الفصل الثاني

القدماء والمحدثون١

رأينا في الأسبوع الماضي أن الآداب العربية، قد أخذت بحظها من هذه الظاهرة العامة التي تشترك فيها الآداب الحية جميعًا: ظاهرة الخلاف بين القدماء والمحدثين، ورأينا أن حظ الآداب العربية من هذا الخلاف على عظمه وكثرة الكلام فيه، لم ينتج لهذه الآداب شيئًا كثيرًا في الشعر على أقل تقدير، وسنعرض للنثر في غير هذا الفصل.

لم ينتج شيئًا كثيرًا، فظل موضوع الشعر كما كان، لا يكاد يتجاوز المدح والهجاء والرثاء والغزل والوصف وما يتصل بهذه الموضوعات، وظل شكل الشعر كما كان، لم يخترع فيه شكل جديد، ولم تضف إليه صورة طريفة، وإنما بقيت القصيدة مظهرًا للشعر محتفظة بأوزانها وقوافيها.

وإذن فلم يحدث تطور الأمة العربية ولا اشتداد الخلاف بين القدماء والمحدثين شيئًا ذا خطر في موضوع الشعر أو شكله كما يقول أهل القانون، وإنما أحدث شيئًا جديدًا في لفظ الشعر ومعناه كما قلنا في الفصل الماضي، وربما اضطررنا إلى أن نقول اليوم أيضًا: إن هذا الشيء الجديد كان أقل جدًّا مما كنا ننتظر، فإن الحياة العربية تطورت في القرن الأول والثاني للهجرة تطورًا يوشك أن يكون كاملًا، بل قد لا نخشى الغلو إن قلنا: إن هذه الحياة العربية تبدلت في هذين القرنين تبدلًا تامًّا، فكان من المعقول أن يتحقق التناسب الصحيح بين هذه الحياة الجديدة وبين الآداب، فتتجدد هذه الآداب كما تجددت الحياة نفسها.

ولكن شيئًا من ذلك لم يكن، فبينما كانت الحياة في بغداد أبعد ما تكون عن الحياة في صحراء جزيرة العرب من كل وجه، كان الشعر الذي ينشد في بغداد شديد القرب جدًّا من الشعر الذي كان ينشد في تلك الصحراء.

وإذن فنحن بإزاء ظاهرتين لا بد من تفسيرهما؛ الأولى: أن الحياة العربية قد تطورت تطورًا كاملًا، وأن الشعر العربي قد تطور معها تطورًا ما، والأخرى: أن تطور الشعر لم يكن مناسبًا لتطور الحياة في جميع فروعها.

وربما لم يكن من العسير جدًّا تفسير هاتين الظاهرتين، ذلك أن الأمة العربية قد خضعت خضوعًا تامًّا لمؤثرين مختلفين اختلافًا تامًّا، فبينما كان أحدهما يدفعها دفعًا قويًّا إلى الأمام فتندفع، كان الآخر يجذبها جذبًا قويًّا إلى الوراء فتنجذب، كانت تندفع إلى الأمام اندفاعًا قويًّا في الحضارة المادية، يمثل قوته هذا الفرق الظاهر بين قصور بغداد وحدائقها ورياضها، وما تشتمل عليه هذه القصور والحدائق والرياض من مظاهر الحضارة وأدواتها وبين خيام الصحراء وما كانت تحتوي من مظاهر العيش الخشن والحياة الساذجة، وكانت تنجذب إلى الوراء بحكم الدين وبحكم اللغة التي لم تكن كغيرها من اللغات وإنما كانت لغة دينية، فالاحتفاظ بأصولها وقواعدها والاحتياط في صيانتها من التطور وآثاره السيئة، واجب ديني لا سبيل إلى جحوده أو التقصير فيه.

إذن فقد كانت الحضارة المادية تدفع العرب إلى الأمام، وكانت حياة الدين تجذبهم إلى الوراء، وكان العقل العربي بطبيعة الحال موضوع الجهاد بين هذين المؤثرين المختلفين فكان يتقدم سريعًا إلى حيث لا يكون تقدمه مصدر شر على الدين أو لغة الدين، وكان يبطئ في حركته حين يكون التقدم خطرًا على هذه أو ذاك.

ومن هنا كان التناقض ظاهرًا بين حياة العرب المادية في تفصيلها وبين حياتهم الأدبية في إجمالها، فكانوا أحرارًا في الحياة المادية، محافظين في الحياة الأدبية.

وكان الشعراء الذين يجرءون على أن ينكروا هذه المحافظة، ويحاولون تحرير الشعر قليلًا أو كثيرًا، موضع سخط شديد من طائفة من الناس ليست قليلة الخطر، ولا ضئيلة الأثر في الحياة العامة، كان هؤلاء الشعراء يتعرضون لسخط الأئمة والعلماء من رجال الدين؛ لأن هؤلاء الأئمة والعلماء بطبيعة منازلهم الدينية حراص على القديم، أعداء لكل جديد، وكان هؤلاء الشعراء يتعرضون لسخط الأئمة والعلماء؛ لأنهم بحكم منزلتهم اللغوية، مضطرون إلى أن يحتفظوا لا بقواعد اللغة وأصولها فحسب، بل بألفاظها وأساليبها أيضًا، فكانوا يكرهون كل لفظ دخيل، وينفرون من كل أسلوب مستطرف، وكانت طائفة غير قليلة من عامة الناس وسوادهم تخضع لأولئك وهؤلاء فيما لا يضرها ولا يؤذيها، فتستمتع بالحياة المادية ما استطاعت غير سامعة لنهي الفقهاء والوعاظ، ولكنها تحرص على الاحتفاظ بالسنن الموروثة والعادات القديمة فيما لا يمس الأكل والشرب واللباس والزينة وما إلى هذا من ضروب الحضارة، أضف إلى هذا كله، أن الأمة العربية بفطرتها حريصة على سنتها القديمة، محتفظة بما ورثت عن آبائها من مظاهر الحياة العقلية والشعورية، وأن الآداب العربية القديمة في نفسها جذابة خلابة محببة إلى النفوس مستأثرة بالقلوب، فكان من المعقول أن يتأثر الشعر بهذا كله، وأن يكون موقف الشعراء المجددين، كموقف الفلاسفة المجددين، ثقيلًا شديد الحرج، وأن يتعرض أولئك وهؤلاء للحبس والضرب والنفي وغير ذلك من ضروب الاضطهاد وألوان العذاب.

ومن الغريب أن هؤلاء الشعراء والفلاسفة الذين كانوا يلقون في العصر العباسي ضروبًا من المحن تختلف قوة وضعفًا باختلاف الخلفاء والوزراء، كانوا محببين إلى هؤلاء الخلفاء والوزراء، فكثير من هؤلاء الخلفاء، والوزراء كان يحب شعر بشار ويلذ لشعر أبي نواس، ومع ذلك فقد ضرب بشار، حتى مات، وحبس أبو نواس في عصر الرشيد كما حبس في عصر الأمين، ولو أدركه المأمون لقتله، مع أن إعجاب المأمون بأبي نواس شديد جدًّا.

ومصدر هذا التناقض في سيرة الخلفاء والوزراء مع الشعراء والفلاسفة أن هؤلاء الخلفاء ومشيريهم كانوا يحيون حياتين مختلفتين: حياة للشعب يحتفظون فيها بجلال الدين ومجده وعظمة الخلافة وقوتها السياسية، فهم من هذه الناحية محافظون، وحياة لأنفسهم، ولخلصائهم في القصور ومن وراء الحجب، يتركون فيها لأنفسهم حريتها الفطرية، فيلهون ويلعبون وينادمون ويشربون ويقترفون ضروبًا من الآثام.

أضف إلى هذين المظهرين المتناقضين من حياة الخلفاء وكبار الدولة، أن حياة الشعراء والمفكرين لم تكن حياة شعر وتفكير فحسب، وإنما كانت تختلط بالمشاكل السياسية وما تستلزمه هذه المشاكل من الكيد والدسائس، فكان الشاعر أو المفكر لا يُفْتَنُ لأنه شاعر أو مفكر فحسب، بل قد يفتن أيضًا لأنه يرى رأيًا سياسيًّا لا يراه السلطان؛ لأنه من أنصار البرامكة أو من أنصار الفضل بن سهل أو الفضل بن الربيع؛ لأنه يرى رأي العلويين، لأنه يؤثر الفرس على العرب، إلى آخر هذه المسائل الكثيرة التي نشأت عنها ضروب من المحن أصابت الشعراء والفقهاء والفلاسفة والمفكرين.

كل هذه الأسباب جعلت تطور الأدب عامة — والشعر خاصة — بطيئًا قليل الإنتاج، ولكنَّ هناك سببًا نعتقد أنه هو السبب الأساسي الذي حال بين الشعر العربي وبين ما كان ينتظر له من التجدد، هذا السبب هو أن الأمة العربية لم تعرف من آداب الأمم الأخرى شيئًا يذكر، ولم تخالط هذه الأمم الأجنبية من الوجهة الأدبية والعقلية إلا مخالطة ضيقة جدًّا، فلم تعرف من آثارها إلا شيئًا من العلم والفلسفة، ونتفًا من الحكم والأمثال، فجهلت الأمة العربية جهلًا تامًّا، أو جهلًا يوشك أن يكون تامًّا، آداب الأمة اليونانية مع أنها قد أخذت من علم اليونان وفلسفتهم بالنصيب الموفور، ولم تكد تأخذ عن الفرس إلا الحضارة المادية، وروايات مشوهة في الحكم والأمثال، وسياسة الملوك، ولم تكد تعلم من أمر الهند إلا شيئًا من النجوم، وقليل من المواعظ والوصايا.

ومن هنا لم يكن أمام الشعراء مثال أدبي جديد يحتذونه ويسعون في تقليده ومحاكاته، فظلوا على ما كانوا عليه، يرددون ما ألفوا من الشعر القديم بأوزانه وقوافيه وبألفاظه ومعانيه، لا يجددون من هذا كله إلا ما يضطرهم إلى تجديده نوع الحياة الجديدة الذي هم فيه، وهم في هذا التجديد القليل نفسه، مقيدون بما قدمنا من حكم المحافظة الدينية واللغوية والسياسية، وقد علمنا تاريخ الأدب في جميع العصور وعند جميع الأمم، أن الحضارة المادية وحدها لا تكفي لترقية الشعر ودفعه في سبيل التطور المنتج، وإنما يجب أن تضاف إلى هذه الحضارة المادية أشياء أخرى أهمها المخالطة الأدبية للشعوب الأجنبية، فلولا أن الصلات اشتدت بين اليونان وبين غيرهم من الأمم المعاصرة، لما تطور شعرهم هذه الأنواع من التطور، وكذلك قل: إن الرومان مدينون لليونان بتطور آدابهم، وقل: إن الأمم الأوروبية مدينة بتطور آدابها لهذه الحركة التي حدثت في عصر النهضة، فأظهرت الإيطاليين وغير الإيطاليين على آداب اليونان والرومان.

ويطول القول إذ أردنا أن نذكر أثر الاختلاط بين الأمم الأوروبية نفسها في الآداب الأوروبية الحديثة، وقد حرم العرب هذا الاختلاط، فحرم الأدب العربي نتيجته، وهي التجدد المنتج، ولهذا لم يعرف العرب من الشعر إلا ما ورثوا عن أهل البادية، فجهلوا الشعر القصصي، والشعر التمثيلي، وجهلوا من الشعر الغنائي نفسه فنونًا كثيرة وضروبًا مختلفة، ومع هذا كله فقد تطور الشعر العربي، وتجدد تجددًا ما، فيجب علينا أن نعرف ما حقيقة هذا التجدد وما قيمته، وأين يوجد الفرق الواضح القوي بين الشعر العربي الجديد والشعر العربي القديم، وموعدنا بهذا الفصل الآتي.

١  نُشرت بالسياسة في ٢٤ ربيع الثاني سنة ١٣٤١ / ١٣ ديسمبر سنة ١٩٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤