الفصل الرابع عشر

الغزل في شعر أبي نواس١

رأينا مذهب أبي نواس في وصف الخمر وتمجيدها، وعرفنا أنه لم يصف الخمر عبثًا، وإنما وصفها وسيلة، إلى إعلان رأيه في تجديد الأدب، وإعلان مذهبه في المجون، وإعلان ما يُكن للخمر من حب، وما يختصها به من كلف.

ونريد اليوم أن نعرف مذهب أبي نواس في الغزل، ولكني أتعجل فألفتك إلى أن هذا غير ميسور؛ لأن أبا نواس لم يتغزل كغيره من الشعراء الذين سبقوه، ولم يسلك السبيل التي مهدت من قبله، وإنما سلك سبلًا أخرى ليس يباح لنا، في صحيفة سيارة، أن نسلكها معه، أو نتبعه فيها.

لأبي نواس غزلان: غزله بالنساء، وغزله بالغلمان، وهو مجيد في الثاني، محسن الإحسان الفني كله، صادق أيضًا أشد الصدق، ولكنك تقرنا على أننا لا نستطيع أن نطرق هذا الباب، إلا في كتاب مخصص لأبي نواس، يقرؤه الخاصة، ولا تصل إليه يد العامة، إلا مصادفة وبعد مشقة.

أما غزله بالنساء فكثير، وفيه الجيد، ولكن فيه الرديء، ولعلك إذا أردت أن تميز هذا الغزل، أو تصفه بوصفه الصحيح، لم تستطع أن تعدل عن هذا الحكم، وهو أن أبا نواس لم يكن جادًّا ولا صادقًا حين كان يتغزل بالنساء، وإنما كان مازحًا، أو بعبارة أصح كان مخادعًا، وكان كذابًا، كان مغرورًا وكان مفتونًا، وكان مع هذا كله شاعرًا، يريد أن يطرق أبواب الشعر جميعها، ومنها التغزل بالنساء، فتغزل بهن، حتى لا يفوته هذا الفن، وفي الحق أنه لم يقصر في هذا الفن؛ فقد وصف النساء فأحسن وصفهن، وقد وصف ما بين النساء والرجال من صلة، فأجاد الوصف، وأتقن التصوير.

ولكنه لم يصف النساء جميعًا، وإنما وصف منهن طائفة خاصة، ولم تكن هذه الطائفة أقرب النساء إلى الطهر والعفاف، ولا إلى البر والصون، وإنما كانت طائفة مبتذلة ممتهنة، حظها من الطهر والعفاف قليل، لم يعرض أبو نواس أو لم يكد يعرض للمحصنات من النساء، ولا للحرائر منهن، وإنما عرض للإماء، فأحسن وصفهن، وترك لنا منهن صورة إن لم تكن صحيحة صادقة كل الصدق، فهي قريبة جدًّا من الحقيقة الواقعة، عرض للإماء ولطائفةٍ بعينها من الإماء، لهذه الطائفة التي كانت تتألف من إماء مهذبات، قد أحسن تأديبهن، فروين الشعر وقرضنه، وأحسن الموسيقى، ونبغن فيها، وأخذن من العلم والأدب المعروفين حينئذ بطرفٍ لا بأس به، فكن يثبتن لمناظرة الشعراء والعلماء وأئمة اللغة، وكن يمتزن بذلك، ويتقدمن على الحرائر والمحصنات؛ لأن حرية هؤلاء وإحصانهن كانا يحولان بينهن وبين التحدث إلى الرجال، والتبذل في هذا الحديث.

كان الإماء إذن مظهر المرأة في بغداد، ولكنه كان مظهرًا سيئًا جدًّا من جهة، وحسنًا جدًّا من جهة أخرى، كان مظهرًا سيئًا؛ لأنهن كن مبتذلات خليعات، يتهالكن على الخلاعة، ويسرفن في المجون، ويتخذن من تهالكن على الخلاعة، وإسرافهن في المجون سلاحًا قويًّا، يتملقن به لذة الرجال وشهواتهم، ويحاربن الحرائر حربًا غير متكافئة، وكن مظهرًا حسنًا لأنهن كن أديبات عالمات، يتصرفن في فنون الأدب والعلم على اختلافها.

ومن هنا وجب القصد والاحتياط في الحكم على نساء هذا العصر، بما نرى في شعر أبي نواس وغير أبي نواس، وبما نرى في الأغاني وغير الأغاني مما يشهد بتفوقهن العقلي من جهة، وانحطاطهن الخلقي من جهةٍ أخرى، يجب القصد والاحتياط؛ لأن الكثرة المطلقة من هؤلاء النساء لا تمثل المرأة العربية الحرة، بل لا تمثل المرأة المسلمة الحرة، وإنما تمثل هذا الرقيق الذي كان يجلب إلى بغداد وغير بغداد من حواضر المسلمين، فيتخذ فيها تجارة ولهوًا، كما يتخذ تجارة ولهوًا فاخر الأثاث وحسن الرياش.

هؤلاء النساء لا يمثلن المرأة الحرة، وإنما يمثلن الرجل الحر؛ فقد كن له لذة ولهوًا، وكن لأخلاقه وحياته خارج البيت مرآة مجلوة، تمثلها أحسن تمثيل، فلو أن هؤلاء الإماء اللاتي ذكرهن أبو نواس كن يحببن اللهو، ويتهالكن على المجون، ويقبلن فيه من ضروب الخلاعة والابتذال ما لا يقبله الحرائر، لما استطاع أبو نواس وغير أبي نواس أن يقولوا فيهن ما قالوا، أو أن يصفوهن بمثل ما وصفوهن به.

كان في جاهلية العرب وصدر الإسلام وأيام بني أمية شعراء يحبون الفتك، ويتحدثون به، فلامرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة في ذلك شعر كثير، ولكن هؤلاء الشعراء كانوا يؤثرون العفة وحسن القول، حتى في الفتك والفحش، وكان شعرهم الفاحش قليلًا جدًّا، بالقياس إلى شعرهم العفيف، وكان الشعراء الصادقون في الحب، المؤثرون للعفة والطهارة في كل ما يقولون، كثيرين جدًّا بالقياس إلى هؤلاء الشعراء الفاتكين، ذلك لأن سلطان الإماء كان ضعيفًا جدًّا، أو لم يكن موجودًا في هذه العصور، ولأن الرجال الأحرار كانوا يؤثرون كرامتهم على لذاتهم، فكانوا يؤثرون نساءهم على إماءهم، أما في أيام بني العباس فقد تغيرت الحال تغيرًا شديدًا، كثر الإماء كثرة فاحشة، وتفوقن تفوقًا فاحشًا، في الأدب والشعر والغناء، وفي ضروب الزينة واستهواء الرجال، وتغيرت أخلاق الرجال، فتهالكوا على اللذة، واستبقوا إلى الشهوات، فاعتقلوا الحرائر المحصنات، وكلفوهن ما تتكلفه المرأة الحرة المحصنة، من الإشراف على حياة الأسرة في عفة وكرامة، ولكن من وراء حجاب، ثم أسرفوا في اتخاذ الرقيق، وأباحوا لأنفسهم مع هذا الرقيق من ضروب اللذات، ما تأبى الكرامة وإكبار الحرائر اتخاذه مع الزوجات، فكان هذا الفساد العظيم، الذي يمثله غزل أبي نواس بالنساء والغلمان … أتظن أن أبا نواس كان يستطيع أن يقول في حرة محصنة مثل هذه القصيدة:

وَنَابِهٍ في الهَوى لَنَا نَاسِي
قَطَّعَ بِالهِجْرَانِ أَنْفَاسِي
لَسْتُ لَهَا وَاصِفًا مَخَافَةَ أَنْ
يَعْرِفَ مَا بِي جَمَاعَةُ النَّاسِ
أَكثر وَصْفِي لَهَا شِكايةُ مَا
فَيهَا قَضَى اللهُ لِي عَلَى رَاسِي
يُطْمِعُنِي لَحْظُهَا ويُؤْنِسُنِي
بِاللَّفْظِ، مِنْهَا فُؤَادُهَا الْقَاسِي
فَصُرْتُ بِاللَّحْظِ مِن مُعَذِّبَتِي
وَاللَّفْظِ بَيْنَ الرَّجاءِ وَاليَاسِ
أَسْعَدُ يَومٍ لَهَا حَظِيتُ بِهِ
مَقَالُهَا لِي وَلَسْتُ بِالنَّاسِي
لِذلِكَ الْيَوْمِ ما حَييتُ ومَا
تَرْجَمَ قَولِي سَوادَ أَنْفَاسِي
تَقُولُ لِي وَالْمُدَامُ مُرْسَلَةٌ
تَفِيضُ حَوْلِي نُفُوسُ جُلَّاسي
هَلْ لَك أَنْ تَطْرُدَ النُّعَاسَ فَقَدْ
طَاب انْضِوَاعُ المُدَامِ وَالْآسِ
قُلْتُ لَهَا فَابْتَدِي وَهَاتِي فمَا
حسَوْتِ مِنْهَا فَإِنَّنِي حَاسِي
وَغَايَتِي أَنْ أَنَالَ فضْلَتَهَا
فِي الْكَأسِ مِنْ شُرْبِهَا أَو الطَّاسِ
ثُمَّ أَظُنُّ الحِذَارَ نَبَّهَهَا
وَمَا بِهَا قَدْ أَرَدْتُ مِن باس
قَالَتْ فَدَعْ عنْكَ الاحْتِيَالَ لِما
أَرَدْتَ سُكْرِي لَهُ وَإِنْعَاسي
أَعْرَضْتُ عَنْهَا وَقَدْ فَهِمْتُ لكِي
تَحْسَبَ أَنِّي لِقَوْلِهَا نَاسي
ثُمَّ دَعَتْهَا المُدَام مِنْ كَثَبٍ
وَاللَّيْلُ ذُو سُدْفَةٍ وَإدْمَاسِ
فَاحْتَلَبَتْ زِقَّنا فَمَج بِهَا
فِي الكَأسِ رَاحًا كَضَوْءِ مِقْيَاسِ
ثُمَّ تَحَسَّتْ حَتَّى إِذَا شَرِبَتْ
نِصْفًا كَمَا قِيسَ لِي بمِقيَاسِ
نَازَعْتُهَا الْكَأْسَ فِيهِ فضْلَتُهَا
فَفُزْتُ بِالكَأْسِ بَعْد إِمْرَاسِ
فَكَادَتِ النفْسُ لِلسُّرُورِ بِهَا
تَخْرُجُ بَيْنَ المُدَامِ وَالْكَاس

أترى إلى امرأة حرة محصنة تستحث أبا نواس على المنادمة ومنازعة الكأس؟ أترى إليها تذهب هذه المذاهب الملتوية في اجتذابه إليها، وترغيبه فيها، تطمعه حينًا، وتؤيسه حينًا آخر؟ بل أترى إلى امرأة حرة محصنة تبتذل نفسها، فتنزل إلى المنادمة والمداعبة؟ كلا! وإنما هي أمة من الإماء، وامرأة من هؤلاء النساء اللاتي بذلن أنفسهن، فابتذلهن الرجال، ومن هنا لم يكن أبو نواس صادقًا، ومتحدثًا عن عاطفة قوية متقدة في أكثر الأحيان، حينما كان يذكر هؤلاء النساء، أو يتغزل بهن، وإنما كان يترضاهن ترضيًا، ويتملقهن تملقًا، ويتخذهن وسيلة إلى إرضاء مجونه من جهة، وفنه من جهة أخرى.

أضف إلى هذا أن أبا نواس كان معتدلًا جدًّا في الميل إلى النساء، وكان مسرفًا جدًّا في ميل آخر … فمن المعقول ألا يتحدث عن نفسه وعواطفه حين يتغزل بالنساء، ولا تكاد تقرأ قصيدة أو مقطوعة من شعر أبي نواس في هذا الفن من الغزل، إلا رأيت فيها التكلف ظاهرًا، والكذب واضحًا، لا أريد التكلف اللفظي، وإنما أريد تكلف المعنى، وانتحال الحب.

وربما كان من الحق أن نستثني من هذا الشعر شعره في «جنان»؛ فقد يظهر أنه كلف بها حقًّا، وهام بعض الهيام، وتجشم في سبيلها ما لا يتجشمه الماجن المداعب، ولكنه مع ذلك لم يكن مقتصدًا ولا عفيفًا في كل ما قال في «جنان»، وإنما أسرف وورط نفسه في شيء من الإثم؛ فانظر إلى هذه الأبيات:

وَعاشِقَيْنِ الْتَفَّ خَدَّاهُمَا
عِنْدَ الْتِثَامِ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ
فَالْتقيَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْثَمَا
كَأَنَّمَا كَانَا علَى مَوْعِدٍ
لَوْلا دِفَاعُ النَّاسِ إِيَّاهُمَا
لَمَا اسْتَفَاقا آخِرَ الْمُسْنَدِ
قُلْنا كِلَانا ساتِرٌ وجْهَهُ
مِمَّا يَلِي جَانِبَهُ بِالْيَدِ
نَفْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ ما لمْ يَكُنْ
يَفْعَلُهُ الأَبْرَارُ فِي المَسْجِدِ

وليس من شك في أنهما كانا على موعدٍ؛ فانظر إلى هذه الأبيات:

أَلَمْ تَرَ أَنَّنِي أَفْنَيْتُ عُمْرِي
بِمَطْلَبِهَا وَمَطْلَبُهَا عَسِيرُ
فَلَمَّا لَمْ أَجِدْ سَبَبًا إِلْيَها
يُقَرِّبُنِي وَأَعْيَتْنِي الأُمُورُ
حَجَجْتُ وَقُلْتُ قَدْ حَجَّتْ جِنَانٌ
فَيَجْمَعُنِي وَإِيَّاهَا المَسِيرُ

وأنا أحسب أن حب أبي نواس لجنان لم يكن من الحب الصادق العفيف، وإنما كان نوعًا من الأمل، يتحرق الرجل لتحقيقه، ويعسر عليه هذا التحقيق، فأما إيثارها بالخير، وتقديم لذتها على لذته، وأمنها على أمنه، فعاطفة أحسب أنها لم تجد إلى نفسه سبيلًا، وهذه الأبيات أصدق دليل على ذلك:

يَا قَمَرًا أَبْصَرْتُ فِي مَأْتَمٍ
يَندُبُ شَجْوًا بَيْنَ أَتْرَابِ
يَبْكِي فَيُذْرِي الدُّرَّ مِنْ نَرْجِسٍ
وَيَلْطِمُ الْوَرْدَ بِعُنَّابِ
أَبْرَزَهُ الْمَأْتَمُ لِي كَارهًا
بِرَغْمِ بَوَّابٍ وحُجَّابِ
لا زَالَ مَوْتًا دَأْبُ أَحْبابِهِ
وَكَانَ أَنْ أُبصِرَهُ دابِي

أتظن أنه يحبها حقًّا حين يتمنى أن يموت أحبابها في كل يوم، لتظهر معولة، نادبة، وليستطيع هو أن يراها؟ ألست ترى في هذا أن الرجل كان أثرًا مسرفًا في حب نفسه ولذته، يريد أن يستمتع بمنظر هذه المرأة، مهما تكلف هذه المرأة في هذا من شر، واحتملت من خطوب؟! لم يكن أبو نواس إذن صادقًا في حب النساء، وليس شعره صادقًا في تمثيل النساء كما هو صادق في تمثيل الرجال، ولكنه على هذا كله يظهرنا على وجهٍ من وجوه الحياة الأدبية والعادية في بغداد أيام بني العباس.

ومن الحق أن نتبين هذا الوجه ونحسن درسه؛ فقد يعيننا ذلك على فهم أشياء كثيرة لم نفهمها بعد من أمر هذا العصر، وإذن فمن الحق أن نتناول هذا الفن من شعر أبي نواس بشيءٍ من البحث المفصل الدقيق، وأن نعرض في شيءٍ من التفصيل لمن عرف من هؤلاء الإماء اللاتي تعشقهن أبو نواس، ونرجو أن نفي بذلك في مقالٍ آخر.

١  نُشرت بالسياسة في ١٨ من ذي الحجة سنة ١٣٤١/أول أغسطس سنة ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤