الفصل الخامس عشر

الغزل عند أبي نواس١

بعيدًا جدًّا ما بين هذا الغزل النواسي العباسي، الذي أشرت في الفصل الماضي إلى أنه ضعيف متكلف، وذلك الغزل الأموي العربي، الذي أشرت في فصلٍ مضى أول هذا العام إلى صدقه وقوته.

نعم! إن الفرق عظيم بين هذا الغزل النواسي، وبين ذلك الغزل الذي كان ينشره جميل أو كُثَيِّر أو عمر بن أبي ربيعة، الفرق عظيم جدًّا، وليس عظم هذا الفرق شيئًا غريبًا في نفسه، فيكفي أن تنظر إلى العصر الأموي والعصر العباسي من جهة، وتنظر إلى نفسية الشعراء الأمويين، ونفسية أبي نواس من جهةٍ أخرى، لتقتنع بأن هذا الفرق لا ينبغي أن يكون غريبًا، بل ينبغي أن يكون واجبًا محتومًا، يجب أن تنظر إلى العصرين، لترى في أولهما، على رقيه وعناية الناس فيه باللذة والعاطفة، سذاجة ظاهرة، مصدرها أن الاختلاط بين العرب وغير العرب لم يشتد، ولم ينته إلى نتائجه المعقولة، ولترى في ثانيهما أن النفس العربية قد أخذت تبرأ قليلًا قليلًا من عربيتها، وتتأثر بهذه الأجناس المختلفة من الناس، التي كانت تفد على العراق، وعلى بغداد بنوعٍ خاص، فتحمل أمزجتها وأهواءها ولذاتها، وكل ما فيها من خير وشر بعيد ما بينه وبين ما في نفس الأجناس العربية من صلة.

يكفي أن تنظر إلى هذا كله لتعرف هذا الفرق بين الغزل العباسي عامة، وبين الغزل الأموي عامة، فإذا فهمت هذا، وعرفت له أثره في نفس أبي نواس، وجب عليك أن تنظر إلى أبي نواس نفسه، وإلى ما قدمت من حياته وميوله وأهوائه، وأن تنظر بعد ذلك إلى أئمة الغزل من شعراء العصر الأموي، وإلى نفسياتهم المختلفة، فتزداد بهذا الفرق إيمانًا، ويزداد هذا الفرق أمامك وضوحًا.

كان «جميل» وأمثال «جميل» قومًا غزلين بطبيعتهم، غزلين؛ لأنهم يحبون النساء، أو يحبون امرأة بعينها بين النساء، يحبونها ويكلفون بها، فيملك عليهم هذا الحب نفوسهم وحياتهم، حتى لا يعيشون إلا به وله، وحتى لا يصدرون إلا عنه، ولا يردون إلا عليه، وكانت نفوسهم صافية لم تكدرها آثام الحضارة، سهلة لم تعقدها حاجات المدنية، فكانوا إذا ذكروا النساء، أو تغنوا بحبهن، وصفوا عواطف قوية صادقة، فصدقوا في الوصف، وكانوا فيه أقوياء.

ثم كان «كُثَيِّر» وأمثال «كثير» يحبون النساء، ويحبون ذكر النساء يتخذونه فنًّا، ويحاولون الإجادة فيه، فلم يكونوا من صدق العاطفة وقوتها بمكانٍ جميل وأصحاب جميل، ولكنهم كانوا قريبين منهم؛ لأنهم كانوا يتأثرونهم، ويسلكون سبيلهم، ويريدون أن يخدعوا الناس عن أنفسهم، وأن يمثلوا أنفسهم في صورة العاشقين حقًّا، كان الأولون صادقين، وكان الآخرون يريدون أن يظهروا مظهر الصادقين، وربما لم يحرموا الصدق حرمانًا تامًّا.

أما عمر بن أبي ربيعة، ومن سار سيرته من شعراء بني أمية، فلم يكونوا يصدرون عن عاطفة عذرية، ولم يكونوا يتكلفون هذه العاطفة العذرية، لم يكونوا ينظرون إلى المرأة من حيث هي المثل الأعلى للجمال والحب، وإنما كانوا ينظرون إليها من حيث هي المثل الأعلى للجمال واللذة، والفرق بين هاتين الوجهتين عظيم. كان ابن أبي ربيعة رجلًا يحب الحياة، ويحب المرأة؛ لأنها زينة الحياة، أو لأنها اللذة في الحياة، وكان صادقًا في حب المرأة، من حيث هي لذة الحياة، فكان غزله على بعده من العذرية أو من الأفلاطونية، كما يقول المحدثون، مؤثرًا؛ لأنه كان صادقًا، ولأنه كان يترجم عن عواطف صحيحة، تؤثر في نفس الشاعر، وتؤثر في حياته العملية أيضًا … كذلك كان شعراء بني أمية، سواء منهم العذريون حقًّا، ومن تكلفوا العذرية، ومن أعرضوا عنها، ولم يلتفتوا إلى إلا اللذات، وضروب اللهو بالنساء.

أما أبو نواس فأمره غير هذا كله، لم يكن عذريًّا، وما كان يستطيع أن يكون عذريًّا، وهو الرجل الذي شك في كل شيء، أو قل: أنكر كل شيء، ولم يؤمن إلا بالمجون واللذة، يلتمسهما حيث يجدهما، لا يتقيد في ذلك بحرجٍ أو جناح، لم يكن عذريًّا ولم يكن يتكلف أن يكون عذريًّا، وإنما كان يسخر من العرب، ومما كان العرب يتكلفون، لم يكن يتكلف العذرية، وإنما كان يهيم باللذة، وبلذة غير التي كان يهيم بها عمر بن أبي ربيعة، لم يكن أبو نواس يحب النساء، وكان ينفر منهن نفورًا شديدًا، حتى لم يفلح الذين أرادوه على أن يتزوج، على رغم إلحاحهم عليه، وتوسلهم إليه لم يفلحوا؛ لأن أبا نواس لم يكن يتصور حياة الزوجية، ولم يكن يستطيع أن يعيش عيشة متصلة مع امرأة.

لم يكن إذن يحب النساء، فلم يكن من الميسور أن يهيم بهن، أو يحسن الغزل فيهن، ومع ذلك فقد تغزل، تغزل لأنه شاعر، ولأنه من الحق على كل شاعر أن يتغزل، فالغزل فن من فنون الشعر يجب على الشعراء المجيدين أن يطرقوه، ويأخذوا منه بنصيب، وقد طرقه أبو نواس، وأخذ منه بنصيبٍ، ولكنا نظلم أبا نواس إن قلنا: إنه لم يكن قط صادقًا في غزله، نظلمه؛ لأنه كان صادقًا في غزله، بل كان شديد الصدق فيه، بل قد نستطيع أن نقارن بينه وبين عمر بن أبي ربيعة في صدق العاطفة، وإجادة الوصف، وقوة التأثير إذا احتفظنا بشيئين؛ أحدهما: الفرق بين العصر العباسي والعصر الأموي، والآخر: أن أبا نواس لم يكن يجيد الغزل بالنساء، وإنما كان يجيد الغزل بالغلمان … فلأبي نواس في هذا الباب ما لابن أبي ربيعة في الغزل بالنساء، بل أنا أزعم أن أبا نواس في هذا الباب أشعر من ابن أبي ربيعة في الغزل بالنساء، ولست أستدل على هذا إلا بشيءٍ واحد، وهو أن أبا نواس يُكرهك حين تقرأ غزله بالغلمان على أن تعجب بهذا الغزل، على رغم ما فيه من منافرة للطبع والخلق والدين، أما ابن أبي ربيعة فهو لا يكرهك على أن تعجب بغزله، بل كل شيء يحملك على أن تعجب بغزله، فطبيعتك تحبب إليك ذكر النساء والتغزل بهن، وإذا أسرف ابن أبي ربيعة فتجاوز الخلق أو الدين؛ فليس في هذا الإسراف خروج عن الطبيعة، أو تجاوز لها، وإنما هو جزء من الطبيعة، أو قل: إنه الطبيعة بنفسها، جاء الدين والأخلاق لتقييدها وإصلاحها.

أبو نواس إذن مجيد حين يتغزل بالغلمان، ولكنه فاتر أو كاذب أو متكلف حين يتغزل بالنساء، وهو على كل حال لا يصف حين يذكرهن عاطفة قوية في نفسه، أو حبًّا صحيحًا، وإنما يصف ضروبًا من اللهو، وفنونًا من المجون، وقد يصف أحدنا الحب فيحسن الوصف، لا لأنه يشعر به، بل لأنه شاعر مجيد، يتكلف الشيء فيحسنه أحيانًا.

وقد يمتاز غزل أبي نواس بشيءٍ فسرته في الفصل الماضي، وهو أنه لم يتغزل بحرة، وإنما وقف غزله كله على الإماء، وذلك واضح، فقد عرفنا أنه يكره الزواج، وعرفنا أنه كان ماجنًا مسرفًا في المجون، فلم يكن من السهل عليه، ولا من الميسور له، أن يخالط الحرائر، أو يتحدث إليهن، حين كان من اليسير عليه أن يداعب الإماء، ويسرف في مداعبتهن، ولا سيما بعد ما قدمت لك في الفصل الماضي من رقي الأمة في هذا العصر، وتفوقها على الحرة، وتهالكها على اللهو والمجون، فإذا عرفنا هذا كله، وأنزلنا غزل أبي نواس منزلته الصحيحة، كان من اليسير أن نتبين شيئًا مما في هذا الغزل من جودة اللفظ والمعنى، لا على أن نتخذ هذه الجودة مقياسًا لنبوغ أبي نواس في الشعر، أو لصدقه في الحب، فإذا أردنا أن نبحث عن مقياس لنبوغ أبي نواس في الشعر، أو لصدقه في الحب؛ فليس أمامنا إلا وصفه للخمر، وغزله بالغلمان، وإنما نبحث عن غزله بالنساء، لنعرف شيئًا من أخلاق العصر، ومن أخلاق الإماء فيه، ولنعرف أيضًا شيئًا من ظرف النساء في بغداد، وإن شئت فقل: من ظرف الغزل بالنساء في بغداد، ولهذه الأشياء قيمتها في الأدب وفي التاريخ.

وانظر إلى هذا العبث الذي يمثل الحياة البغدادية، حياة المجون والدعابة تمثيلًا صحيحًا:

أَرْسَلَ مَنْ أَهْوَى رَسُولًا لَهُ
إِلَيَّ وَالمَنْسُوبُ محْبُوبُ
فَقُلْتُ أَهْلًا بِكَ مِنْ مُرْسَلٍ
وَمِنْ حَبِيبٍ زَانَهُ طِيبُ
جَمَّشْتُهُ فِي كِلْمَةٍ فَانْثَنَى
وَقَالَ هذَا منكَ تجرِيبُ
مِثْلكَ لا يَعْشَقُ مِثْلِي وَقَدْ
هَام بِهِ بَيْضَاءُ رُعْبُوبُ
وَجاءَت الرُّسْلُ بِأَنْ آتِنا
فَجِئْتُهَا وَالْقَلْبُ مرْعُوب
قالتْ: تعشَّقْتَ رسولي لقدْ
بدتْ لنَا مِنْكَ الأَعَاجِيبُ
ذَاكَ وَهذَا لَكَ يَا غَادِرًا
فِي دَفْتَرِ الْحَاصِل مَكْتُوبُ
منْ يَأْمَنُ الذِّئْبَ عَلَى معْزَةٍ
أَهلٌ لأَنْ يَخْفرَهُ الذيبُ
فَقُلْتُ فِي رِفْقٍ وَفي تُؤْدةٍ
مَقَالةً قَدْ قَالَ يَعْقُوبُ
الذِّئْبُ لا يُؤْمَنُ لَكِنَّهُ
عَلَيْهِ فِي يُوسُفَ مَكْذُوبُ
هُمْ طرَحُوا يُوسف في جُبَّهِ
عمْدًا وَقَالُوا خَانَهُ الذِّيبُ

أترى إليه كيف كان يحب صاحبته حبًّا قويًّا صادقًا، حتى خانها في رسولها، فداعب هذا الرسول، وهو يعترف بهذه المداعبة فيما بينه وبينك، ولكنه حين يلقى حبيبه، ويريد أن يدافع عن نفسه، يضع نفسه موضع الذئب في قصة يوسف، ولكن أعجب من هذا أن تكتفي صاحبته منه بهذا الدفاع، بل أن تلومه في هذا الرفق واللين، ولكننا في بغداد، وبين قومٍ يلهون لا أكثر ولا أقل.

وانظر إلى هذه الأبيات الأخرى التي يسخر فيها من نفسه، فيحسن السخرية:

وقَصْريَّةً أَبْصَرْتُهَا فَهَوِيتُهَا
هَوى عُرْوَةَ الْعُذْرِيِّ والعاشِقِ النهْدِي
فَلمَّا تَمادَى هَجْرُهَا قُلْتُ وَاصِلي
فقَالَتْ بهذا الْوَجْه تَرْجُو الْهَوى عِنْدِي
فَقُلْتُ لَها لَوْ كانَ في السُّوقِ أَوْجُهٌ
تُبَاعُ بِنَقْدٍ حاضرٍ وَسوَى نقدِ
لغَيَّرْتُ وَجْهِي واشْتَريْتُ مَكانَهُ
لَعَلَّكِ أَنْ تَهْوَيْ وِصَاليَ مِنْ بَعْدِ
وإِنْ كُنْتُ ذَا قُبْحٍ فإِنِّي شَاعِرٌ
فَقَالَتْ وَلَوْ أَصْبَحْتَ نَابِغَةَ الجَعْدِي

ثم انظر إلى هذا الظرف:

سَأَلتُهَا قُبْلَةً فَفُزْتُ بِهَا
بَعْدَ امْتِنَاعٍ وَشِدَّةِ التَّعَبِ
فَقُلْتُ بِاللهِ يَا مُعَذِّبَتِي
جُودِي بِأُخْرَى أَقْضِي بهَا أَرَبِي
فَابْتَسمَتْ ثُمَّ أَرْسَلَتْ مَثَلًا
يَعْرِفُهُ الْعُجْمُ لَيْس بِالْكَذِبِ
لَا تُعْطِيَنَّ الصَّبِيَّ وَاحِدَةً
يَطْلُبُ أُخرى بِأَعْنَفِ الطَّلَبِ

وانظر إلى هذه القصيدة، التي لا أستطيع أن أصفها إلا بأنها بغدادية؛ لأنها تمثل رقة بغداد، وتمثل هذه النزعة الدينية التي تجدها في العامة، والتي تحملهم على أن يقسموا بالقرآن، وسور القرآن، وبالحج، ومناسك الحج، حين ينبغي أن يقسموا بشيءٍ آخر:

مَا لِي وَلِلْعَاذِلَاتِ
زَوَّقْنَ لِي تُرَّهاتِ
سَعَيْنَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ
يَلُمْنَ في مَوْلَاتِي
يَأمُرْنَنِي أَنْ أُخلِّي
مِنْ راحَتَيَّ حَيَاتِي
وذَاكَ مَا لا ولا لَا
يَكُونُ حَتَّى الْمماتِ
و«اللهِ» مُنزِلِ «طه»
و«الطُّور» و«الذَّارِياتِ»
و«الر» و«صاد» و«قاف»
وَ«الحَشْر» و«المُرسلَات»٢
وَرَبِّ «هُودٍ» و«نُونٍ»
و«النُّورِ» و«النَّازعاتِ»
لَا رُمْتُ هَجْرَكِ حِبِّي
حَتَّى وَإِنْ لَمْ تُوَاتِي
تَجَمَّعُوا عَلِّمُونِي
يَا إِخْوَتي كَيْفَ آتي
يَا وَيْلَنَا أَيُّ شَيْءٍ
بيْنَ الْحَشَى واللَّهَاةِ
مِنْ لَوْعَةٍ لَيْسَ تُطْفَى
تطِيرُ في جَانِحَاتِي
أَنَا المُعَنَّى وَمَنْ لِي
يَرْثِي لِطُولِ شَكَاتِي
الظَّاهِرُ العَبرَاتِ
الْبَاطِنُ الزَّفَراتِ
مُنِيتُ بِالْمُتَحَرِّي
فِي كُلِّ أَمْرٍ مَسَاتِي٣
يَا سَائِلِي عَنْ بَلَائي
انْظُرْ إلَى لَحَظَاتي
يَخْفَى الْهَوَى فِي سُكُونِ الـ
ـمُحِبِّ والْحَركَاتِ
واللهِ لَوْ كُنْتُ أَعْمَى
عُرِفتُ في سَحَناتِي
حَلَفْتُ بِالرَّاقِصَات
في لُجَّةِ الْفَلَواتِ
وَمُنْثَنٍ بِالْهَدَايا
يُطعَنَّ في اللَّبَّاتِ
وَمَا تَوَافَى بِجَمْعٍ
و«الشِّعبِ» في عَرَفات
لَوْ جَاءَ مِنْكِ رَسُولٌ
يَقُولُ نَفْسَكَ هَاتِ
لَقُلْتُ هَاكَ خُذَنْهَا
مُسَلِّمًا لِوَفَاتِي
وَيْلَاهُ نارُ التَّصابِي
رَقَتْ إِلَى اللَّهَوَاتِ
فَأَبكَتِ الْعَينَ مِنِّي
بِمِثْلِ مَاءِ الْفُرَاتِ
وَصَاحِبٍ كانَ لِي في
هَوَايَ ذَا تُهُماتِ
لَمْ يَطَّلِعْ طَلْعَ شَأْنِي
إِلَّا اتِّهَامَ هَنَاتِي
فَبَيْنَما نَحْنُ نُمْسِي
نَسِيحُ في الطُّرُقاتِ
إِذْ قِيلَ شَمْسُ ضُحاهَا
في أَرْبَعٍ عَطِرَاتِ
فَقُلْتُ شَمْسٌ وَرَبِّي
قَدْ جَلَّتِ الظُّلُماتِ
وَقَدْ نَسِيتُ الَّذِي بِي
مِنها مِنَ الكُرباتِ
لِرِيحِ حُبٍّ جَرَتْ لِي
فَأَنْشَأَتْ عَبَرَاتِي
وَأَنْزَفَتْ مَاءَ عَيْنِي
وأَصْعَدَتْ زَفَرَاتِي
وقَدْ تَغَيَّرَ لَوْنِي
كَمِثْل نِقْسِ الدَّوَاةِ
فَالْحُبُّ فِيهِ هناةٌ
مَوْصُولةٌ بِهَناةِ
يُعْقِبْنَ طَوْرًا سُرُورًا
وَتَارَةً حَسَراتِ

ألست ترى أنه قد أحسن التحدث إلى النساء، بلغة النساء، ولهجة النساء؟!

ولقد أراد أن يسلك سبيل امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة، فيما كانا يقصان من زيارتهما لعشيقاتهما، فقال في ذلك شعرًا لا بأس به، ولكن لا أروي لك منه إلا هذين البيتين؛ لأن في أولهما إيجازًا ظريفًا، وفي الآخر تمثيلًا لأمر بغداد:

فَكِدْنَا وَلَمَّا غَيْرَ أَنَّ شِفَاهَنَا
تَعَاطَتْ خَلِيطَيْ سُكَّرٍ وعُقارٍ
وَوَدَّعْتُها صُبْحًا وَلَمْ أَنْسَ صَدَّهَا
وَقَدْ بَادلَتْني خَاتمًا بِسِوَارِ

وانظر إليه كيف يمازح صاحبته، ويتمنى عليها الوصل، وينكر عليها الهجر، ويعدها بأن لا يكون ثقيلًا، ولا مطيلًا إن وصلته، كل ذلك في بيت واحد ظريف، وهو:

فَرَاجِعِي الوَصْلَ فَإِنْ زُرْتُكُمْ
قَدْرَ فُوَاقِ فاحْلِقِي رَاسِي

وانظر إلى هذه الأبيات التي لا أصفها إلا بأنها تصلح للغناء إذا أسقطت منها بيتًا واحدًا؛ لأن لفظ «الأنقاس» فيه غريب قد نستثقله:

إِنِّي عَشِقْتُ وَمَا بالعِشْقِ مِنْ باسِ
مَا مَرَّ مِثْلَ الهَوَى شيءٌ عَلَى رَاسِي
مَا لِي ولِلنَّاسِ كَمْ يَلْحَوْنَني سَفَهًا
دِينِي لِنَفْسي، وَدِينُ النَّاسِ للنَّاسِ
مَا لِلْعُدَاةِ إِذَا مَا زُرْتُ مَالِكَتي
كَأَنَّ أَوْجُهَهُمْ تُطْلَى بأَنقاسِ!
اللهُ يَعْلَمُ مَا ترْكِي زِيارَتَكُمْ
إِلَّا مخَافَةَ أَعْدَائِي وحُرَّاسِي
ولَوْ قَدرْنَا علَى الإِتْيانِ جئْتُكُمُ
سَعْيًا عَلَى الْوَجْهِ أَوْ مَشْيًا عَلَى الرَّاس
وقَدْ قَرَأتُ كِتابًا في صَحَائِفكُمْ
لا يَرْحَمُ اللهُ إِلَّا رَاحِمَ النَّاس

ولأبي نواس من هذا شيء كثير، لا أستطيع أن أرويه، وتستطيع أنت أن تقرأه في ديوانه، فتجد فيه ما شاء الله أن تجد من ألوان الكذب، والغرور، والدعابة، والمجون، والعبث بكل شيء، وتجد فيه من القصص ما يلذ وما يضحك، ولكني قلت لك: إن أبا نواس يمتاز في غزله بأنه كاذب، وأريد أن أختم هذا الفصل ببيتين يشهدان عليه بأنه كاذب في غزله، وبأنه إنما يتكلف الغزل بالنساء ليرضي حاجته الفنية، أو ليخدع النساء عن أنفسهن، على أن أحد هذين البيتين في نفسه حكمة صادقة، يحسن أن يفكر فيها كثير من الناس:

يَا مَنْ يَوَجِّهُ أَلفَاظِي لِأَقْبَحِهَا
لِأَنَّهُ سَاحِرُ العَيْنَيْن مَعْشُوقُ
لَوْ كَانَ مَنْ قالَ نَارٌ أَحْرَقَتْ فَمَهُ
لَمَا تَفَوَّهَ بِاسْمِ النَّارِ مَخْلُوقُ

سأحدثك في الفصل الآتي عن شعر أبي نواس في الصيد والطرد.

١  نُشرت بالسياسة في ٨ صفر سنة ١٣٤٢ / ١٨ سبتمبر سنة ١٩٢٣.
٢  يريد ألف لام را، وهو مفتتح سور من القرآن.
٣  يريد: مساءتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤