الفصل الثامن

ساعة أخرى مع زهير١

قلتُ لصاحبي: إنَّ ما بقي لنا من شعر زُهير هو الذي حفظه الدِّيوان، وقد ذَهَبَ أكثره في المَدْح، وقليلٌ منه في الهجاء، وأَقلُّه في الرثاء، وبعضه فيما يعرض من هذه الأحداث التي كانت تدْفَعُ البَدَوِيَّ لِقَوْلِ الشَّاعِرِ، ولم يكد يعرض زهير فيما حفظ لنا عنه على الأقل بهذا الشِّعر الخالص الذي لا يُريدُ الشَّاعِرُ به إلا الغناء، وتصوير ما يضطرب في النفس من خواطر، ويثور فيها من عواطف، هذا الشعر الذي لا يتخذه الشاعر وسيلة إلى غرض من أغراض الحياة، أو عرض من أعراضها المألوفة، وإنَّما هو غاية في نفسه، لا يقصد الشاعر به إلى غيره، هو يحس ويشعر ويفكر، وهو يريد أن يُصَوِّر ما يجد من حس وشعور وتفكير.

والمَعْرُوف من سِيرَةِ زُهير، إن صح أن نسمي ما حفظته كتب الأدب من أخباره سيرة، أنَّه كَانَ كَثير المَدْح، انقطع إلى جَمَاعَةٍ مِنْ أشراف غطفان فاستنفد في مدحهم أكثر ما قال من الشعر، وكانَ يتكسب بهذا الشعر، وكان يُفيد عنه مالًا كثيرًا، والمَعْرُوف كذلك مِنْ أَمْرِ زُهير، فيما يَرْوِي الرُّواة، أنَّه كان مُجودًا، شَدِيدَ العِنَايَةِ بِشِعْرِهِ، يُطِيلُ التهيؤ له، والعمل في إنشائه، ثم يطيل النظر فيه، ثم يناله بالحذف والإصلاح حتى يستقيم له، ثم ينشره بعد ذلك ويُذيعه في الناس، وما بقي لنا من شعر زهير يصدق هذا المعروف من سيرته، ويحقق ما تحدث به الرواة.

فديوان زُهير مملوء بمدح الأشراف من غطفان، وبمَدْحِ هرم بن سنان وقومه خاصة، ونحنُ حين نقرأ هذا الشعر نُحِسُّ فيه العَمَل، ونتبين فيه الصنعة، ولا نشُكُّ في أنَّ صاحبه قد تكلف في إنشائه وتجويده جهدًا غير قليل.

ولكن زهيرًا مع أنه لم يكد يقصد في شعره إلا إلى المدح والهجاء والرثاء، قد مسَّ فُنونًا أُخرى مِنَ الشِّعْرِ في مُقدمات قَصَائِدِه، فَأَحْسَنَ مَسَّها، بلْ عَالَجَهَا فَأَحْسَنَ عِلَاجَهَا، ووفق فيها لإجادة قَلَّما أُتِيحَتْ لِغَيْرِهِ مِنَ الشُّعراء الذين عاصروه، لا ينبغي أن نستثني من ذلك إلا أفرادًا من الفحول الذين حفظ لنا من شعرهم شَيء غير قليل، ولو قد حُفظ لنا شعر زهير كله أو أكثره لكان من الجَائِز بل من الرَّاجح، أن نُقدمه، كما كان يقدمه أهل الحجاز على الفحول الذين عاصروه وناظروه.

ولك أن تختار المذهب الذي نتخذه في الإلمام بما نحب أن نُلِمَّ به في هذا الحَديث من شِعْرِ زُهير، فأمامك طريقان؛ إحداهما: أن نعمد إلى قصيدة من شعر زهير فنتحدث عنها، ونُلِمَّ بما طرق فيها من فنون الشعر فنًّا فنًّا، حَتَّى إذا فرغنا منها، عمدنا إلى قصيدة أُخرى فذهبنا في العناية بها هذا المذهب.

والأُخرى: أنْ نُعنى بفنون زُهير دون تشدد في الوقوف عند قصائده، لنرى كيف يُعالج هذه الفنون في قصائده المُختلفة. وهذا المَذْهب الثاني أحب إليَّ. فما أظُنُّ أَنَّك في حاجة إلى أن أُثبت لك أن قصيدة زهير مستقيمة، مُطردة الأجزاء، تتحقق فيها الوحدة الشعرية على أكمل وجه وأدقه.

قال صاحبي: فأي المَذْهَبين أحببتَ فإنِّي رَاضٍ به، مُطْمَئِنٌّ إليْهِ، فمَا يعنيني أنْ تذهب هذا المذهب أو ذاك، أو تسلك هذه الطريقة أو تلك، ما دُمنا نقرأ شِعْرًا جميلًا، ونتحدث عما فيه من جمال، وأنا أعرفُ أَنَّكَ لَا تَرْضَى عَنْ مِثْلِ هذا النَّحْوِ مِنَ الإِهْمَالِ والتَّهَاونِ؛ لأَنَّه لا يُلائم ما ينبغي للدرس العلمي من نظام، ولكن قلتُ غير مرة، وسأقول لك غير مرة، فيما يظهر: إني تركت الدرس العلمي للجامعة والجامعيين، وآثرتُ الحرية المطلقة في الحديث، هذه الحرية التي لا يُقَيِّدُها شيء مِنْ هَذِهِ الأَوْضَاع التي تخلقونها لأنفسكم، وتفرضونها عليها، فتجعل عِلْمَكُم جافيًا خَشِنًا وغَلِيظًا فجًّا، لا أدري كيف تُسِيغُونه أو تَجِدُون فيه لذة ومتاعًا.

قلتُ: فَدَعْ الاستطراد هذه المَرَّة، والوثوب من فكرة إلى فكرة، ومن موضوع إلى موضوع، وقِفْ بنا عند شعر زُهير لا نعدوه، وقد أكثرت الكلام في الأسبوع الماضي، وأصبح من حقك أن تستريح، قال: بل أصبح من حقك أن تقول في هذا الأسبوع؛ فأنتَ لا تُريد لي راحة، وإِنَّما تُريد أن تفرض عليَّ الصمتَ لتَسْتَأثر من دوني بالكلام، ولستُ أَدْرِي مَا حُبُّك للكلام وتهالكك عليه وأنت تتكلم في غير انقطاع! فقلتُ: إني أردك إلى زهير مرة أخرى، ولست أكره أن تقولَ إذا وجدت ما يدعو إلى القول، أو إذا وجدت ما تقول، فلست مشغوفًا بالكلام، ولا مُتهالكًا عليه، وما كنت أظن أن ذاكرتك قصيرة إلى هذا الحد؛ فأنتَ الذي دفعتني إلى هذا الحديث دفعًا، ولولا تحديك وتصديك لما خضنا في هذه الأحاديث.

قال: ففي أي فنون الشعر التي طرقها زُهير تُريدُ أنْ نَتَحَدَّثَ؟ قلتُ: إنك لذَكِيٌّ نَادِرُ الذَّكَاءِ، وإِنَّك لتُلقي من الأسئلة ما لا يحتاج إلى إلقائه رجل يحسن ما يأتي وما يدع، إنما ينبغي فيما أَظُنُّ أن نبدأ بالفن الذي يبدأ زُهير به حين يعمد إلى قول الشعر؛ فزُهير غزل كغيره من الشعراء إذا أخذ في النظم.

قال: إنك لسيئ الخُلق منذ اليوم، فما عرفتُ مِنْك هذه الحِدَّة منذ أخذنا في هذه الأحاديث، وما أظن أن مُذَاكَرَتنا لشِعْرِ القُدماء تَسْتَقِيمُ وتتصل إذا مضيت مع حدتك هذه؛ فأنكرتَ عليَّ كل شيء، ولُمْتَني في كل شيء، وفي غير شيء، ولستُ أَدْرِي كيف يستقيم لصاحب الخلق السيئ، والمزاج الحاد، أنْ يفهم الغزل أو يذوقه أو يتحدث فيه؟ فرفه على نفسك يا سيدي، وانصرف عن هذا الحديث إلى التدخين، أو إلى شُرب القهوة، أو إلى شيءٍ من الرياضة، حتى إذا اطمأنت نفسك، واعتدل مزاجك، أمكن أن نأخذ فيما نحن بسبيله من حديث الشعر، فنقد الغزل مُحتاج إلى جوٍّ غير هذا الجو، وإلى استعداد غير هذا الاستعداد.

قلتُ: إنك لم تقرأ شعر زُهير كله فيما يظهر، ولم تر أنه قد يتغزل كارهًا للغزل، ويُشَبِّبُ زَاهدًا في التشبيب، ويَتَحَدَّثُ عن صاحِبَتِهِ ضَيقًا بها، زَاهدًا بها، مُعْرِضًا عنها، مُتمنيًا لو استطاع أن يُرْسِلَها إلى الشَّيْطَان كما يقول الفرنسيون، وأين أنت من همزيته المشهورة التي يهجو بها بني عليم والتي يقول فيها:

فَلَمَّا أَنْ تحَمَّلَ آلُ ليْلى
جَرَتْ بَيني وَبَيْنهم ظِياءُ
جَرَت سُنُحًا فَقلْتُ لَها أَجيزِي
نوًى مشْمولَةً فَمَتى اللقاءُ
تَحَمَّلَ أَهْلها منها فبانُوا
عَلَى آثارِ مَنْ ذَهَبَ الْعفاءُ
لقدْ طَالَبتها ولِكلِّ شَيْءٍ
وَإِنْ طالَتْ لَجاجتهُ انتِهاءُ

فأنت ترى أنَّ زُهيرًا ليس أقل مني حظًّا من سوء الخُلق، ولا ضِيقًا بالغزل، وبمن يُقال فيهم الغزل، قد سافرت صاحبته على غير رضى منه، أو في غير ضرورة إلى السفر، وقد ألحتْ عليه بالهجر وألحَّ عليها في المطالبة، ولكل شيء أجل، مهما يطل أمره، وتشتد اللجاجة فيه، حتى حسن الخلق، وحسن الخلق مع الأحياء؛ فإذا أبيح لزهير، أو إذا أباح زهير أن يكون سيئ الخلق مع صاحبته؛ فقد أُبيح لنفسي أن أكون سيئ الخلق معك، وليس إظهار الضجر بطول الهجر، واتصال البُعْدِ مَقْصُورًا على زُهيرٍ؛ فقد قال فيه غيره من القدماء الذين عاصروه، وما أظنك نسيت قول لبيد:

فَاقطَعْ لُبانَةَ مَن تعرَضَ وَصْلهُ
ولَخَيْرُ وَاصِلِ خَلَّةٍ صَرَّامُها

وأظنك قد قرأت أول قصيدة دريد بن الصمة التي يقول فيها:

أَرثَّ جدِيدُ الْحَبْل مِنْ أمِّ مَعبِدِ
بِعاقِبةٍ وَأَخْلَفَت كُلَّ موْعِدِ
وَبانَتْ ولمْ أَحْمَدْ إليْك لِقاءَها
وَلَمْ أَرْج مِنها رَجعَةَ الْيَوْمِ أَو غَدِ

وضيق امرئ القيس بصاحبته حين امتنعت عليه، وأسرفتْ في الامتناع، مشهور وأشهر من أن أذكُر به:

أَفاطِمُ مهْلًا بعْضَ هذا التَّدَلُّلِ
وإِنْ كنْتِ قدَ أَزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلي
وإِنْ تكُ قد ساءَتكِ مِني خليقَةٌ
فسُلي ثِيابِي مِن ثِيابِك تَنسل
أَغَرَّكِ مِني أَنَّ حُبَّكِ قاتِلِي
وَأَنَّكِ مَهْما تأْمُرِي الْقَلبَ يَفعلِ

قال صاحبي: إنك لتذهب اليوم مذهب القُدماء، تردني عن الاستطراد ولكنك تُمْعِنُ فيه، فتدع زُهيرًا إلى لبيد، ثم إلى دُريد، ثم إلى امرئ القيس، ومن يدري! لعلك لو خليت بينك وبين الاستطراد أنْ تمضي مُتنقلًا بين شاعر وشاعر من هؤلاء الذين ضاقوا بصاحباتهم حتى ننسى زهيرًا.

قلتُ: ومع ذلك فإن زُهيرًا لم يكد يظهر هذا الضيق حتى عاد إلى صاحبته، وقد استحضر صورتها، فأثنى عليها في هذه الأبيات التي كان القدماء يعجبون بها إعجابًا شكليًّا — إن صح هذا التعبير — لأنه جمع فيها بين هذه التشبيهات الثلاثة، وإنْ لم يُصور فيها حبًّا ولا عاطفة، وذلك حين يقول:

تَنازَعَها المها شَبهًا وَدُرُّ النـُّ
ـحور وَشاكَهتْ فيها الظِّباءُ
فأَما ما فُوَيْقَ العِقدِ منها
فمِن أَدْماءَ مرْتَعها الخَلاءُ
وأَما المُقلَتانِ فمن مهاةٍ
ولِلدُّرِّ المَلاحَة والنَّقاءُ

فهو كما ترى يُشَبِّهُهَا بِالدُّر والمها والظباء جُمْلة، ثم يَعُودُ إلى تفصيل هذه التشبيهات، فيُبيِّنُ وجوه الشَّبَهِ فيْهَا تَصْرِيحًا لا تَلْمِيحًا ولا إِشَارَة، وَأَنَا أَكْرَهُ هَذَا التكليف، وإن أحبَّه القُدماء وأُعجبوا به، على أنَّ هذه الصورة التي استحضرها زُهير لصَاحِبَتِهِ، والتِّي كانت خليقة أن تزيده لها حبًّا، وبها كلفًا، لم تمنعه من أن يقول:

فَصرِّم حبْلَها إذا صَرَّمتْهُ
وَعادك أَن تُلاقيَها العداء

وليس ضيق زهير بالغزل والحَبيبة المليحة في الهجر والبِعاد وقفًا على هذه القصيدة، بل نحنُ نراه في قصيدةٍ أُخْرى مَشْهُورة هي التي يقول فيها:

صَحا القلبُ عن سَلْمَى وقد كان لا يَسْلو
وأَقْفَرَ من سَلْمَى التعانيقُ فالثقْلُ
وقد كنتُ منْ سَلْمَى سِنِينَ ثمانيًا
على صِيرِ أَمرٍ ما يَمُرُّ وما يحْلو
وكنتُ إذا ما جئتُ يَوْمًا لِحاجةٍ
قَضَتْ وأَجمَّتْ حاجةُ الغدِ ما تَخلو
وَكلُّ مُحِبٍّ أَحْدَث النَّأْيُ عِنْدَهُ
سُلُوَّ فُؤَادٍ غيرَ حُبِّكِ ما يَسْلو

فهو في هذه الأبيات محب يشكو الصدَّ والهجر، ويَزْعُمُ أنَّ قلبه قد صحا، وأنه قد أفاق من هذه اللوعة التي عَذَّبَتْهُ أَعْوَامًا طِوالًا، ولكنْ انظُر إليْهِ كَيْفَ عَادَتْهُ الذِّكْرَى فساء لها خلقه، وضاق بها ذرعًا وفَرَّ مِنْها فرارًا:

تَأَوَّبَني ذكرُ الأَحبَّةِ بَعدما
هجعْتُ ودوني قُلَّةُ الحَزْنِ فالرمْلُ
فأَقسَمت جَهْدًا بالمنازِلِ منْ مِنى
وما سُحِقتْ فيها المَقادِمُ والقَمْلُ
لأَرْتحِلنْ بالفَجْر ثُمَّ لأَدْأَبَنْ
إلى الليْلِ إِلا أن يُعَرِّجَني طِفلُ

ولا تغضب من ذكر القمل؛ فإنَّ زُهيرًا لم يقدر أنك ستقرؤه على ما فيك من ترف ورِقَّة مزاج، ولو قد فعل لآثر على هذه الكلمة البغيضة إليك كلمة أخرى لا تُؤذيك، ولكن انظر إليه، كيف عادته ذكرى الحبيبة أثناء الليل بعد أن صحا عن حُبِّها، وبعدت عنه، فضَاقَ ذَرْعًا بِهَذِهِ الذِّكْرَى، وَنَهَضَ مِنْ مَضْجَعِهِ مُقْسِمًا على أن يرتحل مع الصبح، وعلى أنْ يَدْأَبَ في السير لا يلوي على شيء، إلا أن تضطره ناقته إلى الوقوف؛ فقد كانت وشك أن تلد.

وضيق الخُلق هذا بالحب والأحباء، في شعر زُهير، يحتاج إلى شيء من التعليل؛ وأكبر الظن، أنَّ الرجل كان عَجِلًا حينَ ينظم قصائد المَدْحِ أو قصائد الهجاء، يُرِيدُ أنْ يَنْتَهي إلى الفَنِّ الذي ينظم فيه الشعر، ويكره أن يُطِيلَ الوقوف عند الدِّيار، أو عند وصف الأَحْيَاءِ.

ولَعَلَّ شيئًا آخر يُعلل هذا الضيق، وهو كذب الكاذبين على زهير، فالرواة يتحدثون، فيما ينقل عنهم أبو الفرج أنهم كانوا في دار أمير المؤمنين المهدي بعيساباذ، وقد اجتمع فيها عدة من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولُغاتها، إذ خرج بعض أصحابِ الحَاجِب، فدعا بالمفضل الضَّبِّي الرَّاوية، فدَخَلَ فمكث مليًّا، ثم خرج إلينا ومعه حماد والمفضل جميعًا، وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ثم خرج حسين الخادم معهما فقال: يا معشر من حضر من أهل العلم، إنَّ أمير المؤمنين يُعْلِمُكم أنَّه قد وصل حمادًا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل رِوَايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المُفضل بخَمْسِين ألفًا لصِدْقِهِ وصِحَّةِ رِوَايَتِهِ، فمن أراد أن يسمع شِعْرًا جيدًا مُحدثًا فليَسْمَع مِنْ حَمَّاد، ومَنْ أَرَادَ رواية صَحِيحَةً فليأخُذْهَا عن المفضل، فسألنا عن السبب، فأخبرنا أنَّ المَهْدِيَّ قال للمُفضل لمَّا دَعَا بِهِ وَحْدَه: إِنِّي رأيتُ زُهَير بن أبي سُلْمَى افتتح قصيدته بأن قال:

دَع ذا وَعَدِّ القَوْلَ في هرِمٍ

ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال له المُفضل: ما سمعتُ يا أمير المؤمنين في هذا شيئًا، إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقُوله، أو يروِّي في أن يقول شعرًا فعدل عنه إلى مدح هرم، وقال: «دع ذا»، أو كان مُفكرًا في شيء من شأنه فتركه وقال: دع ذا، أي دع ما أنت فيه من الفكر، وعد القول في هرم، فأمسك عنه.

ثم دعا بحَمَّادٍ فسَأَلَهُ عن مثل ما سأل عنه المُفضل، فقال: ليس هكذا قال زُهير يا أمير المؤمنين، قال: فكيف قال؟ فأنشده:

لِمَنِ الديارُ بقُنِّةِ الحِجْرِ
أَقْويْنَ مذْ حِجَجٍ ومذْ دَهْرِ
لعِب الزمانُ بها وغَيَّرها
بَعْدِي سَوافِي المُورِ والقَطْرِ
قَفْرًا بمُنْدَفَعِ النَّحائِت مِنْ
صَفوَى أُولاتِ الضالِ والسِّدْر
دَع ذا وعَدِّ القوْلَ في هرِمٍ
خيرِ البُداةِ وسيِّدِ الحَضْر

قال: فأطرق المهديُّ ساعة، ثم أقبل على حماد فقال له: قد بلغ أمير المؤمنين عَنْكَ خبر لا بُدَّ من استحلافِكَ عليه، ثم استحلفه بأيمان البيعة، وكل يمين مُحرجة ليَصْدُقَنَّه عن كل ما يسأله عنه؛ فحلف له بما توثق منه، قال له: اصدُقني عن حال هذه الأبيات ومن أَضَافَها إلى زُهير، فأقَرَّ له حينئذ أنَّه قائِلُها، فأمَرَ فيه وفي المُفضل بما أمر به من شُهرة أمرهما وكشفه.

فهذه القصة الظريفة تُنْبِئُنا بأنَّ القدماء كانوا يبدءون هذه القصيدة بهذا البيت:

دَع ذا وَعَدِّ القَوْلَ في هرِمٍ

وكان المهدي لا يفهم هذا الابتداء، وكان المُفضل يتأوله كما رأيت مُقَدِّرًا أنَّ الشاعرَ إنما يُريد أنْ يعدل عمَّا كان يُفَكِّر فيه، وجائز أنْ يَكُون تأويلُ المُفَضَّل صحيحًا، وجائزٌ أيضًا أن يكون في القصيدة حين أنشأها زهيرٌ شِعْرٌ آخر أضاعه الرُّواة، وإلى هذا المذهب الثاني ذهب حماد، ولكنه عوض هذا الشعر الذي ضاع فيما ظن بشعرٍ آخر صنعه من عند نفسه، وذهب فيه مذهب زهير في ذكر الديار.

فما الذي يمنع أن يكون هذا الغزل الذي يتعجل الشاعر فيه، ويظهر فيه من الضيق ما يظهر مُضافًا إليه، مَصْنُوعًا عليه، قد دَسَّهُ حَمَّادٌ أو أشباه حماد مِنَ الرُّواة، ولا سِيَّمَا ما جاء في هذه اللامية بعد قوله:

تأَوَّبني ذِكرُ الأَحِبةِ بعدَ ما
هَجعْتُ ودوني قُلةُ الحَزنِ فالرملُ

فإنَّ هذين البيتين اللذين أُضيفا بعد هذا البيت يظهر فيهما التكلف والتصنع وحب التخلص، والرَّغبة في وصل ما مضى من الغزل بما هو مُقبل من المديح.

قال صاحبي: ما تنفك تُلِحُّ في بَحثك وتحقيقك، وتثقل علينا بنقدك وتمحيصك، فدع عنك هذا، وعد بي إلى شيءٍ من غزل زُهير، لا يظهر فيه فساد ولا اضطراب، ولا يدعوك إلى هذا التحقيق والتمحيص.

قلتُ: فانظر في لاميته الأُخرى التي يمدح بها حصن بن حذيفة بن بدر والتي يقول فيها:

صحا القلبُ عن سَلْمَى وَأَقصَرَ باطِلُه
وعُرِّيَ أَفراسُ الصِّبا ورَوَاحلُه

فأصحاب البيانِ مَشْغُوفون كما تَعْلَمُ بهذا البيت، وبالشَّطْرِ الثاني منه خَاصَّة؛ لأنَّه جَعَلَ فيه للصبا أَفْرَاسًا ورَوَاحِلَ كان يَرْكَبُها حين كان الشباب يُواتيه، وحين كانت تُتَاح له اللذات، ويدفعها إليه نشاطه ومرحه، فلما أدركته الكبرة، وتقدم به العمر، أقصر عن هذا كله، وعري أفراس الصبا، وعري رواحله، وتركها مهملة، لا تعينه على رواح، ولا على غدو.

ثم انظر إليه كيف يقول بعد ذلك:

وَأَقصَرْتُ عَما تَعلمين وسُددتْ
عَليَّ سِوى قَصدِ السَّبِيلِ مَعادِلهُ
وقالَ العَذارى إنما أَنتَ عَمُّنا
وكانَ الشَّبابُ كالخَلِيطِ نُزايلُهُ
فأَصْبَحْنَ ما يَعرِفْنَ إِلا خَليقَتي
وَإِلا سَوادَ الرأْسِ والشَّيب شَامِلهُ

فهو هنا يُفَسِّرُ إعراضه عن اللذة، وإقصاره عن اللهو، وإقباله على الجد، لا رغبة فيه، ولا زُهدًا في متاع الحياة، بل قصورًا وعجزًا؛ فهو يذكر الكبر والشيب اللذين يَصْرِفَان عَنهُ العذارى، ويُطلِقَانِ ألسنتهن بهذه الكلمة التي تُؤذيه، والتي آذت الأخطل من بعده: «إنما أنت عمنا.» وأظنك تذكر قول الأخطل:

وإِذا دَعونَكَ عَمَّهُنَّ فإِنَّهُ
نَسَبٌ يَزيدُك عندَهُنَّ خَبالا

ولعلك تذكر قوله أيضًا:

يا قاتَلَ اللهُ وصْلي الغانِيات إِذا
أَيْقنَّ أَنك مِمَّن قد زها الكِبَرُ
أَعْرضْنَ لمَّا حَنَا قَوسِي مونِّرها
وابيضَّ بعد سَوادِ اللِّمةِ الشَّعرُ
ما يرْعَوِينَ إلى داعٍ لحاجتِه
وما بهنَّ إلى ذي شَيْبَةٍ وَطَرُ

على أنَّ زُهيرًا لم يكد يذكر تَقَدُّم سِنِّه، وما اضطر إليه من الجد، حتى حن إلى عهوده الأولى، فَذَكَر الديار، واستأنف قصيدته استئنافًا، كأنه يبتدئها دون أن يقدم بين يديها شعرًا. فقال:

لِمَنْ طَلَلٌ كالْوحي عافٍ منازِلُهْ
عفا الرَّسُّ مِنهُ فَالرَّسِيسُ فَعاقِلهْ

على أنَّه لا يَزِيد بهذه الذِّكرى على أن يُنَظِّم أَسْمَاء الأماكن التي كان يَلْقَى فيها أحباءه، ويَستقبل فيها لهوه ومَتَاعه، ثم يُسْرِع إلى فنٍّ آخر من فنون الشعر هو وصف الصيد؛ فهو كما ترى صاحب غزل، ولكنه مقتصد فيه، أو مُعجل عنه، لا يمنحه من وقته وجهده وتفكيره ما ينبغي.

وانظر إليه في قافيته التي يمدح بها هرمًا كيف يقول:

إِنَّ الْخلِيطَ أَجَدَّ الْبيْن فانْفَرَقا
وعُلِّقَ الْقلْب مِن أَسماءَ ما عَلِقا
وفارقَتكَ بِرهْنٍ لا فَكاكَ لَهُ
يومَ الْوَداعِ فأَمْسَى الرَّهنُ قَدْ غَلِقا
وَأَخْلفتْك ابْنَةُ الْبَكْريِّ ما وَعدَت
فَأَصْبَحَ الحَبْلُ مِنها واهِيًا خلَقا
قامَت تَراءَى بِذِي ضالٍ لِتحزنني
وَلا محالةَ أَنْ يشْتاقَ منْ عشِقا
بجِيدٍ مغزِلَةٍ أَدْماء خاذِلَةٍ
مِنَ الظِّباء تُرَاعي شادِنًا خَرِقا
كأَنَّ ريقَتها بَعدَ الكَرى اغْتبَقَتْ
مِنْ طَيِّبِ الراحِ لَمَّا يَعدُ أَن عتَقا
شَجَّ السُّقاةُ على نَاجُودِها شَبِمًا
مِنْ ماءِ لينَةَ لا طَرْقًا ولا رَنقَا

فهو في البيت الأول يعرض قصته، وقصته يسيرة في أول الأمر، ولكنها عسيرة أشد العُسر بعد ذلك، فأول أمره أنَّ الخَلِيطَ قد جَدَّ البين فانفرق، وبعد الأمد بينه وبين من كان يألف، ولكنَّ قَلْبَهُ قد علق من أسماء شيئًا لا سبيل إلى وصفه، ولا إلى تصويره، وإنما هو شيءٌ يعبر عنه هذا التعبير العام المُحيط الذي لا يحتمل تصويرًا ولا تفصيلًا؛ لأنَّه فوق التصوير والتفصيل «وعلق القلب من أسماء ما علقا».

ثم انظر إليه في البيت الثاني: كيف يصور ارتباطه بأسماء وحرصه عليها، وعجزه عن أن يسلوها، أو يفيق من حبها، انظر إليه كيف يعبر عن هذا كله بهذا النَّحو اليسير المَأْلُوف من الكلام الذي لا يَجِدُ أحد فيه مشقة ولا عسرًا، وإنما يفهمه الناس جميعًا، ويقدره الناس جميعًا، ولا سيما أهل البادية، فهي قد ارتهنت قلبه ومضت به، وليس من سبيل إلى أن يفك هذا الرَّهن، ثم هي لم ترتهن قلبه فحسب، ولكنها على ذلك بخيلة تعد ولا تفي، وتمني ولا تحقق الأماني، وترتحل مع ذلك فتقطع الأسباب بينه وبين الأمل في الوفاء بالوعد، أو الانتظار لتحقيق المُنى:

وأَخلفَتكَ ابنَةُ الْبَكْري ما وعدتْ
فأَصْبَح الحَبل مِنها واهِنًا خلَقا

وهذه الفتاة مَاكِرَةٌ حقًّا، لا رَحْمَةَ عِنْدَها ولا حَظَّ لَهَا مِنْ رِفْقٍ أو إشفاق، إنما هي قاسية أشد القسوة، ظالمة أشد الظلم. ألست ترى إليها مع هذا كله تعرض للشاعر فتتراءى له لتشوقه إليها ولتحزنه لهذا الفراق الموئس الذي لا أمل معه في اللقاء؟ فمن رأى مثل هذه الفتاة! من رأى مثل أسماء ابنة البكري هذه التي تملأ قلب الشاعر حُبًّا، وتَرْتَهِنُ قَلْبَهُ ارْتِهَانًا لا فكاكَ لَهُ، وتَرْتَحِلُ بِهَذَا القَلْبِ موئسة من اللِّقاء، ومن الأمَل في اللقاء، ثم هي مع هذا كله تُرْسِلُ صورتها إلى الشاعر لتعينه وتمنيه وتُذِيقه ألوانَ العذاب! وانظر إلى قوله:

ولا محالة أن يَشْتاق من عَشِقا

على أنَّ الذِّكْرَى التي تُثِيرُها هَذِه الصُّورة حين تتراءى لزُهير فتُعَذِّبه وتشقيه، ذكرى مادية خالصة — إنْ صَحَّ مِثْل هذا التَّعبير — فصاحِبُنا يَرَى أَسْمَاء فيُعْجَبُ بشكلها ولونها، وجِيدِها الذي يُشبه جيد الظبية، ثم إذا أمعن في الذكرى، ذكر رِيقها فشبهه بالخمر المُعَتَّقة التي مُزجت بالماء النقي البارد العذب، وفي هذه السذاجة البدوية صدقٌ نُحبه من زهير؛ فهو لا يتكلف ولا يغلو، ولا يصف إلا ما يجد.

ومِنْ هَذَا الغَزَل اليَسِير السَّاذَج الذي ذَهَبَ إِليه زُهير في هذه القصيدة، وفي غيرها من الشِّعر، أخذ الشُّعَرَاءُ الإسلاميون، والأخطل خاصة، كثيرًا من مَعَانِيهم التي جَوَّدُوها وأَتْقَنوها؛ لأَنَّهم بسطوها بسطًا، وفصلوها تفصيلًا، اتخذوها وسيلة إلى تصوير قلوبهم ونفوسهم، وما يثور فيها من العواطف والأهواء.

على حين لم يزد زُهير على أنْ أَلَمَّ بهذه المعاني إلمامًا، وأجملها إجمالًا، كأنه يُرِيدُ أنْ يرسم النهج، ويُبين الطَّريق، ويُقيم الأَعْلَام للذين سيقتفون أثره من الشُّعراء المُتأخرين.

وانظر إليه وهو يُصور بعد ذلك تتبعه لهؤلاء القوم المُسافرين، في لفظ بدوي جَزْلٍ عَذْبٍ مَتين، وفي مَعَانٍ بدوية ساذجة كل السذاجة، يسيرة كل اليسر:

ما زلتُ أَرْمقهُمْ حتى إذا هَبَطَتْ
أَيدِي الركابِ بهِم مِنْ راكِسٍ فَلَقا
دانِيةً من شَروْرَى أَو قفا أَدمٍ
يَسْعَى الْحُداةُ على آثَارِهْم حِزَقا

فهو يُتبعهم طَرفَه في مسيرهم هذا، وهم يمضون لوجههم، والحداة يتبعونهم، ويدفعونهم جماعات، حتى إذا دنوا من هذه الأماكن التي سَمَّاهَا، وشَقَّ عليه أن يتبعهم بطرفه؛ لأنَّهم أبعد من أن يبلغهم الطرف، ملكه اليأس، واستأثر به الجزع؛ فانهلت دموعه مرسلة في غير انقطاع.

وهُنَا يُوشك الشاعرُ أنْ ينسى حبه وغزله، وأنْ يُشْغَل عنهما بالوصف والتشبيه؛ فهو يُشبه عينه وهي تسكب الدَّمْعَ سَكبًا بِدَلو تُملأ ثم تُصب في جدول، وقد شغلته الدلو، وشغلته الأدوات التي تصحبها، وشغلته الناقة التي تستقي بها، وشغله الجدول الذي يصب فيه الماء، وشغلته الضَّفَادِعُ التي تعيش على شاطئ هذا الجدول، شغله هذا كله عن الخليط الذي أجدَّ البَيْنَ، وعن ابنْة البكري التي ارْتَهَنَتْ قَلْبَهُ وأخلفت موعدها.

فزُهير مُحققٌ إذا وصف، مُتَمِّمٌ للتشبيه إذا أخذ فيه، وما دام قد عرض له هذا التشبيه، فلا بُدَّ من أن يُتِمَّه ويَسْتَكْمِلَه وقد فعل، ولكنه لم ينشئ القصيدة ليتغزل، ولا ليصف، وإِنَّما هو يُنْشِئُها ليَمْدَح هرمًا، فحَسْبُه أَنْ قَالَ في الغزل ما قال، وَأَنْ وَصَفَ من نفسه ومن صاحبته ومن حُزنه ما وصف، وليمض لما أنشأ القصيدة من أَجْلِهِ، فيأخذ في الثَّناء على هَرَم بن سنان، وأنتَ تستطيعُ أنْ تَقْرَأ رَائيَّة الأخطل أو غزل الأخطل في رائيته:

خف القطِين فرَاحوا مِنك أَوْ بكَرُوا

فسترى أن زُهيرًا قد كان من أشد الشعراء تأثيرًا في شعر هذا الشاعر الإسلامي العظيم.

قال صاحبي: ولكنك استَغْرَقْتَ حديث اليوم كُلَّه فيمَا تُسَمِّيه غزل زُهير، ولم تصل إلى وصفه، ولا إلى مَدْحِهِ، ولَا إِلَى مَا طَرق مِنَ الفُنُون غير الوصف والمدح.

قُلتُ: وَمَا يَمْنَعُنا أنْ نَعُودَ إِلى زُهَير مَرَّةً أُخرى؟ فنَتَحَدَّث عن وصفه، وعن مدحه؟ فإني أَرَى أنَّ زُهيرًا من أبرع الشعراء في الوَصف، وقد أجمع القُدَمَاءُ على أنَّه مِنْ أَبْرَع الشُّعراء في المدح.

١  نُشرت بجريدة الجهاد في ٢٠ مارس سنة ١٩٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤