الفصل السابع عشر

خاتمة القول في أبي نواس١
المدح – الرثاء – الهجاء – الزهد

فصلنا القول في هزل أبي نواس ومجونه تفصيلًا، ونحن مضطرون إلى أن نجمل القول في جده إجمالًا، لا لأنا نؤثر هزل أبي نواس على جده، ولا لأنا نريد أن نتملق هذا الميل العام، الذي يحمل جمهور القراء أن يؤثر الهزل على الجد، ويفضل ما يسر ويلهي، على ما ليس له حظ من السرور واللهو، بل لأنا نعتقد أن شخصية أبي نواس، في حقيقة الأمر، إنما هي شخصية شاعر هازل ماجن، تظهر الظهور كله، إذا هزل أو مجن أو حاول الاستمتاع باللذات، والتغني بآثار هذه اللذات، فترى فيها خفة ونشاطًا، وشيئًا يشبه النزق، أو هو النزق، وترى فيها جرأة غريبة، وحرصًا قليلًا جدًّا على الاحتياط، وصراحة لا تعدلها صراحة.

فلعلك تذكر ما روينا لك من شعره في الخمر والمجون والنساء، ولعلك تذكر أن حظ هذا الشاعر من الصراحة وازدراء الدين والخلق والأدب الموروث عظيم، ومع ذلك فقد تخيرنا هذا الشعر الذي رويناه لك تخيرًا دقيقًا، وراعينا فيه أخلاق الناس في هذا العصر وميولهم، وحاجة الشباب إلى القول الطاهر البريء، وراعينا فيه مع ذلك شعور المتشددين في الدين، والمستمسكين بالأدب القديم، أولئك الذين يسميهم ابن قتيبة المتزمتين، راعينا هذا كله فيما روينا لك من شعر أبي نواس في اللهو والمجون، ولم نسلم مع ذلك من نقد الناقدين، وإنكار المنكرين، وغلو قوم اتهمونا بألوانٍ من التهم، وأضافوا إلينا ضروبًا من الخروج على الدين والأخلاق، والكيد لتاريخ الأمة العربية المجيد.

ولو أننا روينا لك من شعر أبي نواس في العبث والدعابة، وفي اللهو والمجون، دون تحفظ ولا احتياط، لمثلنا لك شخصيته على وجهها، ولكنا مؤرخين حقًّا، ولكنا كنا نتعرض لما لا نحب، من إفساد الذوق، والإساءة إلى الأخلاق، فأبو نواس شاعر خطر، لا ننصح بقراءته إلا لطائفة خاصة من الناس، يستطيعون أن يقرءوا ويحكموا، دون أن يتأثروا أو يقلدوا.

شخصيته شخصية شاعر ماجن قبل كل شيء وبعد كل شيء، ونحسب أن هذا الرجل لو خُلِّيَ وطبعه، ولم تضطره الظروف السياسية والفنية والمعاشية — إن صح هذا التعبير — إلى أن يصطنع الجد من حينٍ إلى حين، لكان شعره كله هزلًا ومجونًا، وما رأيك في رجل لم ينظر في يومٍ من الأيام إلى الحياة إلا من حيث هي سبيل من سبل اللذة، ووسيلة من وسائل اللهو، ولم يجدَّ إلا ليستعين بجده على الهزل؟! أفتظنه مدح لأنه كان يحب ممدوحيه أو يُكْبِرُهم؟ أو لأنه كان يحب المدح ويميل إليه؟! كلا! إنما مدح الخلفاء والوزراء والأمراء ليتخذ مدحهم وسيلة إلى مدح الخمر، أو قل: ليتخذ مدحهم وسيلة إلى شرب الخمر، والاستمتاع بها وبما تستتبع من اللذات، مدحهم لأنه كان في حاجة إلى ما يرزقونه من المال، ومدحهم؛ لأنه كان في حاجة إلى أن يتملقهم، ويتقي شرهم، مدحهم مستجديًا، ومدحهم متقيًا، ولعله لم يخلص في مدح واحد من هؤلاء، إلا نفرًا نستطيع أن نتعرفهم، إذا نظرنا في تاريخهم من جهة، وفي سيرة أبي نواس معهم من جهةٍ أخرى. لم يخلص أبو نواس في مدح الرشيد، وإنما مدحه مستجديًا أو متقيًا، ولم يخلص أبو نواس في مدح البرامكة، وأخلص أبو نواس في مدح الأمين، لا لأنه كان يكبر الأمين ويجله، بل لأنه كان ينادم الأمين، ويرى فيه خليلًا على الشراب، وصديقًا على اللذة، وكثيرًا ما كان يسخر من الأمين إذا سنحت له الفرصة، وقد هجا الأمين غير مرة، وقل مثل ذلك في مدحه للفضل بن الربيع وزير الأمين، وقل مثل ذلك في مدحه لأبناء الفضل بن الربيع، فقد كان هؤلاء جميعًا أصدقاءه وندماءه، كما أنهم كانوا حماته ورازقيه، وقل مثل ذلك في مدحه للخصيب، فقد بلغ الخصيب من الإنعام على أبي نواس والانبساط له حدًّا عظيمًا، ويروون أن أبا نواس كان يشرب مع الخصيب حتى يمعن في السكر، ويفقد الرشد، ويأتي من المنكرات ما يأتيه السكارى إذا انتهوا من سكرهم إلى الحد الأقصى، ويذكرون أنه قال قصيدته المشهورة في الخمر التي مطلعها:

يَا شَقِيقَ النَّفْسِ مِنْ حَكَمِ
نِمْتَ عنْ لَيْلِي وَلَمْ أَنَمِ

وهو في شر حال.

ومن هنا لا تكاد تحس الإخلاص في مدح أبي نواس، وإنما هو شيء متكلف، تظهر فيه الصنعة، ويستخفي فيه الطبع، وقد تحسن هذه الصنعة حينًا، وقد تسوء حينًا آخر، وهي على كل حال ميالة إلى الإسراف والمبالغة، وقليل فيها التجديد، وكثير فيها الاعتماد على القدماء، ومشاركة الشعراء في هذه الصفات الشائعة، التي كانوا يقدمونها إلى الخلفاء والوزراء، يستجدون بها المال، فانظر إلى هذه الأبيات التي يقولها أبو نواس في مدح الرشيد:

وَإِلى أَبِي الْأُمناءِ هَارُونَ الَّذِي
يَحْيَا بصوْبِ سَمَائِه الْحَيَوانُ
مَلِكٌ تَصَوَّرَ فِي الْقُلُوبِ مِثَالُهُ
فَكَأَنَّمَا لَمْ يَخْلُ مِنْهُ مَكَانُ

فأما أول هذين البيتين فشائع مشترك المعنى، ولكن جماله لفظي، وأما الثاني فلا يخلو من دقة ولا من جمال، ولكن انظر إلى ما يقول بعد ذلك.

هَارُونُ أَلَّفَنَا ائْتِلَافَ موَدَّةٍ
مَاتَت لَهَا الْأَحْقَادُ وَالْأَضْغَانُ
فِي كُلِّ عَامٍ غَزْوَةٌ وَوِفَادَةٌ
تَنْبَت بَيْنَ نَوَاهُمَا الْأَقْرَانُ
حَجٌّ وغَزْوٌ ماتَ بَيْنَهُمَا الْكَرى
بِالْيَعْمَلَاتِ شِعَارُهَا الْوَخَدانُ
يَرْمي بِهِنَّ نِيَاطَ كُل تَنُوقَةٍ
فِي اللهِ رَحَّالٌ بِها طَعَّانُ
حَتَّى إِذَا وَاجَهْنَ أَقْبالَ الصَّفَا
حَنَّ الْحَطيمُ وَأَطَّتِ الأَرْكانُ
لِأَغَرَّ يَنْفَرِجُ الدُّجَى عَنْ وَجْهِهِ
عَدْلُ السِّيَاسَةِ حُبُّهُ إِيَمانُ
يَصْلَى الْهَجيرَ بِغُرَّةٍ مَهْدِيَّةٍ
لَوْ شَاءَ صَانَ أَدِيمهَا الْأَكْنَانُ
لَكِنَّه فِي اللهِ مُبْتَذِلٌ لَهَا
إِنَّ التَّقِيَّ مُسَدَّدٌ وَمُعَانُ

أفترى في هذا الكلام كله شيئًا قيمًا، أو معنى طريفًا؟ أفتؤمن له بأكثر من الجمال اللفظي، يلقاك من حينٍ إلى حين؟ ثم ألست تضع يدك على الصنعة؟ ألست تتبين التكلف واضحًا جليًّا؟ ثم انظر إلى هذين البيتين فهما لا يخلوان من جمال، ولكن التكلف فيهما ملموس:

أَلِفَتْ مُنَادَمَةَ الدِّمَاءِ سُيُوفُهُ
فَلَقَلَّمَا تَحْتَازُهَا الْأَجْفَانُ
حَتَّى الَّذِي فِي الرَّحْمِ لَمْ يَكُ صُورَةً
لِفُؤَادِهِ مِنْ خَوْفِهِ خَفَقَانُ

ويظهر أن أبا نواس قد أحب هذا المعنى، وأعجب به، فأعاده في قصيدةٍ أخرى مدح فيها الرشيد، ولكنه كان فيها أقرب إلى الإجادة، وأبعد عن التكلف، وذلك حيث يقول:

ملِكٌ تَطِيبُ طِباعُهُ وَمِزَاجهُ
عَذْبُ المَذَاقِ عَلَى فَمِ المُتَذَوِّقِ
يَلْقَى جَمِيع الْأَمْرِ وَهْوَ مُقَسَّمٌ
بَيْنَ المَناسِكِ وَالْعَدُوِّ المُوثقِ
يَحْمِيكَ مِمَّا تَسْتَضِرُّ بِفِعْلِهِ
ضَحَكاتُ وَجْهٍ لَا يَرِيبُكَ مُشْرِقِ
حَتَّى إِذا أَمْضَى عَزِيمَةَ رَأيهِ
أَخَذَتْ بِسَمعِ عَدُوِّهِ وَالمَنْطَقِ

فهذا كلام كله عذب سهل، ولكنه عادي مألوف، أما المعنى الذي أشرنا إليه في القصيدة الماضية؛ فانظر إليه كيف صاغه أبو نواس أحسن صيغة:

إِنِّي حَلَفْتُ عَلَيْكَ جُهْدَ أَلِيَّةٍ
قَسَمًا بِكُلِّ مقَصِّر وَمُحَلِّق
لَقَدِ اتَّقَيْتَ الله حَقَّ تُقَاتِهِ
وَجَهَدْت نَفْسَكَ فَوْقَ جُهْدِ المُتَّقِي
وَأَخَفْتَ أَهْلَ الشرْكِ حَتَّى إِنَّهُ
لَتخَافُكَ النُّطَفُ الَّتي لَمْ تُخْلَقِ

فانظر إلى هذا البيت، وقارن بينه وبين قوله:

حَتَّى الَّذِي فِي الرَّحْم لَمْ يَكُ صُورَةً
لِفُؤَادِهِ مِنْ خَوْفِه خَفَقَانُ

ألست ترى أنه أقل تكلفًا في اللفظ، وأكثر صفاء في الأسلوب؟ ومع ذلك فالمعنى في نفسه سخيف؛ لأنه محال، وقد لاحظ القدماء ذلك، واختلفوا فيه، فمنهم من أنكر على أبي نواس هذه الإحالة، ومنهم من أعجب بها.

وأنا أشارك المنكرين في إنكارهم، وأوثر على هذا المعنى عند أبي نواس قول أشجع السلمي في مدح الرشيد:

وَعلى عَدُوِّكَ يَا بْنَ عَمِّ محمدٍ
رَصَدَانِ ضَوْءُ الصُّبحِ والإِظْلامُ
فَإِذَا تَنبَّهَ رُعْتَهُ وَإِذَا غَفَا
سَلَّتْ عَلَيْهِ سُيُوفَكَ الْأَحْلَامُ

فهذا الشعر متين رصين، وهو في الوقت نفسه صحيح مستقيم، لا ينكره العقل، ولا يذهب فيه الخيال إلى غير حد، وهو يمثل جلال الخليفة وسطوته أحسن تمثيل، ولعل أحسن مدح صدق فيه أبو نواس هو مدحه للخصيب، فلا تكاد تقرأ هذا المدح حتى تحس أن الشاعر مخلص لا يتكلف ولا يتعمل، وإنما هو مغمور بنعمة الخصيب، راضٍ عن حياته في مصر، سعد بهذه الحياة، فشعره يصف هذا كله، ويمثله تمثيلًا صادقًا، ولست أروي لك القصيدة المشهورة:

أَجَارَةَ بَيْتَيْنا أَبُوكِ غَيُورُ
وَمَيْسُورُ مَا يُرجَى لَدَيْكِ عَسِيرُ

ولكن اقرأ شيئًا من قصيدة أخرى، لم يكثر الناس تناقلها، وانظر ألا ترى الشاعر فيها سعيدًا مغتبطًا بحاضره، عظيم الأمل في مستقبله:

ذَكَرَ الكَرْخَ نازحُ الْأَوْطَانِ
فَصَبَا صَبْوَةً وَلَاتَ أَوَانِ
لَيْس لِي مُسْعِدٌ بِمِصْرَ على الشَّوْ
قِ إِلَى أَوْجُهٍ هُناكَ حِسَانِ
إِذْ لِبَابِ الْأَمِيرِ صَدْر نَهَاري
وَرَواحي إِلَى بُيُوتِ الْقِيَانِ
وَاغْتِفَالي المَوْلى لِأَخْتَلِسَ الْغَمـْ
ـزَةَ مِمَّنْ أُحِبُّه بِالْبَنان
وَاعْتِمَالِي الْكُئوسَ في الشُّرْب تَسْعى
مُتْرَعَاتٍ كَخَالِصِ الزَّعْفَرَانِ
يَا بْنَتِي أَبْشرِي بِميرةِ مِصْرٍ
وَتَمنَّيْ وَأَسْرفي في الأَمانِي
أَنا في ذِمَّةِ الْخَصِيبِ مُقِيمٌ
حَيْثُ لا تَعْتدِي صُرُوف الزَّمَانِ
كَيْفَ أَخْشَى عَليَّ غولَ اللَّيَالي
وَمَكانِي مِنَ الخَصِيبِ مَكانِي

ثم يقول:

قَادَنِي نَحْوَكَ الرَّجَاءُ فَصَدَّقـْ
ـتُ رَجَائي واخْتَرْتُ حَمْدَ لِسانِي
إِنَّما يَشْتَرِي المَحَامِدَ حُرٌّ
طَابَ نَفْسًا لَهُنَّ بالْأَثْمَانِ

ولم لا يكون سعيدًا؟! ولم لا ينطق بهذا الشعر الجميل الصادق، وهو يقضي نهاره وليله بين الأمير ودور اللهو؟!

وكما أن مدح أبي نواس في أكثر الأحيان ليس بالصادق ولا الممتاز، فرثاؤه قليل الخطر، وربما كان أقل خطرًا من مدحه، وربما كان الرثاء أضعف شعر أبي نواس، وهذا واضح، فلم يكن أبو نواس رجلًا محزونًا، ولا ميالًا إلى الحزن، وإنما كان رجلًا مبتهجًا بطبعه، أو كان هو الابتهاج، فليس غريبًا أن لا يجيد الرثاء، وليس غريبًا أن يتكلفه إذا اضطر إليه، ثم لا تنسَ أن أبا نواس لم يستطع أن يطمئن إلى حياة الزوجية، وعجز الذين أرادوا أن يحملوه على الزواج، فلم تكن له أسرة، ولم يعش بين أبنائه وبناته، فلم تنشأ في نفسه هذه العواطف الرقيقة، التي تنشئها الحياة المنزلية الصالحة، وإنما كان مقسم الحياة بين اللذات وضروب المزاج.

أما صلات المودة التي كانت تصل بينه وبين الناس، فلم يكن أكثرها يقوم على الجد، وإنما كان يقوم على اللذات، فكان أبو نواس مدينًا لأصدقائه بالابتسام لا بالعبوس، ومن هنا لا تكاد تشعر بشيءٍ من الألم حين تقرأ مراثيه القليلة، وأنا أزعم أن أبا نواس لم يصدق في رثائه إلا مرة واحدة، وذلك حين رثى الأمين في هذه الأبيات:

طَوَى المَوْتُ مَا بيْنِي وبَيْنَ مُحَمَّدٍ
وَلَيْسَ لِمَا تَطْوِي الْمَنِيَّة نَاشِرُ
فَلَا وَصْلَ إِلَّا عَبْرَةٌ تَسْتَدِيمُهَا
أَحادِيثُ نَفْسٍ مَا لَهَا الدَّهْرَ ذَاكِرُ
وَكُنْتُ عَلَيْهِ أَحْذَر المَوْتَ وَحْدَهُ
فَلَمْ يَبْقَ لِي شَيْءٌ علَيْهِ أُحَاذِرُ
لَئنْ عَمِرَتْ دُورٌ بِمنْ لَا أَوَدُّهُ
لقد عمرَتْ مِمَّنْ أُحِبُّ المَقَابرُ

فأما غير ذلك من الرثاء فسخيف أو متكلف، ولست أشك في أن أبا نواس كان يشعر بضعفه في هذا الفن، وكان مع ذلك يحاول أن يُخفي هذا الضعف، فكان يسلك إلى إخفائه سبلًا مختلفة، أظهرها الإكثار من الوصف، على نحو ما كان يغرق فيه الجاهليون من وصف الوحش والجبال وما إلى ذلك.

ليس لرثاء أبي نواس قيمة، فخير ألا نطيل فيه، وأن ننتقل إلى فن آخر، أجاد فيه أبو نواس إجادة مطلقة، ليست أقل من إجادته في الخمر، ولا في المجون؛ لأنه باب من المجون، وهو الهجاء، على أننا نسرف إذا قلنا: إن هجاء أبي نواس مجون كله، ففي هجاء أبي نواس جد كثير، وفيه هزل كثير، ولقد كنا نريد أن نخصص للهجاء عند أبي نواس فصلًا مطولًا، ولكنا مضطرون إلى أن نعدل عن ذلك؛ لأن أكثر هذا الهجاء مملوء بفاحش القول ومقذعه؛ فليس إلى روايته من سبيل، فلنكتف بأن نعطيك منه صورة موجزة جدًّا، ولنلاحظ قبل كل شيء أن هجاء أبي نواس ينقسم أقسامًا، فهناك الهجاء السياسي، وهذا الهجاء نفسه ينقسم قسمين؛ أحدهما: هجاء أبي نواس للعرب عامة، وللنزاريين خاصة، فقد كان أبو نواس شديد الميل إلى الفرس، وكان لا يحب من العرب إلا اليمانية، فأما النزارية فقد كان يزدريهم، ويمقتهم كل المقت، وكان ينالهم بأشد الشعر إقذاعًا حتى يروى أن الرشيد حبسه في ذلك الوقت، وكان لا يكاد يستثني قريشًا، فإذا فعل فمخافة السيف؛ لأن النبوة والخلافة كانتا في قريش. القسم الآخر من هجائه السياسي: هجاؤه للذين عاشروه من الأمراء والوزراء، فقد كان أبو نواس يكره البرامكة، وكان يكره الأمويين، وكان ينال أولئك وهؤلاء بفاحش القول، ولم يكن أبو نواس طيب النفس ولا رحيمًا إذا هجا أعداءه السياسيين، وإنما يظهر أنه كان شديد الضغن، منكر الحقد، فانظر إلى هذه الأبيات التي هجا بها إسماعيل بن صبيح مولى الأمويين، وكاتب الأمين:

أَلَا قُلْ لإِسْماعِيلَ إِنَّك شَاربٌ
بِكَأْسِ بَنِي ماهَانَ ضَربةَ لازِمِ
أَتُسْمِنُ أَوْلادَ الطَّرِيدِ ورَهْطَهُ
بِإِهْزَالِ آل اللهِ مِنْ نَسْلِ هَاشِمِ
وإِنْ ذُكِرَ الْجَعْدِيُّ أَذْرَيْت عَبْرَةً
وَقُلْتَ أَدَالَ اللهُ مِنْ كلِّ ظَالِمِ
وتُخْبِرُ مَنْ لاقَيْتَ أَنَّك صَائِمٌ
وَتَغدُو بِحجْرٍ مُفْطِرًا غَيْرَ صَائمِ
فَإِنْ يَسْرِ إِسْمَاعِيلُ فِي فَجَراتِهِ
فَليْس أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ بِنَائمِ

فانظر إلى هذه الوقيعة المنكرة، ثم اقرأ هذه الأبيات الأخرى؛ فليست أقل نكرًا مما روينا لك:

أَلَسْتَ أَمِينَ اللهِ سَيْفُكَ نِقْمَةٌ
إِذَا مَاقَ يوْمًا فِي خِلَافِكَ مَائِقُ
فَكَيْفَ بِإِسْمَاعِيلَ يَسْلمُ مِثْلُهُ
عَلَيْكَ ولَمْ يَسْلَمْ عَلَيْكَ مُنَافِقُ
أُعِيذُكَ بِالرحْمنِ مِنْ شَرِّ كَاتِبٍ
لَهُ قَلَمٌ زَانٍ وآخَر سَارِقُ
أُحَيْمِرَ عاد إِنَّ لِلسَّيْفِ وَقْعَةً
بِرَأسِكَ فانْظُرْ بَعْدهَا ما تُوافق
تَجَهَّزْ جَهازَ الْبَرْمَكِيِّينَ وَانْتَظِرْ
بَقِيَّةَ لَيْلٍ صُبْحُهُ بِكَ لاحِقُ

وقسم آخر من هجاء أبي نواس تناول به العلماء من اللغويين وأصحاب النحو والكلام، فقد هجا الهيثم بن عدي، وهجا أبا عبيدة بهذين البيتين المنكرين، ويروى أنه كتبهما على الحائط، حيث كان يدرس أبو عبيدة:

صَلَّى الْإِله عَلَى لُوطٍ وَشِيعَتِهِ
أَبا عُبيْدةَ قلْ بِاللهِ آمِينَا
فَأَنْتَ عِنْدِي بِلا شَكٍّ بَقِيَّتُهُ
مُنْذُ احتلَمْتَ وَقَدْ جَاوَزْتَ سَبْعِينا

وهجا النظام من المتكلمين بهذه الأبيات:

قُولا لِإِبْرَاهِيمَ قَوْلًا هُتْرا
غَلَبْتَنِي زَنْدَقَةً وَكُفْرَا
إِنْ قُلْتَ مَا تَشْرب قالَ خَمْرَا
… … … … …
إِنْ قُلْتَ مَا نَتْركُ قَالَ بِرًّا
أَو قُلْتَ مَا ترْهَب قالَ بَحْرَا
أَوْ قلْتَ ما تَقُول قَالَ شَرًّا
أَصْلَاهُ رَبِّي لَهَبًا وَجَمْرَا

ولعلك تذكر أنه كان يقصد إلى النظام بقصيدته التي أولها:

دعْ عنك لومي فإن اللَّوْم إِغراءُ

والعجب أن هؤلاء العلماء الذين هجاهم أبو نواس كانوا يحبونه، ويعجبون بشعره، ولعل شيئًا من الإعجاب مصدره الخوف، فقد كان أبو نواس ينذر العلماء إذا احتاج إلى ذلك، ولما لم يجد له الكلبي نسبًا في أنساب العرب قال فيه:

أَبَا مُنذِرٍ مَا بَالُ أَبْوَابِ مذْحِجٍ
مُغَلَّقَةٌ دُونِي وَأَنْتَ صَدِيقِي
فإِنْ تَعْزُنِي يَأْتِك ثَنائي وَمِدْحَتِي
وَإِنْ تَأْبَ لا يُسْدَدْ عَلَيك طرِيقِي

وقسم ثالث من هجاء أبي نواس، هو هجاؤه لأصحابه من الشعراء والندامى، فله في الرقاشي وفي بني نوبخت كلام كثير مقذع، وظاهر أن رجلًا كأبي نواس حياته بين الكأس والطاس، في لعب ومزاح، كان من خفة الروح، وتوقد الذكاء، ودقة الفطنة، بحيث كان يبلغ ما أراد إذا هجا؛ فهو من أشد الشعراء في عصره إقذاعًا، ومن أكثرهم نكاية بالخصم، وفي هجائه ازدراء لا يعدله ازدراء، ولقد أحب أن أذكر لك من ذلك شيئًا قليلًا؛ فانظر إلى قوله:

أَمَاتَ اللهُ مِنْ جُوعٍ رَقَاشًا
فَلَوْلا الْجُوعُ مَا مَاتَتْ رَقاشُ
وَلَوْ أَشْممْتَ مَوْتَاهُمْ رَغِيفًا
وَقَدْ سَكَنُوا الْقُبُورَ إِذن لَعاشُوا

وانظر إلى قوله في هجاء داود بن رزين راوية بشار:

إِذَا أَنْشَدَ دَاودُ
فَقُلْ أَحْسَنَ بَشَّارُ
لَهُ مِنْ شِعْرِهِ الْغَث
إِذَا مَا شَاءَ أَشْعارُ
وَمَا مِنْها لَهُ شَيْءٌ
أَلَا هذَا هُوَ الْعَارُ

وانظر إلى هذين البيتين:

بِمَا أَهْجُوكَ لَا أَدْري
لِسَاني فِيكَ لَا يَجْرِي
إِذَا فَكَّرْتُ فِي عِرْضِـ
ـكَ أَشْفَقْتُ على شِعْرِي

وانظر إلى قوله:

سِيرُوا إِلَى أَبْعَدِ مُنتابِ
قَدْ ظَهر الدَّجَّالُ بِالزَّابِ
هَذَا ابْنُ نُوبَخْتَ له إِمرةٌ
صَاحِبُ كُتَّاب وَحُجَّابِ

وانظر إلى قوله في البرامكة:

إِنِّيَ لوْلا شقاءُ جَدِّي
مَا ماتَ مُوسى كَذَا سَرِيعا
وَلا طَوَتهُ الْمُنونُ حَتى
أَرَى بَني برْمكٍ جَمِيعَا
هذَا زَمانُ الْقُرُودِ فاخْضَعْ
وكُنْ لَهُمْ سامِعًا مطيعَا

وهذا أخف ما قال أبو نواس في الهجاء، ونحن مضطرون أن نطوي عنك أجود هجائه؛ لأنه قد بلغ من القبح كما قلنا حدًّا يحول بيننا وبين روايته.

•••

وفن آخر من فنون الشعر أجاد فيه أبو نواس إجادة مطلقة، ولعله أول من اتخذه فنًّا مستقلًّا من فنون الشعر، فنظم فيه القصائد طوالها وقصارها، وهو فن الصيد، ولكني لا أحدثك عنه في هذا الفصل؛ لأن أبا نواس قد آثر فيه الغريب إيثارًا شديدًا، حتى أصبح من المستحيل أن تتسع له الصحف السيارة، لشدة احتياجه إلى الشرح والتفسير، ولعلي أوفق إلى جمع هذه الفصول كلها في كتاب، فأضيف إليها فصلًا عن الصيد في شعر أبي نواس.

أما الفن الذي أريد أن أختم به القول في أبي نواس؛ فهو فن الزهد، وقد أجاد فيه أبو نواس إجادة لا بأس بها، وذلك مفهوم أيضًا، فلو أنك أردت أن تتبين فلسفة أبي نواس لما استطعت إلا أن تقول: إن أبا نواس كان يزدري الحياة، ويسخر منها، ولعلك تدهش إذا قلت لك: إني أشبه أبا نواس بأبي العلاء، تدهش لأن أبا نواس مشرق مبتسم، في حين كان أبو العلاء عابسًا مكتئبًا، وتدهش لأن أبا نواس رجل لذة وفجور، في حين كان أبو العلاء رجل زهد وحرمان، ومع ذلك فأبو نواس شبيه بأبي العلاء؛ كلاهما كان يزدري الحياة، وكلاهما كان يمقتها مقتًا شديدًا، وكل ما بينهما من الفرق أن أبا نواس كان يكره الحياة فيزدريها، ويستعين عليها باللذة واللهو، وأن أبا العلاء كان يكره الحياة، فيستعين عليها بالزهد والحرمان، وفي الحق أن المتشائمين ينقسمون إلى هذين القسمين: فمنهم متشائم يضحك ويلهو، ومنهم متشائم يعبس ويبكي وهم جميعًا متشائمون، تقوم فلسفتهم على هذه القاعدة، وهي أن الحياة شيء ليس بذي حظر، لم ينشأ من خير، ولن ينتهي إلى خير، فَلْتُقْضَ في لعب ولهو، أو فلتقض في حكمةٍ وزهد، هذا شيء يختلف باختلاف الأمزجة لا أكثر ولا أقل، فليس غريبًا إذن أن يجيد أبو نواس في المجون وفي الزهد معًا، على أني لا أستطيع أن أحكم على أبي نواس أكان هو مسلمًا حقًّا أم لم يكن، ولعل أصدق حكم ممكن في أبي نواس هو أنه تجاوز حدود الإسلام، وازدرى أصوله وقواعده غير مرة في حياته الطويلة، ولنقل: إن شعره في الزهد آية على أنه تاب غير مرة أيضًا، ولنختم قولنا بهذه الأبيات القيمة، التي قالها في الزهد:

أَيَّةَ نَارٍ قَدَحَ الْقَادِحُ
وأَيَّ جِدٍّ بَلَغَ الْمازِحُ
للهِ دَر الشَّيْبِ مِنْ وَاعِظٍ
وَناصِحٍ لَوْ حَظِيَ النَّاصِحُ
يَأْبى الْفَتى إِلَّا اتِّباع الْهَوَى
وَمَنْهَجُ الْحَقِّ لَهُ وَاضِحُ
فَاسْمُ بعَيْنَيْكَ إِلَى نِسْوَةٍ
مُهُورهُنَّ الْعَمَلُ الصَّالحُ
لَا يجْتَلِي الْحَوْراءَ مِنْ خِدْرِهَا
إِلَّا امْرُؤٌ مِيزانُه راجِحُ
من اتقَّى اللهَ فَذَاكَ الَّذِي
سِيقَ إِلَيْهِ الْمَتْجَرُ الرَّابِحُ
شَمِّرْ فَمَا فِي الدِّينِ أُغْلُوطَةٌ
وَرُحْ لِما أَنْتَ لَهُ رَائحُ
١  نُشرت بالسياسة في ٢٠ شعبان سنة ١٣٤٢ / ٢٦ مارس سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤