الفصل السادس

ساعة أخرى مع طرفة١

لم يكن صاحبي مُبتهجًا، ولا مُبتسمًا، ولا ظاهر النشاط، حين لقيته في الموعد الذي كان بيننا، وإنما كان كئيبًا محزونًا كاسف البال ظاهر الفتور، فلما سألته عن أَمْرِهِ، أَعْرَضَ عَنِّي وأَبَى أَنْ يُجيب، فَلَمَّا ألحَحْتُ عليه في السؤال، قال: وماذا تريد أن أرد عليك، وأنت قد أشمَتَّ بي العدو، وأثرت إشفاق الصديق عليَّ، ورثاه لي، وأطلقتَ فيَّ ألسنة النَّاس بالفُكاهة والسُّخرية وكِدْت تجعلني مثلًا في الأندية يُضرب للجهل والغفلة، وبلادة الذهن وقلة الاطلاع.

قلت: وما ذاك؟ قال: إنك تُذيع أحاديثنا في شيءٍ من التبسط، لا تتحفظ ولا تحتاط، فتروي عني كثيرًا مما أقوله لك، لا تصفيه ولا تنقيه، ولا تزيل منه الغثاء، ولا تنفي عنه كثيرًا من هذا السخف الذي تجري به الألسنة في المألوف من الحديث، ولكنَّ الأقلامَ تتجافاه، وترتفع عنه حين تُسَجِّل هذه الأحاديث؛ فأَنْتَ تُظْهِرُني دائمًا على حظٍّ لا بأس به من الغباء والقصور، ومنَ الإِهْمَال والتقصير، حتَّى لقد ظنَّ بعض الناس أني لست شخصًا موجودًا بالفعل، وإنَّما أنا شخص خيالي قد اخترعته اختراعًا، وابتكرته ابتكارًا، وصورته كما تُحب أن يكون خصمك من الضعف والعجز، لا كما هو في حقيقة الأمر.

قلتُ مُبْتَسِمًا: إنَّ فيما تقولُ بعض الحقِّ؛ فقد رأيت قومًا يَسْخَرُون منك، ويتندرون عَليك، وقد زعم لي صَديقٌ منَ الأَصْدِقاء أَنِّي قد استضعفت رجلًا من الناس، لا حول له ولا قوة ثم اتخذته خصمًا في هذا الحوار، وما أرى إلا أنَّ هَذَا الصَّدِيقَ المَاكِرَ قد أحصى واستقصى، وبَحَثَ حَتَّى اهتدى إليكَ فوشى بي عِنْدَك، وما زَالَ بِكَ يُهيجك ويُغريك، حتَّى ملأك غيظًا وحنقًا، ولستُ أرى عليك مما يقول الناس بأسًا، ولست أُحِبُّ لك أنْ تَسْمَع لهذا الصديق الذي سيجد لذة في المَكْرِ، ولا يتحرج من أن يعبث بأصدقائه، وإنما أُحِبُّ لك أنْ تَرْتَفِعَ عن هذا كله، وأي الناس أمن ألسنة الناس! وأي الناس استوثق من أن الناس سيحسنون به الظن، وسيقُولون فيه الخير، وسيكفون عنه ألسنتهم، وأقلامهم، وسيصدون عنه سِعَايتهم ووِشَايتهم! وإنَّما تَجري أمورُ الحياة على الشر أكثر مما تجري على الخير، والناس إلى الإساءة أسرع منهم إلى الإحسان، فاصبر لما يُقال فيك، وما يُساق إليك، ولا تُظْهِر الضَّعْفَ فتطمع فيك من لا ينبغي أن يرقى إليك.

قال صَاحِبي: هذا كلام يسير حين يقال، سهلٌ حينَ يُكتب، ولكنَّك لا تستطيعُ فيما أَعْتَقِدُ أنْ تَلقى بعض ما ألقى، وأن تصبر عليه كما تريد أن أصبر، وتغضي عنه كما تريد أن أغضي، وأنا رجلٌ مثلك لا ينبغي أنْ تُعَرِّضني لما لا تُحب أن تتعرض له، وما يعنيني من أمر لبيد وطرفة، وأمثال لبيد وطرفة، إذا كان الحديث عنهما وعن أمثالهما سيُعَرِّضني لمثل هذه السخرية، ومثل هذا الازدراء.

لقد أذعت في الأسبوع الماضي أني لم أرَ ديوان طرفة، ولم أنظر فيه، فما أكثر ما سمعت من استهزاء المُستهزئين وعيب العائبين! قلتُ: لا بأس عليك، لقد تحدثت بهذا في صراحة صريحة، ووضوح ليس بعده وضوح، ومع ذلك فلم آمن أن تظن بي الظنون، وأن يُشفق علي المُشفقون، وأن يتفضل كاتب أدب مُقيم في الريف، فيكتُب إلى «الجهاد» أنَّه يظن أني لم أرَ ديوان طرفة ولم أعرف أنه قد طُبِعَ، وأنه مُسْتَعِدٌّ لإرسال نُسخة إليَّ إن احتجت إلى ذاك، ثم ينبئني من أمر هذه النُّسخة بالمفصل الذي لا بأس به.

ومع أني أشكر للكاتب الأديب فضله أجمل الشكر؛ فإني قد رأيتُ هذا الديوان الذي تحدث عنه، ورأيتُ له طبعةً أُخرى نُشِرَتْ في الخَارِج مع دواوين جماعة، من الجاهليين، فإذا كان الناس يعيبونك بما أذعت من أنك لم تر ديوان طرفة؛ فإن منهم من ظن أني لم أره، فلا يسُوءك عيب الناس لك؛ فإنِّي لا يسُوءني أن يظن الناس بي الظنون.

قال: يا سيدي أنت صاحب صِرَاعٍ وَخِصَام، وبينك وبين الناس شئون لا تنقضي، تَثبت لهم ويثبتون لك، وتصبر عليهم ويَصْبِرون عليك، وتقولُ فيهم ويقولون فيك؛ فأنتَ وما شئت من خصومتهم، أمَّا أَنَا فَلستُ من هذه الخصومات في شيء، ولا أعيبُ أحدًا فلا أُحِبُّ أن يعيبني أحد، وإذا كانت أحاديثنا عن هؤلاء الشعراء ستجر عليَّ هذا الشر الذي لا أريده ولا أقبله؛ فإنِّي زَاهد في هذه الأحاديث فلنَقْطَعها منذ اليوم.

وأَعُودُ فَأَقُولُ لك: إنِّي رَجُلٌ مثلك أكره ما تكره وأحب ما تحب، فما ينبغي أن تعرضني للوم والعيب، ولا للسخرية والاستهزاء، لا لشيء إلا لأني أتحدث إليك، وأسمعُ منك، في صراحةٍ وصدق، وفي اجتناب للتكلف والتكثر، وللتزويد والغرور.

قلتُ: وأي غرور أكثرُ مما أنت فيه؟! ها أنت ذا تُجادلني وتُحاورني، وتُسرف في الجِدال والحِوار، وتُظهر التمنع والإباء، وكَأَنَّك تُريدُ أنْ تأخذ عليَّ العُهود، وتُمْلِي عليَّ الشُّروط، وأنتَ تَعْلَمُ حَقَّ العِلْمِ أَنَّك مَدِينٌ لِهَذِهِ الأحاديث بالوجود، وأنك ما كُنت لتشهد الحياة، أو لتشهدك الحياة، لو لم أخترعك اختراعًا، وأبتكرك ابتكارًا، وأمنحك من الحياة والحَرَكة ما يُمكنك من أن تجادل وتُحاور، وتُلقي السؤال وتنتظر الجواب، وإلا فحدثني من أنت؟ ومتى كنت؟ وكيف تستطيعُ أنْ تكون إذا قطعنا هذه الأحاديث؟ وهل تظن أنَّ الناس يتحدثون عنك أو يلهجون بك أو يجادلون فيك؟ ولقد كتب إليَّ من كتب يسألني عن وجه الحق في أمرك: أموجودٌ أنت بالفعل؟ أم أثر أنت من آثار الخيال؟ وقد رفقت بك، وأشفقت عليك، فلم أُجب من سأل، وتَرَكْتُه يقدر أنك شخص موجود حقًّا.

ولعله ظن هذا، ثم رجحه، ثم صدقه، واطمأن إليه، وأي غرابة في هذا وقد انخدعت أنت عن نفسك، وظننتَ أن لك وجودًا خاصًّا مُستقلًّا، وأخذت تُناضل دُونه وتَذُود عنه، وتُمْلِي الشروط وأي شروط، فكيف بك لو أنك موجود في حقيقة الأمر؟ أفرأيتَ غُرورًا أكثر من هذا الغرور؟

قال: غروركم أنتم يا سيدي ليس أقل من غروري؛ فأنتم ترون أنكم شيء، وما أنتم في حقيقة الأمر بشيء، وأنتم تَرضَون وتسخطون، وتعرفون وتُنكرون، وتحمدون وتذمون، وتقبلون من القضاء وترفضون، ولولا القضاء ما كنتم، ولو شاء القضاء لذَهبتم من حيث أقبلتم.

فما بالك تأبى عليَّ ما أنت غارق فيه إلى أذنيك! وما بالك تُنْكِرُ مِنِّي ما تعرفه من نفسك! كلا يا سَيِّدي! لست أول من تَجَنَّى على مُنشئه، وتمرد على مُوجِده، ولم يكن لي بد من هذا التجني والتمرد؛ فقد تزعم أنك أوجدتني، فينبغي إذن أن أكون صورة صادقة لك وأثرًا دالًّا عليك، ومُختصرًا يتمثل فيه كل ما يظهر أو يخفى فيك من عيب، وما زِلتُ أُلِحُّ الآن كما كنتُ أُلِحُّ من قبل في أني لا أحب أن تتحدث عني بما تشاء دون أن تحتاط في حديثك، فتحول بيني وبين سوء الظن بي، وتَعْصِمني من هذه الأحكام الخَاطِئة التي لا أُحِبُّ أنْ أَتَعَرَّض لها، ومهما يكُن في هذا الكلام من شطط؛ فإنَّه لن يُخطئ لومك لأَنَّك لم تُحسِنْ تَصويري حين صورتني، ولا ابتكاري حين ابتكرتني؛ فقد كان ينبغي أن تُنشئ لك خصمًا خليقًا بهذا الاسم، قادرًا على أن يُحاور في غير ضعف، ويُجادل في غير جهل، ويتحدث عن طرفة بعد أنْ يكون قد قرأ ديوانه وفهم مطولته، فأمَّا أن تتخذ لك خصمًا جاهِلًا غَافلًا، ثُمَّ تَقُول وهو عَاجِزٌ عن القَولِ، وتثبت وهو عاجز عن النفي؛ فهذا شيء لا يدل على براعة، ولا على مهارة، ولا على خيال خصب قوي، ولا بأس عليك من أن أثور بك وأتنكر لك، فما زلتم جَميعًا تَثُورون وتتنكرون بمن لا ينبغي أن تثوروا به أو تتنكروا له.

والآن وقد جليتُ عن نفسي غمرتها، وتحدثتُ إليك بما كُنت أريد أن أتحدث به، فلستُ أرى بأسًا من أن نعود إلى الحديث في طرفة، ولك أنْ تُذيع من هذا الحديث ما شئت، على أن تتحفظ وتحتاط؛ فإن أبيت إلا أن تُصورني كما تعودت أنْ تَفْعَل، فثق بأني أنا المُنتصر لأني سأُرَاجِعُك، وأُرَاجِعُك، وأُلِحُّ عليك في المُرَاجَعَة حَتَّى أضطرك إلى ما أُحِبُّ، أو أنغص عليك الحديث عن الشعراء القدماء.

وما أظن أنَّك تَجْهَل أنَّ جَمَاعة غير قليلة من أَمْثَالك الكُتَّاب يخلقون الأشخاص في القصص والأحاديث خلقًا، ثم يلقون منهم شططًا، والخطأ أن تظن أني لا أوجد إلا بك، وأنك تستطيع أن تستغني عني متى شئت، فما دمت قد أنشأتني يا سيدي، فلا بد من أن تحتملني كما أنا، ولا بد أن تُذعن لبعض ما أُريد، إن لم تُذعن لكل ما أُريد، وثِقْ بِأَنَّ الأَشْخَاص الخَياليين قد يكونُون أعظم أثرًا وأشدَّ سُلطانًا على حياة الأحياء من الأشخاص الذين يستمتعون بالحياة الواقعة التي لا شك فيها ولا ريب.

وأظننا كنا نتحدث في الأسبوع الماضي عن هذه الفلسفة التي يعرضها طرفة في قصيدته، ويعتمد عليها في تفسير تلك الحياة التي كان يحياها، والتي لم تكن حياة جد مظلم، ولا حياة لهو مفسد للنفس، وإنما كانت مزاجًا معتدلًا من الجد واللهو، ومن العمل والفراغ، كانت مقسومة قسمة عادلة بين ما ينبغي لقومه، وما ينبغي لنفسه من الحقِّ عليه.

وكانت مع هذا كله حياة واضحة كل الوضوح، لا غموض فيها ولا إبهام، واضحة لصاحبها على أقل تقدير، وواضحة لكثير من الناس الذين لن تُؤثر فيهم الحَياة الدِّينية، إمَّا لأَنَّهُم لمْ يَأْلَفُوها، وإمَّا لأَنَّ نُفُوسَهُم لم تُذعن لها، وما دام الشَّاعِرُ لم يعرف أنَّ بَعْدَ المَوتِ شيئًا؛ فهو مضطر إلى أن يرى الموت آخر الحياة وغايتها، وهو مضطر إلى أن يلائم بين سيرته وبين هذه الحياة التي تنتهي إلى الموت.

والشاعر قد وفِّق إلى هذه المُلاءمة أَحْسَنَ تَوْفِيقٍ، فَأرضى قومه، وأَرْضَى نَفْسَه، وأخذ لا ينظر إلى عمله، ولا إلى سِيرَته وَلا إلى حَيَاتِهِ كُلِّها إلا اطْمَأَنَّ واسْتَرَاحَ، وأحسَّ أنه يسلك الطريق التي لا ينبغي له أن يسلك غيرها، هو ميت من غير شك؛ فليس ما يمنعه من أن يسعى إلى الموت، كما يسعى الموتُ إليه، وهو يَسْعَى إلى الموت حين يغيث المُستغيث ويَستجيب للداعي، كما أنَّه يَسْعى إلى الموت حين يأخذ بحظه من لذات الحياة، فيشرب الخمر، مُصطبحًا حينًا، ومُغتبقًا حينًا آخر، وهو يسعى إلى الموت حين ينفق من أيامه ما ينفق، مستمتعًا بلذات الحب يسيرة ساذجة كما كان يستطيع أن يتصورها، وأنْ يستمتع بها في غير تكلف ولا تصنع ولا اختراع لما لا حاجة إلى اختراعه من الخواطر والمعاني، ومن الغايات والأغراض، وهو من أجل هذا قد جعل لحياته أغراضًا ثلاثة لولاها لما حفل بالحياة، ولا اهتم لها، وهي: شرب الخمر، ونجدة المستغيث، والاستمتاع بالحب.

ولو أنه عاش في بيئةٍ معقدة غير البيئة التي عاش فيها، أو أدرك عصرًا مُعقدًا غير العصر الذي أدركه، لتغير مَثَله الأعلى في الحياة، ولابْتَغَى لنفسه لذاتٍ أُخرى غير هذه اللذات اليسيرة الساذجة.

قلت مُبتسمًا: فقد أصبحتَ أَنْتَ المُتحدث، ولم يبقَ لي إلا أنْ أَسْتَمْتِع، وما أرى إلا أنك قد تهيأت لهذا الحديث قبل أن تجيء، وما أشك في أنك لو فعلت هذا وتهيأت للأحاديث الماضية قبل أن تُقْبِل عليها لما توَّرطت فيما تورطت فيه من قصور أو تقصير، ولما لُمتني بعد ذلك في تصوير ما صورته من هذا القصور أو التقصير.

على أني أستأذنك في أن أُلاحظ أنَّك لا تقول شيئًا حين تزعم أن طرفة لو عاش في بيئة غير التي عاش فيها، أو أدرك عصرًا غير الذي أدركه؛ لكان مثله الأعلى في الحياة أرقى من هذه اللذات اليسيرة التي صورها في أبياته الرائعة:

وَلوْلا ثَلاث هُنَّ مِنْ عِيشَةِ الْفَتى
وجَدِّكَ لم أَحْفِلْ متى قامَ عُوَّدِي
فمنهُن سَبْقي العاذِلاتِ بِشَرْبَةٍ
كميْت متى ما تُعْلَ بالْماءِ تُزبدِ
وكَرِّى إِذا نادَى المُضافُ مُحنَّبًا
كَسِيدِ الغَضَا نَبهتَهُ المتوردِ
وتقصِير يومِ الدَّجن وَالدَّجْن معْجبٌ
ببهْكنَةٍ تحْتَ الطِّرَاف المُعمَّدِ
كأَن الْبُرِينَ والدماليجَ علِّقتْ
على عشرٍ أَوْ خِرْوَعٍ لم يُخضَّدِ

فواضح جدًّا أنَّ المُثُل العُليا تتغير بتغير البيئات والعصور، ولكن واضح أيضًا أنَّ الأشخاص كذلك يتغيرون بتغير البيئات والعصور، فلو عاش طرفة في بيئة غير بيئته، أو عصرٍ غَيْرَ عَصْرِهِ، لمَا كَانَ طَرفة، ولكان تغير فلسفته نتيجة لتغير شخصيته، ولكانَ مِنَ الجائز أَلَّا تُعجبنا فلسفته لو أنه صوَّرها في أبيات من الشعر كهذه الأبيات التي رويناها.

وما رَأيكَ في شاعرٍ أو كَاتِبٍ أو مُتَحَدِّثٍ يَزْعُم لك الآن أنه إنما يُحب الحَياة، ويكلف بها، ويحرص عليها؛ لأنه يستمتع فيها بالتدخين، وشرب القهوة وقراءة الكتب، أو قراءة الصحف، أو الاستماع للمُحاضرين؛ أترى أن فلسفته هذه تعجبك، أو تُرضيك مهما يتكلف في تَصْوِيرِها وتَزْيينها من أسبابِ الفَنِّ؟

إنما تُعجبنا فلسفة طرفة هذه لأنها ساذجة تمثل حياة ساذجة، ولأنَّ الشاعر قد صورها فأجادَ تصويرها، فنحن لا نعجب بمعاني هذا الشعر وحدها، وإنَّما نعجب أيضًا بلفظه الجزل، وأُسْلُوبه الرَّصِين، وأسره القوي، وآيَةُ ذَلِكَ أَنَّنا نُسَايرُ الشَّاعِرَ مُطمئنين إليه، رَاضين عَنْهُ، مُعجبين به، حتى إذا بلغنا البيت الأخير من هذه الأبيات لم نَسْتَطع أن نمنع أنفسنا من ابتسامة فيها شيء غير قليل من التسامح والتبسط؛ فإن مثله الأعلى في جمال المرأة لا يخلو مما يثير الابتسام، وما رأيك في صاحبته هذه التي تطول وتعظم تحت الخباء، حتى كأنها شجرة علق عليها الحلي تعليقًا؟

قال صاحبي: قُل إنَّ هذه الصور لا تُعجبك أنت، ولكن ثق بأنَّ بين الناس من يعجبون بها أشد الإعجاب، ولا يكرهون أن يكون مثلهم الأعلى في جمال المرأة ارتفاع القَامَةِ، وضخامة الجسم، وهذا النحو الذي يُثير مثل هذا التشبيه. قُلتُ: فدعنا من لَذَّات الشَّاعِرْ، ومن مُثُله العُليا في الحياة، وقف بنا عند هذا البيت البديع الذي يُصَوِّرُ حُبَّه للحياة، وحرصه عليها وكلفه بأنْ يأخذ من لذاته بأعظم حظ ممكن، ومن لذة الشراب خاصة قبل أن يُدركه الموت، فيقضي عليه بالظمأ الأبدي، وتقطع الأسباب بينه وبين الري.

كرِيمٌ يُرَوِّي نَفْسَهُ في حياتِهِ
سَتعْلَمُ إِن مِتْنا غدًا أَيُّنا الصَّدِي

فانظر إلى هذا النَّذِير المُؤنِس في الشَّطر الأَخِيرِ، وانْظُر إلى مِقْدَارِ مَا يُصَوِّرُ من هذه الحسرات التي لا آخر لها حين تنقطع الأسباب بينَ الحياة والأحياء، وبين اللذات والمُستمتعين بها، وانظر إلى هذه المُوازنة بين رجلين، أَحَدُهما شَرِبَ في الحياة حتى ارتوى، والآخر أخذ نفسه بالظمأ واحتمال الصدى، فأمَّا أحدهما فسيُحال بينه وبين الشُّرب إذا مات، وقد حال بين نفسه وبين الشرب قبل أن يموت، وأما الآخر فسيحال بينه وبين الشرب إذا مات، ولكنه قد ارتوى قبل أن يموت، ومن يدري! لعله يجد أثر هذا الري، ولعل حظه من الصدى أن يكون أقل من حظ صاحبه ذاك الذي حرم نفسه الري أثناء الحياة!

ثم انظر إلى هذه الأبيات وإلى ما تُصَوِّره من اليأس وما تصوره من المساواة أيضًا بعد الموت:

أَرَى قَبْرَ نَحَّامٍ بَخِيلٍ بِمالِهِ
كقَبْر غوِيٍّ في البَطَالَةِ مفْسِدِ
تَرى جُثْوَتيْن مِنْ ترابٍ عَلَيهما
صفائحُ صمٌّ مِن صفِيحٍ منَضدِ
أَرى الموْتَ يَعتامُ الكِرامَ ويَصْطفي
عَقِيلَةَ مالِ الْفاحِشِ المُتَشَدِّدِ
أَرى الْعَيْشَ كَنزًا ناقِصًا كل ليلَةٍ
وما تنقُصِ الْأَيامُ والدَّهْرُ يَنْفَدِ
لَعمْرُكَ إنَّ الموْتَ ما أَخْطأَ الْفَتى
لكالطِّوَلِ المُرْخَى وثنْياهُ بِالْيَدِ
متى ما يشأْ يوْمًا يَقُدهُ لحَتْفِه
ومَن يكُ في حَبْلِ المِنيَّةِ يَنقَدِ

أترى إلى هذه الصُّورة التي تُمَثِّلُ لك ما بين قبر البخيل الحَرِيصِ وقبر الكريم الذي يفسد ماله، ويَسْتَمْتِعُ بِحَياتِهِ، من التشابه والمُساواة؟ كلاهما جثوة تراب عليها حجارة مُنضدة، لا يفرق بينهما أن أحدهما يضم رجلًا قد حرص على ماله فأبقاه، وأنَّ الآخر يضم رجلًا قد طابت نفسه عن ماله فأتلفه إتلافًا.

فالذين يرثون مال البخيل كالذين يَرثون إعدام الكريم، لن يستطيعوا أن يُغيروا ما بين هذين القبرين من الشَّبه، ولا أنْ يمحوا ما بينهما من المُساواة.

وانظر إلى هذه الأبيات التي تبتدئ بفعل «أرى»، والتي تُصْدِرُ عن الشاعر حِكَمًا مُرسَلَةً لَا سَبِيلَ إلى إِنْكَارِهَا وَلَا إلى الجِدَالِ فيها، وإنَّما هي مُقْنِعَةٌ مُلْزِمَة، لا تحتمل مُكَابَرَة ولا مراء، وهي مع ذلك لا تسقط عليك كما تسقط الصواعق الموئسة، وإنما تنزل على نفسك كما تنزل السكينة التي تمنحك الأمن والراحة والهدوء، وانظر إلى هذا البيت خاصة:

أَرى الْعَيشَ كنزًا ناقِصًا كُلَّ لَيْلَةٍ
وما تنقُصِ الأَيامُ والدهْرُ يَنْفَد

وإلى هذا التشبيه القوي الصارم الذي لا سبيل إلى إنكاره، ولا إلى عيبه، ولا إلى الشك في طرف من أطرافه، وإلى هذا الجمال الذي يجعل الحياة كنزًا، ويجعل الأيام والليالي كأنها رجال تنقص من هذا الكنز في غير انقطاع حتى تأتي على آخره، وهي واثقة بأنها ستستنفده لأنَّها وَاثِقَة بأنَّها أطول منه بقاء.

قال صاحبي: وما ينبغي أن تهمل هذا التشبيه الذي كنتُ وما زلتُ مفتونًا به في قوله:

لعَمْرُكَ إن الموت ما أَخطأَ الفَتى
لكالطِّوَلِ المُرْخَى وثِنْياهُ بِاليَدِ

قلت: نعم، أنا أَعْرِفُ أنك مفتونٌ بهذا البيت، ولكنك تُوافقني على أن البيت الذي يليه ليس من شعر طرفة في أكبر الظن، وإنما هو تفسير لهذا البيت. قال: وما يُعنيني، إنه بيت جميل على كل حال.

قلتُ: وما دامت الحياة مُنتهية إلى هذا اليأس، وما دامت الأعمال والآمال فرصًا تنتهز، وخلسًا تُختلس، وأشياء إن لم تظفر بها حين تتاح لك فستفوتك أبدًا، فما ينبغي أن يكبر الإنسان من أمرها، ولا أن يعظم من خطرها، ولا أن يتخذها وسيلة إلى إفساد الصلات بينه وبين أمثاله من الناس، وما ينبغي للرَّجُلِ الرَّشِيدِ أنْ يعدل بالمودة الصادقة، والإخاء الكريم، والوفاء الذي لا غبار عليه، شيئًا من الأشياء، ولكن الناس يغرهم الغرور، وتفسدهم أعراض الدنيا، فيؤثرون بها أنفسهم ويضنون بها على غيرهم، ويتكلفون في سبيلها ما لا ينبغي أن يتكلفه الرجل الكريم من البخل والضيق، ونقص المروءة وإيذاء الإخوان، والتقصير في ذاتهم، والتقصير في ذات أنفسهم أيضًا، حين يكفون خيرهم عن الناس، فيجعلون حياتهم وموتهم بالقياس إلى الناس سواء.

وهذه السيرة التي يسيرها الناس المغرورون الذين تخلبهم الدنيا، وتأسرهم أعراضها، وتَصْرِفهم عن الكَرَمِ والوَفَاء، هذه السِّيرَة المُخْزِية، التي يتورط فيها أكبر الناس في كل عصر، وفي كل بيئة، والتي تفرض عليهم النفاق فرضًا، والتي تصغرهم في نفوسهم وفي نفوس نظرائهم، هذه السيرة هي التي ألهمت «طرفة» فيما يظهر، شعره هذا الجميل؛ فليس من شك في أنه قد أنشأ قصيدته وأنشدها عاتبًا على ابن عمه لهناتٍ بدت له منه، ولتقصير أحسه في بعض ما كان بَيْنَهُما من الأَمْرِ، والقُدَمَاءُ يُفَسِّرون هذه الهنات، ويقولون في هذا التقصير ما تخيلوا، أو ما نقل إليهم من قصة طرفة مع ابن عمه، أو مع أخيه، أو معهما جميعًا، في شأن هذه الإبل التي أضلها.

ولكن ما الذي يعنينا نحن من هذه القصة أن تصح على نحو ما يرويها الرواة، إنما نحن أمام شاعر يؤذيه تقصير ابن عمه في ذاته، وإيذاء ابن عمه له، وإسراف ابن عمه عليه، والتواء ابن عمه بحقوق المودة والقُربى بُخلًا وشحًّا وأثرة؛ فهو يألم لذلك، ويضيق به، ويشكو منه، ولا سيما وهو في سيرته بعيدٌ كُلَّ البُعْدِ عن هذه الخصال، مُرْتَفِعٌ كل الارتفاع عن هذه الهنات، فمن حقه أن يلقى من أكفائه ونظرائه مثل ما يلقى منه الأكفاء والنظراء.

والذي يحتقر أعراض الحياة ويصغر المال ويزدريه، بل يصغر المنافع كلها ويزدريها، ولا يُكبر إلا الخلق الكبير، ولا يُقَدِّر إلا السيرة التي هي خليقة أن تقدر؛ لأنَّها مَمْلُوءة بما ينفع الناس ويُصلح أمورهم، الرَّجل الذي لا يبخل بالمال حين يطلب إليه المال، ولا يبخل بالحياة نفْسها حين تطلب إليه الحياة، خليقٌ أن يَزْدَري البُخل والجُبن، وأن يزدري معهما البخيل والجبان، وهو خليق أن يألم حين يرى من أكفائه، أو ممن كان يعدهم أكفاءه، جبنًا وبخلًا.

وانظر إلى هذه الأبيات التي يشكو فيها طرفة سيرة ابن عمه معه، وإسراف ابن عمه عليه، وتعلله ضنًّا بالمعونة، وبخلًا بالمال والجهد:

فمالِي أَراني وابن عَمِّيَ مالكًا
مَتى أَدْنُ منْه يَنْأَ عني ويَبْعُدِ
يَلوم ومَا أَدري عَلَام يَلومُني
كما لامني في الحيِّ قُرْطُ بنُ مَعْبَدِ
وَأَيأَسَني منْ كلِّ خَيرٍ طَلَبْتُه
كأَنَّا وَضعناهُ إلى رَمْسِ مُلْحَدِ
على غير شَيءٍ قلتهُ غير أَنني
نشَدْت فلمِ أغْفِلْ حَمُولةَ مَعْبَدِ
وقَرَّبْتُ بالْقرْبى وَجدِّكَ إِنهُ
مَتى يَكْ أَمرٌ لِلنكيثَةِ أَشهَدِ
وَإِنْ أُدْعَ لِلجُلَّى أَكنْ من حُماتِها
وإن يَأْتِكَ الأَعداءُ بالجهدِ أَجْهَد

ثم يقول:

فَذرني وخُلْقِي إنَّني لك شاكرٌ
ولوْ حَلَّ بَيْتي نائيًا عندَ ضَرْغَدِ
فَلوْ شاءَ ربِّي كْنتُ قَيْسَ بنَ خالدٍ
ولوْ شاءَ ربي كنتُ عَمْرَو بْن مَرْثَد
فأَصبحتُ ذا مالٍ كثيرٍ وَزَارَنِي
بَنُونَ كِرَامٌ سادَةٌ لِمُسَوَّدِ

أفترى عتبًا أرقَّ من هذا العتب، وألمًا ألذع من هذا الألم؟ أفترى شعرًا أرق من هذين البيتين الأخيرين خاصة؟ وقد يُقال إنَّ القدماء أنفسهم رقوا لهذين البيتين، وأنَّ أحد هذين الرجلين اللذين سماهما رق له فحباه كثيرًا من المال، وإن لم يستطع أن يحبوه من الأبناء كثيرًا ولا قليلًا.

على أن الشاعر يكره أن يمضي في هذا العتب المؤلم دون أن يشوبه بشيءٍ من الفخر يثبت ما ينبغي له من الكرامة، وعِزَّة النفس، والارتفاع عن الحاجة المُذِلَّة؛ فانظر إليه كيف يقول:

أَنَا الرَّجلُ الضَّرْبُ الذي تَعِرفونَه
خَشَاشٌ كرَأْسِ الحَيَّةِ المتَوقِّدِ
فآلَيْتُ لا يَنفَكُّ كَشْحِي بِطانَةً
لِعَضبٍ رقيقِ الشَّفْرَتَين مُهَنَّدِ

وانظر إلى قوله: «الذي تعرفونه» فإني أرى فيه جمالًا لا يعدله جمال، ثم امض في قراءة هذه الأبيات التي يصف بها سيفه، فهي من أروع الشعر العربي في تصوير القوة والمَنَعة والاعتداد بالنفس.

وإذا فرغ الشاعر بعد هذا العتب وهذه الشكوى، من تصوير قوته وعزته وامتناعه على الضيم، لم يكره أن يعود إلى كرمه وسَخَائه فيُصَوِّرُهما أَجْمَل تَصْوِيرٍ وَأَرَقَّه وَأَظْرَفَه وأَدْنَاه إلى السَّذاجة واليُسر في هذه الأبيات:

وَبرْكِ هُجودٍ قدْ أَثارَتْ مخافتي
بوَادِيَها أَمْشِي بِعَضبِ مجَرَّد
فمرَّت كهاةٌ ذات خَيفٍ جُلالة
عقِيلةُ شَيخٍ كالوَبيلِ يَلَنْدَدِ
يقولُ وقدْ تَر الوَظيف وساقها
أَلسْتَ تَرَى أَنْ قدْ أَتَيتَ بمُؤْيدِ
وَقالَ أَلا ماذا ترَوْنَ بشارِبٍ
شَديدٍ علَينا بَغْيُهُ مُتَعَمِّدِ
وقال ذَرُوه إنَّما نَفْعُها له
وَإِلا تَكفوا قاصِيَ البرْكِ يزْدَدِ
فَظَلَّ الإِماءُ يَمْتَلِلْنَ حوارَها
ويُسْعى عَلينا بالسدِيفِ المُسرهَدِ

أترى إلى هذه الإبل، وقد أخذت تطمئن لولا أنَّها رأتْ هَذا الفَتَى، وهي تعلم من إتلافه لها وعُدوانه عليها ما تَعْلَمُ، فلمَّا رَأَتْهُ أشفقت منه، ومن هذا النصل المُجرد في يده، فندَّت مُتَفَرِّقة مُنْتَشِرة في الأرْضِ، تلتمس مَهْرَبًا من هذا الموت الذي يلمع في يد هذا الشاب، ومرت منها ناقة ضخمة عظيمة أمام الفتى فيعقرها بهذا السيف فتسقط، ويراها أبوه وهو شيخ حريص عاقل في غير بُخل ولا ضيق؟! فانظر إليه كيف يلوم ابنه مُداعبًا له كأنما يشجعه على هذا الكرم.

وانظر إليه كيف يتحدث إلى من حوله من مشيخة قومه مفاخرًا بابنه هذا السكران، الذي إذا شرب بَغَى على مال أبيه فأسرف في البغي، ثم انظر إليه وهو يَمْنَعُ مَنْ حَوْلَهُ مِنْ لوم الفَتَى، ولم يلومونه والمال صائر إليه غدًا أو بعد غد! فمن حقه أن يتعجل إتلافه والانتفاع به، ثم انظر إلى هذا الحي وقد أقبلوا على عيدهم يشتوون ويأكلون، ويطوف الإماء بأطايب هذه الناقة على الفتى وندمائه الذين صورهم منذ حين.

فقد عرَّفنا «طرفة» نفسه، ثم صور لنا مذهبه في الحياة، ثم عتب على ابن عَمِّه وشكا، ثم عاد إلى فخره فوصف قوته ومنعته، ووصف كرمه وجوده. وانظر إليه كيف يتحدث إلى ابنة أخيه فيقول:

فإِنْ مِتُّ فانْعَيْنِي بِما أَنا أَهلهُ
وشُقِّي عليَّ الجَيْبَ يا بنةَ مَعْبَدِ
وَلا تَجْعليني كامْرئ ليسَ همُّهُ
كهمي ولا يُغْني غَنائي ومَشهَدِي

ثم انظر إليه كيف يعود في آخر القصيدة إلى فلسفته التي كان فيها، مُجددًا تهوين الحياة، وتحقير أمرها، وتعظيم أمر الموت، وما يصور من اليأس فيقول:

أَرَى الموْتَ أَعْدَادَ النُّفوس ولا أرَى
بعيدًا غَدًا ما أَقرَب اليوْمَ منْ غَدِ
سَتُبْدِي لكَ الأَيامُ ما كنتَ جاهلًا
وَيَأتِيك بالأَخبارِ من لم تزَوِّدِ

قال صاحبي: ألم أقُل لك إنَّ هذه القصيدة من أجود الشعر وأجمله وأروعه وأرقاه!

قلتُ: وهل أريد منك يا سيدي ومن أمثالك الذين تصورهم إلا أن تعترفوا بأنَّ في الشعر القديم جمالًا وروعة وغناء ومتاعًا، لا للقُدماء وحدهم بل للمُحدثين مهما يبعد بهم العهد!

١  نُشرت بجريدة الجهاد في ٦ مارس سنة ١٩٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤