الفصل الأول

القدماء والمحدثون١

لم يخل عصر أدبي في حياة الأمم، التي كان لها نصيب من الأدب وحظ في إتقان القول وإجادته، من هذه المسألة «مسألة القدماء والمحدثين» ولم تظهر هذه المسألة في عصر من العصور أو عند أمة من الأمم، إلا أحدثت خلافًا عظيمًا وجدالًا عنيفًا، وقسمت الأدباء على اختلاف فنونهم الأدبية أقسامًا ثلاثة: قسم يؤيد القدماء تأييدًا لا احتياط فيه، وقسم يظاهر المحدثين مظاهرة لا تعرف اللين، وقسم يتوسط بين أولئك وهؤلاء، ويحاول أن يحفظ الصلة بين قديم السنة الأدبية وحديثها، وأن يستفيد من خلاصة ما ترك القدماء، ويضيف إليها ما ابتكرت عقول المحدثين من ثمرات أنتجها الرقي، وأثمرها تغير الأحوال وتبدل الظروف.

كذلك كانت الحال قديمًا، وكذلك كانت الحال في هذا العصر الذي نعيش فيه، وفي الحق أن الاختلاف بين القديم والمحدَث ليس مقصورًا على الأدب وحده، وإنما هو يتناول كل شيء، يتناول الفن والعلم، ويتناول الفلسفة، ويتناول الحياة نفسها في فروعها المختلفة المادية، والسياسية والاجتماعية، وذلك معقول، لأن الحياة الإنسانية كما قلنا غير مرة، تقوم على أصلين لا ثالث لهما ولا محيد عنهما، هما البقاء من ناحية، والاستحالة من ناحية أخرى.

فنحن بحكم البقاء وحاجتنا إليه، مضطرون إلى أن نصل بين أمس واليوم والغد، مضطرون إلى أن نصل بين القديم والمجد، مضطرون إلى أن نشعر بأن حياتنا الآن هي إن لم تكن نفس حياتنا قبل الآن، فهي أثر قوي من آثارها، ونتيجة لازمة من نتائجها.

ونحن بحكم الاستحالة والتطور مكرهون على أن نشعر بأن يومنا يغاير أمسنا، وبأن حياتنا الآن إن أشبهت حياتنا أمس من وجه أو وجهين فهي تغاير من وجوه.

وإذن فنحن بين الشعور بالبقاء والحاجة إليه، وبين الشعور بالتطور والحاجة إليه، مترددون في ميولنا وأهوائنا وآرائنا، فمنا من يؤثر هذا الشعور بالبقاء فيغلبه على كل شيء في نفسه، حتى تصبح غايته الحقيقية ألا يكون ابن أمسه، وإلا حلقة من حلقات هذه السلسلة المتصلة التي لا نعرف لها أولًا ولا آخرًا، وهي سلسلة الحياة، ومنا من يؤثر هذا الشعور بالتطور والاستحالة، فيكلَف بالجديد ويرغب فيه، ويندفع في هذه الرغبة وذلك الكلف، فلا يفكر إلا في شيءٍ واحد؛ هو أن يعود، وأن يعدو ما استطاع إلى الأمام، دون أن يقف فيفكر في حاضره، أو أن يلتفت فينظر إلى ماضيه.

ويشتد الخلاف ويعظم بين هذين الطرفين المتناقضين، بين أنصار القديم المسرفين في نصره، وأشياع الجديد الغلاة في التشيع له؛ يشتد هذا الخلاف ويعظم، حتى يشعر به أوساط الناس وجماعاتهم المختلفة التي تخضع للحياة وتحياها هادئة وادعة غير شاعرة بتطور ولا بقاء، وإنما هي محققة لهذين الأصلين تحقيقًا طبيعيًّا غير متكلف ولا منتحل، تشعر هذه الجماعات الوسطى بما بين هذين الطرفين المتناقضين من جدالٍ عنيف وخلافٍ عظيم، فتتوسط بينهما، ويظهر منها هذا القسم الثالث الذي هو خلاصة الأمة، والذي هو المحقق الوحيد لاعتدال الطبع وصفاء المزاج، والذي هو المحقق الوحيد للصلة الصحيحة المنتجة بين القديم وبين الحديث.

نجد هذه النظرية في كل ضرب من ضروب الحياة العامة، عقلية كانت أو شعورية، سياسية كانت أو اجتماعية، وهي منتجة نتائج تختلف قوة وضعفًا باختلاف موضوعاتها، فأما نتائجها في الحياة الأدبية فهينة سهلة محتملة لا تتجاوز الخصومات اللفظية إلا قليلًا، وكذلك الحال في الحياة العقلية الفلسفية، فأما في العلم فانتصار الجديد يسير محقق، لا خوف عليه ولا شك فيه؛ لأن العلم قد أصبح أقل الأشياء الإنسانية استعدادًا للخلاف والمناقضات.

ولكن هذه النظرية إذا ظهرت في الحياة الاجتماعية والسياسية أنتجت في أكثر الأحيان أقبح الآثار وأسوأها؛ لأن الحياة الاجتماعية والسياسية هما أشد ضروب الحياة مسيسًا بالمنافع على اختلافها والمصالح على تباينها، والإنسان بطبيعته عبد لمنفعته، يبذل فيها حياته طيب النفس قرير العين، ومن هنا لم نعلم أن خلافًا أدبيًّا في أسلوب الشعر والنثر، أو أن خلافًا في نظرية من نظريات الفلسفة، أو أصل من أصول العلم، أحدث ثورة سفكت فيها الدماء، وأزهقت فيها النفوس، واختل لها نظام الأمن، في حين كان الاختلاف في تقسيم الثروة، أو في نظام الحكم — وسيظل دائمًا — مصدر هذه الثورات التي أشرنا إليها.

وما لنا نذهب بعيدًا، ونحن لا نعلم أن شاعرًا قتل شاعرًا آخر لأنه يخالفه في الوجهة الشعرية، أو أن فيلسوفًا قتل فيلسوفًا آخر لأنه يخالفه في أصل من أصول الفلسفة، لا نعلم شيئًا من هذا، ولكنا نعلم أن الفرد قد يقتل الفرد، وأن الجماعة قد تعلن الحرب على الجماعة، لخلاف مصدره السياسة أو مصدره المال.

لا تذكر لي الخلافات الدينية التي أحدثت الثورات وضروب الاضطهاد، فما أحدثت هذه الثورات من حيث إنها اختلافات في الحياة العقلية أو الأدبية أو الفنية الخالصة، وإنما أحدثتها من حيث إنها اختلافات في ضروب الحياة الاجتماعية والسياسية نفسها.

ستقول لي: ولكن الاختلاف في السياسة والاقتصاد وما إليهما من نظم الحكم وتقسيم الثروة، إنما هو أثر من آثار هذه الحياة العقلية والأدبية والفنية، وليس في هذا شك، فإن سلسلة الحياة متصلة على اختلاف حلقاتها، ولسنا نزعم أن الحياة الأدبية مصدر الخير الخالص، وإنما نزعم أن هذه الحياة أشد ضروب الحياة الإنسانية براءة من العنف والظلم والشر؛ لأنها تكاد تنحصر في الكلام دون أن تمس الحكم ودون أن تمس المال.

إذن فالخلاف بين القديم والحديث أصل من أصول الحياة، يشتد الجهاد بين أولئك وهؤلاء حتى يتم انتصار الجديد فيصبح هذا الجديد قديمًا ويظهر جديد آخر يحاربه.

ولعل من ألذ أنواع الجهاد بين القديم والجديد، وأحبها إلى النفس، هذا الجهاد الذي يقع بين الشعراء والكتاب في عصورهم المختلفة، هذا الجهاد لذيذ؛ لأنه بريء، ولذيذ لأنه يمثل الاختلاف بين لونين من ألوان الحياة العقلية والشعورية، أحدهما قد أخذ يضمحل وينمحي، والآخر قد أخذ يظهر ويقوى، ولقد قلنا في أول هذا الفصل: إن الأمم التي لها حظ من الحياة الأدبية قد عرفت كلها هذا الخلاف بين القدماء والمحدثين، ولكنا مضطرون إلى أن نلاحظ أن نفس هذا الخلاف بين القدماء والمحدثين يتفاوت تفاوتًا عظيمًا باختلاف الأمم والأجيال؛ فهو منتج جدًّا في أمة من الأمم، عقيم جدًّا في أمة أخرى، معتدل الإنتاج في أمة ثالثة، ثم إن نوعه نفسه يختلف باختلاف هذه الأمم والأجيال؛ فقد يختلف القدماء والمحدثون في الألفاظ، وقد يختلفون في المعاني، وقد يختلفون في الألفاظ والمعاني، وقد يختلفون في الأنواع الفنية نفسها، فتظهر الحياة الأدبية في هذا العصر في صور ومظاهر جديدة لم تألفها العصور الأولى ولم تعرف من أمرها شيئًا.

انظر إلى الأمة اليونانية مثلًا وإلى الشعر، تجد أن تطورها لم يستتبع تطور الشعر في لفظه ومعناه فحسب، وإنما استتبع تطوره في نوعه أيضًا، فكان الشعر القصصي مظهر الشعور اليوناني أيام بداوة الأمة اليونانية وبدء تحضرها، فلما عظم حظها من الحضارة المادية، وأخذ عقلها في التفكير، وذاقت لذة الترف والثروة، كان الشعر الغنائي مظهر شعورها، فلما قوي نصيبها من الحضارة، وتأسست فيها المدن المختلفة ذات النظم السياسية والاجتماعية المعقدة، وأخذت الفلسفة تظهر وتبسط سلطانها، كان الشعر التمثيلي مظهر شعورها.

فالخلاف بين القدماء والمحدثين عند الأمة اليونانية كان عظيمًا معقدًا مختلف المناحي؛ لأنه كان يتناول اللفظ والمعنى والأسلوب والصورة والنوع والموضوع، في حين كان عند الأمة العربية ضيقًا محصورًا لا يكاد ينتج شيئًا؛ لأنه لا يتناول إلا اللفظ، وقد يتناول المعاني في عصر من العصور، هو أول العصر العباسي، ذلك أن الخلاف قد وقع بالفعل في أواخر القرن الأول، وأوائل القرن الثاني للهجرة بين أنصار الجاهليين والإسلاميين، وكان أبو عمرو بن العلاء يروي كارهًا شعر جرير؛ لأن هذا «المولد» كان مجيدًا، ثم ظهر الخلاف في منتصف القرن الثاني بين أنصار العرب جاهليين وإسلاميين وأنصار المحدَثين، أي ظهر الخلاف بين بشار وتلاميذه ومن كان ينتصر لهم من الأدباء، وبين امرئ القيس وتلاميذه ومن كان ينتصر لهم من أئمة اللغة ورواة الشعر، ثم ظهر الخلاف في القرن الثالث بين الذين كانوا ينتصرون للبحتري وأبي تمام، والذين كانوا ينتصرون لأبي نواس ومسلم، ثم ظهر الخلاف في القرن الرابع بين الذين كانوا ينتصرون للمتنبي، والذين كانوا ينتصرون لأبي تمام.

فأنت ترى أن كل هذا العصر الأدبي الذهبي عند العرب كان مملوءًا بالاختلاف بين القدماء والمحدثين، وليس عليك إلا أن تنظر في كتب الأدب على اختلافها، لترى هذا المقدار الموفور من الكلام الكثير الذي قيل وقيل في الانتصار للشعراء، وتفضيل بعضهم على بعض، سواء منهم أبناء الجيل الواحد والذين اختلفوا جيلًا وعصرًا، ولكن أريد أن أعلم فيم كان الاختلاف عند العرب بين القدماء والمحدثين، وما نتائجه الكبرى؟

الحق أني أكاد أعلم ذلك؛ فقد كان الخلاف قبل كل شيء في اللفظ، ثم في المعنى، ثم لم يتجاوز هذين الأمرين.

كان القدماء والمحدثون أيام بني أمية يختلفون في اللفظ اختلافًا ظاهرًا، وكانوا يتخذون اللفظ مقياسًا لجودة الشعر، فكلما قرب هذا اللفظ من البداوة، وكلما كان رصينًا يملأ الفم ويهز السمع كان الشعر جيدًا؛ أي إن جزالة اللفظ، وشدة القرب بينه وبين ألفاظ البادية في العصر الجاهلي كانت هي المزية الأولى للشاعر، ثم تأتي بعد ذلك جودة المعنى والتعمق فيه.

ثم ظهر هذا الخلاف بعينه في أول العصر العباسي، فاختلف الشعراء العباسيون، واختلف معهم الأدباء واللغويون في أي الشعرين أجمل وأرقى وأحسن: الشعر الذي يحتذي شعراء الجاهلية والإسلام في متانة اللفظ ورصانته وبداوته، أم الشعر الذي يتخير الألفاظ السهلة العذبة التي ألفها الناس عامة، لا علماء اللغة خاصة؟

وظهر إلى جانب هذا خلاف آخر في المعنى فاختلف الشعراء في معاني الشعر أتبقى كما كانت بدوية أعرابية، أم تتحضر كما تحضر الناس؟ أتصف الأطلال والخيام والصحراء والإبل والخيل والسلاح، أم تعدل عن هذا كله إلى القصور والأنهار والرياض والمدن؟ ثم أتتناول الشعور الإنساني فتصفه لا كما يشعر به الناس في بغداد ودمشق والبصرة والكوفة ومصر، بل كما كان يشعر به الأعراب في باديتهم وصحرائهم، أم تتناول هذه المستحدثات الحضرية والمستطرفات التي لم يعهدها الأعراب؟ وعلى الجملة أيعيش الشعراء عصرهم الذي هم فيه، أم يعيشون عصور الآباء والأجداد؟

ظهر هذا الخلاف، وكان أشد أنواع الخلاف إنتاجًا وأكثرها خصبًا؛ لأن أنصار الجديد — وعلى رأسهم أبو نواس — أقدموا غير خائفين ولا وجلين، فوصفوا لنا الحياة الجديدة دقيقها وجليلها، مفصلها ومجملها، فجددوا الشعر من ناحية، ونفعوا التاريخ من ناحيةٍ أخرى، وكان هذا كل ما عرف العرب من اختلاف في الشعر بين القدماء والمحدثين.

اختلاف في اللفظ نشأت عنه مدرسة مسلم بن الوليد التي أخرجت أبا تمام والمتنبي وأمثالهما من أصحاب البديع، واختلاف في المعنى نشأت عنه مدرسة أبي نواس التي أخرجت البحتري وغيره من أولئك الشعراء الذين آثروا اللفظ القديم والمعنى الجديد، ولم يتكلفوا بديعًا ولا استعارة ولا جناسًا.

هذا كل ما عرف أهل الشرق العربي من اختلاف بين القدماء والمحدثين، وهذا كل ما أنتجه الخلاف، وهو على خطره ليس بالشيء الكثير، فلم يتغير الشعر العربي في موضوعه ولا في صورته ولا في نوعه، ولم يتغير في لفظه ومعناه إلا تغيرًا قليلًا جدًّا، بقيت القصيدة كما كانت معتمدة على وحدة القافية والوزن غير معنية بوحدة المعنى، وبقي موضوع الشعر كما كان مدحًا وهجاء ورثاء ووصفًا وغزلًا، وإنما تجددت هذه الموضوعات دون أن تتغير، ولم يكن تجددها جوهريًّا ولا مطردًا، وإنما هو التجدد الذي يكفي ليشعرك بالفرق بين العصر القديم والعصر الجديد، وقد مضت القرون وتعاقبت، والشعر العربي في لفظه ومعناه وصورته وموضوعه كما كان قديمًا، لم ينله من التغير والتطور إلا هذا المقدار الضئيل الذي أشرنا إليه.

ولقد يكون من الخير أن نعرف العلة، وأن نتبين الأسباب القوية التي أكرهت الشعر العربي المحافظ على أن يتطور قليلًا، ولعلنا نستطيع أن نحدثك عن ذلك في الأسبوع الآتي.

١  نُشرت بجريدة السياسة في ١٧ ربيع الثاني سنة ١٣٤١ﻫ/٦ ديسمبر سنة ١٩٢٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤