الفصل السابع

ساعة مع زهير١

قال صاحبي: أمَّا زُهَير فإنِّي أَرَاهُ قريبًا منا، يسيرًا عَلينا، لا نَجِدُ في قراءته جهدًا، ولا نحتمل في فهمه مشقة، ولا نُحس بيننا وبينه هذه الفروق العظيمة التي نحسها بيننا وبين غيره من الشعراء، ولهذا استثنيته من أصحابه القدماء منذ زمن بعيد، وقرأتُ مطولته غير مرة، وحفظتُ منها شيئًا كثيرًا، وأوشك أنْ أَكُون قد حفظتها كلها، ثُمَّ قرأتُ له قصائد أخرى غير هذه المُطولة، وما أرى إلا أن المطولة، ليست خير ما روي عن زهير من الشعر، بل ما أشك في أن في ديوان زهير قصائد هي أروع وأجمل من هذه المطولة.

قلتُ: وما دُمت تعرف زُهيرًا وتُحِبَّه، وتألف ديوانه، وتعجب بشعره، وتحفظ منه مقدارًا ليس فيه بأس، فما ينبغي أنْ نَتَحَدَّث عنه، أو أنْ نُضَيِّع الوقت فيه، والخير أن نعدل عنه إلى شاعرٍ آخر من هؤلاء القدماء الذين تظلمهم، وتتجنى عليهم؛ لأنك لم تفهمهم، أو لأنك لم تتكلف فهمهم.

قال: إن فيك لخصلتين أمقتهما منك، وأنكرهما عليك؛ فأنت لا تريد أن تتحدث إليَّ إلا في الأشياء التي لا أُحسنها ولا أُتقنها، والتي يظهر فيها فضلك عليَّ، وتقومُ فيها مني مقام الأستاذ من التلميذ، وما كنتُ أَحْسَبُ أنك مشغوف بالتفوق والرغبة في الاستعلاء قبل أن نأخذ في هذه الأحاديث. وما يضرك أن نتحدث في شيءٍ أستطيع أن أقول فيه، وتستطيع أن تسمع؟ وما بالك لا تريد أنْ تُريح نفسك من الكلام؟ فإنِّي أرى كلامك لا ينقطع، وأحب لك أن يتصل استماعك ساعة من نهار؛ فهذه إحدى خصلتيك. وخصلة أخرى لا أُحِبُّها منك، وأود لو تتخلص منها ولو قليلًا، وهي تعمدك للصعب، وقصدك إلى العسير، وازدراؤك أو انصرافك عن السهل الميسور، كأنك تُؤمن لنفسك بقوة نادرة، لا يَنْبَغِي لها إلا أنْ تُواجه المُشكلات والمُعضلات، وتتَجَافَى عن الأُمور الهينة المُمَهَّدة.

والناس يحمدون هذا أحيانًا، ويرون فيه شجاعة وجرأة وإقدامًا، ولكني أخافه عليك، وأُشفق أن تُصيبك بعض آثاره السيئة؛ فهو قد يصدر عن شجاعة وإقدام، ولكنه قد يصدر أيضًا عن غرور وإسراف في الاعتداد بالنفس، ولو أنِّي ملكتُ من أمرك بعضَ الشيء، لقمتُ مِنْكَ مقام المُعلم، ولنفعتك بهذا التعليم، فجنبتك بعض ما تتورط فيه من الشر، وأتحتُ لك بعض ما تحتاج إليه من الرَّاحة، وعلمتك أنَّ الحياة ليست كلها جهدًا ومشقة وعنفًا وعسرًا، وإنما فيها اللين والخفض، وفيها النعيم واليسر، وإلا فما تعمدك لشعر لبيد، وأمثال لبيد من هؤلاء الشعراء الذين يُحْزِنُون ولا يُسْهِلون، والذين يضطرون قارئهم ودارسهم إلى أن يُحْزِنَ كما حَزِنُوا، ويشق على نفسه كما شقوا على أنفسهم؟ فإذا عَرَضَ لك شاعرٌ سَهْلٌ قَرِيبُ المَأْخَذِ، يَسِيرُ اللفْظِ، مُحَبَّبُ المَعَانِي، زهدتَ فيه، وزهَّدت فيه الناس، وزَعمت أنه معروف مألوف، وأنَّ الخير في أن تعدل إلى من هو أقل منه وضوحًا، وأبعد منه مآلًا، كأنك ترفع نفسك عن أن تقف عند هؤلاء الشعراء الذين مُهِّد شعرهم تمهيدًا، وكُشفت أغراضهم كشفًا، وأُتيحت لنا معانيهم من قريب.

قلت: ما أظن أنَّك مُخطئ حين تستكشف لي هذه العيوب التي تحصيها من حينٍ إلى حين، وما أُبرئ نفسي من العيب، وما أظنك أنك تستكشف من عيوبي وسيئاتي إلا أقلها شأنًا، وأيسرها خطرًا، ومن يدري، لعلك لو عرفتني حق المعرفة أن تظهر مني على سيئات ما كنتَ لتظنها أو تقدرها، ولكنِّي مع هذا لا أَعتقد أنَّك ناصحٌ لي، ولا مُخلص فيما تحاول من إصلاحي، وما أظن إلا أنك تُشاركني في بعض هذا الغرور الذي تأخذني به وتنعاه عليَّ، وما أحسب إلا أنك قد ضقت بالاستماع، وكرهت هذا المقام الذي يشبه مقام التلميذ، وسئمتَ ألا تظهر للناس فيما أُذيع من أحاديثنا إلا هذا المظهر الذي أخذت تنكره منذ الأسبوع الماضي؛ فأنتَ تُريد أن تتحدث إليَّ كما تحدثتُ إليك، وأن أسمع منك كما سمعت مني، وأن يراك الناس مرشدًا إلى جمال الشعر، دالًّا عليه، مُبينًا لما فيه من المحاسن، ولست أكره أن أتيح لك هذا الذي تريده، وإنك لتخطئ إن ظننت أني أحب الكلام، وأكلف به، وأكره الاستماع، وأتجافى عنه، فالله يعلم ما أضيق بشيء كما أضيق بالكلام، وما أهيم بشيءٍ كما أهيم بالاستماع، وما ذنبي إذا كان الله قد امتحنني بالكلام، وحرمني لذة الاستماع.

وما ذنبي حين يسوقك الله إليَّ، فلا أكاد أسمع منك حتى أضطر للرد عليك، وما أكاد آخذ في ذلك حتى يتصل الكلام بي على كرهٍ مني! وها أنت ذا تنبئني بأنَّك تُحب زُهيرًا، وتكلف به، وتراه قريبًا منا؛ فأنتَ إذن ترى في شعره نفعًا، وفي قراءته وفهمه لذة، وليس بينك وبيني في ذلك خلاف، أو شيء يُشبه الخلاف، والأصل في هذه الأحاديث، أنَّها أحاديث حوار بين رجلين يختلفان في حب الشعر القديم وتقويمه، فإذا اتفق هذان الرجلان؛ فقد يحسن أن ينقطع الحوار بينهما فيما اتفقا عليه.

قال: وخصلة ثالثة يتكشف عنها هذا الحديث، وهي حبك للخصومة وإسرافك في حبها؛ فأنت لا تتصور الحوار أو لا تكاد تتصوره إلا أن يكون هذا الحوار خصومة بينك وبين من تُحدثه، ولستُ أدري، لم لا يحاور الناس بعضهم بعضًا؟ أو لم لا يُحدث للناس بعضهم بعضًا فيما يُحبون، وفيما يتفقون على إكباره، والرِّضا عنه، والإعجاب به؟ ويُخيل إليَّ أنَّ هذا فنٌّ من الكلام لم تُحسنه؛ لأنَّك نَشَأْتَ مُخَاصِمًا، فغَلَبَ عليك حب الخصام.

والخير في أن تتعلم هذا النوع من الحوار الهادئ الحلو الذي لا خصام فيه، والذي لا ينتهي بالفوز والهزيمة، ولا بالانتصار والاندحار، وأنا واثق بأنك ستجد في هذا الحوار الذي لم تألفه راحة ولذة لا عهد لك بهما، فابتسم للأيام وللناس، فلعل الأيام أن تبتسم لك، ولعل الناس أن يلقوك بغير الحذر والخوف، وليكن بعض حديثك إلى الناس صلحًا وأمنًا وسلامًا.

قلت: إنك لخصب الذهن، مُنطلق اللسان منذ اليوم، وما أرى إلا أنك قد تهيأت لهذا الحديث.

قال: وما يعنيك أن أكون قد تهيأت له، أو لم أتهيأ؟ وما يعنيك أن أكون خصب الذهن أو جدبه، مُنطلق اللسان أو معقوله؟ ألست ترى أنك ما تفتأ مشغوفًا بالخصومة، متعلقًا بأسبابها! تجدُّ حينًا فتكون مرًّا، وتسخر حينًا فتكون لاذعًا! ألست ترى أنك خليق أن تظهر لنا ناحية من نواحي نفسك لا مرارة فيها ولا لذع! فإنَّ اتصال هذه الخشونة مِنْكَ قد يُؤذي الصديق، ويسئم الخليط، وقد ينتهي إلى عزلة تكرهها.

قُلت: سمع الله لك، وعفا الله عنك! فما أعرف أني أُحب شيئًا أو أَتمناه كما أُحب أن يُتاح لي حظٌّ من العزلة، وأرجع فيه إلى نفسي، وأستريح فيه من هذه الحياة الاجتماعية التي سَئِمْتُ تكاليفها، وآذتني أثقالها.

قال: فإنك لم تعش بعدُ ثمانين حولًا لتسأم كما سَئِمَ زُهير، قلتُ: وأين تقع تلك الثمانون التي عاشها زهير، فملأت نفسه سأمًا ومللًا وضيقًا، من عشرين سنة أو عشر سنين أو خمس سنين نعيشها نحن في هذه الأيام! إنَّ الناس يَزْعُمون أنَّ أعمارهم تقصر بالقياس إلى أعمار القُدماء، وقد يَصِحُّ هذا في الحساب وعدد الأيام والشهور والسنين، ولكنه لن يصح في حقيقة الأمر، وقد كانت أيام القدماء فارغة بالقياس إلى أيامنا، وقد كانت أعْوَامَهُم لا تُعد شيئًا بالقياس إلى أعوامنا، وأي شيء أيسر من أن تقيس يومًا من أيامنا في القاهرة إلى يوم من أيام أهل المدن في الأقاليم، ومن أنْ تقيس يومًا من أيام أهل المُدن هؤلاء إلى يوم من أيام أهل القرى والريف، وأن تقيس يومًا من أيام أهل القرى هؤلاء إلى يوم من أيام أهل البادية في نجد أو في الحجاز، فترى أنَّ ساعاتنا أيام، وأنَّ أيامنا شهور، وأنَّ أعوامنا عصور طوال بالقياس إلى أزمنة أهل البادية.

فإذا سَئِمَ زُهَيرٌ لأنَّه عمر ثمانين عامًا، وإذا سئم لبيد لأنه تجاوز المائة، فمن حقنا أن نسأم حين نعيشُ أعوامًا قَليلة تبلغ العشرة أو تزيد عليها شيئًا.

قال: كلا يا سيدي! فليسَ في حَيَاتِنَا من الاطراد والتَّشابه مثل ما في حياة أهل البادية، وتشابه الأوقات والأحداث وطلوع الشمس عليك اليوم بمثل ما طلعت به عليك أمس، وغروب الشمس عنك غدًا بمثل ما تغرب به عنك اليوم، هو الذي يُغري بك السأم ويبسط عليك سُلطانه، فأما أن تستقبل اليوم بغيرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ به أمس، وأنْ يَلْقَاك الليل بغير ما لقيك به النهار، وألا تقدم على ساعة من ساعات اليقظة إلا بغير ما أقدمت به على الساعة التي سبقتها، وبما ستقدم به على الساعة التي تليها، فهذا خليق أن يتعبك ويضنيك، لا أن يُثير في نفسك سأمًا ولا مللًا.

وقلت: فهبني أخطأت الصواب في التعبير، ووضعتُ السأم مكان التعرب، ولكن ألستَ تَرى أنَّ العدوى قد مستك، وأنَّك أَخَذْتَ تلتمس الخُصُومة، وتتعلق بأَسْبَابِهَا، وتتكلف ما يُتِيحُ لك الفوز والاستعلاء؟ قال:

عن المَرءِ لا تسْأَلْ وَسَلْ عنْ قَرِينِه
فكلُّ قَرِينٍ بالمقَارِنِ يَقْتَدِي

قلتُ: ما أكثر هذه القافات، كأنما نحنُ في صحن الأزهر الشريف! أو عند القبلة القديمة، خذ بنا في الحديث عن زُهير إنْ شِئْتَ؛ فإني أخشى إنْ مَضَيْنَا في هذا الحوار أنْ تَأْخُذنا القافات من كل وجه، قال: فَإذا لم نبعد عن زُهير منذ بدأنا هذا الحديث؛ فإنِّي أَدْعُوك إلى إيثار السلم، وتجنب الحرب والخصومة، وهل أنشأ زهير مُطولته إلا في هذا! وأي بأس عليك في أن تخلق بيئة يملؤها السلم والأمن، أو الرغبة في السلم والأمن، قبل أن نتحدث في هذه القصيدة التي يدعو صاحبها إلى السلم والأمن!

وهذه خصلة أخرى من خصالك التي أود لو تخلص منها؛ فأنتَ لا تحب التَّبَسُّط، ولا الأناة، ولا التهيؤ الهادِئ المُترف لِمَا تَأتى منَ الأَمْر، أو تَستأنف من الحديث، وإنما تَدفع نفسك إلى ما تُريد دفعًا، وتهجم بها على ما تبتغي هجومًا، لا تمهد الطريق، ولا توطئ المجلس، ولا تُحب خلق البيئة كما يقول الفرنسيون.

أنت عاجل مُندفع، وما ينبغي أن يُدْرَس الشعر على عجل، ولا أن يُذاق الشعر بالاندفاع، إنَّما يَنْبَغي أنْ يَتهيأ دارس الشعر للشعرِ، وأنْ يَسعى إليه رفيقًا به وبنفسه؛ فقد تضر العجلة، ويسوء الاندفاع، وقد يُراع طائر الشعر فيرتفع، ثم يَمضي في الجو حتى إذا بلغت موقعه لم تجد شيئًا.

قلتُ: ونستطيع أن نمضي في هذا الحديث على هذا النَّحو، لا أَقولُ شيئًا إلا كشفت من ورائه عن عيب، حَتَّى إذا فَرَغْنَا منه، كنتَ قد أحصيت عليَّ طائفة من العيوب، ولست أرى بذلك بأسًا لولا أنِّي أَظُنُّ أنَّا إنما التقينا لنتحدث عن زهير لا عني.

قال: فهل نتحدث إلا عن زهير! ألستَ تُلاحظ أني حين أُذكرك بما ينبغي من خَلْق البيئة وتَهْيئة الجو، إنَّما أُمْعِنُ معك إمعانًا في درس زهير؟ فقد كان زُهير من أقدر الشعراء القدماء على خلق البيئة هذه، وتهيئة الجو الشعري، قبل أن يمعن بالسامعين فيما يقصد إليه من الأغراض، وأي خلق للبيئة وأي تهيئة للجو، وأي إعداد للسامعين والقارئين، أبرع من هذا القسم الأول من قصيدته المطولة، إنه يعمد إلى هذا في رقة وظرف ورفق، وفي وداعة نفس وحلاوة روح، تُثير في نفسك هذه الأشجان الهادئة الرقيقة التي تخرجك عن طورك العادي، ولا تبلغ بك الحزن الممض، ولا اليأس المهلك، ولا الأسى العميق، وإنما هي تحيي في قلبك طائفة من الذكرى البعيدة، التي طال عليها العَهْدُ، فلم يُبْلِهَا ولم يفتها ولم يمحها، وإنَّما خفف من حدتها، وجَعَلَها خَليقة أن تُثير في النفس شوقًا حلوًا، وحزنًا هادئًا، لا لوعة مُحرقة.

انظر إليه وهو يتخيل أنه مَرَّ بآثارٍ لم يعْرِفها، فيلقاها بالحزن الصريح، والبكاء الصريح، لم يجهلها فيمر بها غير حافل ولا مُكترث، وإنما هو يشك فيها، فيقف عندها، وينظر إليها، ويسأل عنها، وما يزَال يَنْظُر ويَسْتَقْصِي، وما يزال يُفَكِّر ويسأل، حتى يكد نفسه ويجهدها، ولكنَّه يَنْتَهِي بعد الكد والجهد إلى معرفة الدار. وأي غرابة في ذلك؟ لقد بَعُدَ العَهْدُ بها؛ فهو لم يرها منذ عشرين عامًا، وفي عشرين عامًا ما يغير المعالم، ويمحو الآثار، وفي عشرين عامًا ما يُنْسِي المَأْلُوف، ويَصْرِفُ عَمَّا لم يتعود الناسُ أنْ يَنْصَرِفوا عنه.

فحسب زُهير أنَّه استطاع أنْ يلتفت إلى الدار حين مرَّ بها، وأنه استطاع أن يقف عندها، ويسأل عنها، ويُطيل الوقوف، ويُلح في السؤال حين التفت إليها، وهو بعد ذاك، يُصَوِّر ما بَقي من هذه الدار تصويرًا هادئًا أيضًا.

فزُهير في هذه القصيدة كلها هادئ، بل هو في شعره كله هادئ، وليس من شك في أنه أطال الوقوف، وألح في السؤال، وأحسَّ حُزنًا مهما يكن هادئًا؛ فقد كانَ طويلًا مُلِحًّا، ولكنه على ذلك لا يريد أن يجهدك، ولا أن يَشُقَّ عليك؛ فهو يجتزئ باليَسير من هذا التصوير، باليسير الذي ألفه الناس، ويُؤديه إليك في لفظٍ سهل، ليقرب نفسك إلى نفسه، وليهيئك تهيئة حسنة، لتسمع له، وتفهم عنه:

أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمنَةٌ لَمْ تَكلِّمِ
بِحَوْمانَةِ الدَّرَّاجِ فالمُتَثَلِّمِ
دِيَارٌ لها بالرُّقْمتَيْنِ كأَنَّها
مرَاجِعُ وَشْمٍ في نَواشِرِ مِعْصَمِ
بها العِينُ والأرآمُ يَمْشِينَ خِلفَةً
وَأَطْلاؤُها ينْهَضْنَ من كل مَجْثَمِ
وقَفْتُ بها من بعدِ عِشْرِينَ حِجَّةً
فَلأيًا عرَفتُ الدارَ بعد تَوَهُّمِ
أَثافِيَّ سُفعًا في مُعَرَّس مِرْجَلٍ
وَنُؤْيًا كجِذْمِ الحَوْضِ لم يتَثلَّمِ
فلمَّا عرفْتُ الدَّارَ قلتُ لربعِها
أَلا انعمْ صباحًا أيها الرَّبْعُ واسْلَمِ

فهذه المعاني كلها مألوفة شائِعَةٌ بينَ الشُّعَراء، فتَشْبِيه الرُّسُومِ البَاقية في الأطلال البالية بِرَجْعِ الوَشْمِ عَلى المِعْصَم أو على ظَاهِرِ اليَدِ كثير، وتصوير الدار آهلة بالوحش بعد أنْ كانت آهلة بالأحِبَّاء كثيرٌ أَيْضًا، وتَسْمِيةُ هذه الآثار القليلة التي بقيت ولم يمحها قدم العهد، كهذه الأثافي التي كان يقام عليها المرجل، وهذه النؤي الذي كان يعصم الحباء من الماء، كثيرة شائعة أيضًا.

ولكن ظرف زهير في أنَّه لَمْ يطل في وصفِ هَذَا كُلِّه، وإنْ أَطَالَ الوقوف عنده، والنَّظر فيه، وإنما لمح هذا في شعر لمحًا، واختلس منه بعض الصُّور اختِلاسًا، فكانَتْ صُورًا جميلة، منها الرائع الذي يبعثُ في النفوس بهجة، ومنها القاتم الذي يبعث فيها حُزنًا وأَسى، فصورة هذه الوحش التي اتخذت الدار مرتعًا ومقامًا، فهي تمشي فيها خلفة، أي في جهات مُتضادة، وأطلاؤها الصغار ينهض من هنا ومن هناك، جميلة تُثير البهجة في النفوس لما فيها من تمثيل الحياة الطبيعية، وما يضطرب فيها من حركات هذه الوحش التي تقبل وتدبر، وتجثم وتنهض، مُتأثرة بغرائزها، وهذه البهجة نفسها لا تخلو من حزن؛ فإن هذه الوحش إنَّما تنعم بالحياة والحرية في ديار قد كان ينعم فيها بالحياة والحرية قوم أحبهم الشاعر وأحبوه، ثم أزعجوا عنها وانقطع عهدهم بها.

وصورة هذه الآثار التي قاومت البلى، وبقيتْ عَلَى بُعْدِ العَهْدِ، وهي قليلةٌ جدًّا، هي هذه الأثافي وهذه النؤي، هذه الصورة قاتِمَةٌ، مُثِيرَةٌ للحُزْنِ المُظْلِمِ حَقًّا، ثم انظر إلى تحيته لهذه الدَّار بعد أنْ عرفها، كيف يؤديها في ظرف ودعة، وفي لفظ جميل يسير، لا جهد فيه ولا عناء:

أَلا انعِمْ صَباحًا أَيها الرَّبْعُ واسْلَمِ

وقد زعمت لك أنَّ زُهيرًا هادئ في قصيدته هذه كلها، هو في أولها محزون مُذعن لصروف القضاء، وهو في آخرها حكيم يُفكر في الحياة والأحياء، ويَسْتَخْرِجُ من تفكيره هذا العبر والعظات، وهو بين ذلك يمدح الأخيار، ويشجعهم على حُبِّ الخير، ويدعو النَّاس إلى أنْ يتواصلوا بالبر والمعروف، ويتناهوا عن الإثم والعدوان، فنفسه حين كان يُنشئ هذه القصيدة، نفس الحكيم المطمئن، الذي لا يزدهيه فرح ولا حزن، ولا تستخفه عاطفة مهما تكن.

وانظر إليه كيفَ عرف الدار بعد جهد فحياها في هدوء، ثم لم يستخفه الشوق، ولم يخرجه الطرب عن طوره، وإنَّما وَقَفَ مُفَكِّرًا مُتَذَكِّرًا، ثُمَّ أَحْيَا مَا كَانَ في نفسه من الذكرى، وبعثَ فيه حركة ونشاطًا، وخيل إلى نفسه أنه يعيش مع صاحبه في تلك الأَيَّام أو في ذلك اليوم الذي ارتحل فيه أحباؤه عن هذه الديار؛ فهو يراهم، وهو يتبعهم طرفه، حتى إذا بعدوا عنه، وفاتوا مرمى الطرف، أتبعهم نفسه، ورافقهم في سيرهم من قريب، وهو يُصور لنا هذا كله في طائفة من الصور، قريبة يسيرة مألوفة، ولكنها على هذا أو لهذا جميلة حقًّا:

تَبَصَّرْ خَليلي هل تَرى منْ ظَعائِنٍ
تَحَمَّلنْ بالعَلياءِ من فَوْقِ جُرْثمِ
جَعلن القَنانَ عنْ يَمين وَحزْنَهُ
وَكمْ بالقَنَانِ من مُحِلٍّ ومُحْرِمِ
علَوْنَ بأَنْماطٍ عِتَاقٍ وَكِلَّةٍ
وِرَادٍ حواشِيها مشاكِهةِ الدَّمِ
ظَهرْنَ مِن السُّوبانِ ثمَّ جَزَعْنه
عَلى كلِّ قَيْنِيٍّ قَشِيب وَمفْأَمِ
وورَّكْن في السُّوبانِ يَعْلُونَ مَتْنَه
عَليْهنَّ دَلُّ النَّاعِم المُتَنَعِّمِ
بكرْن بكُورًا واسْتحَرن بِسُحْرَةٍ
فهُنَّ لوادِي الرَّسِّ كالْيَدِ للْفَمِ
وفِيهنَّ مَلهًى لِلصَّدِيقِ ومَنْظَرٌ
أَنِيقٌ لِعيْن الناظِرِ المتُوسِّمَ
كَأَنَّ فَتاتَ الْعِهنِ في كلِّ منزِلٍ
نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ الْفَنَا لَم يُحطَّمِ
فلمَّا وَرَدنَ الْماءَ زُرْقًا جِمامهُ
وضَعْنَ عِصِيَّ الْحَاضِرِ المتَخَيِّمِ

أرأيت كيف رسم لأحبائه الطريق التي سلكوها؟ أو كيف رافق أحباءه في الطريق التي سلكوها، يتبعهم بطرفه أولًا، فيصفُ رَكْبَهم وقد بَعُدَ عنهم، ثُمَّ يُسَايرهم من قريب، فيصفهم وصف المُرافق لَهُم، وأي وصف، بريء من كل تكلف، حر من كُلِّ قَيْدٍ، يظهر عليه من السذاجة ما يخيل إليك أن صاحبه لم يتكلف فيه عناء، ولم يحتمل فيه جهدًا، ولم ينفق فيه وقتًا، ولكن احذر أن تنخدع، فلم يكن زهير من هؤلاء الشعراء الذين يقولون في غير تكلف ولا عناء، إنَّما كان صاحب فن وتجويد، وهو صاحب الحوليات فيما يقول الرواة.

إنما آية البراعة الصحيحة في الفن، أن تتكلف الجهد، وتحتمل العناء، ثم تخدع الناس عن ذلك، فتخيل إليهم أنك قد أنشأت ما أنشأت كأنه جاء عفو الخاطر، وأي سذاجة أحلى من هذا البيت:

كأَن فتَاتَ الْعِهن في كلِّ منزلٍ
نزَلْنَ بِهِ حَبُّ الْفَنا لم يُحَطَّمِ

أترى إليه كيف آثر هذه القطع من الصوف التي كانت تسقط من أهداب ما كان يُنشر على الهواج من الثياب والأنْمَاط؟ فوقف عندها، وشَبَّهَها هذا التَّشْبِيهَ الظَّرِيفَ بحَبِّ الفنا، أو بعنب الثعلب، إن كنت في حاجة إلى التفسير! ثم أي سذاجة أصدق في تمثيل الحب والشوق والرَّغبة معًا من هذا البيت؟

وفِيهِنَّ مَلهًى لِلصَّديق ومَنْظَرٌ
أَنِيقٌ لِعَيْنِ النَّاظرِ المتوَسِّمِ

ثم انظر إلى هذا البيت الذي ختم به قصته القصيرة الجميلة:

فَلما وَرَدْنَ الْماءَ زُرقًا جمامُه
وَضَعْنَ عِصِيَّ الْحاضِرِ المُتَخَيِّمِ

ولماذا قصر هذه القصة؟ وأوجز الوصف لهذه الرِّحْلَة؟ ومَا باله نَسِي ناقته، أو أَعرضَ عنها فلم يصفها سَاكِنَة ولا مُتَحَرِّكَة، ولم يَمْضِ في هذه التشبيهات التي تعوَّد الشُّعراء أنْ يَمْضُوا فيها؟ لأنَّه عن هذا كله مشغول، مشغول، لا أقول بمدح صاحبيه اللذين مدحهما، بل بالدعوة إلى السلم التي يحبها، ويكلف بها، ويُريد أن يحببها إلى النَّاس، ويتَّخذ مَدح صَاحِبيْهِ هَذين وسيلة إلى ما يُريد.

ولستُ أريدُ أنْ أَتَحَدَّثَ إِليكَ عَنْ مَدْحِ زُهير في هذه القصيدة؛ فهو مدح لا حظَّ لَهُ من هذه البراعة الشِّعرية التي نعرفها لزُهير، وإنَّما يَلْتَمِس مَدح زُهير في قصائد أخرى، لم تَشْغَله فيها الحكمة عن الحياة الواقعة، ولم تشغله فيها الجماعة عن الفرد، ولم تشغله فيها المنفعة العامة عن منفعته الخاصة.

أمَّا في هذه القصيدة فزُهَيرٌ شَاعِرُ قومه وهو يتحدث عنهم، ويتحدث إليهم، وهو يصرفهم عما يكرهون، وعما يكره لهم، وعما يدفعون إليه بهذه الأحقاد التي لا تُريد أن تُخمد، وهذهِ الحَزَازَاتِ التي لا تُريد أن تنقضي، وهذه الدِّماء التي لا تُريد أن تَجِفَّ، وهو من أَجْلِ ذلك، لا يفرغ لهرم، ولا للحارث، إلا من حيث إنهما قد نصرا السلم، وعصما قومهما من الفتنة والفساد.

ولست أحب أن أقف من كل هذا القسم الجميل من قصيدة زهير إلا عند قطعتين اثنتين، إحداهما هذه التي يصف فيها الحرب فيقول:

أَلا أَبْلِغِ الأَحْلاف عَنِّي رِسالَةً
وَذُبيان هَلْ أَقسَمْتُمُ كل مُقسَمِ
فَلا تَكتُمُنَّ اللهَ ما في نُفُوسكُمْ
ليَخْفَى ومَهَمْا يُكتَمِ اللهُ يَعْلَمِ
يُؤَخرْ فَيوضَعْ في كِتابٍ فَيُدَّخَرْ
ليَوْمِ الْحِسابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَينْقَمِ
وَما الْحَرْبُ إِلا ما علِمْتُمْ وذُقتُمُ
وَما هُوَ عَنْها بالْحَديثِ المُرَجَّمِ
مَتَى تَبْعَثوها تَبْعثوها ذمِيمَةً
وتَضْرَ إِذَا ضرَّيْتمُوها فَتَضْرمِ
فَتَعْرُكْكُمُ عَرْكَ الرَّحَى بِثفالِها
وَتَلْقَحْ كشَافًا ثمَّ تُنْتَجْ فتُتئمِ
فَتنْتَجْ لكمْ غِلمانَ أَشْأَم كلُّهمْ
كأَحْمَر عادٍ ثم تُرْضعْ فَتَفْطمِ
فَتغْلِلْ لَكمْ ما لا تُغِل لِأَهْلِها
قُرى بِالْعِراقِ مِنْ قَفِيزٍ وَدِرْهمِ

فزهير في هذه الأبيات شيخ مجرب، طويل التَّجربة، كثير الانتفاع بها، وهو شيخ بدوي، تجاربه طويلة نافعة، ولكنها على ذلك قليلة في النوع، لم يجرب إلا أمور البادية، ثم هو بعد ذلك، وقبل ذلك كله، شاعر يحس الأشياء حسًّا قويًّا، وَيَشْعُر بها شُعورًا عنيفًا، ويصورها تصويرًا رائعًا، فانظر إلى هذه التشبيهات التي تزدحم، حتى يكاد بعضها أن يَرْكب بعضًا، كما تقول أنت في بعض ما كتبت عن زهير، فالحرب مُشَبَّهة بالرَّحى، وهي مشبهة بالناقة، وهي مشبهة بالنار، وهي مشبهة بالأرض الخصبة التي تغل لأهلها الغلة الموفورة، وكل هذا في لفظ جزل وسهل معًا.

وأما القطعة الثانية فهي قصة حصين بن ضمضم هذه التي صورها أجمل تصوير وأروعه وأصدقه في تمثيل حياة أهل البَادِية، فحُصَين بن ضمضم هذا مَوتُور، قد قُتل أخوه في بني عبس، وقد تصالح القوم، واستقرت بينهم السلم، ولكنه هو لم يرضَ عن الصلح، ولن يرضى حتى يثأر لأَخِيه؛ فهو يَكْتُم أَمْرَه في نَفْسِهِ، ويَنْتَظِر حتى تَسْنَحَ له الفُرصة، وما أسرع ما تسنح له الفرصة! وإذا هو يظفر برجل من عدوه فيقتله، لا خائفًا ولا مُتأثمًا؛ فهو يعلم حق العلم أنَّ قومه لن يخذلوه، وكان يعلم حق العلم أنَّ قومه سيمنعونه من اقتراف الإثم إن علموا به قبل وقوعه، فليكتمهم الأمر إذن، وليضعهم أمام الأمر الواقع كما يقول المُحْدَثون، وها هو ذا قد فعل، وهؤلاء عدوه قد ركبوا يطلبونَ القِصاص، وهؤلاء قومه قد أزمعوا نصر صاحبهم، ولكن هرمًا والحارث يكرهان الحرب، ويُريدان لقومهما السلم، فهما ينهضان بجناية حصين حتى يرضيا عبسًا.

فانظر كيف صور زهير هذه القصة:

لعمري لنِعمَ الْحيُّ جرَّ عليهم
بما لا يواتِيهم حُصَيْن بْنُ ضَمْضمِ
وكان طوى كَشْحًا على مسْتكِنَّةٍ
فلا هو أَبداها ولم يتجَمْجمِ
وقال سَأَقضِي حاجَتي ثُمَّ أَتَّقِي
عَدُوِّي بِأَلْفٍ مِنْ وَرائِيَ ملْجَم
فشدَّ وَلَمْ يُفْزِع بُيُوتًا كثِيرَة
لَدَى حَيثُ أَلْقَتْ رَحْلها أُمُّ قَشْعَم
لَدَى أَسَد شاكِي السلاحِ مُقَذَّفٍ
لَهُ لِبَدٌ أَظْفارُهُ لم تُقَلَّمِ
جَريءٌ مَتَى يُظْلمْ يُعاقِبْ بِظلْمِهِ
سرِيعًا وَإِلا يُبْدَ بِالظلْمِ يَظْلمِ

ألست ترى في هذه الأبيات أجمل صورة، وأكملها للرجل البدوي، الذي يجمع إلى الشجاعة والإقدام، مَكْرًا ودهاء وثقة بالنفس، واعتمادًا على القبيلة وقُدرة على الكتمان؟ فهذا الأعرابِيُّ حُصَين بن ضمضم قد رأى الصلح فلم يُنكره جهرة، ولم يعرفه فيما بينه وبين نفسه، وإنما طوى كشحه على خطة دَبَّرَها وَأَحْكَمَ تَدْبِيرَها، ثم أَخفَاها وأَحْكَمَ إخفاءها، لم يُصرح بها ولم يشر إليها، وإنما أسرَّها بينه وبين ضَمِيره، واستوثق مِنْ أَنَّها نَاجِحَة، ومن أنه آمن بعد من إنفاذها، أليس من ورائه قومه يحمونه راضين أو كارهين بألفٍ من الخيل؟

فلما أتم خطته، أقدم وهو قوي قادر على الإقدام، هو أسد مقذف، يقذف نفسه ويقذفه قومه كُلَّما جد الجد، لم يُقَلِّم أظفاره خوف، ولم يقلم أظفاره أمن، لا يَهَابُ حَرْبًا، ولا يُذْعِنُ لِسِلْمٍ، لَا يَرْضى من ظالم ظُلمًا، ولا يطمئن إذا مسه الظلم، حتى يُعَاقِبَ الظَّالم؛ فإن لم يظلمه أحد فهو لا يتحرج من أن يظلم الناس، وفي هذه الأبيات جزالة لفظ تملأ الفم دون أن تتعبه، وتروع السمع دون أن تشق عليه.

ثم انظر إلى هذين البيتين اللذين أُعجبت بهما إعجابًا قويًّا في بعض كُتُبِكَ، واللذين أُعجب بهما أنَا إعجابًا لا حَدَّ له، واللذين يُصَوِّر الشاعرُ فيهما حياة هؤلاء النَّاس الذين لا يكفون عن الحرب إلا ليستعدوا لها، ولا يُقْدِمُون على الحرب إلا ليتحملوا أثقالها وآلامها، حتَّى إذا بَلَغُوا من ذلك حظهم الذي لا زيادة فيه لمُسْتَزِيدٍ، لجئوا إلى السلم يُجَدِّدون فيها قوتهم، ويَسْتَكملون فيها عُدَّتَهم، ثم استأنفوا نَشَاطَهُم للحرب من جديد:

رَعوْا ما رعوا مِنْ ظِمْئهمْ ثُمَّ أَوْرَدُوا
غِمارًا تُسِيلُ بِالرِّماح وَبِالدمِ
فَقَضَّوْا مَنَايَا بَيْنَهُمْ ثُمَّ أَصدَرُوا
إلَى كَلَإٍ مُسْتَوْبَلٍ متَوَخَّمِ

ويعْجِبُني هذا التمثيل البديع الذي يُشتق اشتقاقًا من حياة البَادية، ويُضْرَبُ فيه المثل الأعلى بأقطاع الإبل إلى رعيها إياها، ثم ورودها الماء، ثم انصرافها إلى الرَّعي، لتَرِدَ المَاءَ إذا أدركها الظمأ، وهكذا ما تنفك مُضطربة بينَ إيرَادٍ وإصدار، ولكنها لا ترد ماء صفوًا، وإنما ترد غمارًا تسيل بالدم وبالرِّماح، وهي لا ترعى عشبًا هنيئًا، وإنما ترعى كلأ وبيلًا كله علل وأدواء.

قلتُ لصاحبي: ألا ترى أنك قد ألقيت مُحاضرة طويلة عن زهير، أو عن قصيدة زُهير هذه؟ أَوَلَا ترى أَنَّك قد بلغت من الحديث في غير مُقاطعة ولا مُحاورة ما يُرضيك، ولكنْ أَلَا تَسْمَح بعد أن أصبح الأمر كله لك، أن أنبهك إلى أن في هذه الأبيات التي ترويها لزُهير، وتُطِيل في تَفْسِيرها وتَحليلها، شَيئًا كثيرًا من الخَلْطِ والاضطراب! فألفَاظٌ تُوضع مَكَانَ أَلْفَاظٍ، وأَبْيَاتٌ تقدم حيث يجب أن تتأخر، وأخرى تُؤخر حيث يجب أن تتقدم، ألا تظن أنَّ منَ الخير أن تُحَاوِلَ إِصْلَاحَ هذا الاضطراب أو تَعْلِيلَهُ، أو التماس أَثَرِهِ في صحة القصيدة أو نحلها؟

قال مُغضبًا، وقد ضرب يدًا بيد: كَلَّا يا سَيِّدي! كل هذا لا يعنيني، وإنما يعنيك أنت، ويعني أمثالك من الذين يدعون اللباب، ويتعلقون بالقُشور، ويُرِيدُون أنْ يُصَحِّحُوا هذا النَّص، ويقدحوا في ذاك، وما يعنيني من هذه الثرثرة إذا كان النص في نفسه جميلًا، يُعجبني ويبعث في نفسي من الحياة والنشاط، ومن اللذة والمَتَاع، مَا أَنَا في حاجة إليه، ومن زعم لك أنِّي طالِبٌ من طلاب الجامعة أتعلم عليك وعلى زملائك تحقيق النصوص؟

قلتُ: فإنِّي أَخْشَى أنْ تَكُون هذه القَصِيدَة مِنْ شِعْرِ زُهير قد فتَنَتْكَ وصَرَفَتْكَ عن غيرها من روائع هذا الشاعر القديم، فلزهير مدح، من الحق أن يستكشف عما فيه من الجمال، ولزهير وصف، ليس أقلَّ دقة ولا قوة ولا حياة من وصفِ لَبِيدٍ، ولِزُهَيرٌ غَزَلٌ أَيْضًا، لَا يَخْلُو مِنْ عَاطِفَةٍ رَقيقة قَوِيَّةٍ. قال، وهو ينهض وقد ملأ فاه بضَحِكٍ فيه شيء غير قليل من الاعتداد بالنفس: فلستُ أَكْرَهُ أنْ نَتَحَدَّث في ذلك، ولستُ أكره أن أدع لك الحديث في ذلك إذا كان الأسبوع المقبل.

ثم انصرف عني، وهو راضٍ عن نفسه كل الرِّضَا، فَذَكَرتُ لِقَاءَهُ في الأُسْبُوع المَاضِي، حين أقبل عليَّ وهو سَاخِطٌ عليَّ وعلى نَفْسِهِ كُلَّ السخط، وحمدت لزُهير ولشعر زهير أثرهما في هذا الكائن الغريب.

١  نُشرت بجريدة الجهاد في ١٣ مارس سنة ١٩٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤