الفصل الثالث والعشرون

شعر بشار١

قلت في الحديث عن بشار: إن القدماء من الأدباء والنقاد وأهل العلم باللغة مجمعون على تقديمه، وإيثاره على غيره من الشعراء الذين عاصروه، وخالفتهم في هذا الرأي، وزعمت أنهم لم يكونوا فيه مخلصين، وإنما تأثروا بمؤثرات كثيرة أشرت إليها، ثم قلت: إني أرى في بشار رأي الرجل الوحيد من القدماء، الذي استطاع أن ينكر ما كان من تقديم بشار، والإسراف في إيثاره، وهو إسحاق بن إبراهيم الموصلي؛ فقد كان إسحاق فيما يظهر شديد الجحود لبشار، غاليًا في السخط عليه، والازدراء له، وكان من النقاد وأهل الأدب من يُحَاجُّه في ذلك، فيظهر عليه.

غير أني لا أوافق إسحاق بن إبراهيم الموصلي فيما اندفع إليه من غلو وإسراف؛ فأنا لا أزعم أن بشارًا لم يكن شيئًا، ولا أزعم أن الجيد في شعره قليل، وإنما أزعم أن بشارًا كان شاعرًا موفور الحظ من الإجادة، ولكنه لم يكن أشعر أهل عصره، وكان من أهل عصره من يجب أن يتقدم عليه كأبي نواس، وهنا أخالف إسحاق بن إبراهيم الموصلي أيضًا؛ فقد كان ازدراؤه لأبي نواس أشد من ازدرائه لبشار، كان لا يعتد بأبي نواس، ولعلنا نتحدث في يومٍ من الأيام عن إسحاق بن إبراهيم، فنحاول أن نتفهم مصدر هذه الآراء الغريبة، التي كان يراها في بشار وأبي نواس وغيرهما من الشعراء، ولكننا اليوم نتحدث عن بشار، فلنحرص على ألا نتجاوزه إلى غيره.

كان إسحاق بن إبراهيم يرى أن بشارًا مختلف الشعر مضطربه، وأن الغث في شعره لا يعدله غث ولا رديء، وكان يقول: إن الذي يقول هذا الشعر لا يمكن أن يكون شاعرًا مجيدًا، وينشد:

إِنما عَظْمُ سُلَيْمَى قَصَبٌ
قَصَبُ السُّكرِ لا عَظمُ الجملْ
فَإِذا أَدْنَيْتَ مِنهَا بَصَلًا
غَلَبَ المِسْكُ عَلَى ريحِ البَصَلْ

وفي الحق أن في هذا الشعر من السخف والفجاجة شيئًا كثيرًا، ولكن أين الشاعر الذي يستطيع أن يبرأ من قول فج، ولفظ سخيف؟ ثم أليس من التحكم بل من السخف أن تزعم أن قائل هذين البيتين لا يمكن أن يجيد الشعر؛ لأنه قال هذين البيتين؟ وأنت تعلم أنه قال شعرًا آخر كثيرًا، منه الذي بلغ من الجودة منزلة رفيعة! فدونك الشاعر وشعره، فاقرأ هذا الشعر وانقده، واحكم على جيده بالجودة، وعلى رديئه بالرداءة، واجتهد في أن تتبين الأسباب التي أتاحت للشاعر أن يجيد، والأسباب التي اضطرته إلى أن يسف، ولا تقل: إن من قال هذا الشعر الرديء لا يستطيع أن يقول جيدًا من الشعر، فلخصمك أن يجيب بأن من قال هذا الشعر الجيد لا يستطيع أن يقول رديئًا من الشعر، وإذا انتهى بكما الحوار إلى هذا الحد، فلستما منتهيين إلى خير، ولا بالغين حجة، وإنما أنتما متعصبان، قد أسرف كل منكما في تعصبه، حتى أصبح انتظار الخير منكما عبثًا، وأصبح من الحق أن تتركا وما أنتما فيه …

نعم! إسراف أن تحكم على الشاعر ببيتٍ أو بيتين، وإسراف أن تحكم له ببيت أو بيتين، بل إسراف أن تحكم للشاعر المكثر أو عليه، بقصيدةٍ أو قصيدتين أو قصائد، بل لا ينبغي أن تسلك هذه السبيل في النقد، فهي عتيقة معوجة، لا تنتهي إلى نتيجة صحيحة ولا مقنعة، ولا سيما في هذا العصر، وإنما السبيل أن تتبين روح الشاعر وشخصيته، وتحكم عليه أو له بما تتبين منهما، ولست أدري أين قرأت أن رجلًا من نوابغ الموسيقى الغربية أراد أن يحكم على شاب موسيقي، فاستمع إليه وهو يوقع، فلما سمعه يوقع ألحانًا مختلفة، قال: الآن عرفت صوت نفسك، كذلك يجب أن نتبين أصوات نفوس الشعراء، لنحكم لهم أو عليهم، وأحسب أن صوت نفس بشار ليس بالرخيم ولا بالرقيق، كما أنه ليس بهذا الصوت الضخم الذي لا يخلو على ضخامته من حلاوة ولين، إنما هو صوت لا حظ له من الحلاوة، ولعله يخيفك أكثر مما يستهويك، ولعله ينفرك أكثر مما يرغبك، ومهما تكن لبشار الأشعار الجياد البارعة؛ فأنا لا أحبه ولا أميل إليه، والغريب أن كل ما حفظ لنا عن بشار لا يحببه إلينا ولا يعطفنا عليه، فهو ثقيل، حتى حين يضحك، وهو ثقيل حتى حين يريد أن يضحكك ويرضيك، وهو مر في جميع مواقفه، يأتي بالنادرة المضحكة فتضحك، ولكنك لا تضحك ضحكًا صريحًا، خاليًا من كل شائبة، وإنما تضحك وأنت مستشعر شيئًا من الألم، محس شيئًا من المرارة، ومصدر ذلك أن هذا الشاعر كان له مزاج حاد، أبغض الناس بغضًا شديدًا فأصبح إليهم بغيضًا، وانقطعت بينه وبينهم صلة المودة والعطف ولم يبقَ بينه وبينهم إلا صلة الخوف والتهيب، يستغلها هو، ويتيحون له هم أن يسرف في استغلالها، ولقد تقرأ أن بشارًا عندما ضربه المهدي الضرب الذي أماته، لم يبقَ شريف من أشراف البصرة إلا تلطف له، وأرسل إليه الهدايا، ثم نقرأ أنه مات وأخرجت جنازته، فلم يتبعها من أهل البصرة أحد، إلا جارية له سوداء، سندية، عجماء، تصيح: وا سيداه! وا سيداه! فأين هؤلاء الأشراف الذين تلطفوا له، واستبقوا إلى إرسال الهدايا إليه قبل أن يموت؟ وما بالهم لم يشيعوه بعد أن مات؟ لم يتلطفوا له حبًّا ولا عطفًا، وإنما تلطفوا له تملقًا وإشفاقًا، فلما أمنوا شره انصرفوا عنه ظاهرًا، كما كانت نفوسهم منصرفة عنه باطنًا، غير أني أخشى أن أُتَّهم بالإسراف في بغض بشار، وتشويه شخصيته، والله يعلم أني ما أحب بشارًا ولا أكرهه، ولا يعنيني أن تكون شخصيته جذابة أو منفرة.

أنا أخشى أن أُتَّهم بالإسراف، فلأجتهد في أن أحملك على أن تشاركني في هذا الرأي الذي أراه، وعلى أن تحس معي أن بشارًا كان بغيضًا، حتى حين كان يتندر، ويريد أن يضحك. قالوا: كان بشار بين يدي المهدي ينشده شعرًا، فدخل يزيد بن منصور الحميري خال المهدي، وكانت فيه غفلة، فلما فرغ بشار من إنشاده أقبل عليه يزيد، وسأله: ما صناعته؟ فأجابه بشار: أثقب اللؤلؤ، ولست أشك في أن جواب بشار بديع مضحك، مفحم أيضًا، ولهذا لم يستطع المهدي أن يمتنع عن الضحك، ولكني لا أشك في أن هذا الجواب قاسٍ، يدل على حدة المزاج، ومرارة الطبع، وغضب المهدي، فشتم بشارًا، أو قل لام بشارًا على أن تندر على خاله، فلم يكن جواب بشار على لوم المهدي أقل شدة من جوابه على سؤال يزيد، إذ أجاب: وماذا أصنع به؟ يرى رجلًا أعمى بين يدي الخليفة ينشده شعرًا، فيسأله ما صناعته.

قالوا: ومر بشار بقاضي البصرة، فسمعه يقول في قصصه: من صام رجبًا وشعبان ورمضان بنى الله له قصرًا في الجنة، صحنه ألف فرسخ في مثلها، وعلوه ألف فرسخ، وكل باب من أبواب بيوته ومقاصيره عشرة فراسخ في مثلها، فالتفت بشار إلى قائده وقال: بئست والله الدار هذه في كانون الثاني! …

وتحدث رجل من أهل البصرة أنه خلا إلى امرأة في علو بيت، وبشار تحته، أو في أسفل البيت، وبشار فوقه، فنهق حمار في الطريق، فأجابه حمار في الجيران، وحمار في الدار، فارتجت الناحية بنهيقها، وضرب الحمار الذي في الدار الأرض برجله، وجعل يدقها بها دقًّا شديدًا، فسمعت بشارًا يقول للمرأة: نُفِخَ — يعلم الله — في الصور، وقامت القيامة، أما تسمعين كيف يدق على أهل القبور، حتى يخرجوا منها؟! ولم يلبث أن فزعت شاة كانت في السطح، فقطعت حبلها، وعدت فألقت طبقًا وغضارة إلى الدار؛ فانكسرا، وتطاير حمام ودجاج كان في الدار لصوت الغضارة، وبكى صبي في الدار، فقال بشار: صح والله الخبر، ونشر أهل القبور من قبورهم، أزفت — يشهد الله — الآزفة، وزلزلت الأرض زلزالها، فقال البصري: فعجبت من كلامه، وغاظني ذلك، فسألت: من المتكلم؟ فقيل لي: بشار، فقلت: قد علمت أنه لا يتكلم بمثل هذا غير بشار …

ومر بشار برجل رمحته بغلة وهو يقول: الحمد لله شكرًا، فقال بشار: استزده يزدك … ومثل هذا ما تحدثوا به من أنه حين ضُرب الضرب الذي مات له، كان كلما أوجعه السوط قال: حَسِّ، وهي كلمة تألم، فقال بعض الحاضرين: انظروا إليه لا يقول: باسم الله، فقال بشار: ويلك! أثريد هو فأسمي عليه؟!

ثم زعموا أن قومًا مروا به يحملون جنازة وهم يسرعون المشي بها، فقال بشار: ما لهم مسرعين؟! أتراهم سرقوه فهم يخافون أن يلحقوا، فيؤخذ منهم؟! … قالوا: وتوفي له ابن، فجزع عليه، فقيل له: أجرٌ قدمته، وفرط افترطته، وذخر أحرزته، فقال: ولد دفنته، وثكل تعجلته، وغيب وعدته فانتظرته، والله لئن لم أجزع للنقص، لا أفرح للزيادة! … وتحدث ابن رزين — وأنا أعتذر من رواية هذا الحديث، ولكنه يمثل بشارًا أصدق تمثيل — قال: أتينا بشارًا، فأذن لنا والمائدة موضوعة بين يديه، فلم يدعُنا إلى طعامه، فلما أكل دعا بطست، فكشف عن سوأته، فبال، ثم حضرت الظهر والعصر، فلم يصلِّ، فدنونا منه، فقلنا: أنت أستاذنا، وقد رأينا منك أشياء أنكرناها، قال: وما هي؟ قلنا: دخلنا والطعام بين يديك، فلم تدعنا إليه، فقال: إنما أذنت لكم أن تأكلوا، ولو لم أرد أن تأكلوا لما أذنت لكم. قال: ثم ماذا؟ قلنا: ودعوت بطست ونحن حضور، فبلت ونحن نراك، فقال: أنا مكفوف، وأنتم بصراء، وأنتم المأمورون بغض الأبصار، ثم قال: ومه؟ قلنا: حضرت الظهر والعصر والمغرب فلم تصلِّ، فقال: إن الذي يقبلها تفاريق يقبلها جملة …

أعتقد أن هذه الأحاديث التي تمثل ابتسام بشار وتندره، وما كان الله قد وهب له من ظرفٍ وخفة روح، لا تعطي من بشار صورة الرجل الظريف، ولا ذي الروح الخفيف، وإنما تعطي منه صورة قاسية، صورة رجل قد كره الناس وازدراهم، ولعله قد كره كل شيء وازدراه؛ فهو لا يحب إلا نفسه، ولا يعجب إلا بنفسه، ولا يترك فرصة تتيح له السخر من الحياة والأحياء إلا انتهزها، ولم يكن في سخريته هينًا ولا رفيقًا، وإنما كان غليظًا فظًّا قاسيًا، ثم إن هذه الأحاديث وما قدمت لك في الفصل الماضي، من أخبار بشار تمثله منافقًا في سيرته، يداري الناس ويتقيهم ليعيش، ثم ينذرهم ويخيفهم لينعم بعيشه، ثم يسخر منهم متى أتيح له ذلك.

وإذن فهو أقل الناس حظًّا من صدق اللهجة والعاطفة، وإذا قرأت شعر بشار فلا ينبغي أن تبحث فيه شعوره وعواطفه، ولا عما يحس أو يؤمل فيما بينه وبين نفسه، وإنما ينبغي أن تبحث فيه عما يريد أن يظهر، أو عما يريد أن يتكلف للناس من العواطف والشعور والميل، ليس شعره شفافًا كشعر أبي نواس، والحسين بن الضحاك، ومطيع، وحماد عجرد، وإنما هو شعر كثيف صفيق، لا يدل من نفس صاحبه على شيء، وهو كاذب دائمًا، لا يحفل بالكذب، ويغضب حين يلفته الناس إليه، إنه كان ضخمًا فاحش الضخامة، قويًّا شديد القوة، ثم لم يستحِ أن يقول:

إنَّ في بُرْدَيَّ جِسْمًا ناحِلًا
لو تَوَكأْتِ عليهِ لانهدمْ

هو إذن ليس بالشاعر المخلص ولا الصادق حين يمدح، ولا حين يتغزل، ولا حين يرثي، ولعله إن صدق إنما يصدق في موضوعين اثنين من شعره: يصدق حين يهجو، لا أريد أنه يصف الناس بما فيهم، ويضع يده على مواضع العيب من أخلاقهم وسيرتهم، وإنما أريد أنه يصدق حين يهجو؛ لأنه يصف نفسه، ويمثل سخطه على الناس، وما يضطره إليه هذا السخط الشديد من ألوان الإسراف والظلم، وضروب الاعتداء، ويصدق حين يذكر نفسه وسوء مكانه من الناس، وبنوعٍ خاص حين يذكر حرمان الذين مدحهم إياه، وبخلهم عليه بما كان ينتظر، هو في هذا الموضوع من شعره صادق، وقد يبلغ التأثير أحيانًا، وما أحسب أنك تخالفني في استحسان هذه الأبيات، وصدق الشاعر فيها، وهي التي قالها حين مدح المهدي، وألح في مدحه، فحرمه المهدي، وألح في حرمانه:

خَلِيلَيَّ إِن العُسْرَ سوف يُفيق
وإِنَّ يَسارًا في غَدٍ لخليقُ
وما كنتُ إِلا كالزَّمانِ إِذا صحا
صحْوتُ وإِن ماق الزمان أَموقُ
أَأَدماءُ لا أَسْطِيع في قِلَّة الثَّرى
خُزوزًا ووشْيًا والقليلُ مَحيقُ
خُذي من يدي ما قلَّ إِن زماننا
شَموسٌ ومعروف الرجالِ رَقيقُ
لقد كنتُ لا أَرضى بأَدنى معيشةٍ
ولا يَشْتكي بخْلًا عَلَيَّ رَفيقُ
خَلِيلَيَّ إِنَّ المال ليس بنافعٍ
إِذا لم ينل منهُ أَخٌ وصديقُ
وكنتُ إِذا ضاقت عَليَّ محَلَّةٌ
تَيَمَّمْتُ أُخْرى مَا عَليَّ تَضِيقُ
وما خابَ بينَ اللهِ والناسِ عاملٌ
لهُ في التُّقَى أَوْ في المحامِد سُوقُ
ولا ضاق فضلُ الله عن متعفِّفٍ
ولكنَّ أَخلاق الرجال تضِيقُ

ألست تحس معي أن الشاعر صادق متأثر، وأن تأثره هذا مؤثر أيضًا! ولا تقل إنه يتكلف الكرم في هذه الأبيات، فلم يكن بشار بخيلًا، ولا محبًّا للبخلاء، وإنما كان كريمًا، لا لأنه يحب الناس، ويعطف عليهم بكرمه وجوده، بل لأنه يزدري المال، كما يزدري الناس، وله أخبار في الكرم لا بأس بها، فقد كان له إخوة ليسوا بالميسورين، فكان يبيحهم ماله، وكانوا يسرفون في الانتفاع بذلك، حتى لقد كانوا يَعْدُون على ثيابه فيلبسونها، وكانوا يتعاطون مهنًا لا ينظف صاحبها، فكانوا يتركون في هذه الثياب روائح لا تطيب، وكان بشار يكره ذلك، ويتبرم به، ولكنه لم يزجر إخوته، وإنما احتمل منهم ذلك.

وزعموا أنه لبس في يومٍ من الأيام ثوبًا من هذه الثياب، وكان أخ له قد ترك فيه رائحة لا تحب، فأنكر بعض الناس ذلك على بشار، فقال: إنما ذلك صلة الرحم! وقد نستطيع أن نذكر من كرم بشار ما كان بينه وبين أبي الشَّمَقْمَق من صلة، فقد كان بشار عوده أن يمنحه مقدارًا من المال في كل عام، وطمع أبو الشمقمق في ذلك، حتى عده دينًا، ولعل كرم بشار على أبي الشمقمق لم يكن بريئًا ولا خالصًا لوجه الله، فقد كان بشار جبانًا كما قلنا، وكان أبو الشمقمق سيئ الهجاء، فكان بشار يخافه، ويتقيه بالمال، وله في ذلك نوادر كثيرة، وتحدث بعض الناس أنه دخل على بشار، فوجد بين يديه دنانير، فقال له بشار: خذ منها ما شئت، وقص عليه قصتها، وهي أن أبياتًا من شعره أعانت شابًّا على حب، فحمل إليه مائة دينار، لم يكن بشار بخيلًا إذن، وهو لا يتكلف الكرم في هذه الأبيات التي قدمناها، وهو صادق حين يشكو، وحين يظهر أنه لا يحتمل ضيق الحياة، فقد كان واسع العيش مترفًا، منعمًا في البصرة، وإنما كان هذا كله يأتيه من الشعر، ومدحه به أشراف الناس، وهجائه به أشراف الناس أيضًا، فيلس غريبًا أن يسوءه حرمان المهدي إياه، وليس غريبًا أن يحزنه هذا الحرمان، فقد كان بشار لنفسه مكبرًا، ولم يكن يهون عليه أن يصغره غيره مهما يكن، ويروون أن الناس قالوا لبشار حين حرمه المهدي: إنه لم يستحسن ما قلت فيه، فأجاب: لا! والله لقد قلت فيه كلامًا لو قيل في الدهر لأمن الناس صرفه، ولكنه كذب وأملى؛ لأني كذبت القول فيه، فانظر إليه كيف أبى أن يفترض إلا أن يكون شعره قد أعجب المهدي، وكيف أكبر نفسه على هذا، فازدرى المهدي، ولام نفسه؛ لأنه مدحه بما ليس فيه!

على أن صدق بشار قليل نادر كما قلنا، وهو إن أخطأه الصدق والإخلاص فلن يخطئه الفن وحسن الصناعة، فهو شاعر يعمل شعره، ولا يصدر الشعر عنه عفوًا، نريد الشعر الجيد، الذي يستحق أن يروى ويبقى، فأما غير ذلك، فقد كان يصدر عن بشار في غير تكلف ولا عناء، وكأن فطنته كانت كهذه الأرض الرخوة، التي امتلأت بالماء، كأنها إسفنجة، يكفي أن تمسها لينبجس منها الماء، ولكن هذا الماء لم يكن عذبًا في كل وقت، فقد كان لا يخلو من مرارة وفجاجة، وربما لم يخلُ من نتن أيضًا، ومن هنا كثر شعر بشار كثرة فاحشة، حتى استطاع بشار نفسه أن يزعم أن شعره الجيد لا يقل عن اثني عشر ألف بيت، وأنه غير مسرف في ذلك؛ لأن له اثني عشر ألف قصيدة، فيجب أن يكون في كل قصيدة بيت جيد، وقد حدثني قوم أن ديوان بشار موجود الآن في تونس، أو في بلد غير تونس، وأن من الأدباء من يعمل لنشره،٢ فإذا كان هذا الخبر صحيحًا فسنستطيع أن ندرس بشارًا ونحكم عليه من كَثَب، وأنا لهذا أحتفظ بحكمي عليه، وأستبيح لنفسي تغيير رأي فيه، إذا ظهر هذا الديوان، وإن كنت أستبعد كل الاستبعاد أن يضطرني ديوان بشار إلى أن أغير رأيي في بشار وشعره، فليس بين يدي من شعره مقدار عظيم، ولكن هذا المقدار القليل الذي أدرسه وأنقده، يكفيني لأتمثله، وأحكم عليه، وسنرى يوم يظهر الديوان؛ أمخطئ أنا أم مصيب.

بين يدي غزل لبشار ليس بالكثير، ولكنه ليس بالقليل أيضًا، وهو سواء أكان قليلًا أم كثيرًا، لا يمثل عاطفة ولا شعورًا صادقًا، وإنما يمثل أمرين اثنين: يمثل تهالكًا على اللذة، وإفحاشًا في هذا التهالك، وافتنانًا فيه أيضًا، دون أن يراقب الشاعر في ذلك خلقًا أو أدبًا أو دينًا، ويكفي أن تعلم أن علماء البصرة من أهل الدين والوعظ والكلام، ومن بينهم واصل بن عطاء والحسن البصري ومالك بن دينار جميعًا، قد هتفوا به، وشكَوْه بعد أن وعظوه ونصحوا له، ويمثل رغبة في الفساد وإذاعة السوء، فلم يكن بشار يكتفي بأن يكون من أصحاب اللذة المتهالكين عليها، ولهذا كان يتخير إذا تغزل أيسر الألفاظ والأساليب، وأدناها وأشدها شيوعًا في النساء وفتيات الهوى، كأنه كان يريد أن يفهمه النساء والفتيات، وأن يتأثرن به، والغريب أنك لا تجد بشارًا يسف في اللفظ إذا مدح أو تعرض لفن من فنون الشعر، إلا الغزل والهجاء، وهذا واضح، فهو إذا تغزل أراد أن يفهمه النساء، وأن يكون شعره ذائعًا، يتناقله الشبان وأهل الخلاعة، وهو إذا هجا فقد كان يريد أن يؤذي من يهجو، وإنما يؤذيه إذا كان فاحشًا مقذعًا، وكان مع ذلك سهلًا يمكن فهمه وروايته، ولست أشك في أن المهدي لم يكن جائرًا ولا مسرفًا حين نهى بشارًا عن الغزل، وحين أنذره بالموت إن عاد إليه، ويكفي أن أروي لك هذه القصيدة التي غضب لها المهدي، لتعلم أن غزل بشار لم يكن من الجودة والطهر بحيث يؤسف عليه:

قد لامنِي في خَليلتي عُمَرُ
واللوم في غير كُنْهه ضَجَرُ
قالَ: أَفق، قلت: لا، فقال: بلى
قد شاع في الناس منكما الخبَرُ
قلت: وإِذْ شاع ما اعتذارُكَ مِمَّـ
ـا ليس لي فيه عندَهم عُذُرُ
ماذا عليهم! وما لهم خَرِسوا
لو أَنهم في عيوبهم نظروا
أَعْشَقُ وحدِي ويؤخذون بهِ
كالتُّرْكِ تغزو فتؤخذُ الخَزَرُ
يَا عَجَبا للخلاف يَا عَجَبَا
بِفِي الَّذِي لام في الْهَوَى الحَجَرُ
حَسْبي وحَسْبُ الذِي كَلِفتُ به
مني ومنهُ الحَديثُ والنَّظَرُ
أَو قبلةٌ في خِلال ذاك وما
بأس إِذا … … … …
أَو عَضَّة في ذِراعها ولها
فوق ذِراعي من عضِّها أَثَرُ
أَو لَمسةٌ دُون مِرْطِها بيدي
والْبابُ قد حال دُونه السُّتُرُ
والسَّاقُ بَرَّاقة مُخَلْخَلُها
أَوْ مص ريق وقد علا البُهُرُ
واسترختِ الكف للعرَاك وقا
لت: إِيهِ عَني والدَّمْعُ مُنْحَدِرُ
انْهَضْ: فما أَنتَ كالذي زعموا
أَنتَ وربي مُغازِلٌ أَشِرُ
قد غابَت اليوم عَنْك حاضِنَتِي
واللهُ لي منك فِيكَ يَنْتَصِرُ
يَا رَبِّ خُذ لِي فقد ترى ضرَعِي
مِنْ فاسق جاءَ ما به سُكُرُ
أَهْوَى إِلَى مِعْضَدِي فَرَضَّضَهُ
ذُو قُوَّةٍ ما يطاق مُقْتَدِرُ
أَلَصَق بِي لِحْيَةً له خَشُنَتْ
ذَاتَ سوادٍ كأَنَّها الإِبَرُ
أُقْسِمُ باللهِ لا نَجوتَ بها
فاذْهَبْ فَأَنْتَ المُسَاوِرُ الظَّفِرُ
كيفَ بأمِّي إِذا رأَت شفَتِي
أَم كيفَ إِن شاع مِنكَ ذَا الْخَبَرُ
قد كنتُ أَخشى الذي ابتليتُ به
منك، فماذا أَقول يَا عِبرُ
قلتُ لها عند ذاكَ: يَا سَكني
لا بأس، إِني مجرِّبٌ خَبِرُ
قولي لها: بَقَّةٌ لها ظُفُرٌ
إِنْ كانَ في البَقِّ ما لهُ ظُفُرُ

روي شيء من هذه القصيدة لمطيع، ولكن هذا من خطأ الرواة، وأنت تقرأ هذه القصيدة، فإذا أولها جيد متين مستقيم، لا نكير فيه، ولكن الشاعر لا يكاد يبدأ هذه القصيدة الخليعة، حتى يفحش، لا في اللفظ، فليس في اللفظ فحش كثير، بل في المعنى، فالمعنى كله فحش، ولست أريد أن ألفتك إلا إلى بيتين اثنين من هذه القصيدة؛ أحدهما يبين مهارة بشار في محاكاة النساء، أو نوع من النساء حين يتفجعن في تهالكٍ ولذة، وهي قوله:

قدْ كُنْتُ أَخْشَى الَّذِي ابْتُلِيتُ بِه
مِنْكَ، فَماذَا أَقولُ يَا عبر

وانظر إلى قوله: «يا عبر.» والآخر يمثل النفس الفاتكة الشيطانية التي تعبث بالناس، وتسخر منهم في عنفٍ وقسوة، وأنا أعتقد أن نفس بشار وخلقه وقلبه، كل هذا مختصر في هذا البيت:

قُولِي لها بَقَّة لَها ظُفُرٌ
إِن كانَ في البقِّ ما له ظُفر

ولست أروي لك غير هذه القصيدة من خلاعة بشار، فهي تكفي، وأظن أنها تقوم عذرًا للمهدي في نهيه بشارًا عن ذكر النساء، وللوعاظ وللعلماء في سعيهم ببشار إلى السلطان، ولا سيما أن أمر بشار لم يكن قد وقف عند قول هذا الكلام الفاحش وإذاعته، وإنما كان النساء يترددن إليه ويشاركنه في اللهو، وكان هو يطلب إليهن المواعيد، فمنهن من كانت تسايره صادقة وفية، ومنهن من كانت تعبث به عبثًا منكرًا، وأخبار ذلك في الأغاني كثيرة، وهي لا تشرف بشارًا، ولا تدل على أنه كان يكرم نفسه، ويتأدب بالآداب التي كانت تفرضها عليه آفته، وأقلها الحياء والوقار، ولكنه كان فاجرًا مفطورًا على الفجور.

هل أحب بشار حبًّا صادقًا؟ هذا سؤال أحاول أن ألتمس الجواب عليه في شعر بشار، فلا أجد إلى ذلك سبيلًا، فقد قلت لك: إن شعره كثيف صفيق، لا يدل على عاطفة، وإن الكذب فيه كثير، والتكلف فيه لا حد له، أريد تكلف المعاني، وأنا أعلم أن بشارًا مشغوف بعبدة، وقال فيها شعرًا كثيرًا جدًّا، تغنى فيه المغنون، وأعلم أن عبدة، مالت إليه، وكان بينها وبينه مودة، ولكني أقرأ ما بقي لنا من شعر بشار في عبدة فلا أجد فيه شيئًا يمثل الحب الصادق القوي حقًّا، وقد أقرأ هذه الأبيات فأعجب، بها وأتأثر لها وأحسب الشاعر صادقًا، ولكني لا ألبث أن أضحك؛ لأني أعلم أن الشاعر كاذب، وأن صاحبته تعلم منه هذا الكذب، وما أشك في أنها كانت تضحك منه أيضًا، وتقبله لجودته الفنية ليس غير، وهذه الأبيات مشهورة يحفظها الناس جميعًا لبشار وهي:

لَم يَطُلْ لَيْلِي ولكِنْ لمْ أَنَمْ
ونَفَى عَنِّي الْكَرَى طَيْفٌ أَلَمْ
رَفِّهِي يَا عَبْدَ عَنِّي واعْلَمِي
أَنَّنِي يَا عَبْدَ مِنْ لَحْم وَدَمْ
إِنَّ فِي بُرْدَيَّ جِسْمًا ناحِلًا
لَوْ تَوَكَّأَتِ عَلَيْهِ لانْهَدَمْ
وَإِذَا قُلْتُ لَهَا جُودِي لَنَا
خَرجتْ بِالصَّمْتِ عَنْ لا ونَعَمْ

ولولا هذا البيت الثالث وما نعلم من ضخامة بشار، لخدعنا الرجل عن نفسه، فصدقناه، وخيل إلينا أنه كان لحب عبدة لا ينام، ولكن من يدرينا أنه لم يكن ينام أهدأ النوم وألذه، ثم يزعم السهر والأرق، كما كان يزعم النحافة والنحول!

وله أبيات زعموا أن الوليد بن يزيد بكى لها، وهي لا تخلو من جودة، وأنا أرويها؛ لأن قصتها لا تخلو من عجب:

أَيُّها السَّاقِيَانِ صُبَّا شَرَابِي
وَاسْقِيانِي مِنْ رِيق بَيْضَاءَ رُودِ
إِنَّ دَائِي الظَّمَا وَإِنَّ دَوَائي
شَرْبَةٌ منْ رُضَابِ ثغْر بَرُودِ
وَلَهَا مَضْحَك كَغُر الأَقاحِي
وَحَدِيثٌ كالْوَشْي وَشْي الْبرودِ
نزلَتْ في السواد من حبَّة الْقلـ
ـب ونالت زيادة المستزيدِ
ثم قالت: نلقاك بعد ليالٍ
والليالي يُبْلِينَ كلَّ جديدِ
عندها الصبرُ عن لقائي، وعندي
زَفَرَاتٌ يأْكلن قلْبَ الحَديدِ

قالوا: فطرب الوليد وقال: من لي بمزاج كأسي هذه من ريق سلمى، فيروي ظمئي، وتطفأ غُلَّتي، ثم بكى حتى مزج كأسه بدمه، وقال: إن فاتنا ذاك فهذا.

في هذا الشعر متانة وجودة ورقة، ولكني لا أحب أوله، وربما استسخفته، ولست أدري كيف يستطيع الساقيان أن يسقيا بشارًا من ريق صاحبته! … وأحسب أن هذه ليست صناعة السقاة، وإذا كانت هذه القصة صحيحة، فهي إنما تمثل رقة هذا الشاعر، الذي أحبه وأعطف عليه، وهو الوليد بن يزيد، الذي فاته ريق سلمى، فمزج كأسه بالدمع، يسفحه البكاء عليها.

ولنترك غزل بشار، وننتقل إلى شيءٍ آخر من فنون شعره، ولكن في إيجاز فقد أطلنا.

لبشار قصيدتان اشتهرتا بين الرواة اشتهارًا عظيمًا، إحداهما ميمية، قدمها أبو عبيدة على ميميات جرير والفرزدق، وفتن بها الأصمعي، وتناقلها أهل بغداد، وأعجبوا بها إعجابًا عظيمًا، ولهذه القصيدة قصة، تمثل لنا نفس بشار أيضًا، قالها لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن يمدحه بها، ويحرضه فيها على المنصور، ويهجو فيها المنصور، فلما قمعت ثورة إبراهيم وقتل، خاف بشار، فحول القصيدة، كأنه لم يمدح بها إبراهيم، ولم يهجُ بها المنصور، وكأنه هجا بها أبا مسلم الخرساني، فوضع أبا مسلم موضع أبي جعفر، وحذف من أبيات القصيدة ما لم يكن سبيل إلى تحويله، وهي:

أَبا جَعفرٍ ما طولُ عيش بدائمِ
ولا سالمٌ عما قليل بسالمِ
على الملك الجبَّار يَقْتَحِمُ الرَّدَى
ويَصْرَعُه في المأزق المُتَلاحِمِ
كأَنَّكَ لم تسمعْ بقتلِ مُتَوَّجٍ
عظيمٍ، ولم تسمع بفَتْك الأَعاجِمِ
تَقَسَّمَ كِسْرَى رَهْطُهُ بِسُيُوفِهِمْ
وأَمسَى أَبو العبَّاسِ أَحْلَامَ نائمِ
وقد كان لا يَخْشَى انقلابَ مَكِيدَةٍ
عليه، ولا جَرْي النحوسِ الأَشائمِ
مُقِيمًا عَلَى اللذَّاتِ حتى بَدَتْ له
وجوهُ المنايا حاسراتِ العمائمِ
وقد تَرِدُ الأَيَّامُ غُرًّا وربَّمَا
وردن كُلُوحًا باديات الشكائمِ
ومروانُ قد دارت على رأْسه الرَّحَى
وكان لِما أَجرمْتَ نزرَ الجرائمِ
فَأَصْبَحْتَ تجري سادِرًا في طريقهم
ولا تَتَّقِي أَشْبَاهَ تلكَ النقائمِ
تجرَّدْتَ للإِسلامِ تعفو سبيلَه
وتُعري مَطَاه للُّيوث الضَّرَاغِمِ
فما زِلْتَ حتَّى استنصَرَ الدَّينُ أَهلَهُ
عليكَ فعاذُوا بالسيوفِ الصوارمِ
فرُمْ وَزَرًا يُنْجِيكَ يا بْنَ سَلامَةٍ
فلستَ بناجٍ من مَضِيمٍ وضَائِمِ
لَحَى اللهُ قومًا رَأَّسوكَ عليهم
ومَا زِلتَ مرءوسًا خبيثَ المطاعمِ
أَقُومُ لبسَّام عليه جَلالَةٌ
غَدا أَرْيحيًّا عاشقًا للمكارمِ
من الفاطِمِيِّين الدُّعاة إلَى الهدى
جِهارًا ومن يهديك مثلُ ابن فاطم
سِرَاجٌ لعَينِ المستضيء وتارةً
يكونُ ظلامًا للعدو المُزَاحِمِ
إِذا بلغَ الرأْيُ المشورةَ فاستعِنْ
برأْي نصيحٍ أَو نصيحةِ حازمِ
ولا تجعل الشُّورَى عليك غَضَاضَةً
فريشُ الخَوافِي قُوَّةً للقوادِمِ
وما خيرُ كفٍّ أَمسك الغُلُّ أُخْتها
وما خيرُ سيفٍ لم يؤيَّدْ بقائِم
وخَلِّ الْهُوَينى للضعيفِ ولا تكُنْ
نَئُومًا فإِنَّ الحَزْمَ ليس بنائمِ
وحاربْ إذا لم تُعْطَ إلَّا ظُلامَةً
شَبَا الْحَرْب خيرٌ من قَبُول المظالِم

القصيدة جيدة، ولعلها من أجود ما قال بشار، وهو صادق العاطفة فيها، والناس صادقون حين استحسنوها، هو صادق لأنه كان يكره بني العباس كرهًا شديدًا، ويؤثر بني علي إيثارًا شديدًا، ولم يكن يكره بني أمية، ولعله آسف على دولتهم، فليس عجيبًا أن يفرح لثورة العلويين، ويغريهم بالعباسيين في هذه الأبيات المضطرمة المتأججة، وكان هؤلاء العلماء الذين أحبوا هذه القصيدة متشيعين أيضًا، كعامة أهل العراق، يظهرون لبني العباس غير ما يضمرون، ثم كان الناس جيمعًا ينقمون من بني العباس ظلمًا واستبدادا بالأمر، وازدراء للزعماء من العرب، ومن الموالي أيضًا، فليس عجبًا أن يحبوا شعر بشار وأبياته في الشورى، فهذا الحب وهذا الإعجاب يمثلان قبل كل شيء ما تضمر الشعوب للملوك المبغَّضين إليها، على أن صدق بشار ليس وحده الذي يحلي هذه القصيدة، فلفظها متين كما ترى، ومعانيها جياد، وإن كانت ليست من العمق والندرة بحيث تكفل البقاء لقصيدة من القصائد، ولكن فيها قوة غير مألوفة.

أما القصيدة الأخرى فهي البائية التي مدح بها ابن هبيرة، وقال فيها:

إِذَا المَلِكُ الجبارُ صعَّر خدَّه
مشينا إِليه بالسيوف نعاتبُه

وفيها هذا البيت المشهور، الذي أعجب به الناس إعجابًا شديدًا واستكثروه على شاعرٍ ضرير، وهو:

كأَنَّ مُثارَ النَّقْعِ فوقَ رُءُوسِنا
وأَسْيافَنَا ليلٌ تَهَاوَى كواكِبُهْ

وليس البيت كثيرًا على بشار، فبشار نفسه ينبئنا بأنه قلد فيه قول امرئ القيس:

كأَنَّ قلوبَ الطيرِ رَطْبًا ويابِسًا
لَدى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشْفُ الْبالِي

فأما تشبيه السيوف بالكواكب، وتشبيه مثار النقع بالليل، فشيء مألوف تحدث عنه الشعراء كثيرًا، وليس لبشار فيه إلا هذه الصورة الشعرية، التي لم يخترعها كلها، وإنما تأثر فيها شاعرًا قديمًا كما ترى.

وجملة القول في بشار أنه كان شاعرًا غزير المادة جدًّا، ولكن الجيد في هذه المادة لم يكن صادقًا في شعره ولا مخلصًا، وإنما كان يتكلف المعاني في أكثر الأوقات، وكان يتكلف الألفاظ والأوصاف أيضًا، ولم يكن محببًا ولا جذابًا، ولا لينًا رقيق الطبع والحاشية، وإنما كان قويًّا جبارًا، مبغضًا إلى الناس، مبغضًا لهم، وإذا أردت أن تعرف الفن الذي برع فيه بشار حقًّا؛ فهو فن الهجاء، وقد عللنا هذا، وفي الحق أنه قتل الهجاء، وأن الهجاء قتله أيضًا، فقد كان فاسقًا، بل كان زنديقًا، ولم ينفعه تستره ولا تكتمه، ولكن الزندقة لم تقتله، وإنما اتخذت وسيلة إلى قتله، والذي قتله إنما هو هجاؤه للمهدي بشعر لا أستطيع أن أرويه لك، وهجاؤه ليعقوب بن داود وزير المهدي، ولأخيه صالح بن داود، قال الرواة: إن بشارًا وَجَدَ على المهدي وَجْدًا شديدًا حين حرمه، وأعطى غيره من الشعراء، فذهب ذات يوم إلى حلقة يونس بن حبيب النحوي، فسأل هل هنا من يحتشم؟ فقيل: لا؛ فأنشد بيتين شنيعين في المهدي، لم يلبث يونس وأصحابه أن حملوهما إلى يعقوب، ولم يلبث هذا أن حملهما إلى المهدي في تحفظٍ وتملق وإغراء، قالوا: فغضب المهدي غضبًا شديدًا، وقال له يعقوب: إنه زنديق، قد قامت عندي البينة عليه، فأمر المهدي أن يضرب ضرب التلف، فضرب سبعين سوطًا مات لها. قالوا: وقد وجد في بيته طومار أثبت للمهدي أنه لم يكن زنديقًا ولا كافرًا، فندم المهدي لقتله، وسواء أصح هذا الخبر أم لم يصح، فالهجاء وحده هو الذي قتل هذا الشاعر، ولم يكن من الميسور أن تترك الحرية والحياة لشاعر كبشار، يعلن في المجامع العامة مثل ما كان يعلن عن الخلفاء ووزراء الخلفاء.

١  نُشرت بالسياسة في ١٧ رمضان سنة ١٣٤٢ / ١٢ أبريل ١٩٢٤.
٢  يطبع الآن في القاهرة وقد طبع منه الجزء الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤