعباسيين.

أظنك الآن قد استطعت أن تتمثل شخصية كثير، وما هي بالشخصية الجذابة ولا التي تستهوي النفوس وتستثير العطف.

وإذا كان كثير بغيضًا إلى هذا الحد؛ فليس من السهل ولا من اليسير أن يستهوي النساء ويستصبيهن، وقد برأه الله من جمال الصورة كما برأه من جمال الأخلاق، ومن هنا لا أميل إلى تصديق ما يرويه الرواة من أن نساء المدينة احتفلن بكثيِّر يوم مات، فإن كنَّ قد فعلن شيئًا من هذا، فما أظن مصدر ذلك إلا أن كثيرًا كان شاعرًا ممتازًا وكان يذكر النساء فيحسن ذكرهن، وأظن أن قد آن لنا أن نذكر شيئًا عن حب كثير.

فأول شيء نذكره أن كثيرًا كان كاذبًا في حبه، كما أنه كان كاذبًا في نسبه، وكما أنه كان كاذبًا في موقفه السياسي، وأنا أعتقد أن كثيرًا رأى شعر الغزلين وكلف الناس به فتعاطى هذا الفن كما تعاطاه الغزلون، تمرينًا لقوته الشعرية، وقلنا: كان كثيِّر مغرورًا تياهًا، كان — كما يقول الجاحظ — قصيرًا ويزعم أنه طويل، دميمًا ويرى أنه جميل، وقد رأى البدع في أيامه عند أهل الحجاز أن تكون لكل شاعر خليلة يذكرها ويهيم بحبها، فأراد أن تكون له كغيره من الشعراء خليلة، فذكر عزة، وأكثر من الهيام بها، والرواة أنفسهم يقولون: إن كثيرًا كان مدعيًا للعشق لا عاشقًا، ويروون في ذلك أحاديث تجدها في الأغاني، ولست أستطيع أن أقول: إن هذه الأحاديث صحيحة أو غير صحيحة، ولكني أتخذها دليلًا على أن حب كثير لم يخدع الناس قديمًا فلا ينبغي أن يخدعنا الآن.

ليس من الحق إذن أن نقرنه إلى جميل ولا إلى ابن ذريح، ولا أن نقدمه على أحد من هؤلاء الغزلين، بل ليس من الحق أن نعده غزلًا، وإنما هو شاعر أراد أن يكون غزلًا فعالج الغزل معالجة فنية خالصة، ولعله إن لم يوفق في تكلف الحب وفق في تكلف الغزل، ولكننا لا نستطيع أن نقبل ذلك ولا أن نرفضه؛ لأن ما لدينا من غزل «كثير» أقل من أن يبيح لنا ذلك، ومع هذا فإني أختم هذا الحديث بهذه الأبيات التي تكاد تكون وحدها كل ما بقي من غزل كثير، وأنا أرى أن فيها من جودة اللفظ ورصانة الأسلوب شيئًا كثيرًا، ولكنها خالية خلوًّا تامًّا من صدق اللهجة وحرارة العاطفة:

خلِيليَّ هذا رَسْمُ عزةَ فاعقِلَا
قَلُوصَيْكمَا ثُم ابْكِيَا حيث حَلَّتِ
وَمَا كنْت أَدرِي قبْل عَزَّةَ ما الْبُكا
وَلَا موجِعات الْقَلبِ حَتى تَوَلتِ
فَلَيْت قلوصِي عِنْدَ عَزَّةَ قُيدت
بِحَبْلٍ ضَعِيفٍ بَانَ مِنْهَا فَضلتِ
وأَصبَحَ فِي الْقَومِ المقِيمِينَ رَحْلُهَا
وَكانَ لهَا باغٍ سِوَايَ فَبَلَّتِ
فقُلْت لهَا يَا عَزُّ كلُّ مُصِيبَةٍ
إذَا وطِّنَتْ يَوْمًا لَهَا النفسُ ذلتِ
أَسيئي بِنا أَوْ أَحْسِنِي لا مَلومَةٌ
لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيةٌ إِنْ تَقَلَّت
يكلفهَا الْغَيْرَانُ شَتمِي وَمَا بِهَا
هوَانِي وَلكِن لِلْمَلِيكِ اسْتَذَلَّتِ
هنِيئًا مرِيئًا غيْرَ دَاءٍ مخامِرٍ
لِعزةَ مِنْ أَعْرَاضِنا ما اسْتَحَلَّتِ
تمنَّيْتُهَا حَتى إِذا مَا رَأَيْتهَا
رأَيْتُ الْمَنايَا شرَّعًا قد أَظلَّتِ
كأَني أُنادِي صخْرة حِينَ أَعْرَضت
مِن الصمِّ لوْ تمْشِي بِهَا الْعُصمُ زَلَّتِ
صَفوحًا فَمَا تلقَاك إِلَّا بَخِيلَةً
فَمَن مل منها ذلِك الْوَصْلَ مَلَّتِ
وَإني وَتَهْيَامِي بِعَزَّةَ بَعْدَ مَا
تَخَلَّيْتُ مِما بَيْنَنَا وَتخلَّتِ
لَكَالْمُرْتَجي ظِلَّ الغَمَامَةِ كُلَّمَا
تَبَوَّأَ مِنْهَا لِلْمَقِيلِ اضْمَحَلَّتِ
١  نُشرت بجريدة «السياسة» في ٣ ديسمبر سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤