الفصل السادس عشر

جد أبي نواس:١ المدح

وما رأيك في أن نترك القديم والجديد، وكلامًا لن يفيد، ونعود إلى أبي نواس، فنستأنف البحث عن شعره، بعد أن انصرفنا عنه حينًا طويلًا، على أنا حين نستأنف البحث عن شعر أبي نواس، لن نترك القديم والجديد، وإنما نوغل فيهما إيغالًا، فلقد كتبنا عن أبي نواس في السنة الماضية فصولًا طوالًا، أثبتت — فيما نعتقد — أنه صاحب الجديد وحامل لوائه، وأنه خصم القديم وأشد أعدائه، حتى خيل إلى الناس أن الأسباب كانت قد انقطعت بين هذا الرجل، وبين الأدب العربي القديم، وأنه كان يريد أن يهدم كل شيء ويبني على أنقاضه شيئًا آخر، فمن الناس من أحب أبا نواس لهذه الخصلة؛ لأنها صادفت في نفسه هوى، وفي قلبه ميلًا، ومن الناس من كره أبا نواس لهذه الخصلة؛ لأنه من أنصار القديم المشغوفين به، الملحين في البكاء عليه.

ولكن أبا نواس خليق بأن يحبه أولئك وهؤلاء جميعًا؛ لأنه على حبه للجديد، وإلحاحه في الدعوة إليه، كان محبًّا للقديم، ملحًّا في الحرص عليه، كأنه كان يعرف أن الناس سينقسمون إلى فريقين مختلفين، وكان يحرص على أن يأخذ من رضا كليهما بنصيب، وما لنا نتحدث بشيءٍ من ذلك وقد قلنا ألف مرة ومرة: إن انقسام الناس إلى أنصار الجديد وأنصار القديم، فطرة في الناس، تلزمهم في كل زمان ومكان، إن كان لهم حظ من حياة!

وقد كان الناس أحياء أيام أبي نواس، فكان منهم محب الجديد، وكان منهم محب القديم، وكانوا جميعًا أقوياء في حبهم، وكان من المعقول أن يتحدث إليهم جميعًا شاعر كأبي نواس بما يحبون وما يفهمون، بل ما لنا نذكر شيئًا كهذا، ونحن نعلم أن الشاعر المجيد والكاتب البارع، مهما يسرفا في حب الجديد والتهالك عليه، فهما لم ينشآ من لا شيء، وهما لن يستطيعا أن يقطعا الصلة بينهما وبين القديم، الذي غذاهما وأنشأهما، فهما بطبيعة الحال يمثلان الجديد الذي يصبوان إليه، ويمثلان القديم الذي نشآ منه.

ولقد كان أبو نواس من أكثر الشعراء رواية للقديم وحفظًا له، قالوا: إنه تحدث عن نفسه أنه روى لستين امرأة، فكيف بالرجال؟! ولسنا نستطيع أن نتصور أبا نواس إلا على أنه قد حفظ أو قرأ ما كان يرويه أئمة الشعر واللغة من شعر الجاهليين والإسلاميين وأحاديثهم، وليس من اليسير ولا من الممكن، أن يخلص أبو نواس من هذا كله، فيكون جديدًا صرفًا في كل ما يقول.

فإذا تحدثنا عن أبي نواس فنحن نتحدث عن القديم والجديد، ولن نستطيع أن نتحدث عن شاعرٍ مجيد حقًّا، أو عن كاتبٍ بارع حقًّا، إلا إذا تحدثنا عن القديم والجديد؛ لأن إجادة الشعر، والبراعة في الكتابة، تستلزمان شيئين لا بد منهما؛ الأول: الاحتفاظ بالخير من القديم، والثاني: استغلال الجديد واجتناء ثمراته الطيبة. ففي الشاعر المجيد والكاتب البارع شخصان: أحدهما قديم، والآخر جديد، أو فيهما شخصية واحدة، هي المزاج المعتدل لاتصال القديم بالجديد، ونشوء أحدهما عن الآخر.

على أن الحياة في عصر أبي نواس، كانت تضطر هذا الشاعر وأصحابه إلى أن يظهروا مظهرين، يكادان يختلفان اختلافًا تامًّا، أحدهما مظهر المجدد المسرف في التجديد، والآخر مظهر الحريص على القديم، المسرف في الاستمساك به، ذلك أن أبا نواس وأصحابه كانوا يعيشون عيشتين مختلفتين؛ إحداهما: عيشتهم الخاصة، يعكفون فيها على لذاتهم، ويفرغون فيها لحاجاتهم المادية والمعنوية المختلفة، فيتصلون فيها بعامة الناس وأوساطهم، وأصحاب الحرف والصناعات منهم، ويتصلون فيها أيضًا بأولئك الذين كانوا يقومون على اللذات يبيحونها للناس، ويمهدون لهم أسبابها ووسائلها، من الخمارين والمغنين، والحسان، من الذكور والإناث، فيتحدثون إلى هؤلاء الناس جميعًا عليها بلغةٍ يفهمونها ويذوقونها، وتعبر حقًّا عما يجدون ويشعرون، وأما عيشتهم الأخرى: فهي تلك العيشة المتصلة بالأمراء وأشراف الناس في حياتهم الظاهرة الرسمية، إن صح هذا التعبير، وهم في هذه العيشة مضطرون أن يتخذوا ما ألف الناس من شكلٍ وصورة، ترضاهما الأخلاق، وتقرهما النظم الاجتماعية والسياسية، وهم مضطرون إلى أن يتحدثوا إلى أمراء الناس وأشرافهم لغة شريفة مختارة، ترتفع عن الابتذال، وتبرأ من تافه القول، وربما اشتد فيها التكلف، وعظم حظها من التصنع.

كانوا مضطرين إذن إلى أن يصدقوا في حياتهم الأولى، ويتكلفوا الكذب والنفاق في حياتهم الثانية، وهذا دأب الأجيال المختلفة، فلك في بيتك وبين أصدقائك وخلانك عيشة ولغة، تخالفان كل المخالفة أو بعضها عيشتك ولغتك حين تكون الصلة بينك وبين الناس عامة، وحين تكون الصلة بينك وبين الكبار والزعماء خاصة؛ فليس عجيبًا إذن أن تقرأ لأبي نواس في الخمر والمجون والغزل وما يشبه ذلك هذا الشعر الرقيق العذب، الذي هو مرآة النفس حقًّا، والصورة الصحيحة الجلية للعواطف والشعور، هذا الشعر الذي رق لفظه، ودق معناه، وبرئ من التكلف، وانحط في بعض الأحيان، حتى كاد يبعد عن الفصاحة المأثورة، وليس عجيبًا أن تقرأ لأبي نواس شعرًا آخر قد قوي متنه، واشتد أسره، وتخيرت فيه الألفاظ تخيرًا دقيقًا، وتقيد فيه الشاعر بطائفة من القيود اللفظية والمعنوية والعروضية، ما كان ليتقيد بها في شعره الآخر.

وفي الحق أنك ترى أبا نواس حين يذكر الخمر والغزل والمجون وما يشبه ذلك من فنون الشعر، لا يكتفي بإطلاق العنان لشعوره وعاطفته، وإيثار اللفظ السهل العذب، للمعنى الرقيق الحلو، وإنما يضيف إلى ذلك شيئًا آخر، فهو يؤثر من الأوزان الشعرية أخفها وأقصرها، وأيسرها على الأذن، وأقربها من النثر، وألينها قيادًا للمعنى، فإذا تحدث إلى الأمراء والأشراف عمد إلى اللفظ الضخم الفخم، وإلى الأسلوب المتين الرصين، وإلى الأوزان الطوال، التي لا تخلو من فخامة وجلال، فاتخذها وسيلة للتعبير عما يريد أن يتحدث به إلى هؤلاء الناس، وكأن فنون الشعر كانت تنقسم إلى ضربين مختلفين؛ أحدهما: هذا النحو الذي يقصد به إلى وصف اللذات وأهواء النفس وعواطفها، وفي هذا الضرب من الشعر كان الشاعر حرًّا، يرسل نفسه على سجيتها فلا يكاد يتقيد بشيءٍ من ذلك الغزل، والمجون، ووصف الخمر، والهجاء، والآخر: هذا النحو الذي يقصد به إلى الجد وفنونه، من مدح ورثاء، ووصف، وفخر، وفي هذا النحو يتخير الشاعر أشرف اللفظ، ويتقيد في الوزن والقافية والأسلوب بقيود ترفعه عن متناول العامة، وتكسبه شيئًا من الأرستقراطية، يلائم الموضوع الذي يقول فيه، وقد تحاول أن تقارن بين أبي نواس حيث يمجن، ويتغزل، ويصف الخمر، ويهجو، وحين يمدح، أو يرثي، أو يفخر، فلا تكاد تشعر بوجه للمقارنة، وإنما يظهر الفرق عظيمًا بين الرجلين، وأنت مضطر إلى أن تكون ناقدًا بصيرًا، لتتميز شخصية الشاعر في هذين الفنين المختلفين من الكلام، بل أنا أذهب إلى أكثر من هذا، فأزعم أن شخصية الشاعر تنمحي أو تكاد تنمحي في هذا الشعر الجدي، بحيث تلبس أشخاص الشعراء على غير النقاد العليمين بضروب الشعر، حين تظهر هذه الشخصية ناصعة جلية كل الجلاء في فنون الهزل واللعب، بحيث يشعر بها ويمسها الناقد وغير الناقد، بل أزعم أن من اليسير أن تضيف مدح أبي نواس أو فخره إلى غير أبي نواس من الشعراء المجيدين، وأن تضيف إلى أبي نواس من مدح مسلم ووصفه وفخره، دون أن يكون خطؤك عظيمًا من الوجهة الفنية؛ لأن هنالك مثلًا أعلى من الإجادة والإتقان قد وضعه الشعراء أمامهم، فهم يحتذونه ويتأثرونه، وهذا المثل الأعلى إنما هو أسلوب القدماء من الجاهليين والإسلاميين، فإذا أحسنوا تأثر هذا الأسلوب وتقليده، فهم راضون.

وما لي لا أقيم الدليل على ما أقول؟! فانظر إلى هذه الأبيات من شعر أبي نواس الجدي، وحدثني: أترى فيها شخصية الشاعر بارزة واضحة؟ ثم حدثني: أتكاد تصدق أن قائل هذا الشعر هو الذي رويت لك عنه في السنة الماضية ما رويت من العبث والمجون:

لمَّا نَزعتُ عَنِ الغَواية والصِّبا
وَخَدَتْ بِيَ الشَّدَنيَّةُ المِذْعانُ
سَبْطٌ مَشَافِرُها دَقِيقٌ خَطْمُهَا
وكأَنَّ سَابرَ خَلْقهَا بُنْيَانُ
واحْتَازَهَا لَوْنٌ جَرَى فِي جِلْدِهَا
يَقَقٌ كَقِرْطَاسِ الْوَلِيدِ هِجَانُ

هو يصف ناقته التي حملته إلى ممدوحه الرشيد، فيحب أن يسلك في وصف الناقة التي تحمله إلى ممدوحه طريق غيره من الشعراء، الذين حملتهم النوق إلى الملوك والأمراء، وليس يعنيه أن يفهمه عامة الناس، وإنما يعنيه أن يتحدث إلى أشراف الناس أشرف اللغة، بل ليس يعنيه أن يكذب، فلعله لم يركب إلى الرشيد ناقة، ولم تحمله إلى الرشيد إلا قدماه، ولكنه مضطر أن يسلك مسلك جرير والفرزدق والأخطل والشماخ وغيرهم من الشعراء، الذين كانوا يتكلفون الأسفار الطوال، ليبلغوا من يمدحون، ثم وازن بين الشعر الذي لا تكاد تفهمه حتى تستشير معاجم اللغة وبين قوله:

دَمَعْةٌ كَاللؤْلُؤِ الرَّطـْ
ـبِ مِن الطَّرْفِ الْكَحِيلِ
ذَرَفَتْ فِي سَاعَةِ الْبَيـْ
ـنِ عَلَى الْخَدِّ الْأَسِيلِ
إِنَّمَا يَفْتَضِحُ العُشـْ
ـشَاقُ فِي وقْتِ الرَّحِيلِ

أتجد في هذا الشعر لفظًا غريبًا، أو معنى عويصًا؟ أتشعر بأن بينك وبين قائل هذا الشعر من بعد الأمد، ما بينك وبين قائل تلك الأبيات الثلاثة في وصف الناقة؟

ثم أريد أن أروي لك من جد أبي نواس هذه القصيدة التي سيعسر عليك فهمها عسرًا شديدًا، كما عسر فهمها على غير واحد من علماء اللغة وأصحاب النحو، وقد قالها يمدح بها العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر المنصور أمير المؤمنين:

أَيُّهَا الْمُنْتَابُ عَنْ عُفُرِهْ
لَسْتَ مِنْ لَيْلِي وَلا سَمَرِهْ
لَا أذُودُ الطَّيْرَ عَنْ شَجَرٍ
قَدْ بَلَوْتُ الْمُرَّ مِن ثَمَرهْ
فَاتَّصِلْ إِنْ كُنْتَ مُتَّصِلًا
بِقُوَى مَنْ أَنْتَ مِنْ وطَرِهْ
خِفْتَ مأْثُورَ الْحدِيثِ غَدًا
وغَدٌ أَدْنى لِمُنْتَظِرِهْ
خَابَ مَنْ أَسْرَى إِلَى بَلَدٍ
غَيْرِ مَعْلُوم مَدَى سفَرِهْ
وَسَّدَتْهُ ثِنْيَ سَاعِدِهِ
سِنَةٌ حَلَّتْ إِلى شُفُرِهْ
فامْضِ لا تَمْنُنْ عَلَيَّ يَدًا
مَنُّكَ الْمَعْرُوف مِن كَدَرِهْ
رُبَّ فِتْيَانٍ رَبَأْتُهُمُ
مَسْقَطَ الْعَيُّوقِ مِنْ سَحَرِهْ
فاتَّقَوْا بي مَا يَرِيبُهُمُ
إِنَّ تَقْوَى الشَّرِّ مِنْ حذَرِهْ
وَابْنِ عَمٍّ لا يُكَاشفُنَا
قَدْ لَبِسْنَاهُ عَلَى غَمرِهْ
كَمَنَ الشَّنآنُ فِيهِ لَنَا
كَكُمُونِ النَّارِ فِي حَجَرِهْ
وَرُضَابٍ بِتُّ أَرْشُفُهُ
يَنْقَعُ الظَّمْآنُ مِنْ خَصَرِهْ
عَلَّنِيهِ خُوطُ إِسْحِلَةٍ
لانَ مَتْنَاهُ لِمُهْتَصِرِهْ
ذَا ومُغْبَرٌّ مَخَارِمُهُ
تَحْسِرُ الْأَبْصَارُ عَنْ قُطُرِهْ
لا تَرَى عَيْنُ الْبَصِيرِ بِهِ
ما خَلا الآجالَ مِنْ بَقَرهْ

ثم يقول في وصف الفرس:

يَكْتَسِي عُثْنُونُهُ زَبَدًا
فَنَصِيلَاهُ إِلَى نُخَرِهْ
ثُمَّ يعْتَمُّ الْحِحَاجُ بِهِ
كَاعْتِمامِ الْفُوفِ فِي عُشَرِهْ
ثَمَّ تَذْرُوهُ الرِّياحُ كمَا
طَارَ قُطْنُ النَّدْفِ عنْ وَتَرِهْ
كُلُّ حَاجَاتي تَنَاوَلَهَا
وهُوَ لَمْ تُنْقَضْ قُوَى أَشَرِهْ

ثم يتخلص إلى صاحبه فيقول:

ثمَّ أَدْنَاني إِلَى مَلِكٍ
يَأْمَنُ الْجاني إِلَى حُجَرِهْ
تَأْخُذُ الْأَيْدِي مَظَالِمَها
ثُمَّ تَسْتَذْرِي إِلَى عصَرِهْ
كَيْف لا يُدْنِيك مِنْ أَمَلٍ
مَنْ رَسُولُ اللهِ منْ نَفَرِهْ!
فَاسْلُ عَنْ نَوْءٍ تُؤَمِّلُهُ
حَسْبُكَ العَبَّاسُ مِنْ مَطَرِهْ

ثم يقول:

وإِذَا مَجَّ الْقَنَا عَلَقًا
وَتَرَاءَى المَوْتُ فِي صُوَرِهْ
رَاح فِي ثِنْيَيْ مُفَاضَتِهِ
أَسَدٌ يَدْمَى شَبَا ظُفُرِهْ
تَتأَيَّا الطَّيْرُ غَدْوَتَهُ
ثِقَةً بالشَّبْعِ مِنْ جَزَرِهْ

أفهمت من هذه الأبيات شيئًا كثيرًا؟ ألا تكاد تشعر أن أبا نواس قد أسرف في إيثار الغريب، حتى كأنه أراد أن يبهر أبا عبيدة والأصمعي وأمثالهما، وأن يحير أصحاب النحو والعروض، بما تكلف من غموض، وبما ركب من ضرورة شعرية؟ وفي الحق أن اللغويين تعبوا في تأويل بعض هذه الأبيات، وما أظن أنهم اتفقوا على تأويل قوله:

كَمَنَ الشَّنْآنُ فِيهِ لَنَا
كَكُمُونِ النَّارِ فِي حَجرِهْ

فإن مرجع هذا الضمير المذكر ليس بالواضح ولا الجلي، وإن كان المعنى في نفسه واضحًا جليًّا.

أليس معقولًا أن يقول بعض أئمة اللغة في أبي نواس: لولا مجونه وفسوقه لاحتججنا بشعره؟! ففي هذا الشعر وأمثاله ما يرضي أنصار الغريب والمشغوفين به، ومع ذلك فهذه القصيدة على غرابتها وخشونة مركب الشاعر فيها، من خير ما قال أبو نواس، إذ فيها من دقيق المعنى وشريفه ما لا تكاد تجده في مدائحه الأخر، ثم في لفظها وقوافيها بنوعٍ خاص جمال تشعر به، وتميل إليه، دون أن تستطيع تفسيره في سهولةٍ ويسر.

على أن أبا نواس قد تجاوز الحد في إيثار الغريب أحيانًا، حتى تكاد لا تفرق بينه وبين رؤبة والعجاج؛ فانظر إلى شيءٍ من هذه الأرجوزة، التي مدح فيها الفضل بن الربيع:

وبلْدةٍ فِيهَا زَوَرْ
صَعْراءُ تُخْطِي فِي صعَرْ
مرْتٌ إِذَا الذِّئْبُ اقْتَفَرْ
بِها مِنَ القَوْمِ الْأَثَرْ
كَانَ لَهُ منَ الجَزَرْ
كُلُّ جَنِينٍ مَا اشْتَكَرْ
ولا تَعَلَّاهُ شَعَرْ
مَيْتُ النِّسَا، حيُّ الشَّفَرْ
عَسَفتُها عَلَى خَطَرْ
وَغَرَرٍ مِنَ الغَرَرْ
بِبارلٍ حَينَ فَطَرْ
يَهُزُّهُ حِنُّ الأَشرْ
لا مُتَشكٍّ مِنْ سَدرْ
وَلَا قَريبٍ مِنْ خَوَرْ
كأَنَّهُ بَعْدَ الضَّمَرْ
وبَعْدَ ما جالَ الضَّفَرْ
وَانْمَجَّ فِيَّ فَحَسَرْ
جَأبٌ رُباعِي المُثَّغَرْ
يَحْدُو بِحَقْبٍ كَالأُكَر
تُرَى بِأَثْباجِ القَصَرْ
منْهُنَّ تَوْشيمُ الْجَدَرْ
رَعَيْن أَبْكارَ الخُضَرْ

ثم يصل إلى المدح فيقول:

… … … … …
إِلَيْكَ كُلِّفْنا السَّفَرْ
خُوصًا يُجَاذِبْنَ النُّحرْ
قَدِ انْطَوَتْ مِنْها السُّرَرْ
طَيَّ القَرَارِيِّ الْحِبَرْ
لَمْ تَتَقَعَّدهَا الطِّيَرْ
وَلا السَّنِيحُ المُزدَجرْ
يَا فَضْلُ لِلْقَوْمِ الْبطَرْ
إِذْ ليْسَ فِي النَّاسِ عَصَرْ
وَلا مِنَ الْخَوْفِ وزَرْ

ثم يمضي في ذلك حتى يكاد يبلغ الإسراف، شأن الذين ينحدرون من الرجز على سفح لا قرار له.

وقد كنت أريد أن أفسر لك شيئًا من هذه الطلسمات، ولكني أرى أن الصحف السيارة لا تتسع لتفسير الغريب، الذي إنما تتسع له المدارس والجامعات، على أني لا أريد أن تيأس من أبي نواس، فتعتقد أنه لا يؤثر إلا الغريب، فالحق أنه قد آثر الغريب أحيانًا، وآثر السهل اللين أحيانًا أخرى، ولقد نجد من مدائح أبي نواس ما فيه مجون ودعابة لا حيطة فيهما، ولقد نجد من مدحه ما فيه مجون مع احتياط، وأحسب أن أفهم ذلك وتعليله ميسوران إذا عرفنا الأشخاص الذين مدحهم أبو نواس؛ فقد مدح أشخاصًا لم يكن من السهل أن يبتدئ مدحهم بالمجون، أو أن ينزل في مدحهم عما ألف الشعراء من فخم اللفظ ورصينه، ومدح أشخاصًا آخرين كان من الحق له أن يتفكه معهم، ويتجاوز الفكاهة إلى الدعابة؛ فهو جاد حريص إذا مدح الرشيد، وهو يتردد بين الجد والهزل إذا مدح الأمين، ولعله اجترأ على الهزل في مدح الأمين بعد أن اتصل به، وكثر اختلافه إلى مجالس لهوه وشربه، وهو يتردد كذلك بين الهزل والجد حين يمدح هذا الأمين السمح، الذي كان يطمع فيه الشعراء، ويدلون عليه، وهو العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر، وكثيرًا ما داعب هذا الوزير الخطير، الذي كان يهابه أيام الرشيد، ثم طمع فيه أيام الأمين، حين لان الخليفة له، ويسر عليه في أمورٍ كان يعسر فيها الرشيد، وهو الفضل بن الربيع.

ولم يكن أبو نواس يشفق من التصريح بالمجون والفسوق، حين كان يعرض لمدح شابين عظيمين، هما العباس ومحمد ابنا الفضل بن الربيع هذا، لم يكن يرى مكانًا للكلفة بينه وبين ابني صديقه ونديمه، الذي كثيرًا ما خلصه من غضب الأمين، وشفع له في مواقف حرجة، اضطره إليها المجون.

وأبو نواس صادق اللهجة حين يمدح هؤلاء الناس جميعًا؛ لأنه كان يحبهم، ويدل عليهم، ويطمع في الخير منهم، ولكنه متكلف متصنع حين يمدح البرامكة؛ لأن ميله إليهم لم يكن إلا بمقدار طمعه فيهم، وكأن البرامكة كانوا يشعرون منه بذلك، فيحتملونه احتمالًا، ولا يضمرون له حبًّا صحيحًا، أما الصلة بينه وبين الخصيب فسنعرض لها بشيءٍ من التفصيل، في غير هذا الفصل.

ولكنا لا نريد أن نتركك على ما روينا لك من هذا الشعر الغريب، فنتم مقال اليوم بهذه الأبيات التي مدح بها أبو نواس العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر:

غَرَّدَ الدِّيكُ الصَّدُوحُ
فاسْقِني طَابَ الصَّبُوحُ
وَاسْقِني حَتَّى تَرَانِي
حَسَنًا عِنْدِي الْقَبيحُ
قَهْوَةً تَذْكُرُ نُوحًا
حِينَ شَادَ الفُلْكَ نُوحُ
نَحْنُ نُخْفيها وَيَأْبَى
طِيبُ رِيحٍ فَتفُوحُ
فَكَأَنَّ القَوْمَ نُهْبَى
بَيْنَهُمُ مِسْك ذَبيحُ
أَنا فِي دُنْيَا مِنَ الْعَبـْ
ـبَاسِ أَغْدُو وَأَرُوحُ
هَاشَمِيٌّ عبْدَلِيٌّ
عِنْدَهُ يَغْلُو الْمَدِيحُ
عَلَمُ الْجوْدِ كِتابٌ
بَيْنَ عَيْنَيْهِ يلُوحُ
كُلُّ جودٍ يا أَمِيرِي
مَا خَلَا جُودَكَ ريحُ
إِنَّما أَنْتَ عَطايا
أَبَدًا لا تَسْتَريحُ
بُحَّ صَوْتُ الْمالِ مِمَّا
مِنْكَ يَشْكُو ويَصِيحُ
ما لِهذَا آخِذٌ فَوْ
قَ يَدَيْهِ أَوْ نَصيحُ
جُدْتَ بِالأَمْوَال حَتَّى
قِيلَ ما هذَا صحِيحُ
صُوِّرَ الجُودُ مِثالًا
وَلَهُ العَبَّاسُ رُوحُ
فَهْوَ بِالْمَالِ جَوَادٌ
وهْوَ بالعِرْضِ شَحِيحُ
١  نُشرت بالسياسة في ٢٣ رجب سنة ١٣٤٢ / ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤