الفصل الثاني والعشرون

بشار بن برد١

ليس وجه بشار بذلك الوجه المشرق الجذاب، الذي يستميلك ويستهويك، وإنما هو فيما أعتقد رجل ثقيل الظل، له من الفن حظه الموفور، ولكن روحه في حاجةٍ شديدة إلى الخفة، ولست أدري أتشاركني في هذا الرأي أم تخالفني فيه، فأنا أعتقد أن من الشعراء والكتاب من تحبهم وتعجب بهم، ومنهم من تحبهم ولا تعجب بهم، ومنهم من يظفرون بالإعجاب وحده دون الحب؛ أي أنا أعتقد أن الشاعر ليس محببًا إلى النفس لأنه مجيد ليس غير، وإنما يجب أن يجمع إلى هذه الإجادة خلالًا أخرى، تدني منك شخصيته، وتقارب ما بينهما وبين نفسك، حتى تحبه وتميل إليه.

ولم يرزق الله بشارًا من هذه الخلال شيئًا، أو لم يكد يرزقه منها شيئًا، وإنما منحه من القوة الفنية والإجادة في الشعر حظًّا موفورًا، ولكنه إلى التنفير أقرب منه إلى الترغيب وإيجاد العطف.

وقد كان من المعقول أن تكون هذه الآفة التي ابتلى الله بها بشارًا مصدرًا لحب الناس إياه وعطفهم عليه، ورفقهم به، لو أن بشارًا عرف كيف يتلقى هذه الآفة، وكيف يحتملها، وكيف يعرف مكانته منها، ولكن من البائسين من يجعل الله البؤس مصدر النقمة منهم، والسخط عليهم، لأنهم يسيئون احتمال هذا البؤس، أو يضعونه في غير موضعه، فكم سخط على معدم، وكان من حقك أن ترحمه، لأنه لم يعرف كيف يكون معدمًا أو فقيرًا، كذلك أصاب الله بشارًا بهذه الآفة، فسلبه البصر، وكان إلى ذلك نابغة في الشعر، يكاد ينعدم نظيره في قوة الذكاء، وحدة الذهن، ولكنه أساء احتمال آفته، كما أساء الانتفاع بذكائه وحدة ذهنه، فأصبح بغيضًا إلى الناس، مذممًا عندهم، ثقيلًا عليهم، حتى روى الرواة أن عامة أهل البصرة ابتهجوا لموته، واستبشروا به، كأن الله قد أزاح عنهم ضرًّا.

ربما لم تعرف آداب العرب في إسلامهم شاعرين كبشار وأبي العلاء، وكلاهما كان قد أصيب بهذه الآفة، فأسدلت الظلمة بينه وبين العالم وما فيه من جميلٍ أو قبيح، ولكن الفرق بين هذين الرجلين عظيم جدًّا، لا أقول من الوجهة الأدبية أو الشعرية؛ فليس للمقارنة بينهما من سبيل، وإنما أقول من هذه الوجهة التي تحبب إليك الرجل، أو تبغضه إليك، كلاهما كان مكفوف البصر، وكلاهما كان سيئ الظن بالناس، مسرفًا في سوء الظن؛ لأنه كان مكفوف البصر، ولكن أحدهما استساغَ أن يحمل مصابه راضيًا مطمئنًّا، وأن يكون لهذا المصاب نفسه خيِّرًا خفيف الظل، جذابًا محببًا إلى النفس، يكاد يكون كله حبًّا، وهو أبو العلاء.

أما الآخر فقد احتمل مصابه شر احتمال، ماذا أقول؟! بل هو لم يحتمل هذا المصاب، وأكاد أحسب أنه لم يفترضه، ولم يشعر بوجوده، بل أكاد أعتقد أنه اتخذ من هذا المصاب وسيلة إلى الفخر والتمدح، وأسرف في ذلك إسرافًا شديدًا، فكان يحمد الله على العمى؛ لأنه يحول بينه وبين رؤية الناس، الذين كان يكرههم ويتبرم بهم تبرمًا شديدًا، وليس هذا شيئًا، فقد يستطيع الإنسان فهمه وتأويله، والاعتذار عنه، ولكن بشارًا تجاوز الحد في ذلك، فلم يكتفِ بحمد الله على العمى، بل اتخذ العمى فخرًا، وزعم أن ذكاءه النادر، ونبوغه الفذ، إنما هما أثر من آثار هذه المحنة، وقال في ذلك كلامًا كثيرًا، وكان من اليسير أيضًا أن يفهم الناس ذلك ويحتملوه، ويجدوا وسيلة إلى الاعتذار عنه؛ فليس من الهين على رجلٍ كبشار قد منحه الله قوة العقل، وشدة الذكاء، وحدة الذهن، ونفاذ البصيرة، ومنحه إلى ذلك قوة الجسم، ودقة الحس ولطفه، ومنحه إلى هذا وذاك نفسًا ثائرة مضطربة، شرهة إلى اللذة، لا تقنع منها بالقليل، ولا تظفر منها بحظٍّ إلا استزادته، وطمعت فيما هو أعظم منه، أقول: ليس من الهين على رجل كبشار قد منحه الله هذا كله أن يحتمل آفة العمى، راضيًا بها، مطمئنًّا إليها، وإنما المعقول أن يحدث ذلك في نفسه سخطًا شديدًا على الحياة والأحياء، لما يجر عليه ذلك من حرمان … أضف إلى هذا أن حياة بشار تدلنا على أن أهل عصره لم يكونوا أرقاء، ولا حريصين على الرفق وحسن الأدب، وإنما كانوا يسخرون من بشار ويعبثون به، ويسرفون في ذلك، حتى يبلغوا إعناته، ويخرجوا به عن طوره، فكان هذا كله مصدرًا لما تجده في هذا الرجل من سوء الخلق، وشدة البغض للناس، والموجِدَة عليهم، وإضمار الشر لهم، والإسراف في السخرية منهم، وماذا تقول في رجل لم يُخلص لإنسان؟! وما نحسب أن إنسانًا أخلص له، وإنما كان سيئ الظن بالناس جميعًا، منطلق اللسان في الناس جميعًا، يمدح ثم لا يلبث أن يهجو، وربما مدح وهو يضمر الهجاء، بل لعله لم يمدح إلا وهو يزدري ممدوحه! وكان مخلصًا إذا هجا، لأنه كان يزدري الناس، ويسرف في بغضهم، وقد عظمت في نفسه هذه الخَلَّة، حتى استأثرت به، وسيطرت عليه، وأصبحت مقياس حياته، وقانون ما بينه وبين الناس من معاملة، وانتهى أمره إلى أن الناس إنما كانوا يصلونه ويمنحونه الجوائز، لا إعجابًا به، ولا رحمة له، ولا عطفًا عليه، بل إشفاقًا منه، لأذاه، وعرف هو منهم ذلك، فنالهم من حيث ينال الضعيف، مدحهم ولم يكره أن يُنْذِر وهو يمدح، وربما أعرض عن المدح، واكتفى بالإنذار، وربما أعرض عن المدح والإنذار جميعًا، وسلك أقصر الطرق، وهجا بالبيت أو البيتين، فيشفق المهجو من المزيد، فينزل عندما أراد، ثم انتهى به الأمر إلى أن أصبح يقينًا عنده، فأصبح بشار من أشد الناس إيثارًا لنفسه، يرى أن الخير يجب أن يكون موقوفًا عليه، وأن الشر يجب أن يعدُوَه إلى غيره، ولم لا؟! أليس يرى أنه أذكى الناس، وأشعر الناس، وأعلم الناس؟! وإذن فيجب على الناس أن يؤمنوا له، ويذعنوا لهواه، فإن فعلوا فذاك، وإلا ففي لسانه تثقيف لاعوجاجهم، وإصلاح لما فيهم من فساد، ولهذا لم يعرف هذا العصر رجلًا أطول منه لسانًا، ولا أسرع منه إلى شر، ولا أشد منه إمعانًا في الفحش إذا هجا، ولا أقل منه احتفالًا بالعدل أو الظلم.

وأخرى من خلال هذا الرجل، هي أنه أسرف في بغض الناس وازدرائهم، فأسرف لذلك في إيثار نفسه عليهم، ومن اتصف بالإيثار فقد اتصف بالجبن؛ لأن الإيثار في حقيقة الأمر شكل من أشكال الجبن، ولون من ألوانه؛ فليس شجاعًا ذلك الرجل الذي يعجز عن أن يأخذ نفسه بما لا تحب، وإنما الشجاع حقًّا هو من بدأ بنفسه، فأخذها بالخير، وحال بينها وبين الشر، حتى إذا فرغ من نفسه عُني بالناس، وكان بشار من أشد الناس في عصره جبنًا وفرقًا، كان طويل اللسان، سفيهًا مسرفًا في الهجاء، إلا أن يبدو له ما يخيفه، فإذا بدا له ذلك فهو ذليل منكسر، وكان يخاف كل شيء، كان يخاف السيف، وكان يخاف السوط، وكان يخاف اللسان، وكان يخاف غير هذا كله، وله في ذلك أحاديث، زعموا أنه طلب إلى رجل مصور أن يتخذ له جامًا، ويرسم فيه طيرًا، ففعل الرجل، وأقبل إليه بالجام، فوصفه له، فلم يرضَ، وقال: كان يجب أن ترسم فيه طيرًا جارحًا يصيد هذه الطيور، ولكنك عرفت أني أعمى، فاستخففت بي، فلأهجونك، قال صاحبه: لا تفعل؛ فأنت نادم إن فعلت، قال: أتنذرني؟ قال: نعم، قال: وبم؟ قال: أصورك على صورتك، وأجعل من ورائك قردًا … وأضع ذلك على بابي، فقهقه بشار، وصفق بيديه، وقال: قاتله الله! أمازحه فيأبى إلا الجد، فانظر إليه أشفق من هذه الصورة، ولو لم ينذره بها المصور لهجاه، وزعموا أنه طلب إلى صديق له تاجر ثيابًا بنسيئة، فلم يوفق الرجل لما أراد، فغضب بشار، وكتب إليه بيتين من أقبح الشعر، ولم يكن هذا الرجل شاعرًا، ولكنه اغتاظ لهذين البيتين، فرد عليهما بشر منهما؛ فانكسر بشار، وأقسم لا يهجو مثله من سفلة الناس. قالوا: وهجا بشار رَوْحَ بن حاتم، فجاءه منه النذير، فلم يحفل، وألح في الهجاء، فأقسم روح: لئن رأيته لأضربنه بالسيف، ولو كان بين يدي الخليفة، قالوا: فلما انتهى ذلك إلى بشار نهض من فوره، فدخل على المهدي، وعاذ به فأعاذه، وأرسل في طلب روح، فكلمه في ذلك، فأبى، وقال: إنه أقسم؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يحتمل يميني، فأحضر المهدي الفقهاء، ليتأولوا له مخرجًا، فأفتوا بأن يضربه على جسمه بعرض السيف، وكان بشار وراء ستار، فأخرج، واستل روح سيفه، وضربه بعرضه، قالوا: فلما أحس بشار السيف جزع، وصاح أوه باسم الله! فتضاحك المهدي، وأحاديث بشار في الجبن والجزع من الهجاء كثيرة لا تحصى.

وخصلة أخرى تتميز بها شخصيته، وهي أنه إذا كان أثرًا شديد الإشفاق، فقد كان مسرفًا في النفاق أيضًا وليس يمثل إسرافه في النفاق أكثر من مكانه من الزنادقة، ورأيه فيهم، وسيرته معهم، كان من أشد الناس إلحادًا في الدين، وتهالكًا على اللذة، وربما لم يكن كغيره من الشعراء الذين قدمنا الحديث عنهم، يحب المجون واللذة على غير عقيدة ولا مذهب فلسفي، وإنما كان رجلًا له رأي وبصيرة؛ يفكر ويناظر ويحاج عن رأيه، وكان صديقًا لواصل بن عطاء، ونفر من أصحاب الكلام في البصرة فكانوا يتناظرون في الدين، ثم افترقوا، فأما واصل فمضى في الاعتزال، وأما غيره فذهبوا مذاهب مختلفة في الكلام، ومنهم من ألحد ولم يخفِ إلحاده، وإنما ترك البصرة فرارًا من أميرها، ومخافة أن يدل عليه أصحابه ومناظروه، أما بشار فإنه لم يعلن شيئًا خاصًّا، وإنما مضى في سيرته، يخيل للناس أنه يرى رأي الجماعة، ويضمر الزندقة والإلحاد، ويزدري رأي الجماعة، وكان الناس يعلمون منه ذلك، وكان واصل يعلمه، وينكره عليه، ويهتف به، فهجاه بشار، وأسرف في هجائه، حتى سكت عنه واصل، وكذلك كان يفعل مع كل من يخشى منه شرًّا، ثم لم يكن يكتفي بهذا، وإنما كان يدفع عن نفسه الزندقة بهذه الطريق يسلكها الجبناء وأنذال الناس، فيتهم بها غيره من خصومه، ومن أصدقائه أيضًا، وقد مر بك في أحاديثنا الماضية شيءٍ من سيرته مع حماد عجرد؛ فقد أسرف في اتهامه بالزندقة، وما نشك في أن حمادًا كان من الإجادة بعيدًا عن أن يبلغ حظ بشار.

كانت زندقة بشار علمية إن صح هذا التعبير، أو قل: كان لزندقته وجهان؛ أحدهما: علمي نظري، فيه ذكر لمذهبه، ودفع عنه، وحوار دونه، والآخر: عملي أدبي، يشارك فيه حمادًا ومطيعًا وغيرهما من المجان، فكان بشار يدين بالرجعة، ويكفِّر الأمة كلها بعد موت النبي لأنها حادت عن طريق الدين، فلما سئل عن علي رضي الله عنه تمثل بقول عمرو بن كلثوم:

وما شرُّ الثلاثةِ أُمُّ عَمرٍ
بصاحبِك الذي لا تَصْحَبِينَا

وكان يؤثر النار على الطين، ويفضل النور على الظلمة، فكان من هذه الناحية فارسي الزندقة، ثم كان في حقيقة الأمر فارسيًّا في كل شيء، كان فارسيًّا في زندقته، يقدم النار التي يعبدها الفرس، وكان فارسيًّا في أهوائه وميوله السياسية، فلم يكن يحب العرب، ولا يرتاح إليهم، وإنما كان يحتملهم احتمالًا، وكان ينكر الولاء، ويحث الموالي على أن ينكروه، وكان يرى أن الفرس ليسوا أقل كرامة ولا شرفًا ولا حرية من العرب، ولم يكن يكره أن ينتسب إلى آبائه من الفرس، وربما فاخر بنسبه الفارسي، ويقولون: إنه اجترأ على ذلك بين يدي المهدي، ويقولون: إن رجلًا من أشراف العرب في البصرة أقبل عليه يعاتبه؛ لأنه يفسد الموالي على العرب، فهجاه، واضطر الرجل إلى أن يسكت عنه.

كان بشار إذن زنديقًا، ممعنًا في الزندقة، وكان شعوبيًّا، متشددًا في الشعوبية، وكان يحتمي بالنفاق أيضًا، كما قدمنا؛ فقد كان يمدح الخلفاء والأمراء وأشراف الناس أيام بني أمية، وأيام العباسيين، يطلب منهم المال، ويطلب منهم الجاه أيضًا، ولكنه لم يكن مخلصًا في شيءٍ من ذلك، وكان الممدوحون يعرفون منه هذا النفاق، ويصبرون عليه، أو يتغاضون عنه، حلمًا مرة، وعفوًا مرة أخرى، وإشفاقًا في أكثر الأحيان.

فإذا أردت أن تتمم شخصيته من حيث هو رجل، فينبغي أن تضيف إلى كل ما قدمنا خصلة أخرى، وهي أنه كان شديد الولع بالنساء، مسرفًا في التشبيب، مفتنًّا فيه فنونًا لم يُسبق إليها، وكأنه لم يلحق فيها أيضًا، كان شعره كله إغراء بالفجور، وحثًّا على الفسوق، وإفسادًا حتى لأشد النساء حرصًا على الشرف، وأوفرهن حظًّا من الإحصاء، وقد جزع لذلك الناس في البصرة، فسعى إليه وعاظهم وأهل الصلاح منهم ينهونه، وهتف به خطباؤهم، والمتكلمون فيهم، ولكن شيئًا من ذلك لم يؤثر فيه، ولم يردعه، بل مضى في نسيبه وتشبيبه، وفي استهتاره وتهتكه، وأَكْثَرَ نساءُ البصرة وفتياتُها من رواية شعره، والاستهتار به، كما أكثرن من الاختلاف إليه، ومجاذبته الحديث، وكانت له معهن سيرة مرذولة، فشكا الناس إلى المهدي، فنهاه المهدي، وأنذره بالموت إن لم يكف عن التشبيب، وفي ذلك يقول:

يا منْظَرًا حسنًا رأَيتُه
من وجه جاريةٍ فَدَيتُهْ
بعثتْ إليَّ تسومُني
بُرْدَ الشباب وقد طويتُهْ
واللهِ ربِّ محمدٍ
ما إِن غدرتُ ولا نويتُهْ
أَمسكتُ عنكِ ورُبَّما
عرض البلاءُ وما ابتغيتُهْ
إِنَّ الخليفةَ قد أَبى
وإِذا أَبَى شيئًا أَبيتُهْ
ومخضَّبٍ رَخْص البنا
نِ بكى عليَّ وما بكيتُهْ
ويشُوقُني بيت الحبيـ
ـب إِذا ادَّكَرْتُ وأَين بَيْتُهْ
قام الخليفة دونه
فصبَرتُ عنه وما قَلَيتُهْ
ونهانِيَ الملكُ الهما
مُ عن النساءِ وما عصيتُهْ
لا، بل وَفَيْتُ فلم أُضِعْ
عهدًا ولا رأيًا رأَيتُهْ

قالوا: ووفد بشار على المهدي، فاشترط الحاجب عليه ألا ينشد الخليفة غزلًا، فلما دخل عليه أنشده هذه الأبيات، ثم أنشده مدحًا لا غزل فيه، فحرمه المهدي ولم يجزه، وقال الناس لبشار: إنما حرمك لأنه لم يستحسن شعرك، فقال — وهذا يمثل إعجابه بنفسه: لقد مدحته بشعرٍ لو قيل في الدهر لأمن الناس صروفه، ولكنه كذب أملي؛ لأني كذبت في القول، ثم قال هذه الأبيات:

خَليليَّ إِن العُسْرَ سَوْفَ يُفِيقُ
وإِنَّ يَسارًا فِي غَدٍ لَخَلِيقُ
وما كُنتُ إِلَّا كالزَّمَانِ إِذَا صَحَا
صَحوْتُ وإِنْ مَاقَ الزَّمَانُ أَمُوقُ
أَأَدْماءُ لا أَسْطِيعُ في قِلَّةِ الثَّرى
خُزُوزًا وَوَشْيًا والْقَليلُ مَحِيقُ
خُذِي مِنْ يَدِي ما قَلَّ إِنَّ زَمانَنَا
شَمُوسٌ ومَعْرُوف الرِّجَالِ رَقِيقُ
لقَدْ كُنْتُ لا أَرْضَى بِأَدْنَى مَعِيشةٍ
ولا يَشْتَكِي بُخْلًا عَليَّ رَفِيقُ
خَلِيليَّ إِنَّ الْمالَ ليْسَ بِنافِعٍ
إِذا لَمْ يَنَلْ مِنهُ أَخٌ وَصَدِيقُ
وَكُنْتُ إِذا ضاقَتْ عَلَيَّ محَلَّةٌ
تَيَمَّمْتُ أُخْرَى ما عَلَيَّ تَضِيقُ
ومَا خابَ بيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ عامِلٌ
لَهُ في التُّقَى أَوْ فِي المحَامِدِ سُوقُ
ولا ضاقَ فَضْلُ اللهِ عَنْ مُتَعَفِّفٍ
وَلكِنَّ أَخْلاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ

فإذا أضفت إلى هذا كله أنه كان أقبح الناس وجهًا، وأنه كان عظيم الجسم، ضخم الخلق، وكان مع هذا كله يزعم أنه جميل، وأنه خلاب للنساء، وكان مع هذا يجرؤ على أن يقول:

إِنَّ في بُرْدَيَّ جِسْمًا ناحِلًا
لَوْ تَوَكَّأْتِ عَلَيْهِ لَانهَدمْ

أقول: إذا أضفت هذا إلى ما قدمنا، تبينت صورة ليست بعيدة ولا كاذبة من هذا الرجل، الذي لم يكن جذابًا ولا خلابًا، لا من الوجهة المعنوية، ولا من الوجهة المادية، ومع هذا فقد كان شاعرًا مجيدًا، أجمع العلماء والرواة في عصره على أنه أشعر أهل هذا العصر، وزعم هو لنا ذلك، فتحدث ذات يوم أن له اثني عشر ألف بيت من جيد الشعر، فلما سُئل عن ذلك قال: إن له اثني عشر ألف قصيدة، فويل له إذا لم يكن في كل قصيدة بيت جيد. قالوا: ولم يجتمع لأحدٍ من الشعراء مثل هذا المقدار من جيد الشعر، وقد يكون هذا حقًّا، ولكننا في حاجةٍ شديدة إلى أن نظفر من هذا المقدار الضخم بجزءٍ قليل نتخذه مقياسًا لإجادة بشار، وقد أراد سوء الحظ ألا نظفر من شعر بشار بشيءٍ يذكر، ومهما يكن من شيءٍ فأنا أشك في قيمة هذا الإجماع، الذي انعقد على تقديم بشار، وإيثاره بالإجادة والتفوق، وأزعم أن شيئًا من هذا الإجماع يعود إلى سفه بشار؛ فقد كان بشار يخيف العلماء ويهجوهم، هجا سيبويه؛ لأنه أنكر عليه كلمات، فاضطر سيبويه إلى أن يستشهد بشعره، وتملقه الأخفش لشيءٍ كهذا، وتملقه يونس بن حبيب، وكان مع ذلك يكرهه كرهًا شديدًا، ويقال: إنه هو الذي وشى به عند المهدي، واتهمه بالزندقة، وتملقه الأصمعي من غير شك؛ فقد كان بشار يهجو باهلة، والأصمعي باهلي، وبعض هذا الإجماع يعود إلى أن بشارًا كان إذا جَدَّ متين اللفظ، رصين الأسلوب، مؤثرًا لنحو أهل البادية في ألفاظهم وأساليبهم، وكان لا يكره استعمال الغريب، ولا يعيبه، وكيف لا يحب علماء اللغة رجلًا يذهب هذا المذهب، ثم يعود بعض هذا الإجماع إلى أن الناس أطبقوا على خوف بشار، والإشفاق منه، فكانت له مهابة لم تكن لغيره من الشعراء، ثم تعلمت عليه طائفة من الشعراء تقدمت في عصرها، ثم أكثر من الغزل، ورق فيه، فأحبه الظرفاء، وأصحاب الخلاعة، وتغنى فيه المغنون، وتحدث الرواة أن نساء البصرة كن يلجأن إليه إذا احتجن إلى شعرٍ ينُحْن فيه، فهذا كله مصدر هذا الإجماع، الذي يقدم بشارًا على غيره من الناس.

ونحن الآن آمنون من بشار ومن هجائه، غير متأثرين بما كان يتأثر به المعاصرون له، فنحن أقدر على أن نحكم عليه حكمًا صادقًا، لو أتيح لنا الشرط الأساسي لهذا الحكم، وهو مقدار ضخم من شعره.

على أني أشارك الرجل الواحد الذي استطاع في ذلك العصر ألا يعجب بشعر بشار، وأن يشدد النكير عليه، وهو إسحاق الموصلي، أشاركه، لا في إسرافه؛ فقد تعصب على بشار، كما تعصب غيره لبشار، وأرى بشارًا لم يكن كما ظن القدماء، ذلك الشاعر الذي لا يشق له غبار، وإنما كان شاعرًا كغيره من الشعراء، له الجيد، وله الرديء، وربما قدمت على بشار رجلًا كأبي نواس، أو كالحسين بن الضحاك، غير أني لو أخذت أفصل هذا الحكم، وأستدل عليه، لم أفرغ منه في هذا الفصل، فالخير أن أُرجئ ذلك إلى فصلٍ خاص، في الأسبوع الآتي.

١  نُشرت بالسياسة في ٢٦ رمضان سنة ١٣٤٢ / ٣٠ أبريل سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤