الفصل الثاني عشر

  • رد على كتاب.

  • مهذب الأغاني للأستاذ محمد الخضري.

  • تهذيب الكامل للأستاذ السباعي بيومي.

  • مدامع العشاق للدكتور زكي مبارك.

***

يصح أنْ نقف بين موضوعين وقفة للراحة ينتفع بها القارئ كما ينتفع بها الكاتب أيضًا، فقد فرغنا من الغزلين أو من أئمتهم، وقد ننتقل منهم إلى غيرهم، ولكن بعد أنْ نستريح وتستريح من هذا البحث الشاق الذي يعنِّي قارئه وكاتبه معًا، وربما كان من الخير أنْ ندع العصور القديمة من حينٍ إلى حين، لننظر في هذا العصر الذي نعيش فيه؛ فإن لهذا العصر حياة أدبية وعقلية مهما تكن ضئيلة فاترة فهي خليقة بالعناية، حرية بأن نقف عندها وقفات مهما تقصر فلن تخلو من فائدة، على أني أريد قبل كل شيء أنْ أشكر لهذا الكاتب الأديب — الذي ضن عليَّ باسمه ولقب نفسه جنديًّا مجهولًا من جنود الأدب — كتابه القيِّم الذي نشرته له «السياسة» صباح الإثنين، وأنْ أعلن إليه وإلى الذين كتبوا إليَّ يطلبون أنْ تجمع أحاديث الأربعاء في كتاب، أنَّ هذا الكتاب يطبع الآن، وأنه سيذاع بعد أسبوعين أو ثلاثة أسابيع.

أما بعد، فإن الجندي المجهول من جنود الأدب يريد أنْ يناقشني فيما أشرت إليه من وجوه الشبه القوية بين شاعرنا العربي الغزل عمر بن أبي ربيعة، والكاتب الفرنسي المعروف بيير لوتي، وربما كان محقًّا في بعض ما كتب؛ لأني لم أوفِ هذه المقارنة حقها، بل قلت: إني أشير إليها إشارة موجزة، وأطلب إلى الأدباء أنْ يفرغوا لدرسها درسًا مفصلًا، فمن المعقول إذن ألا يكون رأيي في المقارنة بين الرجلين واضحًا كل الوضوح، وأنا أريد أنْ أبين «للجندي المجهول من جنود الأدب» أنْ ليس بيني وبينه خلاف في جوهر هذه القضية، فهو يرى أنَّ الكاتب الفرنسي كان سيئ الخلق والسيرة، وهو يشير إلى ذلك إشارة كنت أَوَدُّ لو كانت أشد خفاء مما ورد في كتابه، ولست أعرف إلى أي حدٍّ ينبغي أنْ نقبل ما يقال عن بيير لوتي وغيره من الكُتَّاب والشعراء وما يوصفون به من سوء الخلق والسيرة؛ لا لأني أبرئهم من السوء أو أعصمهم من الزلل، فما كان شيء من ذلك ليخطر لي؛ بل لأن هؤلاء الكُتَّاب والشعراء معرضون لألوانٍ من الحسد وضروب من سوء القالة يكثر فيها الإسراف عادة، ولست أشك في أنَّ حياة بيير لوتي لم تخلُ من عبث وفساد، وربما كان هذا العبث كثيرًا، وربما كان هذا الفساد شديدًا، ولكنهما من غير شك أقل مما يذيع خصوم هذا الكاتب، وكل الكُتَّاب والشعراء الذين اتخذوا الحب لهم فنًّا — ولا سيما هذا النوع من الحب الحسي — كان لهم حظ قليل من سوء السمعة وقبح الصوت.

ولعل «الجندي المجهول من جنود الأدب» يعلم أنَّ زعيمة هذا الفن من الشعر الغزلي عند اليونان، وهي «سافو» التي عاشت في القرن التاسع قبل المسيح، قد اتهمت أشنع التهم في غير حقٍ ولا إنصاف، واتُّخذت مثلًا للمرأة الهلوك على اختلاف العصور والأجيال، مع أنها كانت في حقيقة الأمر أقرب إلى القصد والاعتدال في سيرتها منها إلى شيءٍ آخر، وكنت أظن أنَّ «الجندي المجهول من جنود الأدب» يقدر هذه الإشارة الخفية التي ذكرت فيها أمر عمر بن أبي ربيعة مع محمد بن عروة بن الزبير ومع غيره من الفتيان الحسان، وإذا لم يكن بد من التصريح فأنا ألفت الكاتب الأديب إلى أحد الغزلين الذين تناولتهم بالبحث، وهو الأحوص بن محمد، فقد كان يقال عنه بالضبط — إذا صح هذا التعبير — ما يقوله الكاتب الأديب عن بيير لوتي، وكانت تضاف إليه هذه الجملة المشهورة المنكرة التي لا أستطيع روايتها في هذا الحديث، والتي زعم خصومه أنهم ضربوه ونفوه من أجلها؛ ذلك لأن هؤلاء الشعراء الذين يتغنون الحب الحسي معرضون بحكم فنهم نفسه إلى أنْ يتورطوا في الإثم من جهةٍ، وإلى أنْ تشيع عنهم الفاحشة من جهةٍ أخرى، فليس «بيير لوتي» بدعًا من الغزلين إذن، فقد تورط فيما تورطوا فيه، ووصف بما وصفوا به، وقد أشرت في الحديث الماضي إلى أنَّ المقارنة بين الشاعر العربي والكاتب الفرنسي يجب أنْ تلاحظ فيها الفروق بين العصرين والجنسين والبيئتين، ولئن كانت حياة البحر قد أفسدت من حياة بيير لوتي وسيرته؛ فليس من شكٍّ في أنَّ هذه الحياة الفارغة التي كان يحياها شباب الحجاز والتي فصلتها غير مرة، قد أفسدت من أخلاق ابن أبي ربيعة وغيره من هذا الشباب.

ويرى الكاتب أنَّ «بيير لوتي» قد أسرف في الكذب، وضلل الغربيين في أمر المسلمين، فهل يعتقد الكاتب أنَّ ابن أبي ربيعة لم يكذب في قصصه الغرامية، ولم يضلل المحدثين والقدماء في أمر نساء قريش؟! وهل يظن الكاتب أنَّ عمر قد فعل كل ما قاله؟ وإذن فقد كانت جماعة المكيين والمدنيين أقبح الجماعات وأشدها إغراقًا في الفساد، أو هل يظن أنَّ ابن أبي ربيعة لم يفعل مما قال شيئًا، وإذن فقد كان أكذب الناس، وكان الذي يعجبون به مغفلين أو شرًّا من المغفلين.

وابن أبي ربيعة نفسه ينبئنا مرة بأنه فعل كل ما قاله ويستغفر الله، وينبئنا مرة أخرى بأنه لم يفعل مما قال شيئًا، والحق أنه فعل بعض ما قال، وقال كثيرًا مما لم يفعل، وما زلت ألح على الأدباء في أنْ ينعموا النظر في ديوان ابن أبي ربيعة وقصص بيير لوتي، فسينتهون إلى ما انتهيت إليه من قوة الشبه بين هذين الرجلين، ولا سيما من الوجهة الفنية الخالصة، وقد وعدت وما زلت أعد ببحث مفصل عن حب بيير لوتي، ولكني أنتظر إلى بقية المذكرات الخاصة التي تنشر الآن في باريس، وسيرى الكاتب الأديب أنَّ طبيعة حب بيير لوتي هي طبيعة حب عمر، وأنَّ منهج بيير لوتي في الاستمتاع بهذا الحب هو منهج ابن أبي ربيعة، وأنَّ أسلوب بيير لوتي في وصف هذا الحب وإعلانه هو أسلوب عمر، وأريد أنْ يلتفت الكاتب الأديب وغيره إلى أنَّ عمر قد نسك بعد لهو، وإلى أنَّ بيير لوتي حاول النسك غير مرة، وأريد أنْ يلتفت أيضًا إلى أنَّ هناك شبهًا قويًّا بين الصلة التي كانت تصل بيير لوتي بصديقه «بلومكت»، وتلك التي كانت تصل بين عمر وابن أبي عتيق، وهي صلة مشهورة أدبية وتعزية غرامية قبل كل شيء، ولأدع الآن عمر وبيير لوتي لأنتقل إلى شيءٍ آخر.

•••

أنا أريد أنْ أقدم إلى أستاذنا الجليل محمد الخضري بك ثناءً طيبًا وشكرًا جميلًا، بعد أنْ نظرت نظرة قصيرة جدًّا في الجزء الأول من كتابه الجديد: «مهذب الأغاني».

ولو لم يكن للأستاذ إلا أنه قد عكف على هذا العمل خمسة عشر عامًا حتى أتمه في غير تمدح به ولا إعلان له لكان خليقًا بأطيب الثناء وأجمل الشكر، فالذين يعملون ولا يقولون في هذا البلد وفي هذا العصر خاصة قليلون، وأقل منهم هؤلاء الذين يبتدئون العمل الطويل الشاق فلا تصرفهم عنه مشقته ولا طوله، ولا تلهيهم عنه أحداث الزمان وعواصف الحياة حتى يتموه، وأقل من هؤلاء وأولئك قوم يُقدمون على العمل الطويل الشاق فينفقون فيه ما ينفقون من قوةٍ ومال، وهم يعلمون أنهم لن يستردوا مما أنفقوا إلا شيئًا قليلًا، وربما لم يستردوا منه شيئًا، وهم مع ذلك يعملون، وربما شجعهم هذا اليأس على العمل، وكثيرًا ما تكون التضحية لذيذة، فالأستاذ الخضري خليق بالشكر والثناء لهذا كله.

أما العمل نفسه فسأكون حرًّا في الحكم له أو الحكم عليه، وسأصطنع هذه الحرية وإنْ كانت للأستاذ عليَّ حقوق تجعل من العسير أنْ أناله بالنقد، ولكني مع ذلك سأكون حرًّا، ولِمَ لا أكون حرًّا، وقد كتب إليَّ الأستاذ نفسه يطلب إليَّ أنْ أكون حرًّا! فلأشكر له مرة أخرى حريته وحسن رأيه في النقد، ولأقل: إني أحمد عمله وأعيبه، أحمده؛ لأن فيه نفعًا لا يكاد يحصى لعامة المستنيرين وجمهور الطلبة الذين لا يستطيعون أنْ يقرءوا «كتاب الأغاني» كما هو، والذين يجب مع ذلك أنْ يدرسوا الأدب العربي ويلموا بحياته، أقول: إنهم لا يستطيعون أنْ يقرءوا «الأغاني»، وأقول ذلك بعد تجربة وبلاء، فأنا أعيش مع الأغاني منذ حين، ولست أخفي على القارئ أنَّ كتاب الأغاني كثيرًا ما يغيظني، وذلك حين أشعر أنَّ «السياسة» عجلة تريد «حديث الأربعاء»، وأنَّ الوقت قصير، وأنَّ أسانيد الكتاب لا تنتهي، وأني مضطر إلى أنْ أقرأ ما فيه من تكرار، وأصلح ما في نسخته المطبوعة من خطأ، وأرجع إلى المصادر والأصول، وإذا كان كتاب الأغاني يغيظني أحيانًا فهو يغيظ كاتبي في كل وقت، وأنا أتخذ هذا مقياسًا لهؤلاء الطلاب الذين يجب أنْ يعرفوا الأدب العربي ويعسر عليهم أنْ يلتمسوه في كتاب الأغاني، وإذن فليس من شك في أنَّ الأستاذ الخضري قد أحسن إلى هؤلاء الطلاب إحسانًا لن يقدروه حق قدره مهما يكن حرصهم شديدًا على الوفاء، ولكني أعترف بأني لن أنتفع كثيرًا بكتاب الأستاذ الخضري، فقد يغيظني كتاب الأغاني وقد يغيظ كاتبي، ولكني مع ذلك لا أستطيع أنْ أنصرف عنه إلى كتابٍ مختصر مهما تكن قيمته ومهما يكن حظه من الإتقان، ومهما يكن صاحبه؛ لأن الباحثين حقًّا لا يستطيعون أنْ ينصرفوا عن الأصول، وإذن فكتاب الأستاذ الخضري نافع كل النفع للذين لا يريدون أنْ يتخذوا الأدب موضوعًا لبحث علمي دقيق.

ولي بعد هذا كله على الأستاذ ملاحظات، فقد كنت أحب قبل أنْ يبدأ هذا العمل أنْ يبحث لعله قد سُبق إليه، ولعل من سبقه قد أحسن اختصار الأغاني، وإذن فالخير إنما هو في نشر هذا المختصر القديم لا في إعادة هذا الجهد.

ويخيل إليَّ أنَّ ابن المكرم صاحب لسان العرب قد اختصر كتاب الأغاني، وأنَّ نسخة من مختصره موجودة بمكتبة الأزهر الشريف، وأنَّ تنقيح هذا المختصر على الوجه الذي أراده الأستاذ ونشره كان أيسره وأنفع من هذا الجهد الطويل الشاق الذي تكلفه الأستاذ، ويخيل إليَّ أنَّ المختصر جيد ومتقن سهل التناول، وقد قرأت منه قطعة عن أبي نواس مخطوطة بدار الكتب تذاع على الناس في هذه الأيام، ولهذا قلت: إنَّ هذا المختصر في حاجةٍ إلى التنقيح؛ لأن فيه ما لا يلائم الذوق الحديث، ويظهر أنَّ ملاءمة الذوق الحديث قد أصبحت شرطًا لنشر الكتب القديمة في هذه الأيام التي نعيش فيها، والتي هي أيام تكلف وابتداع، ألست تعلم أنَّ دار الكتب المصرية قد تكلفت ضروبًا من الجهد للتوفيق بين الكتب القديمة التي تنشرها وبين الذوق الحديث، فهي تنشر من هذه الكتب نسختين، نسخة مطهرة تلائم الذوق الحديث، ونسخة دنسة تلائم أذواق العلماء، ولهذا يجب إذا أردت أنْ تشتري أحد هذه الكتب أنْ تقول إنك من أنصار النسخ المطهرة أو النسخ الدنسة، ولست أدري كيف تستطيع دار الكتب أنْ تفرق بين العالم وغير العالم في توزيع نسخها المطهرة ونسخها الدنسة، وأجمل من هذا كله أسلوب الأستاذ زكي باشا في التوفيق بين الكتب القديمة والذوق الحديث، فهو يكره الحذف والتطهير، ويؤثر عليهما التحريف والتغيير، بحيث يجب عليك أنْ تكون ماهرًا في حل الألغاز لتفهم الكتب التي ينشرها زكي باشا على وجهها، ومن يدري! فسيكلفنا إرضاء الذوق الحديث أشياء كثيرة ترضاها أساليب البحث العلمي أو تمقتها، فالبحث العلمي شيء لا قيمة له أمام الذوق الحديث؛ لأن الذوق الحديث شيء يحرص عليه الرأي العام، والرأي العام هو صاحب الأمر والنهي في هذه الأيام، لا في المسائل السياسية وحدها، بل في العلم أيضًا، وماذا تريد؟ ألم تبلغ الديمقراطية عندنا من الرقي أقصاه!

ليس الغريب في هذا أنْ يريد الرأي العام أنْ تكون الكتب التي تذاع بين الشباب نقية مطهرة؛ فذلك من حق الرأي العام، ومن حق الشباب علينا ألا نذيع فيه ما يفسد ذوقه أو سيرته، وإنما الغريب أنْ يضطرنا هذا إلى مسخ الكتب وتشويهها والإساءة إلى المتقدمين فيما كتبوا، فقد كان المتقدمون يكرهون أنْ تختصر كتبهم أو تغير، كما كان أهل العصور الأولى يكرهون أنْ تنبش قبورهم.

ولست أنسى نقشًا فينيقيًّا استكشفه وأذاعه «رينان»، وفيه لعن منكر لمن ينبش هذا القبر أو يغير شيئًا فيه، ولست أنسى خطبة ياقوت الحموي لكتابه الجغرافي المشهور؛ فهو يحظر على الناس اختصار كتابه، ويستنزل ألوان السخط وضروب الآفات على من ينالون كتابه بالاختصار، وهو يقلد الجاحظ في هذا، ولعل صاحب الأغاني كان كغيره من القدماء يكره أنْ يشوه كتابه بالاختصار، ولكن ابن المكرم قد اختصره، فما الذي يمنع الأستاذ الخضري من أنْ يختصره مرة أخرى؟

هنا نصل إلى المسألة الأساسية وهي: ما الذي يحبب إلى العلماء المحدثين أنْ يختصروا كتب العلماء المتقدمين؟ الجواب سهل، وهو أنَّ هذه الكتب القديمة مخالفة في وضعها وترتيبها للذوق الحديث، لا من حيث إنها تشتمل على أشياء تنكرها آدابنا العامة فحسب، بل من حيث إنَّ طريقة التأليف نفسها تخالف نظامنا العقلي الجديد، وإذن فنحن بين اثنتين؛ إحداهما سهلة: وهي أنْ نمسخ الكتب القديمة لتلائم عقولنا. والأخرى عسيرة: وهي أنْ نأخذ عقولنا بمناهج البحث العلمي لتلائم الكتب القديمة، وهذا عسير، وغير ميسور للناس جميعًا، ومن الخير ألا يتورط فيه الناس جميعًا، فماذا تكون الحال لو أنَّ الناس جميعًا هيئوا عقولهم لملاءمة الكتب القديمة كما فعل الأستاذ الخضري وزكي باشا وطه حسين؟! الأمر إذن عسير، فلا بدَّ من اصطناع الخصلة الأولى؛ أي لا بدَّ من مسخ كتب القدماء رضي القدماء أو لم يرضوا، غير أني كنت أظن أنَّ هناك خصلة ثالثة ترضي القدماء والمحدثين معًا؛ لأنها تعصم كتب القدماء من المسخ والاختصار، وتتيح للمحدثين ما يحتاجون إليه من علم، وهي طريقة التأليف؛ ذلك لأن قدماء اليونان والرومان قد تركوا كتبًا قيِّمة جدًّا باليونانية واللاتينية، وهي لا تلائم الذوق الحديث في أوروبا، وكذلك ترك قدماء الفرنسيين والإنجليز والألمان كتبًا لا تلائم المحدثين من أبناء هذه الشعوب، ومع هذا فلسنا نرى أهل أوروبا الحديثة يضيعون وقتهم وجهودهم في اختصار هذه الكتب ومسخها لتلائم الذوق الحديث والعقل الحديث، وإنما نراهم يتركون هذه الكتب كما هي، ويضعون للمحدثين كتبًا عادية تلائم ميولهم وعقولهم وأذواقهم، وماذا تكون الحال لو أنَّ الأوروبيين انصرفوا إلى اختصار «توسيديد» و«هيرودت» و«أفلاطون» و«أرسطاطاليس» و«تاسيت» و«تيت ليف»؟!

تريد أنْ يلم المحدثون بما ترك هؤلاء القدماء؟ فضع لهم كتبًا في التاريخ القديم والفلسفة القديمة والأدب القديم تلائم ميولهم وعقولهم، وترجم لهم هذه الكتب القديمة، فمن كان منهم مهيأ لفهم القدماء قرأ هذه الكتب المترجمة، ومن لم يكن مهيأ لفهمها قرأ هذه الكتب المؤلفة، وهل تظن أنَّ الأستاذ الخضري كان عاجزًا عن وضع كتاب في الأدب يتيح للمحدثين فهم ما يحتاجون إليه من أطوار الأدب العربي، دون أنْ يرجعوا إلى كتاب الأغاني فيتكلفوا المشقة، دون أنْ يختصر هو كتاب الأغاني فيتكلف الجهد في شيءٍ مهما يكن قيِّمًا فشخصيته فيه ضئيلة ضعيفة؟ أما أنا فأعتقد أنه كان يستطيع أنْ ينفق هذه الأعوام الطوال في وضع كتاب مفيد تظهر فيه شخصيته، ويكون أشد ملاءمة للعصر الحديث من هذا المختصر، الذي ليس هو بالقديم الخالص ولا بالجديد الخالص، وليس هو لأبي الفرج ولا هو للأستاذ الخضري، وإنما هو شيء بَيْنَ بَيْنَ، وحظ شائع بين رجلين، لست أستطيع إلا أنْ أثني على هذا الجهد القيِّم الذي بذله الأستاذ في إصلاح الخطأ وإكمال الرواية وما إلى ذلك، ولكني أعتقد أنه كان يستطيع أنْ يصلح خطأ الأغاني ويكمل روايات الأغاني في كتاب علمي قيِّم مستقل، يعتبر خدمة لكتاب الأغاني، كما يقول الأزهريون.

وإذا كنت لا أستطيع أنْ أضن بالثناء على الأستاذ من هذه الناحية؛ فأنا لا أستطيع أنْ أخفي عليه وجهًا من وجوه النقد، وهو أنه قد حذف المكرر وألغى أشياء رأى أنها لا تفيد، وقد أفهم حذف المكرر، ولكني لا أفهم إلغاء ما يعتقد الأستاذ أنه لا يفيد، فقد تحكم أنت بأن هذا الشيء لا يفيد، وأحكم أنا بأنه قيِّم نافع، ولك أنْ تمحو ما تشاء وتثبت ما تشاء إذا كنت مؤلفًا، فشخصيتك ظاهرة في كتابك، وهي تستطيع أنْ تحتمل تبعة هذا الكتاب، ولكنك لا تملك هذا في مختصر؛ لأن شخصيتك ليست ظاهرة؛ لأنها تتوارى خلف شخصية المؤلف، ولأن القارئ يضطرب بينكما فلا يدري على أيكما يلقي التبعة، فأنت ترى أني قد تناولت عمل الأستاذ الخضري مع ما أنا أهل له من حرية النقد، ولكني مع هذا كله أثني على هذا العمل ثناءً طيبًا، وآسف لهذا الجهد أسفًا شديدًا.

•••

كل هذه الأشياء التي قدمتها وأشياء أخرى لم أذكرها ولم أشر إليها تجنبًا للإطالة، منعتني في الصيف الماضي من أنْ أعرض لكتاب يشبه كتاب الأستاذ الشيخ الخضري في موضوعه وغايته وأسلوبه، وهو كتاب «تهذيب الكامل» للأستاذ السباعي بيومي، أظنك تعفيني من أنْ أتناول كتاب كامل المبرد بالشرح أو التعريف، فليس هذا الكتاب أقل شهرة ولا نفعًا من كتاب الأغاني، وقد رأى الأستاذ السباعي بيومي — كما رأى الأستاذ الخضري — أنَّ هذا الكتاب مضطرب في ترتيبه مخالف لنظامنا العقلي، فمسخة ليلائم عقلنا الجديد، كما فعل الأستاذ الخضري بكتاب الأغاني، ويجب أنْ نكون منصفين، فالأستاذ السباعي بيومي لم يتناول كتاب الكامل بالحذف والبتر كما فعل الأستاذ الخضري بكتاب الأغاني، وإنما رتب الكتاب ترتيبًا جديدًا، فجمع الأشياء إلى نظائرها، ثم ظهر له أنَّ هناك أشياء لا يمكن أنْ ينالها الترتيب؛ لأن المؤلف أراد أنْ تكون كذلك، مثال هذا: باب وضعه المبرد وعنوانه بهذا العنوان: «باب نذكر فيه من كل شيء شيئًا.» فلم يستطع إلا أنْ يجمع كل هذه الأشياء التي لا تقبل الترتيب في قسمٍ واحد سماه ذيلًا، ولكن أبا العباس المبرد لم يضع هذه الأبواب لتكون ذيلًا لكتابه، فبأي حق تستبيح لنفسك يا سيدي الأستاذ أنْ تفسد على الرجل نظام كتابه؟ إني لأسمع الجواب وهو جواب معروف، فما أراد الأستاذ المهذب إلا أنْ يكون كتاب الكامل للمبرد ملائمًا للذوق الحديث، ويلٌ للقدماء وعلم القدماء وكتب القدماء منا ومن ذوقنا الحديث، بل ويل للمحدثين من هذه الجهود الضائعة التي لو أنفقت في التأليف، لأفادت ونفعت أكثر من نفعها وفائدتها حين تنفق في المسخ والتشويه، أنا مضطر إلى أنْ أثني على هذه الجهود، ومضطر إلى أنْ آسف عليها أيضًا.

•••

هناك جهد آخر لم يضع، ولكنه شديد الخطر أسمح لنفسي بإنكاره بعض الإنكار، وهو هذا الجهد الذي أنفقه الدكتور زكي مبارك في فصولٍ جمعها في كتابٍ وسماها «مدامع العشاق»، عنوانها يدل على موضوعها، ولكني لا أدري أيدل على غايتها أيضًا؟ فليس من شكٍّ في أنَّ لهذه الفصول قيمة أدبية لا تخلو من خطر، ولكني لا أشك مع الأسف في أنَّ كاتبها لم يستطع أنْ ينسى نفسه وأهواءها في هذه الفصول، فليست غايته — فيما يظهر — علمية خالصة ولا أدبية خالصة، وإنما تملق الكاتب عواطفه وعواطف قرائه وأسرف في هذا التملق، فخرجت فصوله على أنْ تكون مباحث علم وأدب، وأصبحت مباحث استثارة للعواطف وتحريض للأهواء، ولذلك وجهه في الحياة الأدبية، فلكل كاتب أنْ يعلن عواطفه وأهواءه، وأنْ يدافع عنهما كما يجب، ولكن لذلك طورًا لا ينبغي أنْ يعدوه الكاتب، وأظن أنَّ الدكتور زكي مبارك يعرف هذا الطور ولا يحتاج إلى أنْ ألفته إليه، وأنا ألاحظ أنَّ فكرتين اثنتين تعبثان بالحياة الأدبية لهذا الكاتب وتفسدان عليه جهوده، أو قل فكرة واحدة ذات وجهين؛ فهو يريد أنْ يكون حرًّا في الدين، وحرًّا في الأدب، وقد لامه قوم في حريته هذه، فخيل إليه أنه مضطهد يتبعه رجال الدين بإنكارهم إذا عرض للدين، ويتبعه رجال الأخلاق بإنكارهم إذا عرض للآداب، وكأن الخصومة قد اشتدت بينه وبين مضطهديه؛ فهو يتكلف غيظهم وإحراجهم، ولكن الغيظ والإحراج قد يكونان من أسباب الشهرة أحيانًا، ولن يكونا من مناهج العلم في يومٍ من الأيام، وأظن أنَّ صديقنا الأستاذ منصور قد نصح لتلميذه الدكتور زكي مبارك بالقصد والاعتدال، فلأنصح له بهما أيضًا، وليس يمنعني هذا التحفظ من أنْ أقدر كتابه وأثني عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤