الفصل الرابع والعشرون

والبة بن الحباب وأبان بن عبد الحميد١

كنت أريد أن أحدثك عن شاعرٍ لا أشك في أنه كان أبعد الشعراء أثرًا في عصره، ولا شك في أنه كان من أنبههم ذكرًا، ولا أشك في أنه كان من أشدهم إمعانًا في المجون، وإسرافًا في الفسق والفجور، وهو والبة بن الحباب، ولكني مع الأسف لا أستطيع أن أحدثك عنه بشيءٍ ذي غناء؛ لأن الله لم يقدر لشعره البقاء، ولا لأخباره وسيرته أن يتناقلها الرواة، فذهبت حياته كما ذهب أدبه، دون أن تكون لنا إلى درسهما سبيل، إلا أن تكشف الأيام في خزانة من خزائن الكتب عن سفر من الأسفار، فيه طرف من أخبار هذا الرجل وأشعاره.

ونحن مضطرون إلى أن نُعْرِضَ عن درسه الآن، ونكتفي بتسجيل اسمه بين أسماء هذا النفر من الشعراء العابثين، الذين ندرسهم في هذه الفصول، نسجل اسمه بين أسماء هذا النفر؛ لأننا واثقون بأنه قد كان منهم، ومن زعمائهم، بل كان أستاذًا من أساتذتهم في القول والعمل أيضًا، فقد كان والبة بن الحباب أستاذًا لأبي نواس، تولى تأديبه وتعليمه ألوان الشعر والمجون، ولما يتجاوز أبو نواس سن الغلمان، ويظهر أنه قد كانت بين الأستاذ وتلميذه عشرة سيئة، لم يتحرج من روايتها أبو الفرج، ولم يتحرج من روايتها أبو نواس نفسه، ولعل والبة هو الذي مهد لأبي نواس هذه السبيل المنكرة، التي سلكها طول حياته، فجعلته مبغضًا، وجعلته محببًا إلى الناس، جعلته مبغضًا لسوء سيرته، وجعلته محببًا لحسن شعره، وشدة ظرفه، وتقدمه في الأدب إلى حدٍّ لم يبلغه كثير من معاصريه.

كان والبة بن الحباب هذا عربيًّا صميمًا، من بني أسد، وكنا نود لهذا السبب نفسه أن تكثر لدينا أخباره وأشعاره، لنعرف كيف كان بلاء العرب الصريحين في الزندقة والمجون، وهذا اللون من ألوان العبث، فلم أحدثك إلى الآن بعد الوليد بن يزيد إلا عن الموالي، أو من يشك في عربيتهم، أما والبة فلم يكن مولى، ولم يكن نسبه موضع شك، ومع ذلك فنحن مضطرون إلى أن نكتفي بهذه الأخبار القصيرة المبتورة التي نقلها إلينا أبو الفرج عن والبة، وهذه الأخبار لا تمثل لنا والبة أقل فجورًا وعبثًا من أبي نواس، ولا من مطيع، ولا من حماد، وربما كان أشد منهم صراحة في القول، وإسرافًا في الفحش، فالناس يتحدثون أن المهدي أو الرشيد كره لقاءه ومنادمته، لبيتين قالهما، فجعل منادمته شرًّا على كل نديم، أما شعره فلا نستطيع أن نحكم عليه؛ لأنا لا نحفظ منه إلا أبياتًا، ولكن أبا الفرج يحدثنا أنه كان بارعًا في وصف الخمر وما يتصل من العبث والغزل والمجون، وإذا ذكرنا الغزل، فإنما نذكر الغزل بالغلمان، ويحدثنا أنه لم يبرع في غير هذا الفن من فنون الشعر، وأنه حاول أن يهاجي أبا العتاهية، فلم يستطع أن ينال منه شيئًا، بل لم يستطع أن يثبت في بغداد، وإنما اضطر إلى أن ينصرف عنها هاربًا أو كالهارب.

فلندع والبة إذن، ولننصرف إلى غيره من شعراء هذا العصر، وإلى من ننصرف؟ ننصرف إلى أبان بن عبد الحميد اللاحقي؛ فهو خليق أن نقف عنده حينًا، لا لأنه يمكن أن يقرن إلى بشار، أو إلى مطيع، أو إلى أبي نواس، فهو أقصر باعًا، وأضيق ذرعًا من أن يثبت لرجلٍ من هؤلاء في الشعر وقوته، واختلاف فنونه، وحسن لفظه، ورقة معانيه، وصدق لهجته، لا يستطيع أبان أن يثبت لواحدٍ من هؤلاء في هذه الخلال، ولكنه مع ذلك يستطيع أن يثبت لهم في خلال أخرى، ويفوقهم في بعضها، وله نواحٍ تستحق العناية، وتدعو إلى التفكير.

لم يكن خفيف الظل، ولا محببًا إلى الناس، وإنما كان فيه شيء من الثقل ينفر منه، ويصرف عنه، وكان الذين يحبونه قليلين، ولن يكون حظه من حبنا نحن بأوفر من حظه من حب معاصريه، قلنا: إنه يثبت لهؤلاء الشعراء في خلالٍ غير التي ذكرناها، يثبت لهم في الزندقة، فلم يكن أقل منهم عبثًا ولا مجونًا، أو قل: لعله كان أقل منهم عبثًا ومجونًا في اللفظ، ولكن سيرته لم تكن أقل من سيرتهم، ولعل ضميره كان أقبح من ضمائرهم، ولعله من أولئك الزنادقة الذين كانوا زنادقة حقًّا، والذين كانوا يكفرون عن يقين وعقيدة، لا عن شك أو رغبة في اللذة، والذين كانوا يتخذون لحياتهم العامة قاعدة، تؤلف شخصيتهم من رجلين مختلفين، أحدهما يكره العرب ودينهم، ويزدريهم ويزدري دينهم، ويضمر لهم ولدينهم حقدًا شديدًا، والآخر يظهر الإسلام ويتكلفه، ويتمدح به، ويحرص على أن يحسن رأي الناس فيه، من هذه الناحية هو قريب من بشار، ولكن بشارًا غلبت عليه صناعة الشعر وعبثه، فكان إلى العبث اللفظي، وكان إلى اللذة والهوى أقرب منه إلى هذا الكفر والجحود، يقومان على عقيدة ثابتة، وعلى رأي سياسي بعينه.

كان أبان يكره العرب ويزدريهم، ولكنه كان في الوقت نفسه يتملقهم ويتقرب إليهم، ويستفيد من هذا الخلاف الذي شجر بينهم، لينعم على حسابهم بالحياة ولذتها، كان فارسيًّا قبل كل شيء، يريد أن يثأر للفرس، ويعيد سلطانهم إلى الأرض، ولكنه لم يكن محمقًا ولا قصير النظر، بل كان يعلم حق العلم أن ذلك غير ميسور في العصر الذي كان يعيش فيه من طريق مباشرة، كما يقول أهل هذا العصر، كان يعلم حق العلم أن لا سبيل إلى أن يزول سلطان العرب، ويقوم مكانه سلطان فارسي، فلم يكن يطمع في ذلك، ولا يسمو إليه، وكان يعلم أن هناك وسيلة أبلغ في الانتقام للفرس، ورد السلطان الفعلي إليهم، إذا أخطأهم السلطان الشرعي واللفظي، وهي التقرب إلى الخلفاء، وأخذهم من مواضع الضعف، والسيطرة عليهم، حتى يترك الخلفاء لهم تدبير الأمور، ويعتمدوا عليهم في ذلك، فيتركوا السلطان الفعلي للفرس، ويحتفظوا لأنفسهم بظاهر القوة، واسمها ومقامها العالي، وكان هذا المذهب هو المذهب الوحيد المعقول في ذلك العصر، بعد أن أخفقت تجربة أبي مسلم، ولم تنتج لصاحبها إلا الموت، ولا لحزبه إلا الشر كله، وكان زعماء هذا المذهب من الفرس هم البرامكة، الذين فطنوا للأمر فطنة حسنة، فأحسنوا العمل والتدبير، وتصرفوا تصرف الماهر ذي الحيلة الواسعة، والأمل البعيد، يسعى إليه في رفقٍ وثبات، حتى بلغوا من ذلك ما أرادوا، ثم أصابهم من الغرور والعجلة ما أفقدهم الرفق وحسن الحيلة، فتعرضوا لنفس ما تعرض له أبو مسلم، وأصابتهم تلك النكبة، التي كانت أعظم وقعًا، وأبعد أثرًا من نكبة أبي مسلم، وكان أبان صديقًا للبرامكة، مُتصلًا بهم أشد اتصال، يستشيرونه، ويعتمدون عليه في تدبير أمورهم، جدها وهزلها، صعبها وهينها، وكانوا قد اتخذوه أديبهم الرسمي، وبالغوا في ذلك، حتى جعلوا إليه امتحان الشعراء، وتقدير ما يستحقون من الجوائز والصلات، فغضب الشعراء لذلك، وكان أشدهم غضبًا أبو نواس، الذي كان يكره البرامكة كرهًا شديدًا، كما قلت لك، حينما كنت أدرس أبا نواس، غضب الشعراء وغضب أبو نواس خاصة، وكانت بينه وبين أبان مهاجاة، تستحق أن نقف عندها حينًا؛ لأنها تظهر لنا دين أبان ومذهبه، ولا سيما أن أبانًا قد عجز عن أن يرد على أبي نواس بنحو ما هجاه أبو نواس، فقد هجاه أبو نواس، فاتهمه بالكفر والزندقة، اتهامًا صريحًا منكرًا، لا يخلو من فحش، ولم يستطع أبان أن يرد على خصمه من هذه الناحية، فرد رد الضعفاء، فشتم أبَا نواس، وناله في أمه وأبيه … ولكن هذا الشتم لا يدفع تهمة، ولا يعفي من إثم، وإليك القصيدة التي قالها أبو نواس يهجو بها أبان بن عبد الحميد، وهي تمثل رأي أبان حقًّا:

شهِدْتُ يومًا أَبانًا
لا دَرَّ دَرُّ أَبانِ
ونحنُ حُضْرٌ رِواقَ الـْ
أَميرِ بالنَّهْرَوَانِ
حتى إذا ما صلاةُ الـْ
أُولى دَنَتْ لِأَوانِ
فقَامَ مُنْذِرُ رَبِّي
بالبِرِّ والإِحْسَانِ
وكُلَّما قالَ قُلْنا
إِلى انْقِضَاء الأَذَانِ
فَقَال: كَيفَ شَهِدْتُمْ
بِذَا بِغَيْرِ عِيانِ
لَا أَشْهَدُ الدَّهرَ حتَّى
تُعَاين الْعَيْنانِ
فَقُلْتُ: سُبحانَ رَبِّي!
فقال: سُبحانَ ماني!
فَقُلْتُ: عِيسَى رَسُولٌ
فَقَال: مِنْ شَيْطَان
فَقُلْتُ: مُوسَى نَجِيُّ الـْ
ـمُهَيمن المنَّانِ
فَقَالَ: رَبُّكَ ذُو مُقـْ
ـلَةٍ إِذَن وَلِسَانِ
أَنَفْسُهُ خَلَفَتْهُ
أَمْ منْ؟ فَقُمْتُ مَكَانِي
وَقُلْتُ رَبِّيَ ذُو رحـْ
ـمة وذُو غُفْرَانِ
وَقُمْتُ أَسْحَبُ ذَيْلِي
عَنْ هَازِلٍ بالْقُرَانِ
عَنْ كافِرٍ يَتَمَرَّى
بالكُفْرِ بالرَّحْمنِ
يُرِيدُ أَنْ يَتَسَاوَى
بالعُصْبَةِ المُجَّانِ
بِعَجْرَد وعُبادٍ
والوَالبيِّ الهِجَانِ
وَابْنُ الإِياسِ الَّذِي نَا
حَ نَخْلَتيْ حُلْوَانِ
وابْنِ الْخَلِيعِ عَلى ريـ
ـحانةِ النُّدْمَانِ
إِنِّي وَأَنْتَ … …
… … … … …

فهذه القصيدة تمثل لا رأي أبان وحده، بل تمثل أيضًا رأي هذه الطائفة من الفرس، الذين أظهروا الإسلام دينًا، ورفضوا فيما بينهم وبين أنفسهم، ورفضوا معه المسيحية واليهودية أيضًا، وأبوا أن يؤمنوا إلا بما هو فارسي؛ لأنهم اتخذوا ذلك سياسة ومذهبًا في السياسة، ثم هي تمثل في الوقت نفسه رأي أبي نواس في أبان من الوجهة الأدبية، فهو يكره أن يقرنه إلى مطيع، وحماد، والحسين بن الضحاك الخليع، ووالبة بن الحباب، وفي الحق أنه لا يقرن إلى هؤلاء من الوجهة الأدبية كما قلنا، ولكنه يفوتهم في الزندقة والإلحاد؛ لأنه كان يتخذ الكفر رأيًا، لا وسيلة إلى اللذة، ولست أروي لك رد أبان على أبي نواس، فهو فحش كله، وتستطيع أن ترجع إليه في الأغاني إن شئت، على أنه لا يدفع حجة، ولا يبرئ من تهمة، وانظر إلى هذه الأبيات التي قالها أبو نواس في هجاء أبان، دون أن يعرض لدينه أو رأيه، وإنما أراد أن يجزي شتمًا بشتم، وسبًّا بسب، ولست أرويها كلها، وإنما أترك منها ما فيه فحش:

صَحَّفَتْ أُمك إِذْ سَمـْ
ـمَتْكَ فِي الْمَهْدِ أَبَانَا
صَيَّرَتْ باءً مَكانَ التـْ
ـتَاءِ تَصْحيفًا عِيَانَا
قَدْ عَلِمْنَا مَا أَرادَتْ
لَمْ تُرِدْ إِلَّا أَتَانَا
… … … … …
… … … … …

على أن من الخير أن أعطيك من أبان صورته التي أعطاها هو من نفسه حين أراد أن يتصل بالبرامكة، فكتب إليهم هذه القصيدة، وستقرؤها فترى أن الرجل معجبٌ بنفسه، مُدلٌّ بعلمه وأدبه، تيَّاه لا حدَّ لتيهه وغروره، وهي:

أَنَا مِنْ بُغْيَة الأَمينِ وكَنْزٌ
مِنْ كُنُوزِ الْأَمير ذُو أَرْبَاحِ
كاتِبٌ، حاسِبٌ، خطيب، أَديبٌ
ناصحٌ، راجحٌ على النُّصَّاحِ
شاعِرٌ مُفْلِق أَخَفُّ مِنَ الرِّيـ
ـشَةِ مما يَكُون تَحْتَ الْجنَاحِ
لِي فِي النحوِ فِطْنَةٌ وَاتقَادٌ
… … … … …
ثم أَرْوَى مِن ابن سِيرينَ للعلـ
ـم بقولٍ مُنَوِّرِ الإِفْصَاحِ
ثم أَرْوَى مِنَ ابْنِ سِيرينَ للشعـ
ـرِ وقولِ النَّسِيبِ والْأَمْدَاحِ
وَظرِيفُ الحديث مِنْ كلِّ فَنٍّ
وبَصيرٌ بتُرَّهَاتِ الْملَاحِ
كمْ وكَمْ قَدْ خبأتُ عندِي حديثًا
هُوَ عندَ الملوك كالتُّفَّاحِ
فبمثلي تخلو الملوك وتلهو
وتناجِي في المشكل الفَدَّاحِ
أَيْمَنُ الناسِ طائرًا يومَ صيدٍ
لغدُوٍّ دعِيتُ أَوْ لِرواحِ
أَبصَرُ الناسِ بالجوارح والخَيـْ
ـل وبالخُرَّدِ الحِسَان الصِّبَاحِ
كل ذا قَدْ جَمَعْتُ والحمد للهِ
عَلَى أَننِي ظَرِيفُ المُزَاجِ
لَسْتُ بالناسِك المُشَمِّر ثَوْبيـْ
ـه ولا الماجِنِ الخَليعِ الوقَاحِ
لَوْ رَمَى بي الْأَمير — أَصْلَحَهُ الله
رِمَاحًا ثَلَمْتُ حَدَّ الرِّماحِ
ما أَنَا واهِنٌ ولا مُسْتكِينٌ
لِسِوَى أَمرِ سيِّدِي ذِي السَّماحِ
لَستُ بالضَّخْمِ يا أَميرُ ولا القَزْ
مِ وَلَا بِالمُجَحْدَرِ الدَّحْدَاحِ
لِحيةٌ جَعْدَة ووجه صَبيحٌ
واتِّقَادٌ كَشُعْلَةِ الْمِصْبَاحِ
إن دعاني الأَميرُ عايَنَ مِنِّي
شَمَّرِيًّا كالْبُلْبُلِ الصَّيَّاحِ

أرأيت شاعرًا أشد غرورًا وافتنانًا بنفسه من هذا الشاعر! على أنه لم يلبث فيما ذكر الرواة أن أخذ يسعى بأبي نواس عند البرامكة، فاغتاظ أبو نواس، ونقض عليه قصيدته هذه، فقال:

أَنْتَ أَولَى بقِلَّةٍ الحظِّ مِني
يَا مسَمَّى بالبلبل الصَّيَّاحِ
قَدْ رَأَوْا منه حين غَنَّى لديْهِمْ
أَخْرَس الصَّوْتِ غيرَ ذي إِفْصَاح
ثُمَّ بالرِّيشِ شَبَّهَ النَّفْسَ بالخِفَّـ
ـةِ مِمَّا يكون تَحْتَ الجَنَاحِ
فِإذا الشُّم من شَمارِيخِ رَضْوَى
عندَهُ خِفَّةً نَوى الْمِسبَاحِ
لمْ يَكُنْ فيكَ من صِفاتك شيْءٌ
غَيْر خَلقٍ مُحَجْدَرٍ دحْداحِ
لِحْيةٌ ثطَّةٌ ووجهٌ قَبِيحٌ
وانْثِنَاءٌ عَن النُّهَى وَالصَّلَاحِ
فِيكَ مَا يَحْمِلُ المُلُوك على الخُرْ
قِ وَيُزْرِي بالسَّيِّدِ الجَحْجَاحِ
فِيك تِيهٌ وفيكَ عُجْبٌ شَديدٌ
وطِماحٌ يفوقُ كُلَّ طِمَاحِ
بَاردُ الظَّرْفِ مُظلِمُ الكِذْبِ ذُو خَرْ
قٍ مُعِيدُ الحَدِيثِ نَزْرُ المُزَاحِ
فَالَّذِي قُلْتُ فِيكَ بَاقٍ صَحِيحٌ
وَالَّذِي قُلْتَ ذَاهِبٌ فِي الرِّيَاحِ

كان أبان إذن مسرفًا في حب نفسه، والإعجاب بها، وكان لذلك هجاء قبيح اللسان، اتصل الهجاء بينه وبين أبي نواس، كما اتصل بينه وبين رجل آخر، كان صديقًا له، وهو المعذل، ولكن هجاءه قبيح، ليس منه ما يصلح للرواية، على أن المتانة تنقصه، وهو من هذا الهجاء الذي تسمعه، فتنفر من قائله، لا ممن قيل فيه، ولم يكن أبان مغرورًا ولا مفتونًا بنفسه، ولا قبيح اللسان فحسب، بل كان شريرًا قاسيًا، يؤثر الشر، ويجد فيه لذة، وقد روى له أبو الفرج قصتين، كلتاهما تمثل نصيبه من القسوة وحب الشر، كما أن كلتيهما تعطينا صورة من شعره، ومن الحياة في عصره، قالوا: كان يقيم بالقرب من أبان رجل ثقفي يقال له محمد بن خالد، وكان عدوًّا لأبان، فتزوج محمد هذا ثقفية معروفة، هي عمارة بنت عبد الوهاب، مولاة جنان، التي كلف بها أبو نواس، وأكثر فيها الشعر، وكانت عمارة غنية موفورة الثروة، فاغتاظ أبان لهذا الزواج، وقال هذه القصيدة، التي بلغت عمارة، فأفسدت زواجها:

لَمَّا رأَيْتُ البَزَّ والشَّارَه
والفَرْشَ قد ضاقتْ بِهِ الحارهْ
واللَّوْزَ والسُّكَّرَ يُرْمَى بِهِ
مِنْ فَوْقِ ذِي الدَّارِ وَذِي الدَّارَهْ
وأَحْضَرُوا المُلْهِينَ لَمْ يَتْرُكوا
طَبْلًا وَلَا صَاحِبَ زَمَّارَهْ
قُلْتُ لِماذَا؟ قِيلَ: أُعْجُوبَةٌ
محمدٌ زُوِّج عَمَّارَه
لَا عَمَّرَ اللهُ بهَا بَيْتَهُ
وَلا رَأَتْهُ مُدْرِكًا ثَارَهْ
ماذَا رأَتْ فيهِ وَماذَا رَجَت
وَهْيَ مِنَ النِّسْوَانَ مُخْتارهْ
أَسْودُ كالسَّفُودِ يُنْسَى لَدَى التـْ
ـتَنُّورِ بَلْ مِحْراكُ قَيَّارَهْ
يُجْرِي عَلَى أَولادِه خمسةً
أَرغفةً كالرِّيش طَيَّارهْ
وأَهلُه في الأَرْضِ من خَوْفِهِ
إِنْ أَفرطُوا في الأَكْلِ سَيَّارهْ
وَيْحكِ فِرِّي وَاعْصِبي ذَا بِهِ
فَهَذِهِ أُخْتُك فَرَّارَهْ
إِذا غَفَا باللَّيْلِ فاستيقظي
ثُم اطْفِري إِنَّكِ طَفَّارَهْ

فلما وصل الشعر إلى عمارة فرت، وأضاف أبان إلى قصيدته هذه الأبيات:

فصَعِدتْ نَائلةً سُلَّمًا
تخاف أَنْ تَصْعَدَهُ الفَارهْ
«سرورُ» غَرَّتْها فلا أَفلحتْ
فإِنها لخناء غَرَّارهْ
لَوْ نِلْت ما أَبعدْتَ من رِيقها
إِنَّ لها نفثة سَخَّارهْ

أما القصة الأخرى فأشد من هذه قسوة ونكرًا، وأقبح منها عاقبة وأثرًا، قالوا: كان لأبان جار، وكان يعاديه، فاعتل علة طويلة، وأرجف أبان بموته، ثم صح من علته، وخرج، فجلس على بابه، فكانت علته من السل، وكان يكنى أبا الأطول، فقال له أبان:

أَبا الأَطولِ طَوَّلْتَ
وما يُنْجِيك تَطْويلُ
بِكَ السُّلُّ وَلَا وَاللهِ
ما يَبْرَأُ مَسْلُولُ
فَلَا يَغْرُرْكَ مِنْ ظَنـْ
ـنِكَ أَقْوالٌ أَباطِيل
أَرى فيكَ عَلاماتٍ
وللأشياء تأويلُ
هُزالًا قَدْ بَرى جِسْمـ
ـك والمسْلولُ مهْزُولُ
وذِبانًا حَواليكَ
فَموْقُوذٌ ومقْتُولُ
وَحُمَّى منكَ في العظْمِ
فأَنْتَ الدَّهْرَ مَمْلُولُ
وَأَعلامًا سِوَى ذَاكَ
تُوارِيها السَّرَاوِيلُ
وَلَو بالفِيل مما بـ
ـكَ عُسْرٌ ما نَجا الفِيلُ
فَما هذَا عَلَى فيك
قُلَاعٌ أَوْ دَمَامِيلُ
وَمَا بال مُناجِيكَ
يُوَلِّي وَهُوَ مَعْلُولُ
فإِنْ كَانَ مِنَ الخوْف
فقَدْ سالَ بِكَ الْنيلُ
وذا داءٌ يُزَجِّيكَ
فَلَا قال وَلا قِيلُ

فلما أنشده هذا الشعر أرعد واضطرب، ودخل منزله، فما خرج منه بعد ذلك حتى مات.

قلت: إن أبان بن عبد الحميد لا يثبت للشعراء المعروفين في فنون الشعر، التي اعتادها الشعراء، ولكنه يفوقهم في شيء نحسب أنه هو الذي سبق إليه، فهو إمام طائفة عظيمة الخطر من الناظمين، نعني أنه ابتكر في الأدب العربي فنًّا لم يتعاطه أحد من قبله، وهو فن الشعر التعليمي، وهو فن ليس له في نفسه قيمة أدبية، ولا سيما في العصور المتحضرة، كعصر العباسيين، وإنما قيمته في تلك العصور التي لا حظ لها من علم ولا من حضارة، والتي لا تنتشر فيها الكتابة، ولا يسهل فيها تسجيل العلم وتدوينه، ففي مثل هذه العصور ينفع الشعر التعليمي ويفيد؛ لأنه أيسر حفظًا من النثر، ولعل أول من سبق إلى هذا الفن هو الشاعر اليوناني «هسيود»، الذي عاش في القرن الثامن قبل المسيح، ونظم طائفة من القصائد، فيها جمال شعري لا بأس به، ولكنه قصد بها إلى تقييد طائفة، مما كان اليونان يرونه علمًا في ذلك الوقت، فقد نظم تاريخ الآلهة وأحاديثهم، كما نظم هذه القصيدة المشهورة، التي تعرف بالأعمال والأيام، والتي بين فيها فصول السنة، وما يلائمها من ضروب الزراعة، وما يحتاج إليه الزارع من أداة وجهد وفن، إلى غير ذلك، مما تجده في هذه القصيدة الجميلة.

إلى هذا الفن سبق أبان بن عبد الحميد في الأدب العربي، فأنشأ كثيرًا من الشعر التعليمي، طرق فيه فنونًا مختلفة، من العلم والحكمة والدين، وقد تحدث أبو الفرج أنه نظم للبرامكة كتاب «كليلة ودمنة» ليسهل عليهم حفظه، فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار، وأعطاه الفضل بن يحيى خمسة آلاف، واكتفى جعفر بأن يكون راويته، وروى أبو الفرج أبياتًا أربعة من هذا النظم، ولكن صديقًا لي دلني على كتاب، أو قطعة من كتاب مخطوط، توجد في دار الكتب المصرية، وهو كتاب الأوراق للصولي، وفي هذا الكتاب قطعة صالحة من نظم أبان لكليلة ودمنة، ولست أريد أن أروي لك منه إلا شيئًا قليلًا جدًّا، فهو لا يستحق الرواية، ولا العناية في مثل هذا الحديث، الذي نعنى فيه بالأدب والفن، أكثر مما نعنى بالكلام المنظوم، وهذا أول النظم:

هذا كِتَابُ أَدبٍ ومِحْنهْ
وهُو الذي يُدْعى كليلَه دمنهُ
فيهِ ضَلالاتٌ وفيهِ رُشْد
وهُو كتاب وَضَعَتْهُ الهندُ
فَوصَفُوا آداب كُلِّ عالِم
حِكايةً عنْ أَلسُن البَهَائم
فالحكماءُ يَعْرِفُون فَضْلَهُ
والسُّخَفَاءُ يَشْتَهُونَ هَزْلَهْ
وهو على ذاك يسيرُ الحفظِ
لذٌّ على اللِّسيان عند اللفظِ

وانظر كيف افتتح باب الأسد والثور:

وإِنَّ منْ كانَ دَنيءَ النَّفْسِ
يَرْضَى مِنَ الأَرْفَع بالأَخَسِّ
كمثل الكلْب الشَّقيِّ البائس
يفرَحُ بالعَظْم العتيق اليابِس
وَإِنَّ أَهل الْفَضْل لا يُرْضِيهِم
شَيءٌ إِذا ما كانَ لا يُغْنِيهِمُ
كالأَسَدِ الَّذِي يَصِيدُ الأَرْنَبَا
ثُمَّ يَرى العَيْرَ المُجِدَّ هَرَبا
فيُرْسِلُ الأَرْنَبَ مِن أَظْفارِهِ
وَيَتْبَع الْعَيْرَ علَى أَدْبارِهِ
والكلْبُ مِنْ دِقَّتِهِ تُرْضِيهِ
بِلُقْمةٍ تَقْذِفُها في فيهِ

وعلى هذا النحو العادي الذي لا جمال فيه، إلا أنه بريء من الركة، يمضي أبان في نظم كتابه، على أنه في هذا ناظم لكتاب معروف، ولكنه قد تجاوز نظم الكتب المعروفة، إلى تأليف كتب منظومة، فنظم قصيدة طويلة في الصوم والزكاة، روى منها الصولي طرفًا، وهذا أولها:

هذا كتابُ الصَّوْم وهوَ جامِعُ
لِكُلِّ ما قامتْ بهِ الشَّرائِعُ
منْ ذلكَ المنزلُ في القرآنِ
فضْلًا عَلَى مَنْ كان ذا بيان
ومِنهُ ما جاءَ عَنِ النبيِّ
مِنْ عَهْدِهِ المُتَّبَعِ المرْضيِّ
صَلَّى الإِله وَعَلَيْهِ سَلَّمَا
كما هدى اللهُ بهِ وعَلَّما
وبَعْضُهُ علَى اختلافِ النَّاسِ
مِنْ أَثَرٍ ماضٍ وَمِنْ قِيَاسِ
والجامعُ الَّذِي إليه صَارُوا
رَأْيُ أَبي يُوسفَ مِمَّا اخْتَارُوا
قَالَ أَبُو يوسف: أَمَّا المُفْترَضْ
فرمضانُ صَوْمُهُ إِذَا عَرَضْ
والصَّوْمُ في كَفَّارَةِ الْأَيمَانِ
مِنْ حِنْثِ مَا جَرَى علَى اللِّسَان
ومَعَهُ الحَج وفِي الظِّهارِ
الصَّوْمُ لا يُدْفَعُ بالإِنكارِ
وخَطأُ القتلِ وحَلْق المحْرِمِ
لِرَأْسِهِ فِيهِ الصِّيَامُ فافْهَم
فَرَمَضَانُ شَهْرهُ معْرُوفُ
وصَوْمُهُ مُفْتَرَضٌ مَوْصُوفُ
والصومُ في الظِّهار إِن لم يَقْدِر
مُظاهِرٌ يومًا على مُحَرَّر
والقتلُ إِن لم يَكُ عَمْدًا قتلُه
فإِنَّ ذاك في الصيام مثلُهُ
شهرانِ في العِدَّة كاملان
مُتَّصِلانِ لا مُفَرَّقانِ
والْحِنْثُ في رواية مقبوله
ثلاثةٌ أَيامها مَوْصوله
ومثلُها في العِدة الأَيامُ
للمحرم الحالقِ في الإِحرام
ثلاثةٌ نصومها إن حَلَقَا
لا بأس إِن تابَعَها أَو فَرَّقَا

ولكننا قد بعدنا عن الأدب وجماله، وأمعنا في الفقه إمعانًا، وكأنما نروي هذه المنظومات التي حفظناها في الأزهر أيام الصبا.

ولم يقف نظم أبان عند هذين الموضوعين، بل يحدثنا أبو الفرج أنه نظم قصيدة طويلة سماها ذات الحلل، تناول فيها تاريخ الخليقة، وغير ذلك من موضوعات العلم، وانتهى فيها إلى المنطق، فألم به، ولم يرو لنا من هذه القصيدة شيء.

وأحسب أن مكانه من البرامكة هو الذي حمله على اختراع هذا الفن، فقد كان مكانه منهم مكان المؤدب لصبيانهم وشبابهم، وكان من الحق عليه أن يسهل لهم العلم تسهيلًا، وليس من شك في أن هذه الأموال التي أصابها من البرامكة، حينما نظم كليلة ودمنة قد أطمعته، فنظم القصائد الأخرى، ليصيب مثل ما أصاب.

وكان أبان شديد الحرص على المال، يضحي في سبيله بأشياء كثيرة، منها العقيدة والرأي وكان يحسد مروان بن أبي حفصة لمكانه من الرشيد، ولظفره بالصلات الضخمة، والجوائز السنية، فقد انتهى الأمر ببني العباس مع مروان بن أبي حفصة، إلى أن كانوا يمنحونه بالبيت ألف درهم، فغاظ ذلك أبان بن عبد الحميد، وأراد أن يصيب من أموال الرشيد ما كان يصيب مروان، قال الرواة: فعاتب البرامكة، وأنكر عليهم تقصيرهم في الانتهاء به إلى الرشيد، حتى يصيب من عطائه مثل ما يصيب مروان، فقالوا له: يجب أن تذهب مذهب مروان، فتذم آل علي، فقال: والله ما أستحل ذلك، ثم أصبح فاستحله، وقال قصيدة طويلة، آثر بها بني العباس على بني أبي طالب، وأثبت فيها حق بني العباس في وراثة الخلافة دون بني علي، ودفعها إلى الفضل بن يحيى، فركب بها إلى الرشيد، فنالته صلاته وجوائزه، وهذا أول هذه القصيدة التي ذهب فيها مذهب الفقهاء وأصحاب المناظرة، فلم تكن كلها شيئًا إلى جانب هذا البيت من شعر مروان:

أَنَّى يَكُونُ وَلَيس ذَاكَ بِكائِنٍ
لِبنِي الْبَنَاتِ وِراثةُ الْأَعمامِ

وأول القصيدة:

نَشَدْتُ بحق الله من كان مسلمًا
أَعُم بما قد قلته العُجم والعَرَبْ
أَعَمُّ رسولِ اللهِ أَقربُ زُلفةً
لديهِ أَم ابن العَمِّ في رُتبةِ النسبْ
وأَيهما أَولى به وبعده؟
ومَن ذا له حق التُّراثِ بما وجبْ؟
فإن كان عباسٌ أَحقَّ بتلكُمُ
وكانَ عَلِيٌّ بعد ذاك على سبَبْ
فأَبناءُ عبَّاس هُم يَرِثُونه
كما العمُّ لابن العم في الإِرْثِ قد حَجَب

وهي طويلة ولكنها تخلو من كل جمال أدبي، وقد أجازها الرشيد مع ذلك، فأحسن جائزتها، لم يجز الأدب، وإنما أجاز السياسة.

وقد انتهى بنا القول في أبان إلى السياسة ولا بد لنا من أن نعرض لشاعرين خليقين بالعناية كلها من هذه الناحية، أحدهما مروان بن أبي حفصة الشاعر السياسي لبني العباس خاصة، والثاني السيد الحميري، وهو الشاعر السياسي لبني علي خاصة، وإن كان قد مدح بني العباس، وظفر بجوائزهم، وإذا درسنا هؤلاء الشعراء الثلاثة من هذه الناحية السياسية، فسننتهي إلى هذه النتيجة: وهي أن أبان بن عبد الحميد أشدهم نفاقًا، وأكثرهم اتجارًا برأيه ودينه، كان كالبرامكة يتشيع للعلويين، ثم طمع في أموال الرشيد، فأنكر العلويين، وآثر عليهم بني العباس، وهو يقسم ما يستحل ذلك! … وفي الحق أنه لم يكن يحب آل علي ولا بني العباس، وإنما كان كغيره من هؤلاء الفرس، الذين يذهبون مذهب البرامكة، يتخذ التشيع للعلويين لونًا سياسيًّا، يخفي أطماعه ومآربه الفارسية، أما مروان بن أبي حفصة فأسرته كلها من أتباع بني أمية وأنصارهم، والغلاة في مدحهم وتأييدهم، ولكن الله أدال من بني أمية لبني العباس، فدار مع الأيام، ووجد في ذلك مغنمًا؛ فاندفع فيه ما اندفع بنو العباس في العطاء، وأما السيد الحميري فعلوي المذهب، صادق في علويته، مسرف فيها إسرافًا لا يعدله إسراف، ولكن الله أدال من بني أمية لبني هاشم، وكان السيد كغيره من الناس، يحسبون أن الأمر سيئول إلى العلويين، فلما آل الأمر إلى العباسيين دون العلويين، انقسمت شيعة العلويين، فمنهم من أعلن حقده وسخطه على بني العباس، فاشترك في فتن العلويين وثوراتهم، ومنهم من اتقى، فحفظ الود لآل علي، وجامل العباسيين وأخذ أموالهم، ومن هؤلاء السيد الحميري، ولكن هذا بحث يحتاج إلى عناية وتحقيق وروية، ونحسب أن الخير في إرجائه إلى الأسبوع الآتي.

١  نُشرت بالسياسة في ٢٥ شوال سنة ١٣٤٢ / ٢٩ مايو سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤