الفصل الثاني عشر

الخمر عند أبي نواس١

رأيت في الأسبوع الماضي أن الخمر قد وصفت قبل أبي نواس بنحو قرنين، فأحسن وصفها، وأن الشعراء قد كلفوا بها وتهالكوا عليها، وأن الوليد بن يزيد كان أول من اتخذ وصف الخمر وسيلة إلى إعلان المجون فيما نعلم، وأن شعراء آخرين قد تبعوا الوليد واقتفوا أثره، فأحسنوا وأجادوا، ولكن أبا نواس هو زعيم هذا الفن كما قلنا.

والناس مجمعون على ذلك، فلا نعرف من يقدم أحدًا على أبي نواس في وصف الخمر، والافتنان فيها، ولقد كان بعض الرواة يغلون في ذلك، فيزعم أن أبا نواس قد وصف الخمر وصفًا لو سمعه الحَسَنانِ لهاجرا إليها، ولعكفا عليها «يريد الحسن البصري وابن سيرين» ولسنا ندري إلى أي حد تصح هذه الرواية، ولكنا نعلم أن أبا نواس قد أحسن وصف الخمر إحسانًا لم يسبق إليه، ولم يلحق فيه، ونعلم أيضًا أن هذه الأوصاف التي نستحسنها ونستعذبها، ليست من الجودة أو الحسن بحيث ترغبنا في الخمر، أو تحملنا على أن نهاجر إليها، ونعكف عليها، بل نستطيع أن نقول أكثر من ذلك، فنزعم أن كثيرًا من هذا الإحسان، وهذه الإجادة قد يمر بنا دون أن نلاحظه أو نلتفت إليه، إلا إذا كنا قد أتقنا درس هذا العصر الذي عاش فيه أبو نواس، وتبينا ذوق أهله، وما كانوا يحبون ويكرهون، ففي هذا الإحسان والإجادة شيء كثير إضافي؛ أي إنه إحسان وإجادة بالقياس إلى العصر الذي قيل فيه، وإلى الناس الذين سمعوه، فإذا تغير الزمان واستحال الذوق، فليس بالإحسان ولا بالإجادة، وربما كان أدنى إلى الثرثرة ولغو الكلام، ولهذه الملاحظة خطرها، فهي تدل على شيئين قيمين:
  • أحدهما: أن الحكم على شعر القدماء — ولا سيما الشعر الغنائي — لا ينبغي أن يتخذ فيه الذوق العصري وحده مقياسًا للجودة والرداءة، وإنما ينبغي أن يكون مقياس ذلك ذوق العصر الذي عاش فيه الشاعر، فإن الشعر الغنائي بطبعه مرآة لعواطف الشاعر ومعاصريه، ممثل لما كان يحس الشاعر قومه وما كانوا يشعرون به، وواضح أن هذه العواطف ليست متحدة على اختلاف الأزمنة والأمكنة، وأن أهل بغداد كانوا يحبون ما لا نحب، ويكلفون بما لا نكلف به، ويميلون إلى ما لا نميل إليه؛ فليس غريبًا أن يستعذبوا من الشعر ما لا نستعذب، وأن يُفتنوا منه بما نقرؤه نحن غير مكترثين.
  • والآخر: أن قليلًا جدًّا من هذا الشعر الغنائي ما يبقى على الدهر، ويخلد على مر الأيام، وأن قليلًا جدًّا من الشعراء المغنين من يظفرون بإعجاب الجيل الذي يعيشون فيه، والأجيال التي تليه، فإذا ظفر أحدهم بهذا الإعجاب المتصل فذلك آية نبوغه، وقدرته على وصف العواطف، التي تهز قلوب الناس من حيث هم ناس، لا من حيث إنهم بغداديون أو مصريون، ولا من حيث إنهم من أهل القرن الثاني أو الرابع عشر للهجرة.

ولأبي نواس حظ غير قليل من هذا الإعجاب، كما رأينا فيما مضى، وكما سنرى فيما نعرض له من شعره، ولكن لأبي نواس شعرًا كثيرًا عجب به الناس في عصره ولا نحفل به الآن، وهذا الشعر كثير في الخمر، وربما كان أحسن مثال له هذه القصائد الطوال، التي قالها أبو نواس وغير أبي نواس في قدم الخمر وتعتيقها، وأنها قد شهدت عصر نوح، ثم عاد وثمود، وأنها تستطيع أن تتحدث إليك بأخبار الأولين، إلى آخر ما هناك، مما هو كثير يملأ شعر القدماء ولا نعجب به نحن إلا إعجابًا إضافيًّا؛ لأننا نعلم أن القدماء كانوا يعجبون به ويتنافسون فيه، ومن ذلك أيضًا هذا الشعر الكثير الذي يصف الشعراء فيه بحثهم عن الخمر، وارتيادهم إياها، ومغالاتهم في ثمنها، فيشبهونها بالعذراء تخطب إلى أبيها الدهقان، ويغالي هذا الدهقان في مهرها، ويتمنع في تزويجها من شاربيها؛ لأنه يريد أن يتخذ لها الأكفياء، ومن ذلك أيضًا الإكثار في وصف طعم الخمر وريحها، وأنها تقطب الجبين، وتزيل الزكام، إلى آخر ما هناك مما لا نحفل به الآن، ثم هذا الكلام الكثير في أن الخمر لا تطبخ على النار ولم ترها الشمس وإنما عتقت وتخمرت في جوف الأرض بمعزلٍ عن حر الشمس والنار، وقد نقرأ الشعر الذي يتناول هذه المعاني فنعجب به لأن لفظه جيد، أو لأن فيه مغالاة تدهشنا، وتخالف ما ألفنا، أو لأن فيه شيئًا من الإحالة والبعد عن معقول الناس.

فإذا أردنا أن نحلل هذا الشعر ونلتمس ما فيه من الجمال الصحيح، ونلائم بينه وبين ميولنا وأهوائنا وعواطفنا وأذواقنا، لم نجد شيئًا، وأغرب من هذا أن الشعراء المعاصرين الذين يحتذون القدماء، ويقتفون آثارهم قد يبلغون منا هذه المنزلة، ويسحروننا بكلامٍ نسمعه فنعجب به، حتى إذا حاولنا فهمه واستقصاء ما فيه لم نجد شيئًا، أو وجدنا ما لا يروق، فأي الناس سمع هذا الشعر من قول حافظ ثم لم يفتن به:

يَا غُلامُ الْمُدَامَ وَالْكَأْسَ وَالطَّا
سَ وَهَيِّئْ لَنَا مَكَانًا كَأَمْسِ
وَاسْقِنَا يَا غُلامُ حَتَّى تَرَانَا
لا نُطِيقُ الْكَلامَ إِلَّا بِهَمْسِ
خَمْرَةً قِيلَ إِنَّهُمْ عَصَرُوهَا
مِنْ خُدُودِ الْمِلاحِ فِي يَوْمِ عُرْسِ

فانظر إلى هذا البيت الأخير كيف يفتنك لفظه ويسحرك؟ وكيف لا تفتنك خدود الملاح في يوم عرس؟ ولكن تكلف أن تتبين هذه الخمر التي تعصر من خدود الملاح، وحدثني أتستطيع أن تشربها، أو تستطيع أن تنظر إليها دون أن تتأذى وينالك شيء من الألم غير قليل؟ إذن فينبغي أن نحتاط ونقتصد في الإعجاب بالشعر عامة، وبشعر القدماء خاصة؛ فإن سحر الشعر كثير قوي، مختلفة أسبابه وبواعثه.

والآن وقد بسطنا هذه المقدمة التي لم يكن منها بد، نستطيع أن نعرض لوصف الخمر في شعر أبي نواس، وأول ما نذكر من ذلك هذه القصيدة التي نستطيع أن نعتبرها مقياسًا لذوق الشعراء في ذلك العصر، وللموضوعات التي كانوا يلمون بها، ويقصدون إليها، وهي:

يَا خَاطِب القَهْوَةِ الصَّهْبَاءِ يَمْهُرُهَا
بالرِّطْلِ يَأْخُذ مِنْهَا مِلْأَهُ ذَهَبَا
قَصَّرْتَ بِالرَّاحِ فَاحْذَرْ أَنْ تُسَمِّعَهَا
فَيَحْلِفَ الْكَرْمُ أَلَّا يَحْمِل العِنَبَا
إِنِّي بَذَلْتُ لَهَا لَمَّا بَصُرْتُ بهَا
صَاعًا منَ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ مَا ثُقِبَا
فَاسْتَوحَشَتْ وَبَكَتْ فِي الدَّنِّ قائِلَةً
يَا أُمُّ وَيْحَكِ! أَخْشَى النَّارَ واللَّهَبَا
فَقُلْتُ لا تَحْذَرِيهِ عِنْدَنَا أَبَدًا
قالَتْ وَلَا الشَّمْسَ؟ قُلْتُ الحَرُّ قَدْ ذَهَبَا
قَالَتْ فمَنْ خَاطِبي هذَا؟ فَقُلْتُ أَنا
قالَتْ فَبعْلِيَ؟ قُلْتُ المَاءَ إِنْ عَذُبَا
قَالَتْ لِقَاحِي؟ فَقُلْتُ الثَّلجُ أَبْرَدُهُ
قالَتْ فَبَيْتِي؟ فَمَا أَسْتَحْسِنُ الخَشَبَا
قُلْتُ الْقَنَانِيُّ وَالْأَقْدَاحُ وَلَّدَهَا
فِرْعَوْنُ قَالَتْ لَقَدْ هَيَّجْتَ لِي طَرَبَا
لَا تُمْكِنَنِّي مِن العِرْبِيدِ يَشْرَبُنِي
وَلَا اللَّئِيمِ الَّذِي إِنْ شَمَّنِي قَطَبَا
وَلَا الْمَجُوسِ فَإِنَّ النَّارَ رَبُّهُمُ
وَلَا اليَهُودِ وَلَا مَنْ يَعْبُدُ الصُّلُبَا
وَلَا السفَالِ الَّذِي لا يَسْتفيقُ وَلَا
غِر الشَّبَابِ وَلَا مَنْ يجْهلُ الْأَدَبا
وَلَا الْأَرَاذِلِ إِلَّا منْ يُوَقِّرُني
مِنَ السُّقَاةِ وَلكِنْ أَسْقِني العربَا
يا قَهْوَةً حُرمَت إِلَّا عَلَى رَجُلٍ
أَثْرَى فأَتْلَف فِيهَا الْمَالَ والنَّشَبَا

فانظر إلى هذه القصيدة، فلن تجد فيها معنى يخلبك، أو شيئًا يستهويك، ومع ذلك، فأستطيع أن أؤكد لك أن القدماء كانوا يكلفون بهذه المعاني، ويستعذبون الشعر الذي ترد فيه، وكانوا يحبون هذا التشبيه «تشبيه الخمر بالعروس تخطب ويغالى في مهرها» وكانوا يحبون هذا الحوار يجرى بين الخمر ومن يرتادها، وكانوا يحبون هذه الأبيات الأخيرة التي تقص عن الخمر من ليس لشربها أهلًا، وكانوا يعجبون بنوعٍ خاص بهذا البيت الأخير الذي يحل الخمر للغني يتلف ثروته فيها، أما نحن فلعلنا لا نحب من هذا كله شيئًا، ولعلنا نقرأ هذه القصيدة، فلا نجد فيها ما يستخف، ولا ما يرغب في الخمر …

ولكن أبا نواس كان يحب الخمر حبًّا ربما كان أشبه بالدين، كان يعبدها ويقدسها تقديسًا؛ فانظر إلى هذه الأبيات، ولست أشك في أنك ستستحسنها، وتعجب بها الإعجاب الكثير، وتشعر بأنها ليست مدحًا للخمر، وإنما هي صلاة إلى الخمر:

أَثْنِ عَلَى الْخَمْرِ بِآلَائِها
وسَمِّهَا أَحْسَنَ أَسْمائِهَا
لا تَجْعَلِ المَاءَ لَهَا قاهِرًا
ولَا تُسَلِّطْها عَلَى مَائِهَا
كَرْخِيَّةٌ قَدْ عُتقَتْ حِقْبَةً
حَتَّى مضَى أَكْثَرُ أَجْزَائِهَا
فَلَمْ يَكَدْ يُدْرِكُ خَمَّارُهَا
مِنْهَا سِوى آخِرِ حَوْبَائِهَا
دَارَتْ فَأَحْيَتْ غَيْرَ مَذْمُومَةٍ
نُفُوس حَرَّاهَا وَأَنْضَائِها
وَالْخَمْرُ قَدْ يشْرَبُهَا مَعْشَرٌ
لَيْسُوا إِذَا عُدُّوا بِأَكْفَائها

فانظر إلى هذا البيت:

أَثْنِ عَلى الْخَمْر بآلَائِهَا
وسَمِّهَا أَحسنَ أَسْمَائِهَا

أليس الشطر الأول منه تسبيحًا للخمر؟! أليس الشطر الثاني منه تقديسًا للخمر؟ أليس في هذا البيت على سهولته وبراءته من ألفاظ المجون أشد ألوان المجون؟ أليس فيه الاستهزاء بالدين والسخرية منه؟ أليس يذكرك القرآن؟ أليس يذكرك قول الله تعالى: وَلِلهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا، ثم انظر ما جاء بعد هذا البيت، انظر إلى سهولة اللفظ، وخلوه من التكلف، انظر إلى هذا النظم يكاد يكون نثرًا، وانظر إلى دقة هذا المعنى الذي قد لا يعجبك في نفسه، ولكنه على هذا جميل دقيق، يمثل عقل أبي نواس، واصطباغه بالصبغة الفلسفية التي كانت عامة في عصره:

كَرْخِيَّةٌ قَدْ عتِّقَتْ حِقْبَةً
حَتَّى مَضَى أَكْثَرُ أَجْزَائِهَا
فَلَمْ يكَدْ يُدْرِكُ خَمَّارُها
مِنْهَا سِوَى آخِرِ حَوْبَائِهَا

فهذه الدقة لا تستهويك ولا ترغبك في الخمر، ولا تنزع بك إلى حب الشراب، ولكنها في نفسها جميلة محببة، وانظر إلى استئناف الثناء على الخمر، في لفظ حلو سهل غير متكلف ولا متصنع:

دَارَتْ فَأَحْيتْ غَيْرَ مَذْمُومَةٍ
نُفُوسَ حَراهَا وأَنْضَائهَا
والْخَمْرُ قَدْ يَشْرَبُهَا مَعْشَرٌ
لَيْسُوا إِذَا عُدُّوا بِأَكْفَائِهَا

فقد رأيت في هاتين القصيدتين شيئين مختلفين؛ رأيت في الأولى معاني لا تعجبك ولا تروقك، وكانت تعجب القدماء وتروقهم، ورأيت في الثانية معاني ليست جميلة لأنها تصف الخمر وتحث عليها، وإنما هي جميلة لنفسها، لأنها تدل على قدرة الشاعر ودقته، وحسن غوصه على المعاني، وهي تعجبك كما كانت تعجب المتقدمين.

وانظر إلى هذه الأبيات التي تجمع بين إعجابك وإعجاب القدماء، لأنها تصف شيئًا ترغب أنت كما كان يرغب القدماء في وصفه:

كَمْ مُتْرَفٍ عَقَلَ الحَياءُ لِسانَهُ
فَكَلامُهُ بِالْوَحْي وَالْإِيماءِ
لَمَّا نَظَرْتُ إِلَى الْكَرى في عَيْنِه
قَدْ عَقَّلَ الجَفْنَيْنِ بِالإِغْفَاءِ
حَرَّكْتُهُ بِيدِي وَقُلْتُ لَهُ انْتبِهْ
يَا سَيِّدَ الْخُلَطَاءِ والنُّدَمَاءِ
حَتَّى أُزِيحَ الْهَمُّ عَنْكَ بِشَرْبَةٍ
تَسْمُو بِصَاحِبِهَا إِلَى العَلْياءِ
فَأَجَابنِي وَالسُّكْرُ يَخْفِضُ صوْتَهُ
وَالصُّبْحُ يَدْفَعُ فِي قَفَا الظَّلْمَاءِ
إِنِّي لَأَفْهَمُ مَا تَقُولُ وَإِنَّما
رَدَّ التعَافِي سَوْرَةُ الصهْبَاءِ

ومع ذلك فأنت لا توقظ نديمك من نومه، ولا تحركه بيدك، ولا تستأنف الشراب إذا أقبل الصباح كما كان يفعل القدماء، ولكن انظر إلى هذا البيت بنوعٍ خاص:

فَأَجَابنِي وَالسُّكْرُ يَخْفِضُ صوْتَهُ
وَالصُّبْحُ يَدْفَعُ فِي قَفَا الظَّلْمَاءِ

كان أبو نواس إذن يعبد الخمر ويدمن شربها، فيشربها إذا أمسى، ويشربها إذا أصبح، وربما عكف عليها ليله ويومه، وربما عكف عليها الأسبوع كله، لا ينصرف عنها إلا حين يثقله النوم، كما ترى ذلك في قصيدته التي مطلعها:

يَا طِيبَنَا بِقُصُورِ الْقَفْصِ مُشْرِقَةً
فِيهَا الدَّسَاكِرُ وَالْأَنْهارُ تَطَّرِدُ

وقد اشتهر ذلك عنه وعن مولاه الأمين الذي كان ينادمه ويساقيه، واتخذ أنصار المأمون في خراسان هذا سلاحًا يحاربون به الأمين، فكان ينشد مجون أبي نواس في المسجد الجامع عند الصلاة، ويلعن من قاله، ومن أحبه، وكأن هذا قد وصل إلى الأمين في بغداد فأشفق منه، وأراد أن يحتاط ويصطنع الوقار، فنهى أبا نواس عن شرب الخمر، وأظهر أبو نواس الطاعة، ولكن ذلك شق عليه، فقال فيه شعرًا كثيرًا جدًّا، منه هذه الأبيات:

أَعَاذِلَ أَعْتَبْتُ الْإِمَامَ وأَعْتَبَا
وَأَعْرَبْتُ عَمَّا في الضَّمِيرِ وَأَعْربا
وَقُلْتُ لِسَاقيهَا أَجِزْهَا فَلَمْ أَكُنْ
لِيَأْبَى أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ وَأَشْرَبا
فَجَوَّزَها عَنِّي سُلافًا تَرى لَهَا
إِلَى الْأُفُقِ الْأَعْلَى شُعَاعًا مُطَنَّبَا
إِذَا عَبَّ فِيهَا شَارِبُ الْقَوْم خِلْتَهُ
يُقَبِّل في دَاجٍ مِنَ اللَّيْلِ كَوْكَبَا

وقال هذه القصيدة الأخرى التي تبين مقدار ما يعاني من الألم والحرمان لطاعة الأمين:

أَيُّهَا الرَّائحَان بِاللَّوْمِ لُومَا
لا أَذُوقُ المُدَامَ إِلَّا شمِيمَا
نَالَنِي بِالْمَلَامِ فِيهَا إِمَامٌ
لَا أَرَى لِي خِلافَهُ مُسْتَقِيمَا
فَاصْرِفَاهَا إِلَى سِوَاي فَإِنِّي
لَسْت إِلا علَى الْحَدِيثِ نَدِيمَا
كُبْرُ حَظِّي مِنْهَا إِذَا هِي دَارَتْ
أَنْ أَرَاهَا وَأَنْ أَشُمَّ النَّسِيمَا
فَكَأَنِّي ومَا أُزيِّنُ مِنْهَا
قَعَدِيٌّ يُزَيِّنُ التَّحْكِيما
كلَّ عَنْ حَمْلِهِ السِّلَاحَ إِلَى الْحَرْ
بِ فَأَوْصَى المُطِيقَ أَلَّا يُقِيمَا

وليس كل الناس قادرًا على أن يفهم هذين البيتين الأخيرين على أنهما لا يخلوان من جمال؛ فهو يشبه في وصفه للخمر وحثه للناس على شربها، دون أن يستطيع لها مذاقًا، بالخارجي الذي عجز عن الحرب، فقعد وأخذ يحث الناس عليها.

على أن أبا نواس لم يتب قط عن الخمر، ولم يكن يستطيع أن يتوب، ولعل التوبة لم تدركه إلا حين أدركه الموت، وقد ذكرنا لك في غير هذا الفصل ما كان من أمر صديقه الكوفي الذي ما زال به حتى حمله على خلاف الأمين، فشرب الخمر، وسب زبيدة، وعاد إلى الأمين فأخبره أنه قد خرج عن طاعته، فلم يغضب لذلك الأمين، بل حمده ورضي عنه، وأمر أبا نواس فحمل إليه صديقه الكوفي، فاتخذه نديمًا! …

على أن من الحق أن نعرف لأبي نواس شيئًا غير هذا الفسق والإغراق في المجون، وهو أنه كان يريد أن يتخذ — ويتخذ الناس معه — في الشعر مذهبًا جديدًا، وهو التوفيق بين الشعر وبين الحياة الحاضرة، بحيث يكون الشعر مرآة صافية تتمثل فيها الحياة، ومعنى ذلك العدول عن طريقة القدماء؛ لأن هذه الطريقة كانت تلائم القدماء، وما ألفوا من ضروب العيش، فإذا تغيرت ضروب العيش هذه، وجب أن يتغير الشعر الذي يتغنى بها؛ فليس يليق بساكن بغداد، المستمتع بالحضارة ولذاتها، أن يصف الخيام والأطلال، أو يتغنى الإبل والشاء، وإنما يجب عليه أن يصف القصور والرياض، ويتغنى الخمر والقيان؛ فإن فعل غير ذلك فهو كاذب متكلف.

أراد أبو نواس أن يشرع للناس هذا المذهب، فجد فيه ووفق التوفيق كله، واتخذ وصف الخمر وما إليها من اللذات وسيلة إلى مدح طريقته الحديثة، وذم طريقة القدماء.

ولولا ما نعرفه من سيرته وإدمانه، لكان من الحق أن نشك في أنه من اللهو والمجون بحيث يصف نفسه، وأن نتساءل أليس هذا الغلو والإسراف، أثرًا من آثار التعصب لمذهبه الجديد؟

على أن هذا المذهب الجديد، على حسنه واستقامته، وعلى أن أبا نواس موفق فيه، لم يسلم من أشياء تمكننا من أن نفهم بغض الناس له، ونعيهم عليه؛ فهو ليس مذهبًا شعريًّا فحسب، وإنما هو مذهب سياسي أيضًا.

يذم القديم — لا لأنه قديم — بل لأنه قديم، ولأنه عربي، ويمدح الحديث — لا لأنه حديث — بل لأنه حديث، ولأنه فارسي؛ فهو إذن مذهب تفضيل الفرس على العرب، مذهب الشعوبية المشهور.

ومن هنا نفهم سخط كثير من العرب وأنصار العربية، على هذا المذهب الجديد، ونفهم أيضًا أن الرشيد حبس أبا نواس لقصيدة هجا بها العرب، ومهما يكن من شيء، فالخمريات التي عرض أبو نواس فيها لتأييد مذهبه الجديد، وذم المذهب القديم، هي أجود ما يروى عن أبي نواس ولا بد من أن نلم بكل هذه القصائد، لنستطيع أن نستخلص أصول هذا المذهب الجديد، كما كان يتصوره أبو نواس، ولكننا نرجئ هذا إلى الأسبوع الآتي ونختم حديث اليوم بهذه الأبيات في هذا الموضوع:

لا تَبْكِ ليْلى وَلَا تطْرَبْ إِلَى هِنْدِ
وَاشْربْ عَلَى الْورْدِ مِنْ حَمْراءَ كالْوَرْدِ
كَأْسًا إِذا انحَدَرَتْ مِنْ حَلْق شَارِبِها
أَجْدَتْهُ حُمْرَتَهَا فِي الْعَيْن وَالخَدِّ
فَالْخَمْرُ يَاقُوتةٌ وَالْكَأْسُ لُؤْلؤَةٌ
فِي كَفِّ جَارِيَةٍ مَمْشُوقَةِ الْقَدِّ
تَسْقِيكَ مِنْ يَدِهَا خَمْرًا وَمِنْ فَمِهَا
خَمْرًا فَمَا لَكَ مِنْ سُكْرَيْنِ مِنْ بُدِّ
لي نَشْوَتَان وَلِلنُّدْمَانِ وَاحِدَةٌ
شَيءٌ خُصِصْتُ بهِ مِنْ بيْنِهِمْ وَحْدِي

ويتحدث الرواة أن أبا نواس أنشد هذه الأبيات طائفة من أصحابه، فخروا له سجدًا، فقال: فعلتموها! أعجمية! والله لا كلمتكم ثلاثًا وثلاثًا وثلاثًا! ثم ندم، وقال: تسعة أيام في هجر الإخوان كثير! وربما كان أصحاب أبي نواس مسرفين حين سجدوا له إعجابًا به.

ولكن الشيء الذي لا شك فيه، هو أن هذه الأبيات من أحسن شعره وأجوده، وليس من السهل أن تقول: لماذا حسنت هذه الأبيات، ولكنك تشعر فيها بجمال يجذبك ويستهويك، دون أن تستطيع له تحديدًا، جمال في اللفظ وجمال في المعنى؛ فليس في اللفظ كلمة غريبة أو حرف ينبو على السمع، بل هي ألفاظ متخيرة ليست بالمبتذلة، ولا التي لا يفهمها عامة الناس، وليس في المعنى شيء مستغلق أو شيء مبتذل، بل هي معانٍ مألوفة، ولكن استطاع الشاعر أن يقارب بينها، فيحدث من هذه المقاربة جمالًا ولذة، ما كنت لتحسهما، لولا أن قرن الشاعر هذه المعاني بعضها إلى بعض، انظر إلى قوله: «واشرب على الورد من حمراء كالورد» وانظر إلى قوله:

فَالْخَمْرُ يَاقُوتَةٌ وَالْكَأْسُ لُؤْلُؤَةٌ
في كَفِّ جَارِيَةٍ مَمْشُوقَةِ القَدِّ
تَسْقيكَ مِنْ يَدِهَا خَمْرًا ومِنْ فَمَهَا
خَمْرًا فَمَا لَكَ مِنْ سُكْرَيْن مِنْ بُدِّ

فهذه الطائفة من التشبيهات يتلو بعضها بعضًا، ويكمل بعضها بعضًا، هي التي تحدث في نفسك اللذة، وتبعثها على الإعجاب، وانظر إلى هذا البيت الأخير، وإلى شطره الثاني بوجهٍ خاص، تجده حضريًّا، فانيًا في الحضارة، ومترفًا مغرقًا في الترف، يعبر عن حضارته وترفه، بلفظ يكاد يصل إلى قلبك، دون أن تسمعه:

لِي نَشْوتَانِ وَللنُّدْمانِ وَاحِدَةٌ
شَيْءٌ خُصِصْتُ بِهِ مِنْ بيْنِهِم وَحْدِي

ولست أدري لماذا لم أسمع هذا البيت مرة، إلا وددت لو سمعته من فم مغن يجيد الغناء!

١  نُشرت بالسياسة في ١٩ رجب سنة ١٣٤١ / ٧ مارس سنة ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤