الفصل الحادي والعشرون

حسين بن الضحاك الخليع١

أريد اليوم أن أحدثك عن شاعرٍ ظريف شديد الظرف، ربما انقطع نظيره في شعراء العصر العباسي كله، وهو مع ظرفه وإسرافه في المجون، قليل الفحش في اللفظ، غير متهالك على القول الآثم والألفاظ المنكرة، لا يتخيرها ولا يقصد إليها، وإنما يعرض إليها إذا اضطر إليها اضطرارًا، وهو على ظرفه ورقة حاشيته، وحرصه على نقاء اللفظ وطهره، شاعر بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، مجود إذا فكر، مظفر إذا بحث، موفق إلى اللفظ المتين، والأسلوب الرصين، في غير جفوة ولا غلظة، لا يعرف التكلف في لفظٍ ولا معنى، وإنما ينطلق لسانه مع سجيته، وسجيته سهلة مرسلة، غنية غزيرة المادة، لا تكاد تنضب، ولا ينالها إعياء أو كلال.

وحياته كلها عِبَرٌ وعظات، ولكنها عبر وعظات مبتسمة، ليست بالمظلمة ولا العابسة، ولا بالتي تردك وتنفرك، وتجعل للحزن والأسى إلى قلبك سبيلًا، ولعلك لا تكاد تجد من شعراء هذا العصر رجلًا مثله، تقرأ أخباره فتظل مبتسمًا منذ تبتدئ إلى أن تنتهي، دون أن تعبس أو تقطب، وربما تجاوزت الابتسام إلى الإغراق في الضحك من حينٍ إلى حين، ولكنك لن تترك الابتسام إلى الحزن الشديد، وربما اعترضتك في طريقك سحابة محزنة، ولكن هذه السحابة رقيقة هادئة هينة، فهي أضعف من أن تزيل ابتسامتك، وكان الشاعر من المعمَّرين، بلغ المائة أو كاد، وعاصر طبقات من الشعراء، وألوانًا من حاشية الخلفاء، ولكنه ظل محتفظًا بشخصيته الوادعة المبتسمة، تغير الناس، واختلفت الظروف، وظل هو واحدًا لم يتغير.

كان خليعًا، بل كان يعرف بالخليع، وكان كثير المجون، مسرفًا فيه، وما أحسب أن أبا نواس سبقه إلى لذة، أو تفوق عليه في مأثم، ولكنه على خلاعته وإسرافه في المجون، وتهالكه على اللذات، احتفظ طول حياته بشيءٍ من كرم الخُلق، وطهارة العنصر، وجودة الأصل، كأنما كانت هذه اللذات والآثام تتزلق على نفسه وأخلاقه تزلقًا، دون أن تترك فيها أثرًا باقيًا، وإنما كانت الآثار التي تتركها لياليه الساهرة، وأيامه المملوءة بالعبث، هذه الأشعار الجميلة الحلوة، التي سأظهرك على طرفٍ منها.

قلت: إن حياته كانت عبرة كلها، فلم يكن هذا الرجل كغيره من الشعراء، الذين إنما كانوا يصلون إلى الخلفاء بعد الجهد والكد، وبعد التلطف وحسن الحيلة، وإنما كان متصلًا بالخلفاء اتصالًا شديدًا، يعاشرهم ويرافقهم، ويتدخل في حياتهم الخاصة، وربما تدخل إلى أكثر مما ينبغي، وكان الخلفاء يبحثون عنه، ويحرصون على عشرته، ويبذلون في ذلك غير قليل من الإلحاح والعطاء، وكان شعره كله أو أكثره مرآة لحياة القصر في أيام طائفة غير قليلة من الخلفاء.

نشأ مع أبي نواس في البصرة، واختلفا معًا إلى مجالسها وملاهيها، ثم افترقا، فذهب أبو نواس إلى بغداد، وأقام هو في البصرة، ولم تكد تمضي مدة قصيرة على أبي نواس في بغداد، حتى بعد صوته، وتسامع به أهل العراق؛ لأنه اتصل بالأمراء وأشراف الناس، فارتفع قدره، وعليت مكانته، وحمل الهواء ذلك إلى الحسين في البصرة، فغبط صاحبه، وقفا أثره، وانتقل إلى بغداد، فمدح الناس وتقرب من أشرافهم، واختلف إلى مجالس بغداد وملاهيها، وقال الشعر في الخمر، وفي ضروب اللذات، وما هي إلا أن عظم أمره، وتسامع به أهل بغداد وزعماؤها، ولكنه مع ذلك لم يصل إلى الرشيد، وإنما اتصل بأبناء الرشيد، وهل اتصل أبو نواس بالرشيد إلا قليلًا؟ وهل اتصل أبو نواس بالرشيد إلا كما كان يتصل به الشعراء، الذين كانوا يقصدون إلى ذلك، ويحتالون فيه، حتى إذا نالتهم هذه الحظوة أنشدوا الخليفة شعرهم، وانصرفوا وقد نالوا من جوائزه ما أتيح لهم! ذلك أن أبا نواس والحسين بن الضحاك لم يكونا من هؤلاء الذين يصلحون لمصاحبة الرشيد؛ فقد كان في الرشيد شيءٍ من العبث وحب اللهو، ولكن عبث الرشيد ولهوه لم يكونا قوام حياته، وإنما كانا ضربًا من الترفيه على النفس، ولم يكن أبو نواس والحسين من الذين يصلحون لغير اللهو، فلم تنفق بضاعتهما عند الرشيد، وإنما نفقت عند الأمراء من أبنائه، وعند الوزراء وأشباه الوزراء، من رؤساء الدولة وأشرافها، فأما أبو نواس فاتصل بالفضل بن الربيع وبنيه، واتصل شيئًا بالأمين، حين كان وليًّا للعهد، واتصل بطائفةٍ من أمراء البيت المالك، وأما الحسين فانقطع أو كاد ينقطع لخدمة أميرين من أبناء الرشيد، لم يكن لهما حظ من الملك، ولا طمع فيه، وإنما كانت حياتهما ضربًا من البطالة الاضطرارية، وكان الله قد وفر عليهما من الثروة وأسباب اللذة ما جعل حياتهما عيدًا متصلًا، وهما صالح بن الرشيد، وأبو عيسى بن الرشيد، وكان الحسين متصلًا اتصالًا خاصًّا بصالح، ينادمه ويساقيه، ويكاد يمضي معه الليل والنهار، ثم اتصل الحسين بالأمين، واشتدت صلته به، حتى تجاوزت علاقته ما بين الشعراء والخلفاء، إلى شيءٍ يشبه الصداقة والمودة القوية، ولسنا ندري إلى أي حدٍّ بلغ إخلاص الأمين لنديمه، ولكنا نعلم أن إخلاص الحسين للأمين لم يكن له حد، ونعلم أن أيام الأمين أظهرت من هذا الشاعر الخليع المتهالك على اللذة رجلًا وفيًّا، متين الخلق صريحًا، يعرف كيف يكون من الأنصار السياسيين، وكيف يتعصب لحزبه، ويؤيد أصحابه، ويتعرض في سبيل ذلك للخطر، كان الحسين من أشد الناس تعصبًا للأمين، وزراية على المأمون، حين ظهر الخلاف بين الأخوين، واندفع في ذلك إلى غير حد، ثم اشتدت المحنة، ووصلت جيوش المأمون إلى بغداد، وأخذت الحرب أشنع أشكالها، فلم يَخَفِ الحسين ولم يفزع، ولم يكن أقل انتصارًا لصاحبه منه في أيام اللين والنعمة، ولقد كان يتلقط أخبار هذه الحرب، حتى إذا وصل إليه من أخبارها خبر ابتهج به، وأسرع فحمله إلى الأمين مهنئًا مشجعًا، روى لنا أبو الفرج من شعره في ذلك هذه الأبيات:

أمينَ اللهِ ثِقْ باللهِ
تُعْطَ العزَّ والنصْرَهْ
كِل الأَمر إِلى اللهِ
كَلَاكَ اللهُ ذُو القدرهْ
لنا النصرُ بإِذنِ الله
والكَرَّةُ لَا الفَرَّهْ
وللمُرَّاقِ أَعدائِـ
ـك يَومُ السُّوءِ والدَّبْرَهْ
وكأْسٌ تُورِدُ الموْتَ
كَريهٌ طعمُها مُرَّهْ
سَقَوْنَا وسَقَيْنَاهُمْ
فكانَتْ بِهِمُ الحِرَّةْ
كذاك الحربُ أَحيانًا
عَلَيْنَا وَلَنَا مرَّهْ

ثم قتل الأمين، وكانت الكارثة فلم يَهن الحسين ولم يضعف، ولم ينقلب على عقبيه، ولم يتملق المنتصر، وإنما ملكه حزن ليس بعده حزن، وانطلق لسانه من الرثاء بالجيد المؤلم، الذي تتقطع له القلوب، وتتفطر له الأكباد، وانطلق لسانه أيضًا بالهجاء اللاذع للمأمون وأصحابه، واستعداء الله عليهم، بعد أن عجز عن استعداء الناس، ولج في ذلك، وألح فيه، حتى نهض المأمون من خراسان يريد العراق، فلم يزدد الحسين إلا هجاء للمأمون، ورثاء للأمين، حتى رق له أصحابه، وأشفقوا عليه، وألحوا في نصحه.

روى أبو الفرج أن الحسين تحدث عن نفسه بهذا القول: «كنت عازمًا على أن أرثي الأمين بلساني كله، وأشفي لوعتي، فلقيني أبو العتاهية، فقال لي: يا حسين، أنا إليك مائل، ولك محب، وقد علمت مكانك من الأمين، وإنه لحقيق بأن ترثيه، إلا أنك قد أطلقت لسانك من التلهف عليه، والوجع له، بما صار هجاء لغيره، وثلبًا له، وتحريضًا عليه، وهذا المأمون مُنْصَبٌّ إلى العراق قد أقبل عليك، فأبقِ على نفسك، يا ويحك أتجسر على أن تقول:

تَرَكُوا حَريمَ أَبيهمُ نَفَلا
والمحصنَاتُ صوارخٌ هُتُف
هيهاتَ بعدَك أَن يدومَ لهُمْ
عِزٌّ وأَن يبقى لهمْ شَرَفُ

أكفف غرب لسانك، واطو ما انتشر عنك، وتلافَ ما فرط منك، فعلمت أنه قد نصحني، فجزيته الخير، وقطعت القول، فنجوت برأيه وما كدت أنجو.»

وما أشك في أن أبا نواس لو عاش كما عاش الحسين لأدركه من المأمون شر كثير، فلم يكن أبو نواس أقل حبًّا للأمين من الحسين، ولم يكن أبو نواس أشد بغضًا للمأمون من الحسين، وأنت تذكر هذه الأبيات القليلة التي قالها أبو نواس يرثي بها الأمين، فمثلت أحسن تمثيل حبه لهذه الدولة الراحلة، وبغضه لهذه الدولة القائمة:

طَوَى الموتُ ما بيني وبين محمد
وليس لما تطوي المنيةُ ناشرُ
وكنت عليه أَحذَرُ الموت وَحْدَه
فلم يبق لي شيءٌ عليه أُحاذِرُ
فلا وصلَ إِلا عَبْرَةٌ تستديمها
أَحاديثُ نفس ما لها الدهرَ آخرُ
لئن عَمِرَتْ دورٌ بمن لا أُحِبُّهُمْ
لقد عمِرَتْ ممن أْحبُّ المقابرُ

فانظر بعد هذا إلى رثاء الحسين للأمين، ورأيه في الدولتين؟ وحدثني: أتجد أبلغ من هذا الشعر في وصف الهزيمة السياسية؟ وحدثني: أيستطيع منهزم في السياسة، معترف بهزيمته أن يصف موقفه بخير من هذا الكلام:

سأَلونا أَنْ كَيفَ نحنُ؟ فقلنا:
مَنْ هَوَى نجمُه فكيف يكونُ
نحنُ قومٌ أَصابنا حَدَثُ الدَّهـْ
ـرِ فظَلْنا لِرَيبه نَسْتَكِينُ
نتمنَّى منَ الأَمين إِيابًا
لَهْفَ نفسي وأَيْنَ منا الأَمينُ

وانظر إلى هذه الأبيات التي تذكر بما رويت لك من شعر أبي نواس، ولم لا يقصد الشاعران إلى معنى واحد، وكلاهما كان محبًّا للأمين، مؤثرًا له، وكلاهما كان عدوًّا للمأمون، مسرفًا في بغضه:

أُعَزِّي يا محمد عنكَ نفسي
مَعاذَ اللهِ والأَيدِي الجسامِ
فهلَّا مات قومٌ لم يموتوا
ودافع عنك لي يوم الحِمامِ
كأَنَّ الموت صادف منك غُنْما
أَو استشفى بقربك مِنْ سقَامِ

واقرأ هذين البيتين:

هَلَّا بَقِيتَ لِسَدِّ فاقَتِنا
أَبدًا وكان لغيرك التَّلَفُ
فلقد خَلَفْتَ خلائِفًا سلَفُوا
ولسوْفَ يُعْوِزُ بعدَكَ الخَلفُ

ويظهر أن هذين البيتين تركا في نفس المأمون موجدة شديدة على الشاعر؛ فقد تحدث ثمامة بن الأشرس أن المأمون لما وصل إلى بغداد طلب أن يسمى له نفر من أهل الشعر والأدب، يتخذهم له جلساء، فسمي له قوم، منهم الحسين، فذكر هذين البيتين، وأقسم لا يراه إلا في الطريق. قال ثمامة: وانحدر الحسين إلى البصرة، فأقام فيها طوال أيام المأمون.

والناس يتحدثون أن الحسين ضاق بسخط المأمون عليه، وأشفق من ذلك، فتوسل إلى المأمون بوسائل مختلفة، ووسط إليه نفرًا من أشراف القوم منهم عمرو بن مسعدة، ومدحه، أو استعطفه بشعرٍ لا أجد فيه أنا روح الحسين، فلم يبلغ من المأمون إلا أن وصل له أرزاقه، ولكنه أبى الإباء كله أن يأذن له في الاختلاف إلى القصر، وسواء أصحت هذه الأخبار كلها أم لم تصح؛ فإن في حياة الحسين أيام المأمون، مع ما قال فيه وفي أخيه، آية على ما اتصف به المأمون من الحلم وسعة العفو والإغضاء عن خصومه السياسيين، ولكن حياة الحسين أيام المأمون لم تكن من السعة واللين على ما تعود أيام كان ينادم الأمين، ويصاحب صالح بن الرشيد؛ فقد ضاقت به بغداد، وأغلقت دونه أبواب الأمراء وزعماء الناس، واضطر إلى أن يعيش في البصرة من صلب ماله، وأشفق عليه بعض أصحابه، وحدثوه في ذلك، وسألوه كيف «تمشي حاله» مع انقطاع الأرزاق، وكثرة النفقة، فقص عليهم قصصًا لذيذًا، يظهرنا على لونٍ من ألوان الحياة الخاصة للأمين.

زعم الحسين لسائله أنه يجد مشقة في الحياة، ولكنه مع ذلك يعيش وينفق دون أن يحتاج إلى المسألة، وهو إنما ينفق ويعيش من صلات الأمين وجارية له لم يسمها، ذلك أن الأمين دعاه ذات يوم، فزعم له أنه صديقه وعشيره، وأن عشير الرجل موضع ثقته وسره وأمنه، وأنه محدثه بشيءٍ يجب أن يخفيه، وكانت للأمين جارية فتنته لجمالها وحسن غنائها، ولكنها كانت متجنية، كثيرة الدل، مسرفة فيه، فكانت تنغص على الأمين صفوه، فضاق الأمين بذلك منها، وأراد أن يلقي عليها درسًا، وكلف الحسين أن يلقي هذا الدرس، زعم للحسين أنه سيدعو هذه الجارية وجارية أخرى، لا تبلغها جمالًا ولا إجادة في الغناء، وسيأمرهما أن تغنيا، وطلب إلى الحسين أن يفتر ويتثاقل إذ غنت الجميلة المحسنة، وأن يطرب ويشرب ويظهر الجنون والهيام ويشق ثيابه، إذا غنت الأخرى، وأعفاه من كل حرج، ووعده مائة ثوب لكل ثوب يشقه، فوعد بالطاعة، وخلا إلى الأمين، وجاءت الجاريتان، فغنت المحسنة، وكان الحسين فتيًّا، وكان رجلًا صادقًا، ولا سيما إذا شرب، فلم يستطع أن يفي بالوعد، وإنما أخذ يظهر الرضا والإعجاب، وكلما أومأ إليه الأمين لم يزدد إلا رضًا وإعجابًا، ثم غنت الأخرى، فأخذ يتكلف السرور والطرب، واستأنفت المحسنة غناءها، واستأنف الحسين شرابه، فإذا لُبُّه قد طار، وإذا هو يصيح، وإذا الأمين يشير ويقطب، ويظهر العبوس، ولكن الحسين عنه في شغل بطربه ولذته، حتى ضاق الأمين، وأمر بالحسين فَجُرَّ برجله، ثم أمر فحجب عنه.

وأخذ الناس يعطفون على الحسين، ويرثون له، ويسألونه عن سبب هذه النكبة، فيقول: تحامل علي النبيذ، فأسأت الأدب، فقومني أمير المؤمنين، ومضى دون ذلك شهر، ثم دُعي الحسين إلى القصر، وإذا الأمين يتلقاه لقاء حسنًا، ويخلو إليه في تلك الحجرة، ويدعو المغنية، وينبئ الحسين أن أمر هذه الجارية قد صلح، وأنها قد انتهت إلى ما يحب، وأنها قد شفعت للحسين عنده، فقبل شفاعتها، ومنح الحسين عشرة آلاف دينار، ومنحته هي دون هذا المقدار، ثم اتصلت صلات هذه الجارية للحسين فما كان يمضي أسبوع، حتى تنتهي إليه هداياها وألطافها؛ فهو يعيش من ذلك أيام سخط المأمون عليه.

على أن أيام المأمون لم تكد تنقضي حتى ابتسم الدهر للحسين، فعاد إلى بغداد، واتصل بالمعتصم والواثق والمتوكل، وكانت له عندهم جميعًا حظوة لا تعدلها حظوة، وكان مقدمًا عندهم جميعًا على غيره من الشعراء، ولا سيما الواثق، فقد كان يحبه حبًّا شديدًا، ويطمئن إلى منادمته، ويتخذه موضعًا لسره في حياته الخاصة، وما كان يقع بينه وبين جواريه من ضروب المجون والمزاح، وألوان الهجر والصدود، وله مع هؤلاء الخلفاء جميعًا أخبار حلوة، تبسط في روايتها أبو الفرج.

فأنت ترى أن هذا الشاعر قد اتصل بالأمراء من أبناء الرشيد، ثم اتصل بالأمين والمعتصم والواثق والمتوكل من الخلفاء، وأنت تعلم أن حياة القصر تطورت أيام هؤلاء الخلفاء، تطورًا غير قليل، بل إن مستقر الحكم نفسه قد تغير، وأحاط بالمعتصم وخلفائه قوم غير الذين كانوا يحيطون بالأمين والمأمون، وأنت تعلم أن الشعر نفسه تطور، فكان في القرن الثالث غيره في القرن الثاني، من وجوهٍ مختلفة، ولكن شاعرنا قد استطاع أن يعاشر هؤلاء الخلفاء، ويمدحهم وينشدهم من شعره الهزل والجد، دون أن يغير من شخصيته شيئًا، وهل كان من اليسير عليه أن يغير شخصية قوية كشخصيته؟!

وقد يكون من الخير وقد عرضنا لشخصية الحسين بن الضحاك أن نجتهد في وصفها، وأن نعطيك منها صورة ما، لتعرف مكانه من الشعراء الذين عاصروه، وقد سبقنا القدماء إلى هذا، فتصوروا هذا الشاعر تصورًا مقاربًا، ولكن ينقصه شيء من الدقة، شبهوه بأبي نواس، أو قل: خلطوا بينه وبين أبي نواس، وأسرفوا في هذا الخلط أحيانًا، حتى رووا لكل منهما شعر صاحبه، وفي الحق أنك تجد في ديوان أبي نواس شعرًا هو أشبه بالحسين، وتجد في أخبار الحسين شعرًا هو أشبه بأبي نواس، ولم يكن القدماء من الدقة وقوة البحث بحيث يصلون إلى التفرقة بين هذين الرجلين اللذين اشتد بينهما التشابه، حتى أصبحت التفرقة بينهما عسيرة على أشد الناس مهارة في النقد، وتعمقًا في البحث الأدبي، وكان الحسين نفسه يعلم أنه يشبه أبا نواس، وكان أبو نواس يعلم أن الحسين يشبهه، وكانت بينهما مودة، ولكن كان بينهما تنافس شديد أدبي، لم ينته بهما إلى شر فيما نعلم، وإنما انتهى بهما إلى الخصام، وإلى التنابذ أحيانًا، دون أن يتصل بينهما الهجاء، ودون أن يوقع أحدهما بصاحبه، وكان الحسين لا يخلو من حمق وسرعة إلى الغضب، وضيق الصدر، لم يكن فيلسوفًا، وإنما كان يلهو ويعبث في غير فلسفة ومذهب، أما أبو نواس فقد رأينا أنه لم يكن يخلو من فلسفة، وأن فلسفته كانت تقوم على ازدراء الناس، والسخر منهم، والعبث بهم، وبما يتصل بحياتهم، من أصول وعقائد، ومن نظم وقواعد، فكان يعبث بالحسين صديقه، ويسخر منه، ويغيظه، لا يخفي ذلك ولا يتكلفه، وإنما يعلنه إعلانًا، ويعلنه إلى الحسين نفسه، وكان الحسين يغتاظ، ولكنه لا يجد شفاء لنفسه إلا أن يشتم أبا نواس في وجهه أقبح الشتم، ويتحدث إلى الناس بذلك.

ولم يكن أبو نواس يستبيح العبث في الدين والأخلاق والحياة وحدها، بل كان يستبيح العبث في الأدب والشعر أيضًا، كان يؤثر نفسه بالخير في كل شيء، وكان يرى أنه شاعر مجيد، وإذا كان شاعرًا مجيدًا فهو خليق أن يسبق الشعراء جميعًا إلى آيات الشعر في المجون ووصف الخمر، وكان يسبقهم جميعًا إلا الحسين؛ فقد كانت للحسين في الخمر معانٍ وألفاظ جياد، يتمنى أبو نواس لو ظفر بها، وسبق إليها، ولكن الحسين كان هو الظافر السابق، وكان ينشدها أبا نواس وغير أبي نواس، فكان أبو نواس إذا سمع شيئًا من هذا فاستحسنه، حسد الحسين عليه، وزعم أنه أحق بهذا الشعر من الحسين، وأن هذا الشعر لم يخلق إلا ليقوله هو، ثم ينصرف عن الحسين، ويعود إليه وقد أخذ معناه وصاغه في لفظ، فإذا أظهر الحسين غضبًا ضحك أبو نواس، وقال: «دع عنك هذا! فوالله لا يُروى لك شيء في الخمر وأنا حي.» وربما أراح أبو نواس نفسه من عناء النقل والسرقة، فزعم القصيدة برمتها لنفسه، وصدقه الناس، وتناقلوا القصيدة على أنها له.

تحدث الرواة من هذا بالشيء الكثير، وهو يمثل لنا ما كان للحسين وأبي نواس من لين الخلق، وما كان يجمع بينهما من حسن العشرة، ومن الإخاء في الأدب واللهو، ولكنه يمثل لنا شيئًا آخر، هو الذي يعنينا من وجهة البحث الأدبي، يمثل لنا هذا التشابه الذي كان بين طبيعة الرجلين وشعريهما؛ فقد كان الرجلان مسرفين في المجون، متهالكين على الخمر، مشغوفين بوصفها وذكر آلاتها، وكان مذهبهما في ذلك واحدًا أو مقاربًا، ولِمَ لا؟! ألم يتأثروا جميعًا بأستاذ واحد، هو الوليد بن يزيد؟ ألم يَعْدوا جميعًا على شعر هذا الملك، الذي ظُلم في السياسة وظُلم في الأدب أيضًا؟! ثم ألم يتأثرا جميعًا بهذه الحياة البغدادية، وهذا اللهو البغدادي؟! ثم ألم يتصلا جميعًا بالأمين وقصور الأمراء والوزراء؟ ومع ذلك فالفرق بين الرجلين ظاهر لمن أراد أن يحقق، ظاهر في اللفظ، وظاهر في المعنى، وظاهر في الطبع أيضًا، كان أبو نواس كالحسين؛ ماجنًا، شاربًا، وصافًا للخمر، محبًّا للغلمان، ولكنه كان من جهة مستهترًا متهتكًا، يتمدح بالاستهتار والتهتك، ويتخذهما مذهبًا ودينًا، وكان من وجهة أخرى، بحكم هذا الاستهتار والتهتك، متسفلًا في شعره، لا يتكلف الإجادة إذا تحدث إلى الخلفاء والأمراء وأشراف الناس، وكان يرسل نفسه على سجيتها إذا تحدث إلى الشعراء والأدباء وأواسط الناس، ولكنه كان يتحدث إلى الدهماء وإلى طبقات من الرقيق وغلمان الحانات والأديار، فكان يتبسط إذا تحدث إلى هؤلاء، وكان كثيرًا ما يقول الشعر وهو سكران، فلم يكن يستطيع الحرص على الإجادة اللفظية، ثم كان أبو نواس ساخرًا شديد السخر، فكان يتعمد الإساءة إلى أهل اللغة وأصحاب النحو، فيحرف عليهم قواعدهم، ويسخر لهم من أصولهم، وهو مع ذلك لا يتجاوز اللغة ولا وجه الصواب فيها.

أما الحسين فكان طول حياته متصلًا بالأمراء والخلفاء والوزراء والكتاب، مقصورًا عليهم، لا يكاد ينظم الشعر إلا لهم، أو بمحضرٍ منهم، فكان بمعزلٍ عما كان يضطر إليه أبو نواس، من التحدث إلى العامة ودهماء الناس، وسفلة الرقيق، وكان الحسين بحكم منزلته من القصور مضطرًّا إلى أن يصطنع هذه اللغة المختارة النقية، التي تصلح للأرستقراطية، فقل الفحش جدًّا في شعره وغلبت المتانة والرصانة على ألفاظه وأساليبه، وغلبت الجودة على معانيه، ثم لم يكن الحسين يتخذ السخرية مذهبًا، ولم يكن يعنيه أن يغيظ أهل الدين ورجال الصلاح، ولم يكن يعنيه أن يغيظ أئمة اللغة وأصحاب النحو، فكان في شعره هدوء واطمئنان، خلا منهما شعر أبي نواس، ولم يكن أقل من أبي نواس صدقًا ولا استرسالًا مع الطبيعة والسجية؛ لذلك لا نجد في شعره هذا الاحتشام المتكلف، الذي يصطنعه المنافقون من الفساق، وإنما كان الرجل فاسقًا لا يجرِّد فسقه، ولا يظهره للناس عاريًا كأبي نواس، كما أنه لم يكن يحليه ولا يزينه، فيخلع عليه أثواب الورع والدين.

وكذلك كان الحسين، وله إلى هذا كله ميزة ربما لم يعظم منها حظ أبي نواس، وهي مفهومة جدًّا، كان يعاشر الأمراء والخلفاء، وكان ينشئ لهم الشعر، ليتغنى لهم فيه المغنون وقد أكثر من ذلك، حتى أثر في شعره، وأصبح شعره كله موسيقيًّا، وقلَّ أن تجد للحسين شعرًا لم يتغنَ فيه المغنون، وقل أن تجد له شعرًا لا يصلح للغناء، لا لجودة ألفاظه ومعناه فحسب، بل لهما ولهذا التنسيق الموسيقي الذي لا تكاد تجده عند غيره، ومن هنا آثر أو كاد يؤثر دائمًا القصار من بحور الشعر، ومن هنا اجتهد في أن يضيف إلى هذه الأوزان الشعرية العروضية أوزانًا أخرى موسيقية، فانظر إلى هذا البيت، فهو يمثل ما أريد تمثيلًا صحيحًا:

قد غابَ لا آبَ من يُراقبنا
ونام لا قامَ سامرُ الخدَم

فانظر إلى قوله: «قد غاب لا آب» وإلى قوله: «ونام لا قام» تجد إلى جودة المعنى وظهور حرص الشاعر على لذته، هذا النغم الموسيقي، الذي زاوج بين غاب وآب، وبين نام وقام، وهذا النحو من الموسيقى كثير في شعر الحسين.

وجملة القول في شخصية هذا الشاعر، أنه كان كأبي نواس، ولكنه أنقى من أبي نواس لفظًا، وأعف منه لسانًا، وأحرص منه على اختيار المتين من الكلام، ولم يكن يعدل أبا نواس في خفة الروح، وحلاوة المجون، ولم يكن يبلغ أبا نواس في الاستهتار والتهتك، ولم يكن أقل من أبي نواس حرارة في العاطفة، وصدقًا في اللهجة، ولكنه كان يمتاز بشيءٍ من الرجولة والوفاء، لم يكن لأبي نواس منه حظ عظيم، وكان يمتاز على أبي نواس بشيءٍ آخر، وهو أنه لم يكن سريع التنقل في أهوائه ولذاته، وإنما كان وفيًّا في حبه، كما كان وفيًّا في صداقته، وكانت قصة الحسين التي استأثرت بحياته الغرامية في شبابه، إن صح هذا التعبير، هي هذا الغرام المتصل بينه وبين غلام من غلمان الأمراء، هو «يُسْر» غلام أبي عيسى بن الرشيد، وكان «يسر» هذا جميلًا خلابًا، فُتِنَ به صالح بن الرشيد نفسه، وتلطف له، واجتهد في الحظوة عنده، فوجد في ذلك عناء شديدًا، ولم يظفر به إلا بعد مشقة وبذل لمقادير ضخمة من المال، وكان هذا الغلام رسول اللهو بين الأخوين فأحبه الحسين نديم صالح، كما أحبه صالح نفسه، وتثاقل يسر على الحسين وازدراه، ولكن الحسين تلطف واحتال، وبالغ في التلطف والحيلة، حتى وجد من قلب الغلام مكانًا، ولعل الذي انتهى به إلى هذا المكان من قلب يسر إنما هو شعره الجيد الكثير، الذي قاله فيه، ولست أريد أن أقص عليك أخباره مع يسر، ولست أريد أن أروي لك شعره في يسر، فهذا كثير، لا تسعه هذه الصحيفة، وإنما أروي لك من هذا الشعر نموذجًا حسنًا، يمثله تمثيلًا صحيحًا، وهي هذه القصيدة التي قالها بعد ليلة لهو، كانت بينه وبين يسر:

تَيَسَّرِي لِلِّمَامِ مِنْ أَمَمِ
ولا تُراعِي حمامَةَ الحرم
قد غاب لا آبَ من يراقِبنا
ونامَ لا قامَ سامرُ الخَدَمِ
فاسْتَصْحِبي مُسْعِدًا يُفاوِضُنَا
إِذا خَلَوْنا في كلِّ مُكْتَتمِ
تَبَذَّلِي بِذْلَةً تَقَرُّ بها الـْ
ـعَيْنُ ولا تحْصَرِي وتَحْتَشِمِي
ليتَ نجومَ السماءِ راكدةٌ
على دُجَى ليلنا فلم تَرِمِ
ما لِسُروري بالشك ممتزجٌ
حتَّى كأَنِّي أَراهُ في حُلُمِ
فَرِحْتُ حتى استَخَفَّني فَرحِي
وشُبْتُ عَيْنَ الْيَقِينِ بالتُّهَمِ
أَمْسَحُ عَيْني مُسْتَثْبِتًا نَظَرِي
إِخالُنِي نائمًا ولَمْ أَنمِ
سقْيًا لِلْيلٍ أَفنيتُ مُدَّته
بباردِ الريق طيبِ النَّسَمِ
أَبيض مُرْتَجَّةً رَوادِفُهُ
ما عِيبَ من فَرْقِهِ إِلَى القَدَمِ
إِذْ قَصَبَاتُ العَريشِ تَجْمَعُنا
حتى تجلَّتْ أَواخرُ الظُّلَمِ
وليلةٍ بِتُّها محَسِّرَةٍ
محفوفةٍ بالظُّنُون والتُّهَم
سقْيًا لِقَيْطُونِها وَمِخْدَعِها
كَمْ من لِمَامٍ به ومن لَمَمِ
وليلةُ الْقُفصِ إِنْ سأَلتَ بِهَا
كانتْ شِفَاءً لِعِلَّة السَّقَمِ
باتَ أَنيسي صريعَ خَمْرَتِه
وتِلْك إِحْدَى مَصارع الكرمِ
وبِتُّ عَنْ مَوْعدٍ سَبَقْتُ بِهِ
أَلْثَمُ دُرَّا مُفَلَّجًا بِفَمِ
أَباحَني نَفسَهُ ووَسَّدَنِي
يُمْنَى يَدَيْه وباتَ مُلْتَزِمي
حتى إِذَا اهْتَاجَتْ النَّوَاقِسُ في
سُحْرة أَحْوَى أَحَمَّ كالحُمَم
وقلتُ هُبَّا يا صَاحِبيَّ ونَبـْ
ـبَهْتُ أَبانًا فهبَّ كالزَّلَمِ
فاسْتَنَّها كالشِّهابِ ضاحِكةً
عن بارقٍ في الإِناءِ مُبْتَسِمِ
صفراءَ زَيْتِيَّةً مُوشَّحَةً
بِأُرْجُوَانٍ مُلَمَّعٍ ضَرمِ
أَخذتُ رَيْحانةً أَرَاحُ لَها
دَبَّ سُرورِي بها دبيب دَمي
فراجِع العُذْر إِنْ بَدَا لكَ في الـْ
ـعُذْر وَإِنْ عُدْتَ لَائمًا فَلُمِ

فانظر إلى هذه القصيدة على طولها، كيف جادت ألفاظها ومعانيها! وانظر إلى حذر الشاعر وإشفاقه، وانتظاره وفاء صاحبه بالوعد، ثم شكه في هذا الوفاء، وهو يستمتع بلذاته لشدة حرصه عليه، وإكباره له! ثم انظر إليه كيف يأخذ في تفصيل لذته متبسطًا، وإذا هو يدنو من الفحش قليلًا قليلًا، حتى إذا لم يبقَ بينه وبين بلوغه إلا قيد أصبع، انصرف عنه، وقد ألمَّ به إلمامًا، وخيله إليك تخييلًا، فإذا لم يكن بد من التصريح، ففي لفظ لا يروع التقي، ولا ينبو عنه سمع الرجل الناسك …

أترى إلى أبي نواس في مثل هذا الموضع؟ أكان يعفيك من تصريح بَشع؟! أكان يدخل عليك بلفظٍ مكروه؟! بلى، لو وقف أبو نواس هذا الموقف لتعمد الإفحاش والإساءة؛ لأن أبا نواس لا يفكر وهو يقول مثل هذا الشعر في الشعر وحده، وإنما يفكر في خصومه الذين ينكرون عليه لذته، فيريد أن يغيظهم ويكبتهم، فيمضي في الفحش إلى غير حد.

وانظر إلى هذه الأبيات الأخرى التي تمثل لك رقة الحسين ولطفه في الغزل:

لا وَحُبِّيكَ لا أُصا
فِحُ بالدَّمعِ مَدْمَعا
مَنْ بَكَى شَجْوَه اسْتَرَا
ح وإِنْ كان مُوجعَا
كَبِدِي مِنْ هَوَاكَ أَسـْ
ـقَمُ مِنْ أَنْ تَقَطَّعَا
لَمْ تَدَعْ سورةُ الضَّنَى
فيَّ لِلسُّقْم مَوْضِعَا

وما أظن التفسير والتعليق إلا مفسدين لجمال هذا الشعر، ولشد ما أحببنا أن نسمع متغنيًا يتغنى فيه، كما تغنى فيه القدماء ببغداد! ولقد فتن ثعلب بهذا الشعر، حتى قال لأصحابه: ما بقي من يحسن أن يقول مثل هذا …

ولقد أريد أن أمثل لك شيئًا من عبث الحسين؛ فهو كثير، ولكني متحير، لا أدري ماذا أختار منه، فلأكتف من هذا بهذه القصة، التي لا تمثل الحسين وحده، وإنما تمثل معه أيضًا علمين من أعلام الحياة السياسية أيام الواثق، شك الناس في رمضان، وأمر الواثق بالإفطار، فكتب الحسن بن رجاء إلى الحسين:

هززتك للصَّبوح وقد نهاني
أميرُ المؤمنين عن الصِّيامِ
وعندي من قيان المِصْر عَشْر
تطيبُ بهنَّ عاتقةُ المُدَام
ومِنْ أَمثالهن إِذا انتشينا
ترانا نجتنِي ثَمَرَ الغَرامِ
فكنْ أَنْتَ الجوابَ فليسَ شيءٌ
أَحبَّ إليَّ من حَذْفِ الْكَلام

قال الحسين: فوردت علي رقعته، وقد سبقه إلي محمد بن الحارث بن بُسْخُنَّر، ووجه إلي بغلام نظيف الوجه، ومعه ثلاثة غلمة أقران حسان الوجوه، ومعهم رقعة قد كتبها إليَّ كما تكتب المناشير، وختمها في أسفلها، وكتب فيها يقول:

سِرْ على اسْمِ اللهِ يا أَشـ
ـكلَ من غُصْنِ لُجَيْن
في ثلاثٍ من بني الرُّو
م إلى دار حُسَيْنِ
أَشْخِصِ الكَهلَ إِلى مو
لاكَ يا قُرَّةَ عَيْني
أَرِهِ الْعُنْفَ إِذَا اسْتَعـْ
ـصى وَطَالِبْهُ بِدَيْنِ
وَدَعِ اللَّفْظَ وخاطبـ
ـهُ بغَمْزِ الحاجبينِ
واحذَرِ الرَّجْعةَ مِنْ وجـ
ـهك في خُفَّيْ حُنَيْنِ

قال: فمضيت معهم، وكتبت إلى الحسن بن رجاء جواب رقعته:

دعوتَ إِلى مُمَاحَكَةِ الصِّيامِ
وإِعمالِ المَلاهِي والمُدَامِ
ولو سَبَقَ الرَّسُولُ لَكانُ سعيي
إِليكَ ينوبُ عن طولِ الكلامِ
وما شوقي إليك بدون شَوْقِي
إِلَى زَمَنِ التَّصَابي والغَرَام
ولكن حل في نفر عسوفٌ
بمنشور محلَّ المُسْتَهام
حُسَينٍ فاستباح له حَريمًا
بَطَرْفٍ باعثٍ سَبَبَ الحِمامِ
وأَظهرَ نَخْوَةً وسطا وأبدى
فَظَاظته بتركٍ للسَّلامِ
وأَزْعَجني بأَلفاظ غِلاظٍ
وقد أَعطيته طرَفَيْ زِمَامِي
ولو خالفتهُ لم يخشَ قَتْلي
وقَنَّعني سريعًا بالحُسامِ

ولست أروي لك خبره مع الحسن بن سهل، ولا قصته في أمر مقحمٍ، ولا دهاءه في أمر الشامي وعشيقته «بَصْبَص»؛ فأنت تستطيع أن تقرأ هذا كله وأكثر منه في الأغاني، وأحسب أني قد أسرفت في الإطالة، فأختم هذه الصحيفة بهذه الأبيات، التي قالها الحسين وقد بلغ التسعين أو كاد، وكان قد نادم المتوكل، ثم شقت عليه الخدمة فاعتذر، ووشى به الناس إلى الخليفة، فكتب إليه هذه الأبيات التي تمثل شعره وهو شيخ قد أدركه الفناء، فلا تظهر الشعر في هذا السن ضعفًا ولا وهنًا، كما أنها لا تظهر فيه شبابًا ولا قوة:

أَما في ثمانين وفَّيْتُها
عَذيرٌ وإِن أَنا لم أَعتذِرْ
فكيف وقد جُزْتُها صاعِدًا
مع الصاعدين بتسعٍ أُخَرْ
وقد رفع الله أَقلامَهُ
عن ابن ثمانين دونَ البَشَرْ
سِوَى مَنْ أَصَرَّ على فِتْنةٍ
وأَلحدَ في دينه أَو كفرْ
وإِنِّي لِمنْ أُسَرَاءِ الإِلـ
ـه في الأَرض نُصْب صُروف القدرْ
فإِن يقضِ لي عَمَلًا صَالِحًا
أُثابُ وإِن يقْضِ شَرًّا غفَرْ
فَلا تَلْحَ في كِبَرٍ هَدَّني
فلا ذَنْبَ لي أَنْ بلغتُ الكِبَرْ
هو الشيْبُ حلَّ بعَقْب الشَّباب
فَأَعْقَبَني خَوَرًا مِن أَشَرْ
وقد بَسَط الله لي عُذْرَهُ
فَمنْ ذَا يَلوم إِذَا ما عَذَرْ
وإِني لَفي كَنَفٍ مُغْدِقٍ
وعِزٍّ بنَصْر أَبي المنْتصِرْ
يباري الرياح بفَضْل السَّما
حِ حتَّى تَبَلَّدَ أَوْ تنحسِرْ
له أَكَّدَ الوحْيُ مِيراثَه
ومَنْ ذَا يُخالِفُ وحْيَ السُّوَرْ
وما لِلْحَسُود وَأَشْياعِه
ومنْ كَذَّب الحقَّ إِلا الحجَرْ
١  نُشرت بالسياسة في ١٩ رمضان سنة ١٣٤٢ / ٢٣ أبريل ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤