الفصل الخامس والعشرون

مروان بن أبي حفصة والسيد الحميري١

جمعت هذين الشاعرين إلى أبان بن عبد الحميد، في آخر حديث الأربعاء الماضي، ولم أجمعهما إليه عبثًا، وإنما جمعتهما إليه لأن بين هؤلاء الشعراء الثلاثة صلة، تجعل التفكير في أحدهم وسيلة إلى التفكير في الآخرين، وليست هذه الصلة الشعرية، فهم يتفاوتون في الشعر تفاوتًا شديدًا، لكل منهم فيه مذهبه وسبيله كما سنرى.

وليست هذه الصلة مجونًا ولا عبثًا ولا زندقة، فقد كان أبان بن عبد الحميد من أهل المجون والعبث والزندقة، يستر ذلك ويخفيه، حتى خدع الناس عن نفسه، وحتى غضب يونس بن حبيب وقد ذكر أصحابه كفر أبان، ولم يكن مروان بن أبي حفصة ماجنًا ولا عابثًا ولا زنديقًا، وإنما كان أشد الناس انصرافًا عن اللغو والعبث، وأشد الناس حرصًا على الجد وحسن السيرة، لأسبابٍ سنبينها بعد حين، أما السيد الحميري فلم يكن من المسرفين في الاستهتار والتهتك، ولا من الذين يتخذون العبث واللهو سيرة ودينًا، وإنما كان رجلًا كغيره من الشعراء الذين عاشوا في العصر الجاهلي والأموي، يأخذ بحظه من لذات الحياة، لا متجاوزًا في ذلك حدًّا، ولا مستهترًا فيه، ولا متحديًا غيره من أهل التقى والدين، كان يشرب الخمر كما كان يشربها جرير والفرزدق والأعشى، ولكنه لم يكن يعكف عليها عكوف أبي نواس، ولم يكن يتغناها أو يشيد بذكرها، كانت سيرته في ذلك سيرة الشعراء من العرب، لا من الموالي، فسنرى في غير هذا الحديث أن هناك فروقًا جلية بين شعراء العرب وشعراء الموالي، تفسر لنا هذا المجون الكثير، الذي نجده في صدر الدولة العباسية.

ليست الصلة إذن بين هؤلاء الشعراء الثلاثة مجونًا ولا عبثًا ولا زندقة، ولا تشابهًا في المذهب الشعري والأدبي، وإنما الصلة بينهم سياسية، الصلة بينهم هذا المذهب السياسي الذي ذهبوه جميعًا، دون أن يكونوا فيه جميعًا، مخلصين، فكلهم مدح بني العباس، وتقرب إليهم، وأفاد من أموالهم، وكلهم كان هواه مع غير بني العباس، ولا بد من توضيح ذلك بشيءٍ من التفصيل.

رأينا في الحديث الماضي أن أبان بن عبد الحميد لم يكن مخلصًا لبني العباس، ولكنه كان مخلصًا لمال بني العباس، يشتهيه ويحرص عليه، فعاتب البرامكة؛ لأنهم لم يقدموه إلى الرشيد، فلما قال البرامكة: إن الحق عليه في ذلك أن يهجو العلويين، ويؤثر عليهم بني العباس، أظهر ترددًا، وقال: إنه لا يستحلُّ ذلك، ثم أصبح فاستحله كما قلنا، وأنشأ قصيدته المعروفة، يثبت فيها أن بني العباس أحق بوراثة الخلافة من بني علي، ولم يكن أبان علويًّا مخلصًا، وإنما كان قبل كل شيء فارسيًّا مخلصًا، وكان كغيره من هؤلاء الفرس، يتخذ التشيع لعلي وآل بيته لونًا سياسيًّا، إذْ كانوا قد وثقوا بأن من المستحيل أن يسترد الفرس في ذلك الوقت استقلالهم السياسي، وحريتهم الدينية، على نحو ما كانت عليه قبل الإسلام، فلم يكن لهم بد من أن يصلوا إلى السلطان من الإسلام، ومن طريق السياسة الحزبية الإسلامية، فنصروا الضعيف المضطهد من هذه الأحزاب، وهو حزب العلويين، وكان هذا الحزب ضعيفًا أيام عثمان، مضطهدًا أقبح الاضطهاد طوال أيام بني أمية، فأيده الفرس وناصروه، حتى وصلوا به إلى السلطان، ولكنهم لم يصلوا بالعلويين إلى السلطان؛ لأن ظروفًا سياسية خاصة، تدرس في التاريخ لا في هذه الصحيفة الأدبية، دعت إلى أن يستأثر بنو العباس بالحكم دون بني علي، فلان الفرس ومرنوا، وآزروا بني العباس، ليصلوا معهم إلى السلطان، وتشدد منهم في مذهبهم العلوي قوم، لقوا في سبيل هذا المذهب مناياهم، ومن هؤلاء أبو مسلم، ومنهم البرامكة أيضًا، وقد حدث في ذلك الوقت شيء يشبه كل الشبه ما حدث في فرنسا أيام الثورة التي ظهرت سنة ١٨٣٠؛ فقد قام الجمهوريون بالثورة وهيئوا أسبابها، وانتهوا بها إلى الفوز، حتى أزالوا سلطان «بوربون» ولكن ظروفًا سياسية خاصة حادت بالحكم عن الجمهوريين إلى آل «أورليان»، فقام ملك «لويس فيليب» وانقسم الثائرون المنتصرون إلى قسمين متنازعين: قسم الجمهوريين الذين عملوا وضحوا، وفازوا، ثم قسم أنصار «أورليان» الذين اجتنوا ثمار الفوز، وكان الجمهوريون يقولون: إن خصومهم قد اختلسوا الجمهورية Examoter le Répuplique وانقسم هؤلاء الجمهوريون فيما بينهم وبين أنفسهم، فمنهم من مال إلى الدولة الفائزة، فانصرف من الحكم الجمهوري إلى الحكم الملكي الحر، ومنهم من تشدد في مذهبه الجمهوري، ومضى يأتمر ويدبر الثورات، حدث هذا أو شيء قريب منه جدًّا حين قامت الدعوة الهاشمية لنقض السلطان الأموي، فقد كان سواد الناس يدعو للعلويين وينصرهم، حتى إذا تم الفوز لهذه الدعوة الجديدة، لم ينتصر العلويون، وإنما انتصر بنو هاشم جملة على بني أمية، واستأثر بالحكم من بني هاشم آل العباس، دون آل علي، فانقسم الهاشميون على أنفسهم: منهم من أيد العباسيين تأييدًا ظاهرًا خالصًا، ومنهم من أيد العلويين، فمضى يأتمر ويثور، ثم انقسم العلويون فيما بينهم وبين أنفسهم أيضًا، فاطمأن بعضهم إلى السلطان القائم، وأرجأ الثورة إلى سنوح الفرصة، وأبى بعضهم إلا أن يثور، وعلى هذا كان مقام العلويين من العباسيين في ذلك الوقت مقام الجمهوريين من أنصار «أورليان» سنة ١٨٣٠.

أما الفرس فقد ذهبوا هذا المذهب نفسه، وانقسموا هذا الانقسام نفسه، وكان أبان بن عبد الحميد من الذين اعتدلوا في الحكم، فأبوا أن يظهروا النصر لبني العباس، كما أبوا أن يظهروا السخط عليهم، ثم رأى هذه الأموال الضخمة التي يفيدها مروان بن أبي حفصة من خلفاء العباسيين، فطمع وعدل عن مذهبه السياسي، فلم يبق علويًّا معتدلًا، بل أصبح سياسيًّا متطرفًا، هذا هو أبان بن عبد الحميد.

أما السيد الحميري فقد استطاع أن يكون علويًّا متطرفًا، وعباسيًّا معتدلًا، واستطاع ذلك في وقتٍ واحد، فكان من أشد الناس إخلاصًا لآل علي، يجهر بذلك ويعلنه، ولا يتحرج منه، وكان في الوقت نفسه مسرورًا بفوز بني العباس، لا لأنهم فازوا على العلويين، بل لأنهم يمثلون بني هاشم، الذين فازوا على الأمويين، كان يجمعه إلى أنصار بني العباس الفرح بسقوط الأمويين، وكان يعلن هذا الفرح، وينتظر أن يأتي يوم آل علي، وهو لا ينتظر هادئًا ولا صامتًا، وإنما كان يبث الدعوة لآل علي، ويبذل في ذلك من الجهد والقوة ما استطاع، ثم لم يكن فرحه بسقوط الأمويين وحده هو الذي يدنيه من بني العباس، وإنما كان هناك شيء آخر يدنيه منهم، وهو الرغبة والرهبة، كان يطمع في أموال بني العباس، ويفيد منها بغير قليل، وكان يخشى بطشهم، فيتقيه بالقصيدة يمدح بها آل العباس، بين القصائد الطوال الكثيرة يشيد فيها بآل علي.

أما مروان بن أبي حفصة فكان شيئًا غير هذا كله، وكان رجلًا يخالف هذين أشد الخلاف، ولا يتفق معهما إلا في شيء واحد، هو مدح بني العباس وتأييدهم، كانت أسرة مروان بن أبي حفصة منذ عرفها الأدب التاريخ متصلة ببني أمية، محسوبة عليهم، إن قبلت هذا التعبير، فقد كان أبو حفصة جده الأعلى عبدًا فارسيًّا لمروان بن الحكم، شهد معه حصار عثمان في داره، وأبلى في الدفاع عن الخليفة بلاء حسنًا، وأظهر شجاعة ومكرًا في حماية مولاه مروان، وإنقاذه من الموت، ثم شهد مع مروان جميع مواقفه السياسية والحربية المشهورة، وكان يعينه فيما تولى من الأعمال قبل خلافته، ونشأت عن ذلك صلة من صلات الموالاة القوية المتينة، بين آل أبي حفصة وآل مروان، حتى لقد كان الخلفاء من بني أمية يؤثرون آل أبي حفصة على العرب، وعلى أشراف العرب أيضًا، وحتى لقد أبى خليفة مرواني أن يسمع لنفرٍ من أشراف العرب، أقبلوا يشكون إليه أن رجلًا من آل أبي حفصة قد أصهر إلى العرب، وخالف الحكم الشرعي، الذي لا يبيح للموالي تزوج العربيات، أبى الخليفة أن يسمع لهذه الشكوى، بل زجر الشاكين زجرًا شديدًا، واضطر الحفصي إلى أن يسعى لدى الخليفة في الرفق بهم، والعطف عليهم، وكان من آل أبي حفصة شعراء ناصروا الأمويين مناصرة شديدة، حتى إن أحدهم ندم على عصر الحجاج، وزعم في شعرٍ له أن الدين قد تعرض للخطر من حادث الحجاج، فاضطربت أمور العراق، وظهر فيه الثائرون، كل هذا يبين لك شدة هذه الصلة التي كانت بين الأمويين وبين آل أبي حفصة، وهو في الوقت نفسه يبين لك شيئًا آخر، هو الذي نقصد إليه في هذا الحديث، وهو، خلق مروان بن أبي حفصة.

فما كاد الحظ يديل من بني أمية لبني العباس، حتى انتفض مروان ابن أبي حفصة، فإذا هو شاعر بني العباس، ولسانهم السياسي، وإذا هو أشد الناس انتصارًا لهم، وأبلغ الناس دفاعًا عنهم، وإذا هو الشاعر الذي نستطيع أن نقول فيه: إنه نظم الدفاع عن نظرية العباسيين في وراثة الملك، وصاغها في هذه الصيغة الفقهية الشعرية معًا، فقال:

أَنَّى يكُونُ وليسَ ذاكَ بكائِنِ
لبني البناتِ وِراثةُ الأَعمام

يريد أن العباسيين أحق بوراثة النبي؛ لأن أباهم العباس عم النبي وهو أحق بوراثة ابن أخيه من الأسباط، وذلك بحكم الفقه والميراث، وقد وقع هذا البيت على العلويين وأنصارهم موقع الصاعقة، فاضطربوا له اضطرابًا شديدًا، واشتد سخطهم على مروان، وأضمروا له الشر، وأظهروا له اللعنة، وما زالوا به حتى قتلوه، كما سنرى، أما موقع البيت مع العباسيين فقد كان أجمل وقع وأحسنه، حتى كان مروان شاعر الحزب العباسي حقًّا، وكان أثيرًا عند المهدي والهادي والرشيد، وكان مروان أول شاعر أخذ من العباسيين مائة ألف درهم مرة واحدة، ثم كانت له عليهم دالة، وكانت له عندهم عادات، فتقرر في ديوان الخلافة أن جائزة مروان يجب أن تكون ألوفًا، تعدل أبيات قصيدته عددًا فكان إذا بلغ بقصيدته المائة، بلغت جائزته مائة ألف، وهذا هو الذي غاظ أبان بن عبد الحميد، فكان منه ما كان، على أن أبان بن عبد الحميد حين أراد أن يقلد مروان بن أبي حفصة لم يستطع أن يكون شاعرًا، وإنما كان فقيهًا، يناضل عن رأي في الفقه، ففصَّل النظرية العباسية تفصيلًا، ودافع عن كلياتها وجزئياتها، كما يقول أصحاب المنطق دفاع الفقيه، فكيف استطاع مروان بن أبي حفصة أن ينكر ماضيه وماضي أسرته، وأن يجحد ولاء الأمويين، وينتفض فإذا هو عباسي أكثر من العباسيين؟ ليس الجواب عليه عسيرًا، ولا في حاجة إلى بحث وتدقيق، فقد كان مروان بن أبي حفصة محبًّا للمال، شرهًا إليه، لا يشبع منه، ولا يقنعه منه الكثير، كان محبًّا للمال، هذا التعبير ضعيف، لا يصف مروان ولا خلقه، وإنما كان مروان يعبد المال عبادة، ويقدسه تقديسًا، وكان فيما بينه وبين نفسه يزدري الأمويين والعباسيين والعلويين، وكان فيما بينه وبين نفسه مقتنعًا بأنه يفوز بأموال العباسيين، فلو أدال الله منهم للأمويين أو للعلويين لسار مع الدولة الجديدة سيرته مع الدولة القديمة، ليظفر منها بهذا المال الذي يعبده ويقدسه.

لم يكن إذن عباسيًّا مخلصًا، بل لم يكن شاعرًا من شعراء الأحزاب بالمعنى الصحيح، لم يكن من هذه الألسنة السياسية الحزبية، التي هي مرآة لقلوب أصحابها، والتي تمثل الإيمان الصادق، والعقيدة الراسخة، التي لا تؤثر المال على الرأي ولا تضن بالنفس على الموت، في سبيل الرأي السياسي، لم يكن مروان من هؤلاء، وإنما كان شاعرًا مجيدًا، يستطيع أن يكسب المال بشعره، وقد رأى فرصة سانحة، فأحسن انتهازها، وقدر له التوفيق، فجمع من المال ما لم يجمعه شاعر من قبله وأمثال مروان بن أبي حفصة كثيرون في عصور الثورات والاضطراب السياسي، والجهاد العنيف بين الأحزاب، تجدهم في كل مكان وفي كل زمان، ولكن الذين يبلغون من الإجادة الفنية بين هؤلاء ما بلغه مروان قليلون جدًّا …

كان مروان شرهًا إلى المال، ولكن الغريب من أمره أنه لم ينتفع بهذا المال، ولم يستمتع بشيءٍ منه، وإنما عاش عيشة بؤس وحرمان، فكان من أبخل الناس، وتستطيع أن تقول: إنه كان أبخل شاعر عرفته العرب إلى ذلك الوقت، وكان الناس يضربون الأمثال ببخل مروان، ويتندرون به في مجالسهم وأحاديثهم، فهم يقولون مثلًا: إنه كان إذا قدم بغداد، ليمدح خليفة من الخلفاء، ويظفر بجائزته، لم يأكل إلا الرأس، يبعث غلامه، فيشتري له رأسًا، فيعيش عليه حينًا، وقد كلم في ذلك، فأجاب جوابًا بديعًا، أجاب بأن الرأس لا يكلفه طبخًا ولا تهيئة، فهو إذن يكفيه بعض المئونة، بما إنه لا يحتمل زيادة ولا نقصًا، فلا يستطيع الغلام أن يخونه فيه، فهو إن أكل أذنًا أو عينًا أو نحو ذلك، ظهر سيده على ما أكل، ثم إن له في الرأس مرافق، فهو يتخذ منه ألوانًا مختلفة، دون أن يتكلف لذلك الأثمان، التي يتكلفها الذين يريدون أن يتخذوا من الطعام ألوانًا مختلفة، فهو يأكل الأذنين لونًا، والعينين لونًا آخر، والغلصمة لونًا آخر، وعلى هذا النحو.

وزعم ناس من الرواة أنهم مروا بمروان، فنزلوا عنده في اليمامة، فأطعمهم لحمًا، فلما فرغوا من طعامهم دفع إلى غلامه فلسًا وآنية، ليشتري له شيئًا من الزيت يطعم منه، فذهب الغلام وعاد بالزيت، ولكن مروان اتهمه بالسرقة والخيانة، فجعل الغلام يسأله كيف أخونك في فلس واحد، وجعل مروان يجيب: أخذت الفلس، واستوهبت الزيت، ثم يتحدثون عن مروان نفسه أنه قال: ما فرحت لشيءٍ قط كما فرحت يومًا وقد أجازني المهدي بمائة ألف دينار، فوزنتها فزادت درهمًا، فاشتريت به لها. ويقولون: إنه مر بامرأة فأضافته، فلما أراد الانصراف وعدها إن بلغت جائزته مائة ألف أن يهب لها درهمًا، فلم تبلغ جائزته إلا ستين ألفًا، وكان يريد معن بن زائدة، فوهب للمرأة أربعة دوانق، وهو شيء لا يكاد يبلغ ثلثي الدرهم، كما أن الجائزة لم تبلغ ثلثي مائة الألف.

وأحاديث مروان في البخل والحرص كثيرة، روينا لك منها هذا الطرف، لنصور لك حبه للمال تصويرًا كافيًا، على أن هذا التصوير في حاجة إلى أن نتمه ونكمله بقصة رواها أبو الفرج، ولها قيمتها؛ لأنها تمس شعر مروان، وهي أنه مر ذات يومٍ برجل من باهلة وهو ينشد جماعة قصيدة له، كان قد أنشأها في مدح مروان بن محمد الأموي، قبل أن يبلغ هذا الشاعر الخليفة بقصيدته، فاستمع مروان لهذه القصيدة، فأعجبته، وكان أولها:

مَرْوانُ يا بنَ محمَّدٍ أَنت الَّذِي
زِيدَتْ بِهِ شَرفًا بنُو مَرْوَانِ

فلما فرغ الشاعر من إنشاد قصيدته، تبعه صاحبنا إلى بيته، وقال له: إنك لم تظفر من هذه القصيدة بما كنت تريد، فقد قتل مروان، وذهبت دولته، فبعني هذه القصيدة؛ لأنتحلها لنفسي، وتفوز أنت بشيءٍ من المال، قال الرجل: قد فعلت، فساومه مروان، وانتهيا إلى ثلاث مائة درهم، ثم استحلف مروان صاحبه بالطلاق والأيمان المحرجة ألا يذكر هذه القصيدة، ولا يرويها، ولا ينسبها إلى نفسه، فحلف الرجل، وانصرف مروان إلى بيته، فغير القصيدة وزاد فيها، ونقص منها، وحولها إلى معن بن زائدة، فقال:

مَعْن بن زائدَةَ الَّذِي زِيدَتْ بهِ
شَرَفًا إِلى شَرَفٍ بَنُو شَيبان

ووفد بها على معن، فملأ يديه، وأقام عنده مدة، حتى أثرى.

على أننا نستطيع أن نعرف كيف اتصل مروان بن أبي حفصة ببني العباس، فبلغ عندهم من الحظوة ما بلغ، وظفر منهم بما كان يطمع فيه من مال، يظهر أنه في أول أمره لم يكن يفكر في الاتصال بهم، ولا في الارتقاء إلى هذه المنزلة، منزلة الشعراء الذين يبلغون قصور الخلفاء، وينشدونهم فيها الشعر، وكأنه كان قد ترك ذلك لأهل العراق، واكتفى بحظه من معن بن زائدة، وقد كان هذا الحظ عظيمًا موفورًا، فجود معن معروف، وقد عرف مروان كيف يستغل هذا الجود ويستثمره، لكن معنًا مات، فحزن عليه مروان، ورثاه رثاء كثيرًا جيدًا، منه هذان البيتان:

أَقمنا باليمامةِ بعد مَعْنٍ
مُقامًا لا نريدُ بهِ زَوالا
وقُلْنا أَين نرحَلُ بعد مَعْنٍ
وقد ذهب النوالُ فلا نَوالا

ثم بدا له، فوفد على المهدي فيمن وفد عليه من الشعراء، وكان اسمه وشعره قد سبقاه إلى المهدي، كما سبقاه إلى المنصور من قبل، ولعل اسم معن هو الذي رفع مروان، حتى انتهى به إلى قصور الخلفاء.

وفد على المهدي، فأنشده قصيدة يمدحه فيها، فسأله المهدي: من أنت؟ قال: شاعرك وعبدك، مروان بن أبي حفصة، قال المهدي: ألست القائل، وذكر البيتين السابقين، ثم قال: لقد ذهب النوال فيما زعمت، فلا نوال لك عندنا، ثم أمر به فسحب برجله، حتى أخرج، ومن قبل المهدي وجد المنصور على مروان؛ لأنه أحسن مدح معن، ووجد على معن؛ لأنه أكثر العطاء لمروان، حتى إنه لام معنًا في ذلك، ولكن معنًا عرف كيف يخلص من لوم المنصور.

كان المهدي إذن واجدًا على مروان، حاسدًا لمعن بن زائدة، ولهذا حرم مروان وأهانه، وكان مروان قد فهم هذا، وكأنه قد استفاد من رحلته هذه، فعرف الميول السياسية حول الخليفة، واستفاد مما عرف، فأقام عامه في بلده اليمامة، ثم استأنف الرحلة، فدخل على المهدي مع الشعراء، وأنشده، وكان الخامس أو السادس بين المنشدين، وأنشده قصيدة يظهر أنها خلبت أهل عصره، وكان من حقها أن تخلبهم؛ فإنها آية من آيات الشعر السياسي، وآية الجودة في اللفظ والمعنى، وصفاء الأسلوب ورقته، في غير ضعف ولا ركة ولا تبذل، ومطلعها:

طَرَقتكَ زائرةً فحي خَيالَها
بيضاءُ تخلِط بالجمالِ دَلالها
قادَتْ فوادَكَ فاستقادَ ومثلُها
قادَ القلوبَ إلى الصِّبا فأَمالَها

فلم يكد يبدأ في إنشاده حتى أخذ على الناس أهواءهم، فاستمعوا له معجبين، وبلغ بهم ذلك أنهم كانوا كأنما تعلقوا بشفتي الشاعر، حتى إذا هجم على الموضوع السياسي، وأخذ يحاج العلويين، ويخاصمهم عن حق بني العباس في وراثة الخلافة، أخذ المهدي يزحف من صدر مصلاه، حتى صار على البساط؛ إعجابًا بما يسمع، وإليك هذه الأبيات التي استخفت المهدي، وأحسب أنها ما تزال تستخف من له علم بالحياة السياسية يومئذ:

هلْ تَطْمِسُون من السماءِ نجومَها
بأَكُفكُمْ أَوْ تَسْتُرُون هِلالها
أَوْ تَجحَدون مقالةً عن ربِّكُمْ
جبريلُ بلَّغَها النبي فَقَالَها
شَهِدتْ من الأَنفالِ آخر آيةٍ
بتُراثهمْ فأَردتُمُ إِبْطالَها

فلما فرغ من إنشاده سأل المهدي عن القصيدة كم هي؟ قال مروان: مائة بيت، فأمر له بمائة ألف درهم، وكانت هذه أول مائة ألف درهم نالها شاعر من خلفاء بني العباس، قال الفضل بن الربيع، وهو الذي شهد هذه القصة: فلما كانت أيام الرشيد دخل عليه مروان، فأنشده قصيدة يمدحه فيها، فسأله: ومن أنت؟ قال: شاعرك وعبدك مروان بن أبي حفصة، فذكر له ذينك البيتين، اللذين رثا بهما معن بن زائدة، وقال له مثل مقالة المهدي، وأمر به فأخرج، قال الفضل بن الربيع: فلما كانت أيامٌ تلطف مروان، حتى دخل على الرشيد، فأنشده قصيدته التي أولها:

لعمرُكَ ما أَنسى غَداةَ المحصَّب
إِشارةَ سَلْمى بالبَنان المُخَّضب
وقد صدَرَ الحُجَّاجُ إِلا أَقلَّهم
مصادِر شَتَّى موكِبًا بعد موكِبِ

طرب الرشيد، وسأله عن قصيدته كم هي؟ قال: ستون أو سبعون، فأمر له بعدد أبياتها ألوفًا، وكان ذلك رسم مروان في القصر حتى مات.

لعلك تريد الآن أن تعرف شيئًا عن شعر مروان، وأنا آسف الأسف كله؛ لأنا لا نستطيع أن نتحدث في ذلك عن علمٍ ولا عن بصيرة، إذ لم يحفظ لنا الرواة من شعر مروان إلا أبياتًا قليلة متفرقة، ومع ذلك فنستطيع أن نصور شعر مروان تصويرًا مقاربًا، إن لم يكن صحيحًا، وأكبر الظن أنه صحيح.

لم يكن مروان متصرفًا في فنون الشعر، ولعله لم يَعْدُ منها فنًّا أو فنين، فلسنا نعرف له غزلًا، إلا هذا الغزل الذي تعود الشعراء أن يبدءوا به مدائحهم، ولسنا نعرف له هجاء إلا هذا النحو من الهجاء الذي يضطر إليه الشعراء السياسيون، حين يدافعون عن مذهبهم، ويهاجمون خصومهم، على أن موقف مروان كان في هذا دقيقًا جدًّا، فهو لم يكن ينصر بني العباس على بني أمية، فيبلغ منهم ما يريد، ويهجوهم في حرية، وإنما كان السيف هو الذي انتصر للعباسيين من بني أمية، وكان العباسيون في حاجةٍ إلى من ينصرهم على العلويين وأتباعهم من بني هاشم، ولم يكن هجاء العلويين يسيرًا، كان الدين يأباه في ذلك الوقت، وكانت كرامة الخلافة العباسية نفسها تأباه أيضًا، فالعلويون من بني هاشم، وهجاؤهم هجاء للعباسيين، ومن هنا سلك مروان وأمثاله من الشعراء السياسيين، الذين ناضلوا عن حقوق العباسيين، مسلك الدفاع والمناظرة الشريفة، البريئة من الشتم والقذف، فكان دفاعهم أبلغ، وكانت مناظراتهم أحسن وقعًا من هجاء أولئك الشتامين المسرفين في الشتم، ثم لا نعرف لمروان مجونًا ولا عبثًا، فلم يكن كما قلنا ماجنًا ولا عابثًا، وإنما كان بخيلًا، والبخل والعبث شيئان لا يتفقان، ومن ضن على نفسه باللحم وطيبات الطعام، لم يستبح لنفسه خمرًا ولا ما تستتبعه الخمر، ثم لا نعرف لمروان فخرًا، وما نحسب أنه فاخر أو مال إلى الفخر، فقد كان رجلًا عمليًّا، يعنيه أن يظفر بالمكانة والثروة، وكان يضن بوقته وجهده على الفخر الذي لا يفيد.

لم يعرض إذن إلا لفنين اثنين: المدح والرثاء، وهو في المدح أشعر منه في الرثاء، وهذا طبيعي، فهو راغب حين يمدح، يطلب المال، ويحرص على أن يظفر به، فمعقول أن يجيد، وأن يبلغ من الإجادة حظًّا عظيمًا، أما في الرثاء فهو لا يرغب، ولا يطلب مالًا، وإنما يفي بعهد، ويشكر صنيعه، ومعقول أن موقفه هذا لا يدفعه إلى الإجادة، إلا أن يكون حساسًا، دقيق الشعور، راقي النفس، ولم يكن مروان من هذا كله في شيء، وإنما كان، كما قلت لك رجلًا عمليًّا يريد المال، على أن رثاءه لمعن ليس بالرديء، وكذلك رثاؤه للمهدي، وهل نستطيع أن نعد رثاءه للمهدي رثاء؟ هو مدح لأنه عزاء للخليفة الجديد، ففيه ذكر للخليفة الراحل، والثناء على وارثه، وفيه المثوبة والعطاء، فهو إلى المدح أقرب منه إلى الرثاء، أما مدح مروان فمن آيات المدح العربي، ونحن لا نحفظ منه إلا متفرقات قليلة، ولكنها تكفي لنحكم أن مروان كان قد أتقن المدح، وبرع فيه، بل نحسب أنه تفوق في هذا الفن على غيره من المعاصرين، ولكن مدح مروان ينقسم إلى قسمين متمايزين؛ أحدهما: المدح بالمعنى الشائع المعروف، وهو موجه لمعن بن زائدة فهو يَفْتَنُّ في وصف مَعْن بالجود والكرم والشجاعة والحب، ثم يَفْتَنُّ في مدح ابن شيبان الذين ينتمي إليهم معن، وهو لا يخرج في مدحه هذا عن سنة الشعراء من قبله، ولكنه جيد المعاني منتقاها، حسن الألفاظ صافيها.

وأما القسم الثاني: فهو هذا المدح السياسي الذي كان ينشده الخلفاء من بني العباس، وهو مدح إن شئت، ولكنه يمتاز عن المدح المعروف، بما فيه من هذا النضال السياسي، الذي كان يحتاج إلى مهارةٍ وفطنة، ودقة وخفة، والذي كان يضطر صاحبه إلى أن يقهر العلويين دون أن يؤذيهم، وإلى أن ينصر العباسيين دون أن يزدري خصومهم، وقد بلغ مروان من ذلك ما أراد، فقد أغضب العلويين، لا لأنه آذاهم أو هجاهم فيما نعتقد، بل لأنه كان خصمًا قويًّا عنيدًا ماهرًا في الخصام، وقد رأيت فيما قدمنا أمثلة من خصومته، وقوة حجته في الخصومة.

ثم هناك شيئان لا بد من الإشارة إليهما، ليكمل رأينا في مروان، ولنستطيع أن نحكم على شعره حكمًا مُعَلَّلًا، إن صح هذا التعبير:
  • الأول: أن مروان لم يكن عراقيًّا، ولم يرضَ الإقامة في العراق، ولم يُطِل عشرة العراقيين، من أهل المجون والعبث، وإنما كان من أهل اليمامة، أقام فيها، لا يبرحها إلا وافدًا على أمير أو وزير أو خليفة، فإذا أنشد قصيدته، وظفر بجائزته، عاد إلى اليمامة، وأقام فيها عامه، ثم استأنف الرحلة، ولهذا أثره في شعر مروان، فهو أقرب إلى شعر الجاهليين والإسلاميين منه إلى شعر المحدَثين من شعراء الحضارة العباسية، تقرؤه فتجد عليه هذه المسحة، التي تخلو، أو تكاد تخلو من الدعابة والخفة، وتمتاز بشيءٍ من الجلال والرصانة، وهو يمثل البادية تمثيلًا صحيحًا، ولهذا أثره في وجهة أخرى، فقد رضي علماء اللغة جميعًا عن مروان، وأحبوه من هذه الناحية، وما أشك أنا في أنهم كانوا يودون لو استطاعوا إيثاره على بشار وأبي نواس؛ لأنه كان أقرب منهما إلى الأسلوب البدوي القديم، ولكن أنى لهم ذلك وقد سلط الله عليهم لسان بشار وأبي نواس، فاضطروا إلى أن يحابوا هذين الشاعرين ويتملقوهما، وأجمعوا أو كادوا يجمعون على تقديم بشار، وإيثاره على مروان، ومع ذلك فليس إلى المقارنة سبيل بين الشاعرين، إذا اتخذنا وجهة البحث والنقد، هذه الوجهة التي كان يعنى بها علماء اللغة، وهي وجهة المتانة والرصانة في اللفظ والأسلوب، لا يقاس إلى مروان في هذا أحد من شعراء العراق، أما إذا اتخذنا وجهة أخرى للنقد، إذا اتخذنا اختلاف الفنون التي طرقها الشاعر، وقرب المأخذ، والدنو من أذهان الناس، والقدرة على تمثيل حياتهم، فليس مروان يقاس إلى بشار، ولا إلى أبي نواس بنوعٍ خاص، على أن من علماء اللغة من استطاع أن يكون شجاعًا شريفًا في فنه، لا يخاف ولا يهاب، فصدق نفسه، وصدق الناس وآثر مروان على غيره من الشعراء المعاصرين، وهذا العالم اللغوي هو ابن الأعرابي الذي ختم الشعر بمروان، وأبى أن يدون لأحدٍ من المحدثين بعده، والذي كان ينشد مع الإعجاب الشديد هذه الأبيات الجيدة من شعر مروان، وهي:
    بنو مطَرٍ يوم اللقاء كأَنَّهم
    أُسُودٌ لها في بطْن خَفَّانَ أَشْبُلُ
    هُمْ يمنعون الجار حتى كأَنما
    لجارهم بينَ السَّماكَيْن منزلُ
    لهاميمُ في الإِسلام سادوا ولم يكن
    كأَوَّلهمْ في الجاهلية أَوَّلُ
    هم القوم إِنْ قالوا أَصابوا وإن دُعُوا
    أَجابوا، وإن أَعطَوْا أَطابوا وأَجزلوا
    ولا يستطيع الفاعلون فِعالَهم
    وإِن أَحسنوا في النائبات وأَجْملوا

    وكان ابن الأعرابي يقول: لو أن مَعْنًا أعطى مروان كل ما يملك بهذه الأبيات لما بلغ حقه.

  • والآخر: أن مروان لم يكن سريعًا في الشعر، ولا متعجلًا، ولا مسترسلًا مع الطبع، وإنما كان بطيئًا متمهلًا، كان يجيد الشعر؛ لأنه كان يجوِّده، وكان يسلك هذه الطريقة التي يزعم الرواة أن زهيرًا كان يسلكها، في هذه القصائد التي يسمونها الحوليات، كان ينفق أشهرًا في إنشاء القصيدة، وأشهرًا في إصلاحها، وأشهرًا في عرضها، حتى إذا استقام له هذا كله، أنشد قصيدته لممدوحه، خليفة كان أو وزيرًا أو أميرًا، فليس عجبًا مع هذه الأناة أن يخلو شعره مما يستنكر، وأن يبرأ من الضعف والوحشية معًا.

ولقد يحدثنا الرواة بطائفةٍ من أخبار مروان مع اللغويين والشعراء، الذين كان يعرض عليهم شعره قبل أن ينشده الخلفاء، ولست أشير إلا إلى سيرته مع بشار، فلها معناها، كان مروان يعرض القصيدة على بشار، ويسأله رأيه فيها، فلا يجيبه بشار بأنها جيدة أو بأنها ردئية، بل يقدر له قيمة القصيدة ماليًّا، فيقول: سيعطونك عليها كذا وكذا … وقد صدق بشار مرتين، فأظهر له مروان العجب من ذلك، فقال بشار: ألم أقل لك إني أعلم الغيب! ولم يكن يعلم الغيب، وإنما كان يفهم مروان، ويفهم الخلفاء، ويفهم الميول السياسية، التي كان من شأنها أن تجزل حظ مروان من العطاء.

كان مروان متناقضًا، ولكنه تناقض مفهوم، كان شديد الحرص على الإجادة فكان يشك في شعره، ويستشير فيه الشعراء والنحاة، ولكنه كان مع ذلك معجبًا بنفسه، لا يقدم عليها أحدًا بعد هؤلاء الشعراء الثلاثة: الأخطل والفرزدق وجرير، واسمع رأيه فيهم وفي نفسه، فقد عقده شعرًا ليثبت كما يقول:

ذهب الفرزدقُ بالفَخَار وإِنما
حُلْو القريضِ ومُرُّه لجريرِ
ولقد هجا فأَمضَّ أَخطلُ تَغْلِبٍ
وحوى اللُّهى ببيانه المشهورِ
كلُّ الثلاثة قد أَجاد فمدحُه
وهجاؤه قد سار كل مَسِيرِ
ولقد جريتُ ففُتُّ غيرَ مهلِّلِ
بجراء لا قَرِفٍ ولا مَبْهورِ
إِني لآنَف أَن أُحَبِّرَ مِدحة
أَبدًا لغير خليفة ووزيرِ
ما ضرَّني حسدُ اللئام ولم يَزلْ
ذو الفضل يحسُده ذوو التقصيرِ

أما رأي مروان في النقد فبديع، كان ينشد الشعر لامرئ القيس، ويقول: هو أشعر الناس، ثم ينشد شعر الأعشى، ويقول: هو أشعر الناس، ثم ينشد شعر زهير، ويقول: هو أشعر الناس، حتى إذا أنشد لطائفة كثيرة من الشعراء، فرآهم جميعًا أشعر الناس، قال ضاحكًا: الناس أشعر الناس.

ولست أعرف رأيًا كهذا الرأي، يمثِّل الشك في نقد الناقدين المعاصرين والسخرية بهذا النقد.

أظن أني قد صورت لك مروان بن أبي حفصة تصويرًا مقاربًا، إن لم يكن صحيحًا، وكنت أريد أن أتحدث معه عن السيد الحميري، كما ترى في عنوان هذا الحديث، ولكني أطلت فأرجئ السيد إلى الحديث الآتي، وأختم هذا الفصل بموت مروان يقصه قائله.

روى صاحب الأغاني عن رجلٍ يقال له صالح بن عطية الأضجم، أنه قال: لما قال مروان:

أَنَى يكونُ وليس ذَاك بكائِن
لبني البناتِ وِراثةُ الأَعمام

لزمته، وعاهدت الله أن أغتاله، فأقتله أي وقت أمكنني، وما زلت ألاطفه وأبره، وأكتب أشعاره، حتى خُصصت به؛ فأنس بي جدًّا، وعرفت ذلك بنو حفصة جميعًا؛ فأنسوا بي، ولم أزل أطلب غرة، حتى مرض من حمى أصابته، فلم أزل أظهر له الجزع عليه، وألازمه وألاطفه، حتى خلا لي البيت يومًا، فوثبت عليه، فأخذت بحلقه، فما فارقته حتى مات، فخرجت وتركته، فخرج إليه أهله بعد ساعة، فوجدوه ميتًا، وارتفعت الصيحة، فحضرت وتباكيت، وأظهرت الجزع عليه حتى دفن، وما فطن بما فعلت أحد، ولا اتهمني به.

١  نُشرت بالسياسة في ١ من ذي القعدة سنة ١٣٤٢ / ٤ يونيو سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤