الفصل التاسع عشر

مطيع بن إياس١

وكنت تنتظر مني أن أحدثك عن الوليد بن يزيد؛ لأني وعدتك في الأسبوع الماضي أن أستأنف الحديث فيه، ولكن بدا لي، فسأحدثك عن شاعرٍ آخر، ولست أكره إخلاف هذا الوعد، فمن اليسير عليك، ومن الخير لك ولي، إذا أردت أن تتعرف شعر الوليد، وتتثبت صحة تلك الصورة التي رسمتها لك من شخصيته، أن ترجع إلى كتاب الأغاني، وما روى فيه أبو الفرج من شعر الوليد، ففي ذلك مقنع لك، وفي ذلك فائدة أعظم وأجدى من الفائدة التي تجنيها لو أني رويت لك طرفًا من شعر الوليد في هذا الحديث.

ومن يدري؟! لعلك إن رجعت إلى أخبار الوليد وأشعاره في الأغاني صححت بعض ما قد أكون تورطت فيه من خطأ، ومهما يكن من شيء؛ فإن رجوعك إلى الأغاني بعد أن قرأت حديثي عن الوليد، أنفع لك، وأجدى عليك من قراءة حديث آخر، ليس لي فيه إلا رواية وتحليل، وذلك في الوقت نفسه ينفعني؛ فأنا أريد أن أتحدث إليك مسرعًا عن طائفة من الشعراء، تصل بينهم وبين الوليد وأبي نواس صلة متينة قوية، هي صلة الخلاعة والمجون والشك، والإعراض عما ألف الناس.

أريد أن أتحدث إليك في هؤلاء الشعراء، لا لأني أوثر هزلهم وخلاعتهم على جد غيرهم، ولا لأني أشعر بأنك تؤثر الخلاعة والهزل على الجد، فأحاول أن أرضيك وأسليك، بل لأني أرى في الحديث عن هؤلاء الشعراء وأصحابهم من أهل الظرف والمجون في ذلك العصر، نوعًا من الجد عظيم الخطر، يمكننا من أن نفهم عصرًا من العصور الإسلامية كما ينبغي أن نفهمه، ويمكننا من أن نحكم على هذا العصر حكمًا ملائمًا للحق، مقاربًا للصواب، وليس هذا بالشيء اليسير، وليس هذا بالشيء الذي يزدريه الباحثون، ولعلك لم تنسَ بعد أني لم أكد أعرض لأبي نواس في السنة الماضية، حتى سخط ناس كثيرون في مصر، وفي غير مصر، سخط قوم؛ لأن في شعر أبي نواس وأمثاله مخالفة للأخلاق، ونبوًّا عن الدين، وسخط قوم آخرون؛ لأنهم زعموا أني أسيء إلى العرب، وأتهمهم بما ليس فيهم، وأتخذ فجور واحد من الشعراء مقياسًا لحياة العصر الذي عاش فيه، فأعمم حين يجب التخصيص، وأسرف في التعميم حين يجب الاحتياط والدقة، لعلك لم تنسَ هذا بعد، ولعلك تعلم أن الذين يُعْنَوْنَ بالبحث الأدبي والتاريخي عناية صادقة، إذا خطر لهم رأي، وظهر لهم أنه الحق، فآمنوا به، واطمأنوا إليه، لم يسهل عليهم أن يتركوه أو ينصرفوا عنه، حتى يثبتوا لأنفسهم وللناس أنه الحق، وهم يشتدون في ذلك، ويحرصون عليه حرصًا ليس فوقه حرص، وأنا من هؤلاء الناس، حاولت أن أبحث عن أبي نواس، فخطر لي أنه كان شاعرًا شاكًّا ماجنًا، وأن هذا الشك والمجون لم يكونا مقصورين عليه، بل كانا قد تجاوزاه إلى غيره من الشعراء وأعلام هذا العصر، فتتبعت هذا الرأي، وجعلت أدرسه وأمتحنه، وجعلت كلما أمعنت في هذا الدرس والامتحان، ازددت إيمانًا بهذا الرأي، واطمئنانًا إليه، ثم انتقلت منه إلى رأي آخر أوسع منه وأشمل، فاعتقدت وما زلت أعتقد أن القرن الثاني للهجرة، على كثرة من عاش فيه من الفقهاء والزهاد وأصحاب الشك، والمشغوفين بالجد، إنما كان عصر شك ومجون، وعصر افتتان وإلحاد عن الأخلاق المألوفة، والعادات الموروثة، والدين أيضًا.

رأيت هذا الرأي، وذهبت أثبته بالأدلة المختلفة، والحجج المتباينة، في أثناء بحثي عن أبي نواس، ولكني لا أكتفي الآن بإثبات هذا الرأي، ولا بأن أقيم عليه الأدلة النظرية أستمدها مرة من انتقال العرب من حالٍ إلى حال، ومرة من اختلاطهم بالأمة الفارسية، ومرة من طبيعة الحضارة والترف، ومرة من ظهور العلم، ونقل الفلسفة، لا أكتفي بهذا كله، وإنما أريد أن أشخص حياة هؤلاء الشاكين المسرفين في المجون، تشخيصًا لا يجعل إلى الشك فيها سبيلًا، ثم أريد أن أبين أن هؤلاء الشاكين المسرفين في المجون، إن سخط عليهم نفر قليل من الفقهاء وأصحاب الزهد؛ فقد كان الناس جميعًا على اختلاف طبقاتهم وأهوائهم ومنازعهم يحبونهم، ويميلون إليهم، ويتفكهون بما يوصفون به من ظرف، وما يروى عنهم من هزل ومجون، وإذا كان هؤلاء الشعراء وأصحابهم من حرية الرأي، ومن الإسراف في حب اللذة، والتهالك عليها، سرًّا وجهرًا، بهذا الحد الذي بينته وسأبينه في هذه الفصول، وإذا كان الناس بهم معجبين، وعنهم راضين، أقول: إذا كان الأمر على هذا النحو فليس عندي شك في أن هذا العصر الذي عاش فيه هؤلاء الشعراء، وهؤلاء الناس الذين كانوا يعجبون بهم، لم يكن عصر إيمان ويقين في جملته، إنما كان عصر شك واستخفاف، وعصر مجون واستهتار باللذات، ولم لا يكون كذلك وقد اجتمع للمسلمين فيه شيئان، كلاهما خطرٌ على حياة السذاجة والقناعة: أحدهما العقل، أريد العقل الفلسفي، الذي يتدخل في كل شيء بالنقد والتحليل، وبالنفي والإثبات، ولا يريد أن يقف من ذلك عند حد، وإنما يريد إذا بدأ البحث أن يستقصيه، وهو في أثناء هذا البحث وهذا الاستقصاء يهدم ما يعرض في طريقه من آثار الوراثة، والثاني الحضارة وما تستتبعه من نعمة ولذة وترف، كلتا هاتين الظاهرتين شديدة الخطر على كل قديم، فأما الفلسفي فمِعْولٌ يهدم القديم في الحياة المادية على اختلاف فروعها، ومن زعم أن العرب لم يتأثروا في القرن الثاني للهجرة بهذين الخطرين، فهو مسرف كل الإسراف، بعيد عن الحق كل البعد.

ليس غريبًا إذن أن يظهر في هذا العصر الوليد بن يزيد، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد، وحماد عَجْرَد، وابن المقفع، ووالبة بن الحُباب، وغيرهم من الذين عاصروهم وشاركوهم في شكهم ومجونهم، وفي لهوهم وعبثهم، ليس غريبًا أن يظهر هؤلاء الناس في ذلك العصر، وإنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه إلا الفقهاء والنساك وأصحاب الزهد والتقى.

نحن إذن مضطرون إلى أن نأخذ هذا العصر كما هو، وإلى أن نصطنع من الشجاعة ما يمكننا من أن ننظر إليه في جملته وفي تفصيله، لا مشفقين ولا مترددين، ولا كالنعامة التي يأتيها الخطر، فتخفي رأسها كي لا تراه، ويخيل إليها أن ذلك يؤمنها من هذا الخطر … فمهما ننكر ظهور الشك والمجون وأصحابهما في هذا العصر، وتغلب هذا الشك والمجون على نفوس المستنيرين من أهله، فلن يمنع ذلك أن يكون هذا العصر كما قلت عصرًا ظهر فيه الشك والمجون، واستأثرا بعقول الكثرة المستنيرة من أهله، حتى بعض الفقهاء وأصحاب الكلام سيقولون: وما ينفعنا أن نعلم بأن هذا العصر قد كان عصر شك أو عصر يقين؟ وما يضرنا أن نجهل ذلك؟ ولست أرى على ذلك جوابًا معقولًا، وأي جواب معقول تستطيع أن توجهه إلى من يسألك ما نفع العلم؟ وما ضرر الجهل؟ وما فائدة الصواب؟ وما مضرة الخطأ؟ سيقولون: ولكنك سيئ الاختيار، رديء الذوق، فما أنت وأصحاب الشك والمجون تحدثنا عنهم في شهر الصوم، وتروي لنا شكهم ومجونهم وتصرفهم في ألوان الهزل؟ وهلا أجلت ذلك حتى يفرغ الناس من صومهم! وهلا اكتفيت في هذه الأيام التي ينصرف فيها الناس إلى الطاعة والتقوى بالتحدث إليهم في أخبار الزهاد والناسكين، وفي مناقب الوعاظ والصالحين! نعم! سيقولون هذا، ومن يدري؟! لعلي إنما تخيرت هؤلاء الظرفاء وأحاديثهم لأرفه على هؤلاء الصائمين، وأخفف عنهم من ألم الصوم قليلًا، وأي إثم في ذلك؟! وأي جُناح فيه؟!

زعموا أن ناسًا سألوا ابن عباس عن إنشاد الشعر، أينقض الوضوء؟ فأنشد ابن عباس شعرًا لا أستطيع أن أرويه، ثم نهض فصلى، وزعموا أن ناسًا سألوا عن شيء كهذا أحد الفقهاء المحدثين، وأحسبه سعيد بن المسيب؛ فأنشد:

أُنْبِئْتُ أَنَّ فَتَاةً كُنتُ أَخْطُبُهَا
عُرْقُوبُهَا مِثْلُ شَهْرِ الصَّوْمِ في الطُّولِ

لم يتحرك ابن عباس، ولم يتحرج ابن المسيب، ولم يتحرج غيرهما من الفقهاء وأعلام الدين من رواية الشعر وفنونه المختلفة، جدها وهزلها، فما لنا نتحرج الآن؟! أليس هذا التحرج نفسه مظهرًا من مظاهر الضعف، ولين العقيدة، واضطراب اليقين؟! إن المؤمن حقًّا، المتدين حقًّا، المخلص في نسكه وعبادته، لا يخشى على إيمانه، ولا على دينه، ولا على زهده وعبادته شعر مطيع وأصحاب مطيع، وإنما يخشى هذا الشعر من يحس من نفسه الضعف، ويريد أن يتقيه، ويتجنب أسبابه والمغريات به، وإذا أحس الرجل من نفسه ضعفًا في مثل هذه الأشياء، فارو له ما شئت من شعر، أو اكفف عن رواية هذا الشعر له، فما أنت بنافعه ولا ضاره.

على أني قلت: إنا نبحث بحثًا علميًّا، لا نريد به أن نرضي الناس، ولا أن نسلي عنهم، وإنما نريد أن نفيد، وأن نستفيد، وأرى أني قد أسرفت في هذه المقدمة إن كان يمكن أن تسمى هذه مقدمة، ولم أتحدث إليك بعد في مطيع، ومع ذلك فهو خليق بأن أتحدث إليك فيه، وأن أطيل الحديث.

كنت أذكر لك في الحديث الماضي صدق الوليد بن يزيد، وخفة روحه في الشعر، وأين يقع الوليد بن يزيد من مطيع بن إياس، إذا أردنا أن نذكر صدق اللهجة، وخفة الروح، وحلاوة الدعابة، وجمال اللفظ! الفرق بين الشاعرين عظيم، وربما كان من العسير جدًّا أن تجد شاعرًا مجيدًا أو غير مجيد، يبلغ ما بلغه مطيع من صدق اللهجة، وخفة الروح، حتى أبو نواس وأنت تعلم رأيي في أبي نواس. نعم! مطيع بن إياس أصدق لهجة من أبي نواس ومن الوليد، وأخف روحًا منهما، وتفسير ذلك يسير؛ فقد كان الوليد كما عرفت مضطهدًا أيام ولايته للعهد، كثير الخصوم أيام خلافته، فكان في لهوه ومجونه في هذين العصرين يشعر بالاضطهاد والخصومة، ويريد أن يتحدى المضطهدين والخصوم، فكان ذلك ربما دفعه إلى شيءٍ من الإسراف في القول، والإمعان في التحدي، وتجاوز طبيعته أحيانًا، ليغيظ خصومه ومضطهديه، وكان أبو نواس شاعرًا مجيدًا، ومستأثرًا في عصره بالإجادة المطردة، وكان قد اتخذ المجون مذهبًا، وكان قد أعلن ذلك، وأسرف فيه، وكان له حساد وخصوم ومضطهدون، فكان كالوليد، يتحدى هؤلاء الحساد والخصوم، ويسرف في القول إسرافًا متعمدًا، يريد أن يغيظ الفقهاء والمتكلمين، ويهزل ويسف في اللفظ، يريد أن يغيظ النحاة واللغويين، لم يكن يخشى إلا الخلفاء، أو قل: لم يكن يخشى من الخلفاء إلا الرشيد، فكان يحتاط أمام الرشيد.

بينما الوليد يسرف في القول، ليتحدى خصومه السياسيين، وبينما كان أبو نواس يسرف في القول ليتحدى خصومه العلماء والأدباء، كان مطيع لا يسرف في القول؛ لأنه لم يكن مضطهدًا ولا معرضًا لخطر.

ستقول: وكيف أمن مطيع هذا الاضطهاد؟ وكيف برئ من التعرض للخطر مع أنه كان ظريفًا ماجنًا، ملحًّا في الفسق، متهمًا في دينه، يوصف بالزندقة؟

فأقول: بل كان مطيع شرًّا من هذا أيضًا في النصف الثاني من حياته، فقد كان بينه وبين الأمويين صلة؛ مدح الغَمْر بن يزيد بن عبد الملك، ونادم الوليد بن يزيد، ومدح أبوه واليًا من ولاة بني أمية، ومدح هو رجلًا من ولد خالد القسري، وكثيرًا ما كان يذكر بالخير أيام بني أمية، ويكره أيام بني العباس، فكان من المعقول جدًّا أن يُراعَ من الوجهة السياسية، كما كان من المعقول جدًّا أن يراع من الوجهة الدينية، ولكنه مع ذلك لم يرع إلا مرة أو مرتين، خرج منهما آمنًا مسرورًا، موفور الحظ من العطاء أيضًا، تريد أن تفهم هذا، وأنا أيضًا أريد أن أفهمه، وأعتقد أن تعليل هذا سيصور لك مطيعًا وشخصيته ورأيه في الحياة والناس وأحسن تصوير وأصدقه، كان مطيع يزدري الناس، وكان يزدري الحياة، وكان يسخر من هذه، كما كان يسخر من هؤلاء، وكان يتخذ هذه وهؤلاء وسيلة إلى اللذة، وإلى اللذة التي لا حد لها، فكان يتلون مع هؤلاء الناس بألوانهم، وكان يتقلب مع الحياة في صورها المختلفة، كان أمويًّا أيام بني أمية، لم يكره حين مَثل بين يدي الوليد، فسأله عن شعر أعجب به لمن هو؟ لم يكره أن يجيب: «عبدك أنا قائله يا أمير المؤمنين.» قالوا: فاستدناه الوليد، وقبل فاه وبين عينيه، وهوى هو، فقبل الأرض بين يديه، وكان عباسيًّا حين ثبت الله الملك لبني العباس، ولم يكن عباسيًّا معتدلًا ولا هادئًا، بل قل: لم يكن عباسيًّا متطرفًا؛ لأنه لم يكن مقتنعًا بشيء، وإنما كان يريد أن يعيش ويلذ، وكان يجد الحياة واللذة عند بني العباس، ولم يكن بنو العباس يَزِنُون عنده شيئًا إلا هذه الحياة وهذه اللذة! فما الذي كان يمنعه أن يتملق بني العباس؟! وهو لم يكن يتملقهم كما يفعل الذليل الخانع، وإنما كان يتملقهم، ساخرًا منهم، مزدريًا لهم، بل كان يسخر ممن هو أجل منهم خطرًا.

قالوا: أراد المنصور أن يبايع بالخلافة بعده لابنه المهدي، وكان ابنه جعفر يعترض عليه في ذلك، فدعا الناس ذات يوم فاجتمعوا، وتكلم الخطباء والشعراء، كلهم يمدح المهدي، ويبين فضله، حتى إذا فرغوا أقبل مطيع على المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين، حدثني فلان عن فلان عن النبي أنه قال: المهدي منا محمد بن عبد الله، وأمه من حمير، يملؤها عدلًا كما مُلئت جَوْرًا. وهذا العباس بن محمد أخوك يشهد على ذلك، ثم أقبل على العباس، فقال له: أَنْشُدُكَ الله! هل سمعت هذا؟ فقال: نعم، مخافةً من المنصور، فأمر المنصور الناس بالبيعة للمهدي. أفترى إليه أحسَّ شهوة المنصور في أن يبايع لابنه المهدي، وعزمه على ذلك، فأراد أن يرضي المنصور وولي عهده، فوضع هذا الحديث وضعًا، ولم يكتف بالكذب على النبي، حتى استشهد أخا المنصور على أنه صادق، فشهد خوفًا من أخيه، ولا تقل: إنه فعل هذا ذلة أو إسرافًا في التملق، ولكن قل: إنه فعل هذا ترضيًا للخليفة وولي العهد، وازدراء لهما، وسخرية من الدين، وقد عرف المهدي له هذه الصنيعة؛ فأنت تعلم أن المهدي كان شديدًا على الزنادقة، أسرف في قتلهم والفتك بهم، وتجاوز في ذلك حدود العدل والرحمة، وهو مع ذلك لم يَرُعْ مطيعًا. بلى! راعه مرة، ولكنه أخرجه من عنده موفورًا له الحظ من العطاء. قالوا: كان مطيع ينادم جعفر بن المنصور، واشتهر ذلك، واشتهر مجون جعفر وتهتكه، ورفع أصحاب الخبر ذلك إلى المنصور، وكان المهدي عنده، فقال لأبيه: أنا به عارف، ليس زنديقًا، ولكنه خبيث الدين فاسق، فقال له المنصور: أحضره فانهه، فأحضره المهدي، ولامه وعنفه، وأمر أن يضرب مائتي سوط، قال مطيع: إن أذنت لي احتججت، فأذن له، فقال: أنا شاعر، وإنما ينفق شعري عند الملوك، وقد كسدت عندكم، واكتفيت بأن آكل على مائدة أخيك، وأصفيته على ذلك شعري وشكري؛ فإن رأيت أن في ذلك سوءًا تبت عنه، ومضى الحديث على نحو ذلك، حتى رق المهدي، فأمر أن يطلق ولا يضرب ولا يحبس. قال: فأنصرف بغير جائزة؟ قال المهدي: لا يجوز هذا، وأمر له بمائتي دينار، خفية عن أمير المؤمنين. قال الرواة: وكان المهدي يحفظ له أنه وضع الحديث يوم أراد المنصور البيعة له.

أعتقد أنا أن هاتين القصيدتين تصوران شخصية هذا الرجل تصويرًا صحيحًا، فيخيل إلي أن عقله كان قد فرغ من كل شيء، وانتهى إلى السخرية، والازدراء للناس وللحياة، واتخاذ الناس والحياة وسيلة إلى الشيء الوحيد، الذي يستحق أن يعيش الناس من أجله، وهو اللذة، ومن هنا تملق المنصور، في سخرية من المنصور وابنه وأخيه والدين أيضًا، ومن هنا تلطف للمهدي، حتى ابتز منه جائزة، وخرج من عنده موفورًا، أضف إلى هذا أن مطيعًا اتصل أيام العباسيين بجعفر بن المنصور فنادمه، وكان محتميًا به، فلم يمسه أذى.

كل هذا يُبيِّن لك ما زعمته آنفًا من أن مطيعًا لم يكن مضطهدًا، لا من الوجهة السياسية، ولا من الوجهة الدينية، وإنما كان يستطيع أن يحتاط لنفسه في ذلك احتياطًا يسيرًا، فيأمن كل شر، ولقد كثر تحدث الناس في عصر مطيع وبعده عن زندقة مطيع وأصحابه، وعن إفسادهم أخلاق الناس وأديانهم، ولست أنكر هذا على نحو ما أنكرت ما كان ينسب إلى الوليد بن يزيد؛ فقد بينت أن حياة الوليد كلها كانت تدعو إلى الاحتياط، في تصديق ما كان ينسب إليه، أما مطيع وأصحابه فلم يكونوا خلفاء، ولم يكونوا ولاة عهد، ولم يكونوا محسودين إلى حدٍّ عظيم، وإذن فلم يتكلف الناس الكذب عليهم، أو لم يسرفوا في هذا التكلف، وما أشك في أن حياة هؤلاء النفر، الذين كانوا يؤلفون جماعة قوية للاتصال، ما أشك في أن حياتهم كانت تدعو إلى الريب والاتهام، فكثيرًا ما كانوا يعلنون الفسق ولا يخفونه، وكثيرًا ما كانت تجري على ألسنتهم ألفاظ ينكرها الدين، وينكرها الخلق، ولكني مع ذلك أعتقد أن شيئًا من الاحتياط واجب في تصديق كل ما ينسب إلى مطيع وأصحابه، فالناس مشغوفون بالإسراف أبدًا، لا يكاد يتهم لهم رجل بالزندقة أو الإلحاد، حتى يتطوعوا هم بإثبات زندقته وإلحاده، يخترعون على ذلك الأدلة، وينتحلون الحجج، ويروون الوقائع، يزعمون أنهم رأوها وما رأوها، وإنما يخدعون الناس، أو يخدعون أنفسهم، وهذا الإسراف كثير في شأن مطيع وأصحابه، ولكني لا أنكر المثل القائل: «لا دخان بلا نار» فلولا أن حياة هؤلاء الناس كانت تدعو إلى القال والقيل، لما قال فيهم الناس شيئًا.

قلت: كان مطيع صادق اللهجة في شعره، لا يكذب ولا يتكلف، وعللت صدق لهجته بأنه كان حر الرأي، وأنه كان حر الرأي؛ لأنه كان يزدري الناس والحياة، ولست أريد أن أغفل شيئًا رواه أبو الفرج، وهو يمثل رأي مطيع في الناس، وهو يبين لنا مقدار ازدرائه للناس، وسوء ظنه بهم، زعموا أنه مر بصديقيه يحيى بن زياد، وحماد عجرد وهما يتحدثان، فقال: فيم أنتما؟ قالا: في قذف المحصنات. قال: وهل في الأرض محصنة تقذفانها؟! فانظر إليه كيف فاق صاحبيه بغيًا وسوء ظن بالناس! كان صاحباه يقذفان المحصنات، ويعترفان بأنهما يقذفان المحصنات، أما هو فلا يرى أن في الأرض محصنة، وإذن فليس هناك قذف، وإنما كل قذف هو الحق، أو دون الحق، وإذا وصل الرجل من ازدراء الناس وسوء الظن بهم إلى هذا الحد، فما الذي يمنعه أن يكون حرًّا فيما يعمل وما يقول؟ لا يتقي إلا شيئًا واحدًا، هو ما يعرضه للموت، أو للحرمان! وإذا كان قد احتاط فأرضى السلطان، وأمن شره؛ فليس عليه بأس في شيءٍ آخر، على أن ازدراء مطيع للناس لم يكن شاملًا، فقد كان يستثني من هؤلاء الناس أصدقاءه وأصحابه وأخدانه، ومن أشد الأشياء تأثيرًا في النفس هذه الصلة المتينة، التي كانت بينه وبين صديقه يحيى بن زياد، والتي حرص عليها حرصًا شديدًا، يستثير في النفس عاطفة مؤثرة حقًّا. قالوا: شرب مطيع مع صديقه يحيى، فعربد عليه، وكانت بينهما ملاحاة، فآذى مطيع صاحبه، فحلف لا يكلمه أبدًا، ولم يستطع مطيع أن يصبر على هذا الهجر، فكتب إلى صديقه هذه الأبيات العذبة، التي تفيض حنانًا ورقة، والتي لا تخلو من شرف اللفظ، وجمال الأسلوب:

إِنْ تَصِلْنِي فَمِثْلُك الْيَوْمَ يُرْجَى
عَفْوُهُ الذَّنْب عَنُ أَخِيهِ وَوصْلُهْ
وَلَئِنْ كُنْتَ قَدْ هَمَمْتَ بِهَجْرِي
لِلَّذِي قَدْ فَعَلْتُ إِنِّي لأَهْلُهُ
وأَحَقَّ الرِّجَالِ أَنْ يَغْفِرَ الذَّنـْ
ـبَ لِإِخْوَانِهِ الْمُوَفَّرُ عَقلُهْ
الْكَرِيمُ الَّذِي لَهُ الْحَسَبُ الثَّا
بِتُ فِي قَوْمِهِ وَمَنْ طَابَ أَصْلُهْ
وَلَئِنْ كُنْتَ لا تُصَاحِبُ إِلَّا
صاحبًا لَا تَزِلُّ مَا عَاشَ نَعْلُهْ
لَمْ تَجِدْهُ وَإِنْ جَهَدْتَ وَإِني
لَلَّذِي لَا يَكَادُ يُوجَد مِثْلُهْ
إِنَّمَا صاحِبي الَّذِي يَغْفِرُ الذَّنـْ
ـبَ وَيَكْفِيهِ مِنْ أَخِيهِ أَقَلُّهْ
الَّذِي يَحْفَظُ الْقَدِيمَ مِنَ الْعَهـْ
ـدِ وإِنْ زَلَّ صاحِبٌ قَلَّ عَذْلُهْ
وَرعَى مَا مَضَى مِنَ الْعَهْدِ مِنْه
حِينَ يُؤْذِي مِنَ الْجَهالَةِ جَهْلُهْ
لَيْسَ منْ يُظْهِرُ الْمَوَّدَة إِفْكًا
وإِذَا قَالَ خَالَفَ الْقَوْلَ فِعْلُهْ
وصْلُهُ لِلصَّدِيقِ يَوْمٌ فَإِنْ طَا
لَ فَيَوْمَانِ ثُمَّ يَنْبَتُّ حَبْلُهْ

وكتب إليه:

كُنْتُ ويَحْيَى كَيدَيْ واحِدٍ
جَرمِي جمِيعًا وَتَرَيْنا مَعَا
إِنْ عَضَّنِي الدَّهْرُ فَقَدْ عَضَّهُ
يُوجِعُنَا مَا بَعْضَنَا أَوجَعَا
أَوْ نَامَ نَامَت أَعْيُنٌ أَرْبعٌ
مِنَّا وَإِنْ أَسْهرْ فَلن يَهْجَعَا
يَسُرُّني الدَّهْرُ إِذَا سَرَّه
وَإِنْ رَمَاه فَلَنا فَجَّعَا
حتَّى إِذا مَا الشَّيْبُ فِي مَفْرِقِي
لاحَ وَفِي عارِضِهِ أَسْرَعا
سَعَى وشَاة فَمَشَوْا بَيْنَنا
وَكادَ حَبْلُ الْودِّ أَن يُقْطَعَا
فَلَمْ أَلُم يَحْيَى عَلَى فِعْلِهِ
وَلَمْ أَقُلْ ملَّ ولَا ضَيَّعَا
لَكِنَّ أَعْدَاء لنَا لَمْ يَكُنْ
شَيْطَانُهُمْ يُرْوِي بِنَا مَطْمَعَا
بَيْنَا كَذَا عَاثَ عَلَى غِرَّةٍ
فأَوْقَدَ النيرَانَ مسْتَجْمِعَا
فَلَم يَزَلْ يُوقِدُهَا دَائِبًا
حَتَّى إِذَا مَا اضْطَرَمَتْ أَقْلَعَا

وانظر إلى هذا الشعر يرثي به يحيى هذا:

قَدْ مَضَى يحيَى وَغُودِرْتُ فَرْدًا
نُصْب مَا سَرَّ عُيُونَ الْأَعَادِي
وَأَرَى عَيْنِيَ مُذْ غَابَ يَحْيَى
بُدلَت مِنْ نَوْمِها بِالسُّهَادِ
وَسَّدَتْه الْكَفُّ مِنِّي تُرَابًا
ولَقَدْ أَرْثِي لَهُ مِنْ وِسَادِ
بَيْنَ جِيرَانٍ أَقَامُوا صُمُوتًا
لَا يُحيرُونَ جَوَابَ الْمُنَادِي
أَيُّها الْمُزْنُ الَّذِي جَادَ حَتَّى
أَعْشَبَتْ منْهُ مُتُونُ الْبَوَادِي
اسْقِ قَبْرًا فِيهِ يحْيى فإِنِّي
لَكَ بِالشكْرِ مُوَافٍ مُغَادِي

كان يحيى صديقًا لمطيع في الخير والشر صديقًا حقًّا، وكان لمطيع صديق آخر، ولكن صداقتهما كانت على غير هذا النحو، كانت صداقة ضاحكة، صداقة مزاح ولهو وسخرية، ذلك هو حماد عجرد، فسنرى يوم نعرض لهذا الشاعر أنه كان غضوبًا ضيق الذرع، وكان أصحابه يعرفون منه ذلك، فلا يرقون له، ولا يرفقون به، وكان حماد أصلع، وكانت صلعته شديدة الحمرة؛ فانتهز ذلك صديقه مطيع، وأفسد بينه وبين صاحبة له تسمى خشة، وتعرف بظبية الوادي، فساءت الحال لذلك بينه وبين صاحبه، واتصل بينهما هجاء لذَّاع، ولكنه لذيذ، لم يمنع اتصال المودة بينهما، ولست أروي لك منه شيئًا، وقد تستطيع أن تجده في الأغاني.

وأنا مضطر إلى أن أعدل عن شعر مطيع كله، لضيق المكان، وطول هذا الفصل، ولكني لا أستطيع أن أغفل هذه الأبيات المشهورة، التي تمثل شعر مطيع ونفسه وعواطفه تمثيلًا صادقًا، أحسه القدماء، فرقوا له، وكلفوا به، وقد قال هذه الأبيات في جارة له أحبها بالري، ثم اضطر ففارقها، فلما كان في طريقه مر بعقبة حلوان، فجلس يستريح إلى نخلتين هناك، وذكر صاحبته، فقال:

أَسْعِدَانِي يَا نَخْلَتيْ حُلْوَان
وَابْكِيَا لِي مِن رَيبِ هَذَا الزَّمانِ
وَاعْلَمَا أَنْ رَيْبهُ لَمْ يَزَلْ يَفـْ
ـرُقُ بين الْأُلَّافِ وَالْجِيرَانِ
وَلَعَمْرِي لَو ذُقْتُما أَلَمَ الْفُرْ
قَةِ أَبْكاكُما الَّذِي أَبْكَانِي
أَسْعِدَاني وأَيْقِنا أَنَّ نحْسًا
سَوْفَ يَلْقَاكُمَا فَتَفتَرِقَانِ
كَمْ رَمَتْنِي صُرُوف هَذِي اللَّيالِي
بِفِرَاقِ الْأَحْبابِ والخُلَّانِ
غَيْرَ أَني لَمْ تَلْقَ نَفْسي كما لَا
قَيْتُ مِنْ فُرْقَةِ ابْنَةِ الدِّهْقَانِ
جارَةٌ لِي بالرَّي تُذْهِبُ هَمِّي
وَتُسَلِّي ذُنُوبُها أَحْزَانِي
فَجَعَتْنِي الأَيَّامُ أَغْبَطَ مَا كُنـْ
ـتُ بِصَدْعٍ لِلْبَينِ غَيْرِ مُدَانِي
وبِرَغْمِي أَنْ أَصْبحَتْ لَا تَرَاهَا الـْ
ـعَيْنُ مِنِّي وأَصْبَحَتْ لَا تَرَانِي
إِنْ تَكُنْ وَدَّعت فَقدْ تَرَكَتْ بِي
لَهَبًا في الضَّمِيرِ لَيْس بِوَانِي
كَحَرِيقِ الضرَامِ فِي قَصَبِ الْغا
بِ رَمَتْهُ ريحانِ تَخْتَلِفَانِ

وقد جعلت هذه الأبيات لنخلتي حلوان تاريخًا وذكرى بين الأدباء والشعراء. قالوا: أراد المنصور أن يقطعهما، فلما أنشد هذا الشعر كره أن يكون النحس الذي يفرق بينهما، وأراد المهدي أن يقطعهما، فنهاه المنصور عن ذلك. قالوا: ومر الرشيد بحلوان وهو ذاهب إلى طوس، فهاج به الدم، ووصف له الطبيب جُمَّارًا، فلما سئل الدهقان أشار إلى النخلتين، ولم يكن في حلوان غيرهما، فقطعت إحداهما، ثم مر الرشيد بالأخرى، فرأى عليها هذه الأبيات، فندم وقال: لو علمت أن هذه الأبيات قيلت في هاتين النخلتين ما عرضت لهما، ولو قتلني الدم.

وإذا صح ما تحدث به الرواة؛ فقد كان موت مطيع شعرًا لا يعدله شعر، قالوا: سأله الطبيب في علته التي مات فيها: ماذا تشتهي اليوم؟ فأجاب: أشتهي ألا أموت، أترى جوابًا أكثر شعرًا، وأغزر معنى، وأشد تمثيلًا لضعف الإنسان، وقوة رغبته في الحياة، من هذا الجواب؟ ولئن أردنا أن نحكم على مطيع حكمًا جامعًا مختصرًا بعد هذا التفصيل، لما تجاوزنا حكم أبي الفرج عليه حيث يقول:

هو شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وليس من فحول الشعراء، ولكنه كان ظريفًا، خليعًا، حلو العشرة، مليح النادرة، ماجنًا، متهمًا في دنيه بالزندقة.

ولو شئنا أن نضيف إلى هذا الحكم شيئًا، لقلنا: إنه كان صادقًا في شعره، آخذًا بحظه الموفور من هذه الأوصاف كلها.

١  نُشرت بالسياسة في ٥ رمضان سنة ١٣٤٢ / ٩ أبريل سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤