الفصل الثامن عشر

الوليد بن يزيد١

كان خليعًا ماجنًا، ويقول الرواة: إنه كان زعيم أصحاب الخلاعة والمجون، تبعه أبو نواس في خلاعته ومجونه، وتبعه غير أبي نواس من شعراء هذا العصر، فسطوا على شعره، وسرقوا معانيه وألفاظه، أو قل: إنهم استباحوها واغتصبوها اغتصابًا، لم يروا في ذلك حرجًا، ولم يخشوا في ذلك دفاعًا، كان الوليد أمويًّا، فكان بغيضًا إلى الناس أيام بني العباس، ثم كان الوليد بغيضًا إلى بني أمية أنفسهم، قبل أن يُمكِّن الله لبني العباس في الأرض، فكان بغض الناس له مضاعفًا، كرهوه حين كان الأمر لبني أمية؛ لأنه كان بغيضًا إلى قومه، ولأن التوفيق السياسي أخطأه، ولأنه كان على شيءٍ غير قليل من سوء السيرة، ولأن قومه الذين ثاروا به وقتلوه بالغوا في تسويء سيرته، وأضافوا إليه من القول ما لم يقل، وحمَّلوه من الآثام ما لم يحمل.

وأنت تعلم آثار البغض السياسي، وما تحدثه الفتن لمن لم يوفق فيها إلى النصر، ثم كانت ثورة العباسيين، واستقرار الأمر لهم، فشمل البغض بني أمية وكان حظ الوليد منه مضاعفًا، وتقرب الناس إلى بني العباس بلعن بني أمية جميعًا، خيِّرهم وشريرهم، كما تقرب الناس إلى بني أمية من قبل بالقدح في بني هاشم جميعًا، وبلعن علي رضي الله عنه، ومن هنا كان من الحق أن تحتاط الاحتياط كله حين تقرأ ما تجد في الكتب من ذم الوليد، والنعي عليه، ورميه بالكفر حينًا، وبالزندقة حينًا آخر، وإضافة الشعر المملوء كفرًا وفجورًا إليه، يجب أن تحتاط في هذا كله، فأكثره أو كثير منه على أقل تقدير متكلف منحول، ولسنا نحن الذين يقولون ذلك، بل قاله الأولون، فقد اختلفوا فيه اختلافًا عظيمًا، فأما أكثرهم فكانوا يتقربون إلى بني العباس، وإلى عامة الناس، بالطعن فيه، والنعي عليه، وليس أحرص من أصحاب السلطة والعامة، على أن تكون هناك ضحايا بريئة أو غير بريئة، ينالونها بضروب الغضب، وينزلون بها ألوان السخط، وأما القليل من هؤلاء الأولين، فكانوا يقصدون في ذلك، فيسكتون، وربما اصطنع بعضهم الشجاعة، فدافع عنه في رفقٍ وحذر، قالوا: دخل مروان بن أبي حفصة على الرشيد فسأله عن الوليد، فتردد، فأعفاه الرشيد من آثار قوله، فقال: «كان من أصبح الناس، وأظرف الناس، وأشعر الناس.» فاستنشده الرشيد من شعره؛ فأنشده هذه الأبيات:

لَيْتَ هِشَامًا عاشَ حَتَّى يَرَى
مِكْيَالَهُ الْأَوْفَر قَدْ أُتْرِعَا
كِلْنَا لَهُ الصَّاع الَّتِي كالَهَا
فَما ظَلَمْنَاه بِهَا أَصْوعَا
لَمْ نَأْتِ مَا نَأْتِيهِ عَنْ بِدْعَةٍ
أَحَلَّهَا الْقُرْآنُ لِي أَجمَعا

قالوا: فأمر الرشيد بهذه الأبيات فكتبت له، وتحدثوا أن رجلًا من ولد الغَمْر بن يزيد بن عبد الملك دخل على الرشيد، فسأله عن نسبه؛ فانتسب إلى قريش، فسأله أن يخصص، وأمَّنه على نفسه إن ظهر أنه مرواني، فلما ذكر الرجل نسبه، بش له الرشيد، وقال: لعن الله قاتلي أبيك؛ فقد قتلوا خليفة مجمعًا عليه، وقضى حوائجه، وعلى نحوٍ من ذلك كان رأي المهدي، قال الرواة: إن فقيهًا من الذين كانوا يختلفون إلى مجلس المهدي استطاع أن يدفع عن الوليد حين اتهم بالزندقة، فذكر صلاته وطهارته وخشوعه، ولكنه ذكر شربه وحبه للهو، وعكوفه عليه، ويقيننا نحن أن الوليد لم يكن كما يزعم خصومه مسرفًا في اللهو والفجور إلى غير حد، كما أنه لم يكن كما يريد أنصاره تقيًّا صالحًا، وإنما كان رجلًا من الناس، أحب اللذة وكلف بها، وأعانته عليها ظروف نريد أن نجملها، فأخذ منها بحظٍّ موفور دون أن يخرجه ذلك عن دينه، أو يتجاوز به حدود ما ينبغي للخلفاء في عصره، ولكنه كان شقيًّا سيئ الحظ، جنت عليه الظروف السياسية التي عاش فيها أكثر مما جنى عليه لهوه ومجونه.

أول هذه الظروف السياسية التي جنت على الوليد أنه كان وليًّا لعهد أبيه يزيد بن عبد الملك، ولكنه كان غلامًا، فتوسط بينه وبين أبيه في الخلافة عمه هشام بن عبد الملك، ولم يكد يتم الأمر لهشام، حتى طمع في الخلافة لابنه، وأراد أن يخلع الوليد من ولاية العهد، وكان قد أعطى العهد على نفسه لَيَفِيَنَّ للوليد، ولكن الأثرة وحب الأبناء كانا أقوى وأشد تأثيرًا في نفس هشام من العهد والوفاء به، أزمع هشام خلع الوليد، وأخذ يحتال في ذلك، ويعد له، وأحس الوليد ذلك، فكانت بينه وبين عمه ضغائن وأحقاد، واشتدت شيئًا فشيئًا، حتى أصبحت عداء صريحًا، وحتى اضطرت الوليد إلى أن يترك العاصمة، ويرتحل إلى البادية، مغاضبًا لعمه، مجتنبًا شره، فلم يزد ذلك هشامًا إلا بغضًا لابن أخيه، وحقدًا عليه، وإلا اضطهادًا له ولأوليائه، وأخبار ذلك كثيرة منتثرة في الكتب، وبأي شيء يشنع هشام على الوليد حتى ينفر الناس منه، ويصرفهم عن بيعته، إلا بالدين وذكر الفجور والفسوق! وقد انتفع هشام بهذا، وأسرف في الانتفاع به، فأذاع عن الوليد ما أراد أن يذيع من اللهو والمجون والإدمان، والكفر والزندقة، وسمع له الناس وهم بين مصدق مغرور، ومكذب، ولكنه يتملق فيظهر التصديق، ودافع الوليد عن نفسه ما استطاع، فلأمرٍ ما كان مغنوه يغنونه هذين البيتين:

يَا أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ دِينِنَا
نَحْنُ عَلَى دِينِ أَبي شَاكِرِ
نَشْرَبُهَا صِرْفًا وممْزُوجَةً
بِالسُّخْنِ أَحْيانًا وَبِالْفَاتِرِ

وأبو شاكر هذا هو مسلمة بن هشام، الذي كان يرشح للخلافة مكان الوليد، وتحدثوا أن هشامًا سأل الوليد ذات يوم أسئلة تنم عن رأيه فيه، فلم يكن جواب الوليد أقل حدة وفطنة من أسئلة هشام، سأله: ما شرابك؟ فأجاب: شرابك يا أمير المؤمنين. ولسنا نزعم أن الوليد لم يكن يشرب، إنما نزعم أنه كان يشرب كغيره من أبناء الخلفاء، ومن الخلفاء أنفسهم، كان يشرب كهشام وبني هشام، ولكن الغرض السياسي أباح لهشام أن يذمه، ويشنع عليه بما كان يأتي هو، وبما كان يأتي أبناؤه.

كان الوليد مضطهدًا أيام هشام، فكان هذا الاضطهاد نفسه يضطره إلى اللهو واللعب لأمرين، ليسلي عن نفسه ما يناله به السلطان من المحن من جهة، وليظهر نفسه مظهر الرجل الذي لا يريد أن يضعف، ولا أن يستكين من جهة، كان يشرب عنادًا، وكان يشرب طالبًا للعزاء، ومضى في الشرب عنادًا وتعزيًا، حتى شغف به شغفًا غير مألوف، فأمكن من نفسه، وصدَّق بعد آراء الناس فيه، مات هشام دون أن يستطيع خلعه، ولكنه كان قد استطاع إيذاءه وإيذاء أصحابه، ونالهم بمحنٍ كثيرة شديدة، فلما تم له الأمر، وتبوأ دار الخلافة، جرى مع طبيعته؛ فأنتقم وأسرف في الانتقام، كما أسرف هشام في الإساءة إليه، ولكنه انتقم من الأبرياء، أو انتقم من قومٍ لم يكونوا أساءوا إليه إلا تأثرًا لهشام، وكذلك شأن الانتقام السياسي، يصيب البريء قبل أن يصيب المسيء، ثم لم يكتفِ الوليد بالإسراف في الانتقام، بل أسرف في شيءٍ آخر، كان محرومًا أيام عمه، فجرى مع طبيعته، وأراد أن يستوفي حقه بعد الحرمان، فتجاوز الحق، كان مُقَتَّرًا عليه؛ فقد قطع عنه هشام عطاءه وأرزاق أصحابه ومواليه، وقد انفتحت له الآن خزائن الدولة، فأسرف فيها، كان مضيقًا عليه، يختلس اللهو اختلاسًا، ويفر باللذة فرارًا، وقد أصبح الآن صاحب السلطان، فأطلق لنفسه عنانها، وأخذ من اللذة ما استطاع، وفوق ما استطاع.

ثم لم يكد يصل إلى الخلافة وينتقم لنفسه، حتى كان هذا الانتقام نفسه مصدر شر له، فقد كون حزبًا قويًّا يكره الوليد، ويأتمر به، ويرثي لأبناء هشام، ويبث الدعوة للتشنيع على الوليد، وإساءة رأي الناس فيه، فلم يكن بد للوليد من أن يدفع عن نفسه، ويحارب هؤلاء الخصوم، ولم يكن الوليد ملكًا ولا قديسًا، وإنما كان رجلًا من الناس، وكان أمويًّا من بني أمية، فيه أخلاقهم وخصالهم، وفيه عنفهم وعنادهم، وفيه غرورهم وطغيانهم، فلقي الشر بالشر، وتحدى خصومه، فأمكنهم من نفسه، وصدَّق رأيهم فيه، ثم انتصر على خصومه، فخلعوه وقتلوه، وأرادوا بطبيعة الحال أن يحمد الناس ما فعلوا، فأضافوا إلى آثام الوليد وسيئاته ما استطاعوا، ثم كانت الفتنة العباسية، فأصبح بنو أمية جميعًا في رأي الخلفاء العباسيين، وعامة الناس، ومن يتملق الخلفاء والعامة من العلماء والفقهاء، كفرة فجارًا، وأصبح الوليد مثالًا لكفرهم وفجورهم، وكذلك يُكْتَبُ التاريخ فيُظلم فيه ناس من الحق ألا يظلموا.

لا نريد أن ندافع عن الوليد؛ فليس يغني الدفاع عن الوليد شيئًا، ليس يعنينا في حقيقة الأمر أن يكون الوليد خَيِّرًا أو شريرًا، ولكن أمامنا حقيقة تاريخية نريد أن نتصورها تصورًا صحيحًا ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، فإذا أردنا أن نحكم على الوليد حكمًا قريبًا من الصدق، كان من الحق أن نقول: إنه كان رجلًا مستمتعًا بلذاته، مسرفًا في هذا الاستمتاع، ولكنه لم يبلغ من ذلك ما يقول خصومه، ولعله لم يصل إلى هذا الإسراف في الإثم، إلا لأن خصومه اضطروه إلى ذلك اضطرارًا، إما باضطهادهم إياه، وإما بتشنيعهم عليه وتحديهم له.

ولقد نريد أن ننظر إلى الوليد نظرة غير النظرة التاريخية، نريد أن ننظر إليه من الوجهة الأدبية، فقد كان الوليد أديبًا، وكان شاعرًا، وهذا وحده هو الذي يعنينا الآن من هذا الرجل، نريد أن ننظر إليه من هذه الوجهة، ونريد أن نتبين شخصيته الأدبية والشعرية بنوعٍ خاص، ولكن ذلك ليس ميسورًا؛ فقد ذهبت أشعار الوليد كلها أو أكثرها، ولم يبقَ منها إلا الشيء القليل، ذهبت لتعصُّب الناس عليه، وتحرجهم من رواية شعره، وما نحسب أن هذا التحرج كان دينيًّا؛ فقد روى الناس شعر أبي نواس وغيره من أصحاب اللهو والمجون، وإنما كان هذا التحرج سياسيًّا، ومن يدري؟! لعل هذا التحرج السياسي قد أضاع علينا من آثار بني أمية شيئًا كثيرًا، ومع ذلك فيظهر أن كثيرًا من شعر الوليد كان محفوظًا يتناقله الناس في القرن الرابع، فإنا نجد في الأغاني أن قصائد الوليد «تدل على نفسها»؛ ولهذا لم يحرص أبو الفرج على روايتها وإثباتها، وليته فعل؛ فإن هذه القصائد التي كانت تدل على نفسها في القرن الرابع، لم يبق منها الآن شيء إلا هذه المقطوعات التي أراد الله أن يرويها لنا أبو الفرج، فكانت كل ما نعرف من شعر الوليد. ليس من اليسير إذن أن نعطي من الوليد صورة صادقة، وإنما نحن مضطرون ومع ذلك فهي خير من لا شيء.

أخص ما يمتاز به الوليد أنه كان شاعرًا صادقًا لا يكذب، ولا يميل إلى الكذب في شعره، ولم يكذب، وهو من فتيان بني أمية، عزيز النفس، رفيع المنزلة، ليس في حاجةٍ إلى أن يمدح ليكسب الحياة، وليس في حاجةٍ إلى أن يهجو، ليدفع عن نفسه خصمًا يكافئه، وأي الشعراء كان يجرؤ على أن يهجو ولي عهد المسلمين؟ ولو فعل فما كان ولي عهد المسلمين ليهجوه، وإنما كانت السبيل في ذلك أن يناله ما هو أهل له من العقاب، ثم لم يكن الوليد متكلفًا في حياته، وكأنه كان يزدري الناس، ولا يحفل بهم، ولِمَ لا يزدريهم وقد رآهم يتملقون عمه، ويعينونه على الظلم، ونقض العهد، لا لشيء إلا لأنه صاحب السلطان! أفيحفل بمثل هؤلاء؟! وإذا لم يحفل بهم فما كان له أن يتكلف ما ليس فيه، أو ينتحل من الخصال خصلة لا تعجبه.

قالوا: كان الوليد متزوجًا من إحدى بنات سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، فعرف أن لزوجته أختًا تفوقها جمالًا وحسنًا، فطلق زوجته، وأراد أن يقترن بأختها، فخطبها إلى أبيها، وعرف ذلك هشام، فأرسل إلى سعيد: أتريد أن تستفحل الوليد لبناتك، يطلق هذه، ويتزوج تلك؟ فرد سعيد خطبة الوليد، فقال الوليد: هذا سعيد يرد خطبتي، ولو كنت خليفة لزوجني بناته جميعًا … وفي الحق أن سعيدًا لم يرد هذه الخطبة إلا مجاراة لهشام، وآية ذلك أنه زوج ابنته من الوليد بعد أن أصبح أمير المؤمنين، فلم يكن من المعقول، ورأى الوليد في الناس رأيه، أن يحفل بهم، أو يُعنى بترضيهم، كان يكرههم ويكرهونه وهو ولي العهد، فلم يكن يحاول إرضاءهم، وكان سيدهم وهو خليفة، فلم يكن يحاول إرضاءهم أيضًا، ثم لم يكن الوليد يتعاطى الشعر حبًّا في الشعر، لم يكن يحرص على أن يكون شاعرًا مجيدًا، وإنما كان يلهو، أو كان يجد، وكان يتخذ الشعر وسيلة عادية للتعبير عما يجد في لهوه وجده، وكان لا يعنيه أن يقول الناس: أحسن أو أصاب، وإنما كان يعنيه أن يشعر هو بأنه وصف ما في نفسه، وترجم عن عواطفه، ومن هنا كان شعر الوليد كما قلنا صادقًا، يمثل نفسه تمثيلًا صحيحًا، وسنرى أن هذه النفس لم تكن بغيضة ولا ثقيلة الظل، ومن هنا أيضًا كان شعر الوليد أقرب إلى الرداءة اللفظية، منه إلى الجودة؛ فقد قلت لك: إنه لم يكن يتكلف هذه الجودة، ولا يطمع فيها، وإنما كان يقول جريًا مع الطبع، ولم يكن يقول الشعر إلا وهو متأثر بما يسر أو يحزن، وإذن فقد كان مشغولًا بسروره وحزنه عن الألفاظ، كان يقول الشعر وهو سكران، يشرب ويطرب بما حوله، وكان همه أن يكون قد نال شعرًا سجل فيه عاطفة ثارت في نفسه، أو خاطرًا خطر له، وكان يحب شعره؛ لأنه كان معجبًا بنفسه، وكان يرى في هذا الشعر مرآة لهذه النفس، وكان يحب أن ينظر كثيرًا في هذه المرآة؛ ولذلك كان لا يكاد يقول شعرًا إلا طلب إلى أحد المغنين أن يغني له فيه صوتًا، وربما قال الأبيات، فكلف أحد المغنين أن يغنيه فيها، فما زال كذلك يسمع ويشرب يومه أو ليله.

وهذا النحو من الشعر الذي لا يتكلف صاحبه فيه لفظًا ولا معنى، وإنما يغترفه اغترافًا سهلًا لا مشقة فيه، يكفي أن يخطر الخاطر، أو تعرض الحادثة، فإذا الشاعر ينظم فيها أبياتًا، أي يقول فيها كلامًا كان يستطيع أن يقوله نثرًا، ولكنه تعود النظم؛ فهو ينظم في غير عسر، ولهذا كان الشعر أيسر شيء على الوليد، كان يتكلم شعرًا حين ينثر الناس، كان إذا أعجبه شيء عادي وصفه شعرًا، وكان إذا اشتهى شيئًا اشتهاه شعرًا، وكان إذا غمه شيء مهما يكن جليلًا أو ضئيلًا عبر عن ذلك بالشعر، كان الشعر كالنثر عند غيره، ولهذا اصطنع من بحور الشعور أخفها وألطفها، وأقربها إلى النثر، وأشدها ملاءمة لحياة اللهو والدعة التي كان يحياها، فقليلًا ما تجد عند الوليد هذه البحور الطوال المعقدة، وإنما شعره كله هَزَج ورَمَل، وهو إذا عمد إلى البحور الطوال اجتزأها اجتزاء، وخففها تخفيفًا، فاختار أيسرها وأقصرها. قلت لك: إنه لم يكن ينظم الشعر، وإنما كان يتكلمه، وهو في هذا قدوة للذين اتبعوه من شعراء العباسيين، فقد حدثتك عن أبي نواس أنه كان إذا لها أو تغزل آثر الشعر أيسرها وأقصرها، وأخفها موقعًا، وأدناها من النثر مكانًا، وكذلك كان غير أبي نواس من شعراء العباسيين، إمامهم في هذا كله الوليد.

ولو أن الوليد أكثر من تعاطي الجد في شعره، لاختار لهذا الجد من الأوزان الشعرية ما فيه جلال ومهابة، ولكنه لم يكن يجد في شعره كثيرًا؛ فقد قلت لك: إنه لم يكد يمدح ولم يكد يهجو، وإنما تعاطى من فنون الشعر ضروبًا خاصة، وصف الخمر لأنه كان يشربها، ووصف اللذة لأنه كان يستمتع بها ووصف الصيد لأنه كان يصيد، وكل هذه الفنون تحتاج إلى الشعر السهل، وإلى الوزن القصير، وتغزل الوليد كثيرًا؛ فقد ذكرت لك أنه أحب أخت زوجه، وكانت هذه المرأة التي فتن بها تسمى سلمى بنت سعيد، فلا تكاد تجد شعرًا للوليد يخلو من سلمى، وهو يفتن في ذكر سلمى افتنانًا عظيمًا، فيذكر اسمها مكبرًا ومصغرًا، ويذكره كاملًا ومرخمًا، ويتخذه مرة كنية لها، كأنه يداعبها، ومن الغريب أنه كان في هذا الحب سيئ الحظ، كما كان في حياته كلها؛ فقد طلق امرأته ليتزوج أختها، فحال هشام بينه وبين ذلك، فندم على تطليق امرأته، وكأنه أحبها، فأراد أن يراجعها، ولكنها كانت قد تزوجت رجلًا آخر، فقال في ذلك شعرًا لذيذًا، ولكنه يئس من امرأته؛ فانصرف إلى عشيقته سلمى، وكأنها كانت تحبه، بل كانت تحبه، ولكنها كانت تطيع أباها وتكبره، فكان الوليد ينسب بها حياته، وكان شعره يصل إليها، وكان يحب أن يسمع رأيها في هذا الشعر، لا لأنه ينتظر أن تمدح شعره أو تذمه، بل لأنه يريد أن يجد في كلامها صدى لعواطفه، وقد بلغ به الغيظ ذات يوم أن خاصم سعيدًا وهجاه، فبلغ ذلك سلمى، فغضبت لهجاء أبيها، وبلغ الوليد أنها مغضبة، فترضاها بشعرٍ كثير، وترضى أباها، واعتذر إليه، وظل الوليد في وَجْدٍ وحزن، يحب ولا يصل إلى من يحب، وله في ذلك فنون؛ فقد احتال ذات يوم في أن يدخل قصر سعيد، فيقال: إنه لقي زياتًا يسوق حمارًا، فأخذ من الزيات ثيابه وحماره وزيته، ونزل له عن فرسه وثيابه، ومضى يبيع الزيت، حتى دخل قصر سعيد يعرض زيته، ورأته سلمى ورآها، ثم نهره الخدم؛ فانصرف وقال في ذلك شعرًا، فلما مات هشام وأصبح الوليد خليفة، خطب سلمى إلى أبيها، فقبل خطبته هذه المرة، وزوجه ابنته، وللوليد في ذلك شعر عذب لذيذ، من أخف الشعر ظلًّا، وأحسنه في النفوس وقعًا، ولكني قلت لك: إن الوليد كان سيئ الحظ في حبه، كما كان سيئ الحظ في حياته كلها، فلم تلبث سلمى عنده إلا أربعين يومًا، ثم ماتت فجزع الوليد لموتها جزعًا شديدًا، ورثاها رثاء لا نقول: إنه يفطر القلوب حزنًا وأسى، ولكننا نقول: إنه يمثل نفس الوليد، التي كانت تعرف كيف تحزن، كما كانت تعرف كيف تبتهج، ويكفي أن تقرأ شعر الوليد في سلمى هذه حية وميتة، لتعرف أن الوليد لم يكن يتكلف الشعر، ولا يحرص على الإجادة فيه، وإنما كان يرسله كما يرسل أنفاسه، في سهولة ويسر، فإذا هو حارٌّ حينًا، وفاتر حينًا، وقد يصل إلى البرد حينًا آخر.

ثم للوليد جد، ولكنا لم نحفظ منه إلا قليلًا؛ فقد خاصم هشامًا، فاضطره هذا الخصام إلى شيءٍ من الفخر والعتب، ونالته مِحنٌ اضطرته إلى أن يقول فيها شعرًا، وفقد ابنًا له فرثاه، وهو في هذا الجد كله قوي متين، لا يخلو من جلالٍ ورصانة.

ولم يكن الوليد شاعرًا فحسب، وكأنه كان يتصرف في النثر تصرفًا حسنًا؛ فقد روى لنا أبو الفرج مكاتبة بينه وبين هشام لا بأس بها، ولكني أتردد — وأظن أني محق — في نسبة هذه الرسائل إلى الوليد وإلى هشام، وأحسب أن مواليهما هم الذين كانوا يكتبون عنهما، ولست أشك في ذلك بالقياس إلى هشام، وأنا أرجحه بالقياس إلى الوليد، ومهما يكن من شيءٍ فإن معاني هذه الكتب تمثل نفس الوليد وهشام تمثيلًا لا بأس به، ثم كان الوليد مع هذا عالمًا بأيام العرب وأحداثها، وبأشياء أخرى كثيرة، وأحسب أن اتصاله بالموالي من الفرس قد علمه شيئًا كثيرًا، والرواة يروون أنه أخذ عنهم الزندقة، ومال معهم إلى مذهب «ماني»، وليس من شكٍّ في أنه كان يلم باصطلاحات حديثة؛ علمية أو فلسفية، ظهرت في شعره عندما وصف الخمر، كما ظهرت في شعر أبي نواس، ومع ذلك فالفرق بينه وبين أبي نواس ليس بالقليل، كان الوليد أقرب إلى البداوة منه إلى الحضارة، وذلك ظاهر جلي في شعره، فعلى هذا الشعر مسحة بدوية لا تقبل الشك، بينما أبو نواس في لهوه ومجونه حضريًّا، قد رق حتى كاد ينمحي رقة وخفة.

ولنختصر، فللوليد شخصيتان: شخصيته السياسية التاريخية، التي حدثتك عنها في أول هذا الفصل، وهذه الشخصية إن لم تكن جذابة خلابة، فليست منفرة ولا بغيضة، وهي لا تقطع الصلة بين الوليد وبين غيره من الخلفاء الأمويين والعباسيين، الذين يذكرون بالخير، ولعلهم ليسوا أقل إثمًا من الوليد، وشخصيته الأدبية: شخصيته من حيث هو شاعر، وأحسب أني قد رسمتها لك رسمًا إلا يكن صادقًا كل الصدق؛ فليس بعيدًا عن الحق، وأحسب أن هذا الرسم يظهر لك الوليد شاعرًا ظريفًا، جذابًا خفيف الروح، ولكني أريد أن أثبت كل هذه الصفات التي قدمتها، ولا بد لذلك من أن ننتقل إلى طائفة من شعره، فليكن ذلك في الفصل الآتي.

١  نُشرت بالسياسة في ٢٧ شعبان سنة ١٣٤٢ / ٢ أبريل سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤