الفصل الحادي عشر

الخمر قبل أبي نواس١

لا يمتاز أبو نواس من معاصريه بالمدح ولا بالهجاء، ولا بالفخر، ولا بالوصف، ولا بغير هذه الفنون مما ألف الشعراء المتقدمون أن يخوضوا فيه، وإن كانت شخصية أبي نواس ظاهرة محببة إليك وإليَّ في هذه الفنون نفسها، كما سنرى ذلك عندما نعرض لهذا النحو من شعره، وإنما يمتاز أبو نواس بشعره في الخمر، وبافتنانه في المجون كما يمتاز بغزله وحسن مداعبته للنساء والغلمان.

ومع هذا فأبو نواس لم يخترع هذه الفنون، ولم يسبق إليها، بل هو لم ينفرد بها في عصره، وإنما سبقه إليها كثير من الشعراء في الجاهلية وفي الإسلام، ونافسه فيها كثير من معاصريه إن لم نقل جميع معاصريه، سبقه إليها كثيرون، ونافسه فيها كثيرون، ولكنه امتاز ممن سبقه ومن عاصره ومن لحقه، وظل زعيم القدماء، وزعيم المحدثين في الخمر والغزل والمجون.

ولو أننا نُعنى في هذه الأحاديث بالتعمق في البحث العلمي، لكان من الحق علينا قبل أن نصف خمريات أبي نواس أن ندرس مع شيء من التفصيل خمريات الشعراء الذين سبقوا أبا نواس، وأن نجتهد في أن نتبين المقدار الذي سبق إليه أبو نواس، لنعرف ما اخترع وما استحدث، وليكون حكمنا له أو عليه صحيحًا من كل وجه، ولكنك تذكر أنا لا نزعم لهذه الأحاديث صفة البحث العلمي المستقصي؛ لأن هذا البحث لا يليق بالصحف السيارة، ولا بالأحاديث التي تقرأ، أو تسمع في أي مكان وعلى أي حال، دون أن يختصها القارئ أو السامع بعنايةٍ أشد من عنايته بما ينشر في هذه الصحف من ضروب الكلام.

قليل من شعراء الجاهلية من لم يعرض للخمر في شعره، فأكثر هؤلاء الشعراء كانوا يشربون الخمر، ومنهم من كان شربه لها متصلًا، ومنهم من كان يلم بها إلمامًا، وكانوا يصفون الخمر وأقداحها وآنيتها المختلفة، ولهم في ذلك الكلام الجيد الكثير، لا سيما «الأعشى» الذي أكثر في الخمر وأطال، واشتهر بأنه من وصافها المجيدين، واستطاع ابن الأعرابي أن يزعم للمأمون أنه أشعر من وصف الخمر لقوله:

تُرِيكَ القَذَى مِنْ فَوْقِها وَهيَ فَوْقَهُ
إِذَا ذاقَهَا مَنْ ذَاقَها يَتَمَطَّقُ

بل ربما كان لنا أن نقول: إن أبا نواس نفسه قد عدا على الأعشى فأخذ منه شيئًا ليس بالقليل، وأخذ منه بنوعٍ خاص نصف هذا البيت المشهور:

دَعْ عَنْكَ لَوْمِي فَإِنَّ اللَّوْمَ إِغْراءُ
وَدَاوِنِي بِالَّتِي كانتْ هِيَ الدَّاءُ

فالصلة ظاهرة بين هذا الشطر الأخير: «وداوني بالتي كانت هي الداء» وبين قول الأعشى:

وَكأْس شَرِبْتُ علَى لَذَّةٍ
وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا

فليس من شك في أن أبا نواس قد ذكر هذا البيت حين قال شطره السابق، ولكن أبا نواس لم يأخذ اللفظ، بل ولم يأخذ المعنى دون أن يصلح ويغير ويضيف؛ فإن قوله: «دع عنك لومي فإن اللوم إغراء» ليس في شعر الأعشى، وهو يكفي لأن يحتفظ لأبي نواس بالبيت كله، وقوله: «وداوني بالتي كانت هي الداء» يذكِّر بقول الأعشى، ولكنه ليس إياه؛ لأن الأعشى لم يرد أن يقول إلا أنه كان يشرب كأسًا ويتداوى بكأسٍ أخرى، فمعناه ضيق محدود، في حين قد مد أبو نواس هذا المعنى وبسط أطرافه، فأصبح لا حد له، أصبح يرافق الحياة، أصبحت الخمر داء ملازمًا لمن يشربها، وأصبحت هي لهذا الداء؛ فهو يتداوى طول حياته من الخمر بالخمر، أما الأعشى فكان يتداوى من كأسٍ بكأس، كان لا يذكر الداء والدواء إلا إذا شرب، بينما أبو نواس لا ينفك يذكرهما؛ لأنه لا ينفك في داء ودواء.

وللأعشى غير هذا كثير، ولكننا لا نعرض له، لما قدمنا، وهناك شاعر آخر جاهلي، يظهر أنه قد عُني بالخمر وأجاد فيها إجادة لا بأس بها، وكان مسيحيًّا عاش قبل الإسلام، ولم يكن باديًا بمعنى الكلمة، وإنما كان حاضرًا أو كالحاضر، وكان يعيش في هذا الإقليم الذي عاش فيه أبو نواس، وكان يختلف إلى الأديرة ومساكن الرهبان التي ربما اختلف إليها أبو نواس بعده بنحو قرنين، وكان هذا الشاعر يجيد في معانٍ أجاد فيها شعراء العراق، كان يجيد في الخمر، وكان يجيد في الزهد، والنسك، وضرب الأمثال، وإطلاق الحكم البالغة، كان يجيد حيث أجاد أبو نواس، وكان يحسن حيث أحسن أبو العتاهية، ويُروى له غزل لا بأس به، وهو «عدي بن زيد العبادي» الذي عاش في الحيرة أواخر العصر الجاهلي، لم يروِ الرواة له كثيرًا في الخمر، ولكن ما يروى عنه يدل على أنه كان بها كلفًا، وفي وصفها مجيدًا، وانظر إلى هذه الأبيات القليلة، التي يختلف فيها الرواة اختلافًا كثيرًا، والتي كانت تُغنَّى للوليد بن يزيد فيستعذبها ويشرب عليها حتى يسكر:

بَكَّرَ الْعَاذِلُونَ في وَضَحِ الصُّبـْ
ـحِ يَقُولُونَ لِي أَمَا تَسْتَفِيقُ
وَيَلُومُونَ فِيكِ يَا ابنَةَ عبدِ
اللهِ وَالْقَلْبُ عِنْدَكُمْ مَوْثُوقُ
لَسْتُ أَدْرِي إِذْ أَكْثَرُوا الْعَذْل فِيها
أَعَدُوٌّ يَلُومُني أَمْ صدِيقُ
ثُمَّ ثَارُوا إِلى الصَّبُوحِ فَقَامَتْ
قَيْنَةٌ في يَمِينها إِبْرِيقُ
قَدَّمَتهُ علَى عُقَارٍ كَعَيْنِ الدْ
دِيكِ صَفَّى سُلَافَهَا الرَّاووقُ
مُزَّةٌ قَبْلَ مزْجِهَا فَإِذا مَا
مُزِجَتْ لَذَّ طَعْمَهَا مَنْ يَذُوقُ
وطَفَتْ فَوْقَهَا فَقَاقِيعُ كالدُّرْ
رِ صِغَارٌ يُثِيرُهَا التَّصْفِيقُ

ففي هذه الأبيات على جاهليتها رقة الحضارة، دون أن تخلو من رصانة البداوة، ولا بأس بهذا البيت الأخير الذي يوصف ما يبدو على الخمر حين تمزج، فيذكِّر على بُعد بقول أبي نواس:

كأَنَّ صُغْرى وَكبْرَى مِنْ فَقَاقِعهَا
حَصْباءُ دُرٍّ عَلَى أَرْض مِنَ الذَّهبِ

ولا بأس بهذه الصورة التي يظهرها قوله:

ثُمَّ ثَارُوا إِلى الصَّبوح فَقَامَتْ
قَيْنةٌ في يَمِينِها إِبْرِيقُ

ولو أن لدينا شيئًا كثيرًا من شعر هذا الشاعر في الخمر وغير الخمر، لاستطعنا أن نتبين شيئًا من الصلة القوية بينه وبين شعراء العراق في العصر العباسي، وأن نستخلص من هذا بوضوح أثر الإقليم العراقي، والبيئة العراقية في الشعراء على اختلاف عصورهم وأحوالهم الاجتماعية، ولكن ما يُروى عن هذا الشاعر قليل جدًّا، وأكثره مشكوك فيه، وأحسب أن الحظ الموفور منه — ولا سيما الزهد والحكم — قد نحل في العصر الإسلامي وأضيف إلى هذا الشاعر، لأن ذاكرة الرواة حفظت عنه قليلًا من الزهد، فأضاف المنتحلون إلى هذا القليل ما يجعله كثيرًا، وهذا الانتحال على الجاهليين معروف مشهور.

فالجاهليون إذن وصفوا الخمر، وأجادوا فيها بعض الإجادة، ولكن وصفهم لم يكن عميقًا، ولم يصطنع فيه التدقيق، وإنما كانوا يقنعون بالظواهر فيصفون لون الخمر ومظهرها، ويصفون أقداحها وأباريقها وصفًا مجملًا، ويصفون طعمها، ويصفون ما تحدث من نشوة، غير مبالغين في هذا الوصف ولا مسرفين في البحث عن الدقائق، بل إنما كانوا يقصدون، حين يصفون الخمر، إلى الفخر والتمدح بالمحاسن وكرام الخلال، فكثير جدًّا في ذلك العصر ما يشبه قول عنترة:

وَإذَا شرِبْتُ فإِنَّنِي مُسْتَهْلِكٌ
مَالي وعِرْضِي وَافِرٌ لَمْ يُكْلَم

وكثيرًا جدًّا ما يشبه هذه الأبيات التي قالها «المنخل اليشكري» في وجهتها، وهي الفخر، لا في معانيها، وهي من أبدع ما يُروى عن الشعراء الجاهليين، ولكن لا تنسَ أن المنخل اليشكري شاعر من شعراء العراق أيضًا، كان يعيش في الحيرة، وينادم النعمان، ويعاصر النابغة، وهذه هي الأبيات:

وَلقَدْ دَخَلْتُ علَى الْفَتَا
ةِ الخِدْرَ في الْيَوْمِ المطِيرِ
الْكاعِبِ الْحَسنَاءِ تَرْ
فُلُ في الدِّمَقْسِ وفي الْحريرِ
فدَفَعْتُهَا فَتَدَافَعتْ
مَشْيَ الْقَطَاةِ إلى الْغَدِيرِ
فَلَثِمْتُها فَتَنْفَّسَتْ
كَتَنَفُّسِ الظَّبْي البَهيرِ
وَلَقَدْ شَرِبْتُ مِن المُدَا
مةِ بِالصَّغِيرِ وَبِالْكَبِيرِ
فَإِذَا سَكِرْتُ فَإِنَّنِي
رَبُّ الخَوَرْنَقِ وَالسدِيرِ
وَإذا صَحَوْتُ فَإِنني
رَبُّ الشُّوَيْهَةِ والْبعِيرِ
يَا هِنْدُ مَنْ لِمُتَيمٍ
يَا هِند لِلعَانِي الْأَسِيرِ

فانظر إلى أول هذا الشعر، كيف أحسن تصوير هذه الفتاة، وكيف ذكر يوم لهوه، ثم انظر إلى هذين البيتين، أحدهما يشبِّه تدافع الفتاة بمشي القطاة إلى الغدير، والآخر يصور رغبة الفتاة ورهبتها، ويتخذ اضطراب تنفسها صورة لانخلاع قلبها، ثم انظر إليه كيف عرض للخمر، فلم يزد على أنه قد شرب منها بالكأس، وشرب منها بالقدح، وعلى أنه قد يسكر فيخيل إليه أنه الملك ذو القصر، وينسى حياته الحقيقية فلا يذكرها، إلا إذا صحا فرأى الشاة ورأى البعير. وانظر إلى قول الآخر من شعراء الجاهلية:

وَمُعَرَّسٍ عرْضِ الرَّدَى عَرَّسْتُهُ
وَالصُّبْحُ سَاطِعُ لَوْنِهِ لَمْ يَنْجلِ
فَأَتَيْتُ حَانُوتًا بِهِ فَصَبحْتُهُ
مِنْ عَاتِقٍ بِمِزاجِهَا لَمْ تُقْتَلِ
صهْبَاءَ صَافِية الْقَذَى أَغْلَى بِهَا
بَسَرٌ كَرِيمُ الخِيم غَيْرُ مُبَخَّلِ

فالجاهليون كانوا يصفون الخمر، ولكنهم لم يكونوا يمعنون في هذا الوصف إمعانهم في وصف الخيل والإبل، وما إلى الخيل والإبل؛ لأنهم لم يكونوا من النعمة ولين العيش بحيث يستطيعون أن يعكفوا عليها، ويعاشروها معاشرة متصلة، كما كانوا يعاشرون الإبل والشاة، وإنما كانت تسنح للكثير منهم فرصة اليوم أو الساعة، يشرب فيها ويلهو، فإذا فرغ من شربه ولهوه تحدث بذلك مفاخرًا، وربما وصف الخمر وذكر اللهو وهو لم يشرب، ولم يأخذ من اللهو بحظ، وإنما دعاه إلى ذلك الفخر والفن، فقد دخل وصف الخمر والإلمام بها في فن الفخر، والتحدث بما يمتاز به المفاخر من الكرم والسخاء، ومن العفة حين يدعو كل شيء إلى اطراح العفة إلى غير ذلك من هذه المعاني الشائقة، التي تجدها عند الجاهليين جميعًا.

فإذا أردت أن تذكر هذا الفن عند الجاهليين بشيءٍ يشخصه، وجدت صفتين اثنتين؛ الأولى: أن الشعراء كانوا يلمون بالخمر إلمامًا، ولا يلحون في وصفها ولا يكثرون منه ولا يدققون فيه، وإنما كانوا يعرضون له مع شيء من الاحتياط. الثانية: أنهم لم يتخذوا وصف الخمر فنًّا مستقلًّا من فنون الشعر، كما اتخذوا المدح والهجاء والفخر وما يشبه هذه الفنون.

ولم يكن من الممكن أن يستقل وصف الخمر في هذا العصر، ويصبح فنًّا قائمًا بنفسه يقصد من حيث هو؛ لأن الحياة الجاهلية لم تكن تسمح بذلك ولا تدعو إليه، ولهذا اشتهر الأعشى، وعدي بن زيد بإكثارهما في وصف الخمر؛ لأن ذلك لم يكن شيئًا مألوفًا، فلما جاء الإسلام سكت الناس عن الخمر حينًا، صرفهم عنها الدين، وصرفهم عنها جد الخلفاء، وصرفهم عنها الفتح والاستعمار، ومع ذلك فيظهر أن الشعر وحده، هو الذي سكت عن الخمر خوفًا وإشفاقًا، وأن كثيرًا من العرب، البادين والمتحضرين، كانوا لا يضنون على أنفسهم باللهو، يختلسونه اختلاسًا ويسترقونه استراقًا، وللرواة في ذلك أحاديث منها الصحيح، ومنها المتكلف المنحول، فهناك بيت يحضرني ولست أدري لمن هو، ولكني أعلم أنه قيل أيام عمر رضي الله عنه، وأنه موجه إليه وهو:

لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ
تَنَادُمُنَا فِي الْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ

وقصة الوليد بن عقبة — عامل عثمان رضي الله عنه على الكوفة — شائعة معروفة، والرواة يزعمون أنه كان يدمن على الشراب، وأنه صلى بالناس الصبح مرة وهو سكران، فركع ثلاثًا ثم التفت إلى المصلين وقال: «إن شئتم زدناكم!» ويروي الرواة أن عثمان أمر بحدِّه، وأن عليًّا رضي الله عنه هو الذي ضربه، والرواة يتحدثون بشيءٍ كهذا عن عمرو بن معد يكرب الزبيدي، فيزعمون أنه كان يحب الخمر، ويعكف عليها، وكأنه كلم في ذلك، وذكر بآيات الله فقال كلامًا لا نرويه! …

وما كاد ينتهي عصر الخلفاء، ويثبت سلطان بني أمية، حتى ضعف سلطان الدين، وانصرف الخلفاء وولاتهم عن الحدود والشرائع، إلى الخصومة السياسية والجهاد بين الأحزاب والعصبيات، وكثرت الغنائم، وعظمت الثروة، واضطر أفراد كثيرون من أحفاد المهاجرين والأنصار وأشراف قريش، إلى أن يقيموا في الحجاز مستمتعين بثروةٍ ضخمة وغنى كثير، وقد حيل بينهم وبين العمل السياسي خوفًا منهم أو عقابًا لهم؛ فانصرفوا إلى اللهو، وعكفوا على اللذة وأسرفوا فيهما وتغيرت الآية … فكانت مكة والمدينة وطن الشعراء الغزلين وموطن المغنين ومجتمع طلاب اللهو، وكانت لهؤلاء الناس جميعًا مجالس معروفة مشهورة، كثر ذكرها في كتب الأدب والتاريخ، وكثرت حولها الأخبار والشائعات، واضطر الخلفاء من بني أمية إلى أن يظهروا في بعض الأحيان ضروبًا من القسوة، فنكلوا ببعض هؤلاء الناس، وعذبوا بعضهم ثم نفوه، وخبر الأحوص بن محمد الأنصاري معروف، وخبر المخنثين في المدينة معروف أيضًا، وشعر عمر بن أبي ربيعة، وأخبار الدلال، أكثر وأشهر من أن نلح في ذكرها.

ومع هذا فقد كان المسلمون يشربون ويلهون، ولكنهم كانوا يحتشمون فلا يكادون يذكرون ذلك في الشعر إلا إلمامًا، كانوا يحتشمون إشفاقًا ووقارًا، ولم يكن المسيحيون مكلفين أن يحتشموا، ولا أن يخافوا، بل كانوا يجهرون بلذاتهم، وظهر في ذلك وبرع فيه الأخطل شاعر بني أمية، ولسانهم الناطق بسياستهم، المناضل عن حزبهم، كان مسيحيًّا، وكان كلفًا بالخمر مشغوفًا بها، حتى كره ذلك منه القسس، ويقال: إنهم عذبوه وضربوه؛ لأنه كان شديد الخضوع للدين، وكان يقبل من رؤساء دينه ما لم يكن يقبل من خلفاء المسلمين.

أكثر الأخطل من الشرب، وأكثر من وصف الخمر، وأجاد فيه، وجاهر بشربه، ولهوه، واستخدمه في السياسة، فيروى أنه دخل ذات يوم على عبد الملك بن مروان وهو سكران يترنح، فأنشده هذين البيتين:

إِذا مَا نَدِيمي عَلَّنِي ثُمَّ عَلَّني
ثَلَاثَ زُجَاجَات لَهُنَّ هَدِيرُ
خَرجْتُ أَجُرُّ الذَّيْلَ تِيهًا كأَنَّني
عَليْكَ أَمِيرَ المُؤْمِنينَ أَمِيرُ

وكان زفر بن الحارث جالسًا مع عبد الملك على السرير، وقد كان عادى بني أمية، وكلفهم ضروبًا من العناء، فلما أنزلوه على حكمهم، قربه عبد الملك وأخذ يحبه، فاغتاظ لذلك الزعماء، وأغروا به الأخطل، فدخل على الخليفة في هذه الحال، وأنشده البيتين، ثم روى من شعر زفر هذين البيتين:

أَرِيني سِلَاحِي لا أَبَا لَكِ إِنَّني
أَرَى الحَرْبَ لَا تَزْدَادُ إِلَّا تَمَادِيا
فَقَدْ يَنْبُتُ المرْعَى عَلَى دِمَن الثَّرى
وَتَبْقَى حَزَازَاتُ الصُّدُور كمَا هِيَا

فيقال: إن عبد الملك ضرب برجله في صدر زفر، فألقاه على السرير، وكاد يقتله.

ولسنا نريد أن نطيل في شعر الأخطل ووصفه للخمر، فشعر الأخطل معروف، وديوانه مطبوع، ولكننا نستطيع أن نقول بالإجمال: إن الأخطل على إكثاره في وصف الخمر، لم يكد يتجاوز ما سبقه إليه الأعشى وغيره من شعراء الجاهلية، فهو أكثر في وصف الخمر، ولكنه لم يخترع شيئًا كثيرًا.

ثم أخذ الزمن يتقدم، وأخذ الناس يترفون، وأخذ الاحتشام يقل ويضعف في الطبقات المختلفة، وأخذ الميل إلى اللذة والإسراف فيها ينتقلان من مكة والمدينة إلى دمشق، ولسنا نذكر يزيد بن معاوية؛ فقد كان الإنكار عليه شديدًا، وكان سخط الناس عليه يدل على أن عهدهم بالاحتشام لم يزل قريبًا، وحرصهم عليه لم يزل قويًّا، بل لا نذكر أبناء عبد الملك؛ فقد كانوا يحتاطون في اللهو، ويتسترون.

ولكن القرن الأول للهجرة لم يكد ينتهي، حتى كان الجيل قد تغير، والعهد قد تبدل، وحتى كان الاختلاط بين العرب، والفرس، وهذه الأمم الكثيرة المتباينة في الشأم، قد عمل عمله، وأخذ يظهر آثاره الكثيرة المختلفة، ومن أعظمها وأشدها خطرًا، المجون، وحب اللهو، وحرية الفكر والسيرة، ولقد أشرنا في الحديث الماضي إلى أن هذا القرن الثاني للهجرة قد كان عصر مجون وشك، وقلنا: يكفي أن يكون هذا القرن قد بدئ بالوليد بن يزيد، وختم بالأمين بن الرشيد.

ولقد كنا نود لو أتيح لنا البحث عن حياة الوليد بن يزيد، وعما سلك من طرق الهزل، وما ابتدع من ألوان المجون، حين كان وليًّا للعهد، وحين كان أميرًا للمؤمنين، ولسنا نود ذلك حبًّا فيه، أو كلفًا به، بل لأن للوليد بن يزيد أثرًا قويًّا جدًّا عرفه المتقدمون أنفسهم في شعر أبي نواس؛ فإن صاحب الأغاني مثلًا يتحدث بأن الشعراء العباسيين أخذوا كثيرًا عن الوليد في الخمر، ويختص منهم أبا نواس، لأنه أكثر الانتفاع بشعر الوليد.

وليس في هذا شيء من الغرابة؛ فقد كان الوليد سيئ الحظ في حياته وبعد موته، ولم يجمع شعره بل تفرق وضاع أكثره، فعدا عليه الشعراء، وأمنوا أن يتهموا بالسرقة، كان الوليد سيئ الحظ؛ فقد كان عمه هشام يكرهه ويحقد عليه، ويريد أن يخلعه من ولاية العهد، ويضع ابنه مكانه، فكان لذلك يضطهده، ويضطهد أولياءه، فلما مات هشام واستخلف الوليد، لم يطل عهده بالخلافة، وما أسرع ما ثار الناس به وقتلوه!

وليس يعنينا أن يكون الوليد ظالمًا أو مظلومًا، وليس يعنينا أن نحكم في أمر الوليد من جهة الدين والسياسة، وإنما الذي يعنينا الآن، هو أن نقول: إن الوليد كان شاعرًا مجيدًا، وماجنًا ماهرًا في المجون، مفطورًا عليه، وإنه هو الذي فتح هذا الباب لمن جاء بعده من الشعراء، وهو من هذه الجهة سيئ الحظ؛ لأن شعره ضاع ولم يحفظ، وتفرقت شخصيته بين الشعراء، فلم يبقَ منها إلا خيال ضئيل تنم به أخباره في الأغاني.

نقول: إن الوليد هو الذي فتح للشعراء باب المجون، ونريد مع هذا أن نتحفظ ونحتاط، حتى لا يغضب الأستاذ رفيق بك العظم وأصحابه، فنحن نعلم أن الوليد كان مضطهدًا في حياته أيام عمه هشام، وأنه اضطهد بعد موته، ولا سيما أيام بني العباس، وأن خصومه وأعداءه من الأمويين والعباسيين قد أضافوا إليه من الشعر والحوادث ما لم يقل، ولم يعمل، وإذن فيجب الاقتصاد، والحذر، عند قراءة ما يضاف إليه، ومع هذا الاقتصاد والحذر فليس من شك في أن الوليد كان ماجنًا خليعًا، وكان مسرفًا في الخلاعة والمجون.

ولم يكن إسرافه في الخلاعة والمجون أثرًا من آثار اللذة، والكلف بها فحسب، وإنما كان فيما يظهر أثرًا من آثار اضطراب الدين، وفساد العقيدة في نفسه، كان أثرًا من آثار البدع الجديد، الذي نشأ من اختلاط المسلمين بأهل النحل المختلفة، فأحدث الشك والإلحاد في نفوس نفر منهم غير قليل، فلم يكن مؤمنًا بالبعث، ولا بالعقاب والثواب، وكان مع هذا يؤدي فرائضه الدينية، فيصلي ويصوم لأن الناس كانوا يصلون ويصومون، ولأنه كان وليًّا لعهد الناس، أو خليفة على الناس، وانظر إلى هذه الأبيات:

أَدِرِ الْكَأْسَ يَمِينًا
لا تُدِرْهَا لِيسَارِ
اسْقِ هذَا ثُمَّ هذَا
صَاحِبَ الْعَودِ النُّضَارِ
مِنْ كُمَيْتٍ عَتَّقُوها
مُنْذُ دَهْرٍ في جِرَارِ
خَتَمُوهَا بِالأَفاويـ
ـهِ وَكافُورٍ وَقارِ
فَلَقَدْ أَيْقَنْتُ أنِّي
غَيْرُ مَبْعُوثٍ لِنَارِ
… … … … …
… … … … …
وَذَرُوا مَنْ يَطْلُبُ الْجَنـْ
ـنَةَ يَسْعَى لِتَبارِ

في هذا الشعر شيء من روح أبي النواس، ولكنه لم يبلغ من الصقل، وصفاء الأديم، ما بلغه أبو نواس، والوليد يعترف فيه بأنه لن يبعث ولن يعذب، وإذن فليستمتع باللذات، وليدع الأتقياء يشقون بخيال الجنة الذي يسعون إليه، بل هو لا يريد أن يدع هؤلاء الناس، وما يسعون إليه من نعيم، حق أو باطل، وإنما يريد أن يروضهم، حتى يصل بهم إلى ما يريد من إنكار كل شيء، والعبث بكل شيء، سواء في ذلك الدين والخلق والعادة.

ولقد تحدث بعض الرواة أنه حضر الوليد وهو خليفة، فلما كانت العصر نهض فصلاها، ثم جلس يتحدث، فلما كانت المغرب نهض فصلاها، ثم تعشى، ثم صلى العشاء، وأخذ يتحدث، ثم قال: اسقينني، فأقبلت جوار، فقمن بينه وبين الراوي، فسقينه، وأخذ يقول: اسقينني، وأخذ الجواري يسقينه، حتى أقبل الفجر، قال الراوي: فأحصيت له سبعين قدحًا.

ومثل هذا كثير في أخبار الوليد، والناس يرونه أنه سكر يومًا، فأمر جارية له، فصلت بالناس، ولم يكن الوليد مغرقًا، ولا مندفعًا في اللذات اندفاعًا غير منظم، لم يكن سكيرًا معربدًا، وإنما كان في قلبه مكان للحب، وللحب القوي المتين؛ فقد كلف بسلمى بنت سعيد بن عمرو بن عثمان، وكان قد تزوج أختها فطلقها وأراد أن يتزوج سلمى، فحال هشام بينه وبين ذلك؛ فأنطقه هذا الحب بشيءٍ من الغزل كثير، فيه نقاء وجودة، وفيه رقة ووفاء، فلما ولي الخلافة وصل إلى ما أراد، ولكن سلمى لم تقم عنده إلا أربعين يومًا، ثم ماتت فجزع الوليد، ورثاها بالشيء الكثير، وأكثر ما قال الوليد في سلمى غُنِّي فيه، وروى أبو الفرج منه طائفة لا بأس بها، فإذا أردت أن تتعرف روح الوليد وشخصيته الشعرية، فاقرأ هذا الشعر في الأغاني، ولكني أروي لك أبياتًا له في الخمر لا تشك، حين تقرؤها في أنك تقرأ أبا نواس:

اصْدَعْ نَجِيَّ الْهُمُومِ بالطَّرَبِ
وانْعمْ عَلَى الدَّهْرِ بِابْنَةِ الْعِنَبِ
وَاسْتَقْبِلِ العَيْشَ في غَضَارَتِهِ
لا تَقْفُ مِنْهُ آثَارَ مُعْتَقِبِ
مِنْ قَهْوَةٍ زَانَهَا تَقَادُمُها
فَهْيَ عَجُوزٌ تَعْلُو عَلَى الحِقَبِ
أَشْهَى إِلى الشَّربِ يَوْمَ جَلْوَتِها
مِنَ الْفتَاةِ الْكَرِيمَةِ النَّسَبِ
فَقَدْ تَجَلَّتْ ورقَّ جَوْهَرُهَا
حتى تَبَدَّتْ في مَنْظَرٍ عَجَبِ
فَهْيَ بِغَيْرِ الْمِزاجِ مِنْ شَرَرٍ
وهْيَ لَدَى المَزْجِ سَائلُ الذَّهَبِ
كأَنَّها في زُجَاجِهَا قَبَسٌ
تَذْكُو ضِيَاءً في عَين مُرْتَقِبِ
في فِتْيَةٍ مِنْ بني أُمَيَّةَ أَهـْ
ـلِ المَجْدِ والمَأْثُرَاتِ والحَسَبِ
مَا في الْورى مِثْلُهُمْ وَلَا بِهِمْ
مِثْلِي وَلَا مُنْتَم لِمِثْلِ أَبي

فانظر إلى هذا الشعر الجيد السهل، وانظر إلى ما فيه من تشبيه بديع ينم عن حضارة وترف.

فَهْيَ بِغَيْرِ الْمِزاجِ مِن شرَرٍ
وَهْيَ لَدَى المزْجِ سائِلُ الذَّهَبِ

ثم ألست تحس في هذا الشعر كله، رقة أبي نواس، وخفة روحه؟! ومع هذا، فالوليد محتفظ بالسنة القديمة، يتخذ الخمر وسيلة إلى الفخر …

لم يكد يبتدئ القرن الثاني إذن حتى ظهر المجون، وانتشر، ووصل إلى قصور الخلفاء، ثم كانت ثورة العباسيين، فتم انتصار الفرس على العرب، وانتقل مركز الخلافة من الشام إلى العراق، وأصبح الأدب عراقيًّا، لا شاميًّا ولا بدويًّا، أي أصبح خاضعًا من كثب، لتأثير الفرس، وحضارة الفرس، فتم انتصار العبث والمجون، وتمت استحالة الطبع العربي، وانقطع — أو كاد ينقطع — العهد بين هذا الطبع وبين بداوة العصر الأموي، وأقبل أبو نواس وأصحاب أبي نواس، فوجدوا سنة موروثة وطريقًا ممهدة، فأحيوا السنة، وسلكوا الطريق، ورثوا الوليد وأصحاب الوليد، فلم يضيعوا الميراث، ولم يفسدوه، وإنما نمَّوْه ورقَّوْه، وكان هذا الشعر العباسي الذي نزعم أن أبا نواس يمثله، والذي سنحدثك عنه في الأسبوع الآتي.

١  نُشرت بالسياسة في ١٢ رجب سنة ١٣٤١ / ٢٨ فبراير ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤