الفصل السابع والعشرون

زعيم الغزلين:١ عمر بن أبي ربيعة

تمهيد

نعم! هو زعيم الغزلين من أهل الحضر في عصره، لا يختلف في ذلك الناس، وقد تحس فيما تقرؤه من أخبار هؤلاء الغزلين أن الرواة كانوا يضعون عمر من أهل الحضر بإزاء جميل من أهل البادية، فكأن عمر كان زعيم الغزل الحضري حينما كان جميل زعيم الغزل البدوي، ولكن شعر جميل قد ضاع ولم يبقَ لنا منه إلا شيء قليل جدًّا، فلم يبق سبيل إلى المقارنة بينه وبين عمر الذي حفظ الدهر لنا شعره كله أو أكثره، والذي استقامت لنا أخباره وصحت لنا طائفة من الحوادث المتصلة بحياته، فأصبح من اليسير أن ندرسه ونعلم فيه رأيًا صحيحًا أو مقاربًا.

ومهما تكن مكانة جميل من شعراء البادية والحاضرة؛ فليس من شك في أن عمر بن أبي ربيعة كان مقدَّمًا عليه عند أهل عصره، ويجب أن يظل مقدَّمًا عليه من الوجهة الفنية؛ لأنا لا نعرف شاعرًا عربيًّا أمويًّا افتن في الغزل افتنان عمر، فعمر إذن زعيم الغزلين الأمويين جميعًا لا نستثني منهم أحدًا، ولا نفرق فيهم بين أهل البادية وأهل الحاضرة، بل نحن نذهب إلى أبعد من هذا فنزعم أن عمر بن أبي ربيعة زعيم الغزلين في الأدب العربي كله، على اختلاف ظروفه وتباين أطواره منذ كان الشعر العربي إلى الآن.

وليس هذا بالشيء الذي يحتاج إثباته إلى عسر ومشقة، فإن الغزل العربي الخالص لم يوجد مرتين وإنما وجد مرة واحدة في أيام بني أمية، ولم يكن له قبل الإسلام وجود مستقل، ولم يكن الشعراء الجاهليون يعنون به إلا على أنه وسيلة شعرية إلى ما كانوا يذهبون فيه من مذاهبهم الشعرية المختلفة، ولا نكاد نعرف بين الجاهليين شاعرًا قصر حياته الشعرية على الغزل، بل قليل جدًّا عدد القصائد الجاهلية التي لم يتناول فيها أصحابها إلا الغزل وحده.

أما عصر بني العباس فلم توجد فيه مدرسة غزلية، إن صح هذا التعبير الحديث، ولسنا نجهل أن الشعراء العباسيين قد تغزلوا ونسبوا وأتقنوا الغزل والنسيب، ولكنا نزعم أنهم لم ينقطعوا للغزل، ولم يسلكوا فيه سبيل أصحابنا هؤلاء الذين ندرسهم في هذه الأحاديث، وإنما كانوا كالجاهليين يتخذون الغزل وسيلة شعرية، أو يتعاطونه كما يتعاطون غيره من الفنون.

وإذا كان الشعراء العباسيون قد استحدثوا في الأدب العربي شيئًا؛ فهم لم يستحدثوا الغزل، وأكاد أقول: إنهم انصرفوا عنه إلى شيءٍ آخر، أو أكاد أقول: إنهم حولوا إلى شيءٍ آخر، هو العبث والمجون.

أعلم أنك ستذكر العباس بن الأحنف، وقد ذكرته أنا أيضًا، ولكنه استثناء يثبت القاعدة، ويكفي أن تقرأ الشعر العباسي لتعلم أنه كان غريبًا في عصره، وأنه «سقط بين كرسيين» كما يقول الفرنسيون، فلم يبلغ إتقان الغزلين من شعراء بن أمية، ولم يبلغ إجادة العابثين من شعراء بني العباس، وإنما جاء فاترًا قلما يترك في النفس أثرًا قويًّا، لأن الفن الذي أراد أن يختص به كان قد انقضى عصره، وانتهت الأسباب التي أوجدته ومكنت الناس من إتقانه والإجادة فيه.

وإذا كان العصر العباسي قد خلا من مدرسة غزلية خالصة، فما أحسبك تريد أن تعرض للعصور الأخرى التي جاءت بعده، فهي فيما أعتقد لا تستحق عنايتنا الآن.

لم يوجد الغزل في الأدب العربي مرتين كما قلت، وإذا كان عمر بن أبي ربيعة هو زعيم الغزلين في العصر الأموي، فيجب أن يكون زعيم الغزل في الأدب العربي كله، على أن هناك وجوهًا أخرى تحملنا على أن نؤكد أن الغزل لم يوجد مرتين، ولست أذكر منها إلا هذا الوجه الفني؛ فأنت مهما تقرأ من الغزل العربي، فلن تجد في هذا الغزل ما تجده في الغزل الأموي من صدق اللهجة وصفاء الطبع، ومن التمثيل الصادق الصحيح لنفس الشاعر، بل لنفس الجماعة التي يعيش فيها، ومن إظهار هذه النفس على ما كانت عليه من سذاجة جذابة وسهولة محببة إلى القلوب، لن تجد شيئًا من هذا كله في غزل العباسيين وأهل الأندلس وغيرهم من شعراء البلاد العربية المختلفة، وإنما أنت في هذا الغزل بإزاء فن شعري ظهر فيه التكلف اللفظي والمعنوي، وعظم فيه أثر الصنعة، واصطبغ بهذه الصبغة الحضرية التي تحملك دائمًا على أن تقرأ الشيء وأنت تقدر أن صاحبه ليس صادقًا فيه، وأنه يتكلف ويتصنع ليلائم عصره وبيئته، ليرضي الناس أو يفتنهم.

أما الغزل الأموي فقد كان شيئًا غير هذا كله، ولا تحسبني قد فتنت بهذا الغزل فأنا أسرف في مدحه والثناء عليه، وأتجاوز الحد في تقديمه على غيره من ألوان الغزل العربي، فأنا بعيد كل البعد عن هذه الفتنة، وأنا مجهتد كل الاجتهاد في أن يكون رأيي صادقًا بريئًا من الهوى، وأنا أجد في هذا الغزل الأموي شيئًا هو الذي يحببه إليَّ ويحملني على تقديمه، وهو أنه لم يخلص من السذاجة البدوية، ولم يبرأ من تأثير الحضارة الجديدة، ففيه من البداوة سذاجة تستخفك وتستصبيك، وفيه من الحضارة طلاء يبعث في نفسك الميل إلى الاستقصاء والاستطلاع، وأنت تجد بعد هذا كله عذوبة ولذة في هذا المزاج الذي يتألف منه الغزل الأموي، والذي يمثل لك هذا الشعب العربي البادي وقد أخذ يحضر ويترف، ويحس على بداوته كما يحس الحاضرون والمترفون.

قلت: إن هذا الغزل الأموي يمثل نفس الشاعر والجماعة التي كان يعيش فيها تمثيلًا صادقًا صحيحًا، ومن هذه الناحية أرى أن عمر بن أبي ربيعة هو زعيم الغزلين الأمويين حقًّا، وأن الأدباء والمؤرخين لن يستطيعوا أن يقدروا هذه النعمة التي أتيحت لهم حين حفظ الدهر لهم شعر عمر بن أبي ربيعة كله أو أكثره، فلست أعرف شاعرًا إسلاميًّا استطاع أن يمثل العصر الذي كان يعيش فيه، والبيئة التي كان يحيا فيها، كهذين الرجلين اللذين نستطيع أن نتخذهما مرجعًا في درس الجماعة التي كانت تحيط بهما، تريد أن تدرس العراق في صدر الدولة العباسية، وأن تدرس مدينة بغداد أيام الرشيد والأمين خاصة، فارجع إلى أبي نواس. تريد أن تدرس حياة الحجاز في صدر الدولة الأموية، فارجع إلى ابن أبي ربيعة، وليس من شك في أنك ستجد شيئًا كثيرًا نافعًا في درس مسلم بن الوليد، وفي درس الحسين بن الضحاك، وأبي العتاهية، كما أنك ستجد شيئًا كثيرًا نافعًا في درس العرجي، والأحوص وابن ذريح، ولكنك لن تجد عند واحد من هؤلاء، بل لن تجد عند هؤلاء مجتمعين، ما ستجده عند أبي نواس من تمثيل الحياة البغدادية على وجهها، ولا ما ستجده عند عمر بن أبي ربيعة من تصوير الحياة الحجازية على حقيقتها. تلك نعمة يتيحها الدهرُ من حين إلى حين للباحثين عن التاريخ الأدبي حين يُظهِر لهم شاعرًا أو كاتبًا قد انتهت إليه كل الخلال، كما ظهرت فيه كل النقائص التي كانت تمتاز بها بيئته، والتي كانت بعيدة الأثر في عصره، وإنما يظهر هؤلاء الشعراء والكتاب في العصور التي تقوى فيها الحياة الأدبية قوة خاصة ممتازة، كذلك العصر الأموي في الحجاز، وكذلك العصر العباسي في بغداد.

تريد أن تشخص الحياة العباسية أيام الرشيد والأمين، فلن تجد لها تشخيصًا أقوى ولا أظهر ولا أصدق من أبي نواس، فإذا أردت أن تشخص حياة القرن الثالث فلن تجد ذلك عند البحتري ولا عند أبي تمام ولا عند شاعر من الشعراء، وإنما أنت واجد ذلك عند الجاحظ، لأنه الكاتب الوحيد الذي انتهت إليه كل الخلال، كما ظهرت فيه كل النقائص التي كان يتأثر بها العقل البغدادي في ذلك العصر، والتي جاءته من قوة الحياة الأدبية والفلسفية معًا.

ولكني بعدت بك بعض الشيء عن عمر بن أبي ربيعة، وما بعدت بك عنه إلا لأدنيك إليه، فأنا أقول: إنه أصدق مثال للعصر والبيئة اللذيْنِ كان يعيش فيهما، وإن المؤرخ الذي يريد أن يدرس حياة الأرستقراطية القرشية في الحجاز أثناء القرن الأول للهجرة يجب أن يلتمس هذه الحياة في شعر عمر بن أبي ربيعة قبل أن يلتمسها في أخبار التاريخ وحوادثه المختلفة، فسيجد في هذا الشعر كيف كان سراة قريش والحجاز يقضون حياتهم الهادئة الفارغة، بل سيجد في الشعر ألوان الصلات المختلفة الحلوة المبتسمة التي كانت تصل بين هؤلاء السراة.

والمؤرخ الذي يريد أن يدرس حياة المرأة العربية المترفة في هذا القرن الأول، يجب أن يلتمس هذه الحياة في شعر عمر بن أبي ربيعة، فلن يظفر في مصدر آخر من مصادر الأدب والتاريخ بمثل ما يظفر به في هذا الشعر، فيه ترى المرأة العربية المترفة واضحة جلية الصورة، تنفق حياتها في هذه الدعة والنعمة اللتين، على عفتهما وطهارتهما، لا تخلوان من لهو ودعابة، ولا من عبث وفكاهة، والمؤرخ الذي يريد أن يريد أن يدرس الصلة بين الرجال والنساء في هذا العصر يجب أن يلتمس ذلك عند عمر بن أبي ربيعة، فسيجد منه في شعر هذا الشاعر كل ما أراد.

لا تلتمس في شعر عمر بن أبي ربيعة وصفًا للحياة السياسية الأموية، فلن تكاد تظفر من هذا بشيءٍ صريح، ذلك لأن صاحبنا هذا قد اجتنب السياسة في حياته اجتنابًا تامًّا، وانقطع للحب شطرًا من حياته، وللنسك الهادئ شطرًا آخر، فلم يغضب حزبًا من الأحزاب ولم يوالِ حزبًا آخر، وإنما كان رجلًا مترفًا من قريش ترك السياسة لأصحابها وانصرف إلى الحياة يأخذ منها كل ما كانت تستطيع أن تمنحه من لذة ونعمة، حتى إذا استوفى من ذلك حظه وأحس أن الوقار خليق به، انصرف عن الاضطراب والعبث إلى حياة هادئة مبتسمة تزينها الذكرى، حتى فارق هذه الحياة راضيًا كما عاش فيها راضيًا.

وكان انقطاعه عن السياسة مصدر خير للمؤرخ الذي يريد أن يدرس الحياة الأدبية والاجتماعية في الحجاز، لأنه لن يجد في شعره هذه الأهواء السياسية التي تلبس الحق بالباطل أحيانًا، وتظهر الخطأ مظهر الصواب أحيانًا أخرى، ومع هذا فنحن مدينون للسياسة الأموية بشعر عمر بن أبي ربيعة وما فيه من آيات أدبية خالصة من كدر السياسة، نحن مدينون بهذا الشعر لهذه السياسة الأموية، فلولا أنها وقفت من شباب قريش ومترفي الحجاز هذا الموقف الذي وصفناه لك غير مرة، فحالت بينهم وبين الحياة العامة، وقصرتهم في الحجاز على اللهو والترف، وأوجدت منهم في مكة والمدينة هذه الجماعات التي جمعت بين ذكاء القلب وحدة الشعور ورقة الحس وشرف المكانة وضخامة الثروة، لما ظهر شاعر كعمر بن أبي ربيعة، ليس شعره في حقيقة الأمر إلا خلاصة صادقة لحياة هذه الجماعات الحجازية المترفة، وكذلك تنتفع الحياة الأدبية أحيانًا بما لا تجد منه الحياة السياسية إلا شرًّا ونكرًا، فهذا الذكاء القرشي الذي حرمت السياسة العربية منافعه حينًا، والذي كان من الممكن أن يغير الوجهة السياسية لحياة المسلمين، لو لم يكره على الانصراف إلى اللهو، هذا الذكاء انصرف إلى ما أريدَ أن ينصرف إليه فأنتج لنا هذه الحياة الأدبية الباهرة.

كان عمر بن أبي ربيعة من أسرة قرشية عظيمة الحظ من الشرف والمجد، بعيدة الصوت في آخر العصر الجاهلي، ضخمة الثروة جدًّا، قد أفادتها ثروتها الضخمة من التجارة بين الحجاز واليمن، وكان لهذه الأسرة رقيق كثير يذكرنا بما نقرأ في أخبار الأغنياء من اليونان والرومان، حتى إن من المسلمين من عرض على النبي أن يستعين في بعض غزواته بأحباش ابن أبي ربيعة، وكان عبد الله بن أبي ربيعة أبو شاعرنا من وجوه قريش وأهل الذكاء فيهم، يقال: إنه عمل في ولايات النبي وأبي بكر وعمر وعثمان، ولكن ابنيه: الحارث وعمر أقصيا عن السياسة الأموية إقصاء.

أما الحارث فقد استعمله عبد الله بن الزبير حين كان الأمر إليه على البصرة، ويقال: إن عبد الملك بن مروان أكثر الثناء عليه حين علم باستعمال عبد الله بن الزبير إياه، وكان عمله لابن الزبير قد صرف عنه الأمويين، فلم يسمع له ذكر في الحياة العامة بعد أن تم النصر لبني أمية، على أنه لم يعجب أهل البصرة، ونحن نجد في الأغاني شعرًا يطلب من ابن الزبير إعفاء البصريين منه.

أما عمر فلم تعرض له السياسة ولم يعرض لها، وإنما شب في الشعر ومضى في حياة المترفين دون أن يتصل بحزب، ودون أن يتخذ شعره وسيلة إلى الخصومة السياسية، كما فعل قرشي آخر هو ابن قيس الرقيات، وكان يتغزل بالقرشيات جميعًا، كما كان يتغزل بغير القرشيات، لا تعنيه صلاتهن الحزبية، بل لا يعنيه منهن إلا شيء واحد هو الجمال.

لعلك تذكر براعة ابن قيس الرقيات تلك التي أشرت إليها حين حدثتك عنه، والتي أتاحت له أن يتخذ الغزل وسيلة من وسائل الخصومة السياسية، فاخترع ما سميته الغزل الهجائي، وكان في هذا الغزل عفيفًا حلو اللسان مؤدبًا حسن الثناء، لا يزيد إلا أن يغيظ خصومه السياسيين بذكر نسائهم والتحبب إليهن، أما عمر بن أبي ربيعة فلم يصطنع من هذا كله شيئًا، وإنما كان صادق اللهجة في غزله كله، لا يريد بالغزل إلا الغزل، ولا يذكر النساء إلا لأنه يحب النساء.

وهناك مسألة عُني القدماء بها عناية شديدة، ولا بد من الإشارة إليها والقول فيها: أكان عمر بن أبي ربيعة صاحب لهو وعبث وفتك، أم كان شاعرًا لا أكثر ولا أقل؟ وبعبارة أخرى: أكان عمر بن أبي ربيعة كالعرجي، أم كان كجميل؟

أما القدماء فيختلفون اختلافًا شديدًا، ويرون فيه رأيين متناقضين يضيفونهما إلى عمر نفسه، فمنهم من يقول: إن عمر كان صاحب عبث وفجور، ثم يزعم أن سائلًا سأله: أكل ما قلته في شعرك فعلته؟ فأجاب: نعم! وأستغفر الله، ومنهم من يزعم أنه كان صاحب عفة وطهر، وأنه كغيره من الشعراء، كان يقول ما لا يفعل، ويزعمون أنه أقسم الأيمان المحرجة ما أقدم في حياته على حرام، ثم يزعمون أنه عندما أشرف على الموت رأى أخاه الحارث جزعًا مشفقًا فقال له كلامًا هدأ روعه، وأكد له أنه لم يأتِ مما قال شيئًا.

وليس بين هذين الرأيين المسرفين فيما نعتقد رأي وسط، فلنكن نحن أصحاب هذا الرأي، لا أستطيع أن أصدق مهما يقسم عمر ومهما يقل الرواة: إن هذا الشاعر المترف الذي قضى شبابه في غير نسك ولا زهد ولا تدين، والذي كان كل شيء يتيح له اللهو والعبث، فكانت له الثروة وكان له الجمال، وكانت البيئة كلها بيئة لهو وترف — لا أستطيع أن أصدق، أن هذا الرجل قضى حياته طاهرًا بريئًا من كل مجون، ثم لا أستطيع أن أصدق، مهما يقل الرواة ومهما يقل عمر نفسه، أن هذا القرشي الشريف ذا المكانة العالية والحسب الرفيع، والذي كان متأثرًا كغيره من الأشراف بطائفة من النظم والعادات الخاصة، والذي كان يعيش في ظل سلطان ديني قوي من الوجهة السياسية، إن لم يكن قويًّا من الوجهة الخلقية — لا أستطيع أن أصدقك أنه أنفق حياته كلها في عبث ولهو، وفي فجور ومجون، وأنه فعل كل ما قال.

ولنلاحظ قبل كل شيء أن الحجاز لم يخلُ في هذا العصر من شعراء عبثوا ولهوا، وأسرفوا في العبث واللهو مضطرين أو مختارين، ولكن لنلاحظ أن هؤلاء الشعراء لم يعيشوا وادعين كما عاش عمر بن أبي ربيعة، ولم يظفروا بإجماع الناس على إكبارهم وإجلالهم كما ظفر عمر بن أبي ربيعة.

ومهما تكن الأسباب التي اقتضت محنة العرجي والأحوص فقد مُحنا وساء بهما ظن فريق من الناس عظيم، وكان أشد الناس بهما حسن ظن لا يرى فيهما من الوجهة الخلقية خيرًا.

أما ابن أبي ربيعة فلم ينله سلطان ابن الزبير ولا سلطان بني أمية بمكروه ولم يروِ لنا التاريخ أن الناس غلوا في لومه أو تشددوا في النعي عليه.

وقد يشير بعض الرواة إلى أن أخاه أو غير أخيه لامه وألح عليه، وإلى أنه سافر إلى اليمن اجتنابًا لمكة وتأديبًا لنفسه، فحنَّ إلى مكة وعاد إليها، ولكن التكلف في هذه الأخبار ظاهر، وكل ما نستطيع أن نستيقنه منها هو أن ناسًا لاموا عمر من جهة، وأن عمر قد سافر إلى اليمن كما سافر إلى العراق، وكما كان يسافر إلى المدينة لبعض شئونه من جهةٍ أخرى.

إذن لم يجد السلطان السياسي سبيلًا على عمر كما وجد سبيلًا على الأحوص وعلى العرجي، ومع هذا فقد كان أصحاب التقى والمروءة يدعونه الفاسق مازحين مرة وجادين مرة أخرى، وكان النساء يداعبنه بهذه الصفة، وربما وصفنه بها جادات أيضًا، وكان أشراف قريش ربما تحرجوا من شعره واحتاطوا في حماية نسائهم من روايته والظهور عليه.

كان هذا كله، ولكن كان من جهةٍ أخرى أن عمر بن أبي ربيعة لم يكد يترك امرأة شريفة من نساء قريش إلا ذكرها وأسرف في ذكرها، فقد تغزل بأخت عبد الملك وبنته، وامرأة سهيل بن عبد العزيز بن مروان، وتغزل بعائشة بنت طلحة، وتغزل بسكينة بنت الحسين، وتغزل بلبانة بنت عبد الله بن عباس، وتغزل بزينب بنت موسى الجمحي، وهند بنت الحارث المري، وتغزل بإحدى بنات محمد بن الأشعث الكندي من أهل العراق، ونساء غير هؤلاء كثيرات من أشراف مكة والمدينة والشأم والعراق، وكان يتغزل بهن جهرة في غير تكتم ولا استخفاء، إلا ما يروى من أنه تحفظ بعض التحفظ في أمر فاطمة بنت عبد الملك.

والغريب أنه لم يكن يكتفي بإعلان غزله، بل كان يستعين عليه نفرًا من أشراف قريش فيعينونه ويجدون في هذه المعونة لذة وغبطة.

وسنذكر لك مكان ابن أبي عتيق من غزل عمر بن أبي ربيعة، سنذكر لك مكان هذا الرجل الشريف من قريش من غزل عمر، لا أقول: من لفظه، بل أقول: من حياته الغزلية، وكيف كان يحرص على التوسط بينه وبين صاحبته الثريا.

ألست ترى أن هذا كله خليق بالتفكير؟ وأننا مضطرون إلى أن نتوسط بين الذين زعموا أن عمر كان مسرفًا في الفجور والذين زعموا أنه كان مسرفًا في العفة، فنرى أنه لم يكن مسرفًا في اللهو كما أنه لم يكن مسرفًا في حسن السيرة، ونرى أنه صادق كل الصدق حين يؤكد أنه لم يقدم على حرام، ولكن صدقه هذا مقصور على طائفة من شريفات قريش وغير قريش؛ فليس من شك في أن صلته بأخت عبد الملك وبنته وبسكينة بنت الحسين ولبابة بنت عبد الله بن عباس وعائشة بنت طلحة كانت طاهرة كل الطهر بريئة كل البراءة من الإثم، كانت لفظية ليس غير.

بل لست أدري! أحق ما يروى من أن فاطمة بنت عبد الملك حرصت على أن تراه واحتالت في ذلك إلى آخر ما سنذكره؟ وأكبر ظني أنه لم يتجاوز أن احتال في رؤيتها ثم تغزل بها، وأن هذا الغزل وقع من فاطمة موقعًا حسنًا، ولعلها كانت تطمع فيه، وإذن فهو لم يقدم على غرام مع هذه الطبقة من النساء.

ولكن أنستطيع أن نقول: إن سيرة عمر مع النساء جميعًا كانت كسيرته مع هؤلاء الشريفات؟ أنستطيع أن نقول: إن هذا الرجل الذي لم يعرف الأدب العربي الإسلامي إلى عصره شاعرًا وصف اللهو بالنساء كما وصفه قد أنفق حياته — كما قال بعض الرواة — يصف ولا يقصف ويحوم ولا يرد؟ كلا! كان عمر بن أبي ربيعة مسرفًا في وصف اللهو مقتصدًا في اللهو نفسه، ومن زعم أنه صادق حقًّا حين يقسم ما أقدم على حرام فهو مخدوع، ومن زعم أنه صادق حقًّا في أنه فعل كل ما قال فهو مخدوع أيضًا.

إنما كان عمر يعيش عيشة الرجل المترف الذي أتيحت له أسباب اللهو ووسائله، ولكنه مع ذلك مقيد بشرفه ومكانته وما ألف الناس من الأوضاع الاجتماعية؛ فهو يلهو ولكن بمقدار، وهو يصف ولكن بمقدار أيضًا.

ومن هنا كان من الحق أن يكون عمر بن أبي ربيعة بإزاء جميل؛ أي إنه كان رئيس مذهب في الغزل الإباحي كما سميناه غير مرة؛ لأنه لم يكن يتغزل في الهواء ولا يطمح إلى المثل المعنوي الأعلى ليس غير، وإنما كان يعيش في الأرض ويستبيح لنفسه من اللذات ما أباح له الدين وما لم يبح، بينما كان جميل زعيم هذا الغزل العذري العفيف، الذي لم يكن يطمح إلا إلى المثل الأعلى وإلى الجمال من حيث هو، ولا يبتغي لذة ولا يستبيح شيئًا لم يبحه الدين ولم ترضَ عنه الأخلاق.

على أني لم أحدثك إلى الآن إلا بأشياء عامة ولم أعرض بعد لدرس مفصل دقيق لشعر عمر بن أبي ربيعة، وأنا مضطر إلى ذلك، فليس عمر بن أبي ربيعة الذي يستطيع الباحث أن يدرسه في حديثٍ واحد، ولا بد لي أن أحدثك عنه حديثًا آخر، وقد أحتاج إلى غير حديث.

أما اليوم فأنا أختم هذا الفصل بشيءٍ أنقله لك عن القدماء يختصر رأيهم فيه اختصارًا حسنًا، وهو رأي مصعب بن عبد الله الزبيري، وقد تناقله عنه رواة العصر العباسي، وحرصوا عليه فكأنهم يقرونه، بل قل: إنهم يقرونه عليه، وإذن فهذا الرأي تستطيع أن تأخذه على أنه رأي القدماء جملة في شعر عمر، ولست أنقل لك كل ما يروي القدماء عن مصعب؛ فذلك يقصر عنه هذا الحديث، وإنما أروي لك منه جملة صالحة، فإذا كان الفصل الآتي فسأجتهد في أن أفصل بعض التفصيل رأيي في شعر عمر.

قال مصعب: راق عمر بن أبي ربيعة الناس وفاق نظراءه وبرعهم بسهولة الشعر، وشدة الأسر، وحسن الوصف، ودقة المعنى، وصواب المصدر، والقصد للحاجة، واستنطاق الربع، وإنطاق القلب، وحسن العزاء، ومخاطبة النساء، وعفة المقال، وقلة الانتقال، وإثبات الحجة، وترجيح الشك في موضوع اليقين، وطلاوة الاعتذار، وفتح الغزل، ونهج العلل، وعطف المساءة على العذال، وأحسن التفجع، وبخل المنازل، واختصر الخبر، وصَدَق الصفاء، إن قدح أورى، وإن اعتذر أبرى، وإن تشكى أشجى، وأقدم عن خبرة، ولم يعتذر بغِرَّة، وأسر النوم، وغم الطير، وأغدَّ السير، وحير ماء الشباب، وسهل وقوَّل، وقاس الهوى فأربى، وعصى وأخلى، وخالف بسمعه وطرفه، وأبرم نعت الرسل وحذَّر، وأعلن الحب وأسرَّ، وبطن به وأظهره، وألحَّ وأسف، وأنكح النوم، وجنى الحديث، وضرب ظهره لبطنه، وأذلَّ صعبه، وقنع بالرجاء من الوفاء، وأعلى قاتله، واستبكى عاذله، ونفض النوم، وأغلق رهنَ مِنى، وأهدر قتلاه، وكان بعد هذا كله فصيحًا.

فمن سهولة شعره وشدة أسره قوله:

فلما تواقفْنا وسَلَّمْتُ أَشْرقَت
وجوهٌ زهَاهَا الْحُسْنُ أَنْ تَتقنَّعا
تَبالهْنَ بِالْعِرفانِ لَما رأَيْنني
وَقُلْن امْرُؤ باغ أَكَلَّ وَأَوْضَعا

ومن حسن وصفه قوله:

لهَا مِنَ الرِّيمِ عَيْناه وَسُنته
ونخْوَةُ الشَّابِقِ المخْتالِ إذْ صهَلَا

ومن دقة معناه وصواب مصدره قوله:

عوجَا نُحَيِّ الطللَ المُحْوِلا
وَالرَّبْعَ مِنْ أَسْماءَ والمَنْزلَا
بسَابغِ البَوْبَاةِ لَمْ يعْدُهُ
تقَادُمُ الْعَهْدِ بِأَن يُؤْهَلَا

ومن قصده للحاجة قوله:

أَيُّها المُنْكحُ الثُرَيَّا سُهيْلًا
عَمْركَ الله كَيفَ يَلتقِيانِ
هِيَ شَامِيَةٌ إِذا ما اسْتَقَلَّتْ
وسُهَيْلٌ إِذا اسْتقَلَّ يَمان

ومن استنطاقه الربع قوله:

سائِلا الرَّبْعَ بِالْبُليِّ وَقُولَا
هِجْتَ شَوْقًا لِيَ الْغدَاة طوِيلَا
أَين حي حلُّوك إِذْ أَنتَ محْفُو
ف بِهمْ آهِلٌ أَرَاكَ جَمِيلَا
قال سارُوا فَأَمْعنُوا واسْتقَلوا
وبرغْمِي لَوْ قَدْ وَجدْتُ سبِيلَا
سَئمونا ومَا سئمنا جوَارًا
وَأَحبُّوا دَماثَة وسُهُولا

ومن إنطاقه القلب قوله:

قال لِي فِيها عَتِيق مقَالًا
فجرَتْ مِما يَقول الدُّموعُ
قالَ لي وَدع سُلَيْمَى وَدعْها
فَأَجابَ الْقَلْب لَا أَسْتطِيعُ

ثم يمضي مصعب في الاستدلال بالأبيات من شعر عمر على ما قدم من وصفه فيما رويت لك، وذلك أطول من أن أتم روايته، فاقرأه في الجزء الأول من الأغاني إن شئت، بل أنا أشير عليك أن تقرأه لتتمثل رأي القدماء في عمر، ووجهتهم في نقده قبل أن نأخذ نحن في درسه منذ الأسبوع الآتي.

١  نُشرت بجريدة «السياسة» في ١٠ ديسمبر سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤