الفصل الثالث عشر

  • عود إلى «مهذب الأغاني» للأستاذ محمد الخضري.

  • «بلاغة العرب في الأندلس» للأستاذ الدكتور أحمد ضيف.

***

أرسل إليَّ الأستاذ الخضري هذا الكتاب، وما أحسب أنه أراد أنْ يكون هذا الكتاب وقفًا عليَّ، وإنما أراد أنْ يقرأ الناس رأيه فيما وجهت إليه من نقد، ودفاعه عما بذل في تهذيب الأغاني من جهد، وأنا سعيد بأن أذيع في الناس هذا الكتاب القيِّم، وأبدأ به هذه الصحيفة، قال الأستاذ:

إلى الدكتور طه حسين من محمد الخضري، السلام عليك ورحمة الله، وبعد، فقد قرأت نقدك لما اتجهت إليه الهمة من «مهذب الأغاني»، وإني شاكر لك كلماتك التي صدرت بها نقدك، فأنت أبر الأبناء وأفضلهم.

وإذا سرني أنْ تكون لك الحرية فيما تنقد به كتابي، فأظنك لا تبخل عليَّ بقسطٍ منها حتى أساجلك الحديث دفاعًا عن نفسي، وعهدي بك والحقُّ غايتك.

عبت عليَّ أنْ بذلت تلك السنين الطوال في تهذيب كتاب أحق الناس به صاحبه، وتمنيت أن لو بذل هذا المجهود في كتابٍ جديد في الأدب العربي رأيتني قادرًا على القيام به، وإني لمجيبك عما حدا بي إلى خلافك.

إنَّ ما ضمنه أبو الفرج — رحمه الله — كتابه «الأغاني» ثروة الأدب العربي، لمؤلفه فضل جمعها، ونقلها بأسانيدها عن فحول الكُتَّاب وحفاظ الرواة، فيها الشعر الرائع والنثر الفاخر، وكلاهما لسلف أبي الفرج من الشعراء المجيدين والكُتَّاب البارعين، وإني أصارحك الحديث وأنت جد عليم بأن أبا الفرج ومن شئت أنْ تسمي من كُتَّاب العرب عاجزون عن أبدع ما تضمنه كتاب الأغاني، صارت هذه الثروة إلى قومنا من أهل الجيل الحاضر يتأدبون بها، وينتهجون طرق الكتابة بقراءتها.

نظرت فرأيت هذه الثروة قد ألمَّ بها ما كاد يضيع الانتفاع منها، ذخائرها مبددة الشمل، وفرائدها قد وهى سلكها، وتبرها قد أخفاه غبار التحريف، وأضله دخان التشويش، شعرت بهذا وأحس به من تحدثت إليه من المتأدبين وشعرت به أنت، فكان من الواجب أنْ نتقدم إلى الجمهور من قومنا بتنظيم هذه الثروة حتى يمكنهم أنْ يستفيدوا منها، لو كان الطراز الذي نريد أنْ نتقدم به إليهم من طراز ما تتحفهم به في صحيفة الأدب من نقد الشعراء واستنباط الحقائق التاريخية ولذيذ الفكاهات، لو كان الأمر كذلك لألقيت إليك بالمقاليد معترفًا بالعجز عن بلوغ مداك، أما وغرضنا هو أنْ نسهل للمتأدبين الانتفاع بالثروة التي جمعها لنا أبو الفرج فلم يكن هناك بدٌّ من أنْ نحفظ له تلك اليد التي أسداها إلينا، ونبقي اسمه خالدًا وننتفع بتلك الثروة على أيسر الوجوه وأسهلها فماذا صنعت؟

ألفيت الأدب العربي مبدد الشمل فرتبته، وضعت كل درة بجانب أختها، وكل إلف بجانب أليفه، فإذا أراد القارئ أنْ يقرأ ما تقر به نفسه من شعر عصر أو شعر قبيلة بعينها، كان ذلك ميسورًا، وهذه ضالة تنشدها أنت بما تتحف الجمهور به في صحيفتك الأدبية.

وجدت تحريفًا كثيرًا يُضل الشادي ويتعب العالم، وقد أحسست أنت بأثره، فبذلتُ من الجهد ما الله به عليم في إصلاح ذلك الفساد.

وجدت نقصًا في فاخر الشعر وجيده كما يصفه أبو الفرج، فأتممت ذلك النقص لما توقعت من جدوى ذلك على طلاب الآداب.

وجدت نقصًا في ضبط الغريب وتفسيره، فاحتملت عبء ذلك كله، وأزلت عناء كان يشعر به أمثالي من قراء الأغاني، وقد تلقيت كتبًا كثيرة تستزيد من هذا الضبط وهذا التفسير، وسأكون عند هذه الرغبة فيما أستقبل من الأجزاء إنْ شاء الله.

أما ما نقصته منه فلم يَعْدُ إحدى اثنتين، إما فحش صد عن الأغاني وجوه كثير من أهل الأدب، كانوا يشكون ذلك منه ومن أكثر كتب الأدب العربي، وإني معهم في ذلك، وكثيرًا ما رأيت ابن هشام راوي سيرة رسول الله عن ابن إسحاق، إذا روى شعرًا يقول: «تركنا هنا بيتًا أو بيتين وأكثر أقذع فيها.» فليس الامتعاض من الفحش والإقذاع مقصورًا على أهل جيلنا، بل كان لنا فيه سلفٌ صالح نريد أنْ نستن بسنتهم، وإما أشياء قلت عنها لا تُفيد أدبًا ولا تُرقي فكرًا، لست يا سيدي من طغاة الأدب حتى توجه سهمك إليَّ، وإنما أنا رجل خبرت الناس وعرفت ما يفيد وما لا يفيد، فاستضأت بهذه الخبرة في حذف ما حذفت، ولعلك تكون لي لا عليَّ متى حان وقت نقدك المفصل بعد أنْ تقارن بين ما ضمنته «مهذب الأغاني» لشاعرٍ معين، وبين ما تراه في الأغاني، وإني أؤكد لك من الآن أنَّ المتروك من ذلك قليل لا تكاد فائدته تساوي قراءته.

أما ما ذكرت من كتاب ابن منظور، فإني قد اطلعت عليه، ولم أره كفيلًا بحاجة المتأدبين من قومي؛ لأنه رتب الشعراء والمغنين فيه على حروف المعجم، وهذا غير ما قصدت إليه من التأليف بين من جمعهم عصر واحد أو قبيلة واحدة، وعمله تغني عنه الفهارس، على أنه لم يحمل العبء الذي حملته من الإصلاح والضبط والتفسير وحذف ما لا يجوز في كتاب إثباته.

لعلك تتفضل بالتفصيل بعد الإجمال، وإذ ذاك أرجو أنْ ترى أنَّ ما بذلته من المجهود قد وقع موقعه، وأنَّ تهذيب الأغاني كان يجب أنْ يظهر في عالم الأدب منذ أزمان؛ ليكون لكتاب الأغاني أثره في نفس قرائه، وليقتسم الفضل فيه أبو الفرج — رحمه الله — فإنه جمعه، ومحمد الخضري فإنه هذبه.

وبعد، فالسلام عليك من شيخ يحبك، ويتمنى أنْ يعلو في عالم الأدب صوتك.

محمد الخضري

نعم، إذا كنتُ أحرص على أنْ أكونَ حرًّا في النقد عامة وفي نقد أساتذتي خاصة؛ فأنا شديد الحرص على أنْ يكون الناس أحرارًا في رد ما أوجهه إليهم من نقد، وفي إظهار ما قد أتورط فيه من خطأ، وأنا لا أعترف لهم بهذه الحرية فحسب، وإنما أقدم لهم عليها أجمل الشكر وأحسن الثناء، وأتجاوز هذا إلى الاعتراف بالخطأ في الرأي والجور في الحكم إنْ دلوني على خطأ أو جور، وليعلم الكتاب والمؤلفون أنَّ صناعة النقد في نفسها ليست لذيذة ولا محببة إلى النفس، وأنَّ الناقد حقًّا لا يبتغي النقد للنقد، وإنما هو يضطر إليه اضطرارًا، يضطره إليه حبه للحق، وميله إلى الإصلاح، ورغبته في الخير، وليس محببًا إلى النفس أنْ يبحث الناقد عن سيئات الناس وأغلاطهم وما يعرض لهم من ضعف وما يصيبهم من زلل، ليس ذلك محببًا إلى النفس إلا أنْ يكون الإنسان شريرًا بطبعه، ميالًا إلى الإساءة والأذى، وأرجو ألا أكون من هذا كله في شيء، لهذا يسرني أنْ يدلني مؤلف أو كاتب على أنني أخطأت حين نقدته أو جُرْتُ حين حكمت عليه؛ لأعدل عن هذا الخطأ وأصلح هذا الجور، وأنا أؤكد للكتاب والمؤلفين أني أشد سرورًا بالعودة عن رأي خاطئ مني بإذاعة هذا الرأي قبل أنْ أعرف خطأه، ولقد كنت أريد حين وصل إليَّ كتاب الأستاذ الخضري أنْ أجد فيه ما يحملني على أنْ أغير من رأيي قليلًا أو كثيرًا، فقرأت الكتاب وقرأته وتدبرت الكتاب، وتدبرته دون أنْ أظفر بما كنت أريد، فالأستاذ والقراء يعلمون أني حمدت للأستاذ هذا الجهد، وما زلت أحمده وأعلن أنه شاق عسير لا ينهض به إلا من أتيحت لهم قوة الإرادة والصبر على المكروه، والاستعداد للتضحية بالوقت والراحة والمال، أعلن هذا كله ولا أغير رأيي فيه، ولكني مع ذلك أحتفظ برأيي كاملًا في تهذيب كتب القدماء واختصارها وتغيير نظامها، وأعد هذا مسخًا وتشويهًا، وأرى أنه مهما يكن نافعًا مفيدًا فهو لا يخلو من الشر ولا يعفي صاحبه من اللوم؛ ذلك لأني أرى أنَّ لصاحب الكتاب حقًّا مطلقًا في أنْ يبقى كتابه كما وضعه دون أنْ يناله تغيير أو تبديل؛ لأن كتاب الرجل جزء من نفسه، وما كان لك مهما ترد من الخير أنْ تعبث بنفوس الناس.

تريد أنْ تقرب الأدب العريق إلى هذا الجيل، وأنْ تبيح للناس الانتفاع بهذا الأدب في غير مشقة ولا عناء؟ ذلك لك، فخذ من كتاب الأغاني ما أحببت، ورتبه كما تريد، واعْرضه على الناس في الصورة التي تهواها، ولكن دع كتاب الأغاني كما وضعه صاحبه، فهو لم يضعه لتأتي أنت فتغيره أو تبدله، وهب كتابك قد راج حتى استأثر بما كان للأغاني من شهرة فانصرف الناس عن الأغاني إلى مهذبه، وضاعت نسخ الأغاني من بين أيديهم؛ فليس من شكٍّ في أنَّ الصورة التي سيتخذونها من علم أبي الفرج ومذهبه في التأليف لن تكون صحيحة ولا صادقة، وأنت بذلك تسيء إلى أبي الفرج، ستقول: إنك أردت أنْ تنفع الناس، ولكنك كنت تستطيع أنْ تنفعهم دون أنْ تسيء إلى هذا المؤلف المسكين، تريد أنْ تشاطر أبا الفرج مجده واستحقاقه للخلود، ولم تقاسمه مجده؟! ولِمَ لا تبني لنفسك مجدًا مستقلًّا وأنت قادر على ذلك؟! تريد أنْ تضمن الخلود لأبي الفرج! معذرة يا سيدي الأستاذ، فقد عاش كتاب أبي الفرج ألف سنة قبل أنْ يظهر كتابك، وعاش رغم مختصر ابن منظور، وها نحن أولاء نرى كتاب أبي الفرج ذائعًا منشورًا، ومختصر ابن منظور مقبورًا مجهولًا، وأنا شديد الإشفاق على كتابك أنْ يكون حظه كحظ مختصر ابن منظور، وشديد الثقة بأن المهذبين والمختصرين مهما يلحوا على كتاب الأغاني بالتهذيب والاختصار، فسيبقى هذا الكتاب كما تركه صاحبه، وكما أراد أنْ يكون.

بقيت مسألة عظيمة الخطر جدًّا أريد أنْ ألفت إليها الأستاذ خاصة ورجال الأدب والتأليف عامة، وهي أنهم يجدون في كتب القدماء ألوانًا من الضعف والنقص والاختلاط وسوء الترتيب، فيخيل إليهم أنهم يحسنون إلى هؤلاء القدماء بإصلاح ما في كتبهم من عيب، وهذا حق، فهم يحسنون إلى القدماء وإلى المحدثين أيضًا، ولكنهم يسيئون إلى القدماء حين يضطرهم هذا التهذيب والإصلاح إلى التغيير والتبديل وإلى المسخ والتشويه.

تريد أنْ تصلح ما في الأغاني من نقص وفساد؟! ذلك لك، ولكن لا على النحو الذي سلكت، وإنما على نحوٍ آخر هو الذي سلكه العلماء الأوروبيون وكثير من علمائنا نحن قبل هذا العصر، وهو أنْ تضع كتابًا مستقلًّا فيه إصلاح ما في الأغاني من نقصٍ وفساد، ومن ضعف واضطراب، وما الذي كان يمنعك من أنْ تكمل نقص الأغاني وتضبط غريبه، وتيسر على الناس البحث فيه بكتاب يؤلف من جزء أو جزأين على نحو ما فعل المستشرقون الأوروبيون الذين وضعوا فهرس كتاب الأغاني! فرق عظيم بين من يريد أنْ يصلح كتابًا ليسهل على الناس الانتفاع به، ومن يريد أنْ يغير كتابًا ليقاسم المؤلف حقه في المجد والخلود.

ومسألة أخرى، هي مسألة ما حذف الأستاذ من الكتاب، وأنا أعلم حق العلم أنَّ من المتقدمين من كان يعدل عن رواية الفاحش من الشعر، سواء أكان فحشه مؤذيًا للعاطفة الدينية أو للأخلاق والآداب، أعرف أنَّ ابن هشام عدل في السيرة عن شعرٍ فاحش، وأعرف أنَّ المبرد أبى أنْ يروي كل ما قال كعب بن جعيل في علي، وأعرف أنَّ أبا الفرج نفسه أبى أنْ يروي كثيرًا من شعر السيد الحميري؛ لأن فيه سبًّا لأبي بكر وعمر، أعرف هذا كله، وأعرف أنَّ ابن قتيبة كان ينكر مثل هذا التحرج وهو يعيبه عيبًا شديدًا في مقدمة كتابه المعروف: «عيون الأخبار»، أعرف إذن أنَّ القدماء كانوا في هذا الأمر كما نحن الآن، منهم من يتحرج من رواية الفحش، ومنهم من لا يتحرج، أعرف هذا كله، ولا أغير مع ذلك رأيي في عمل الأستاذ تغييرًا قليلًا ولا كثيرًا، لك أنْ تتحرج من رواية الفحش أو لا تتحرج، ولكن في كتاب تضعه أنت لا في كتاب يضعه غيرك.

تقول: إنك لست من طغاة الأدب، وأنا أعتقد أنك لست من طغاة الأدب، ولكني أعتقد مع ذلك أنَّ من الطغيان على أبي الفرج أنْ تحذف من كتابه شيئًا وضعه هو في كتابه، وأنَّ من الطغيان على قراء الأغاني أنْ تحرمهم قراءة شيء في الأغاني كان من حقهم أنْ يقرءوه، لست أشك في أنك أردت الخير، ولكني لا أرى لإنسان مهما يكن حقًّا في أنْ يكره الناس على أنْ يكونوا أخيارًا فيما يكتبون، أو فيما يقرءون، أو فيما يعملون، لا أعرف لهذه الحرية حدًّا إلا القوانين العامة، وأحسب أنَّ القوانين العامة لم تكلفك ولم تكلف غيرك من العلماء تطهير كتاب الأغاني أو غير كتاب الأغاني، ثم لا أزال أحتفظ برأيي كاملًا في هذه الأشياء التي رأى الأستاذ أنها لا تفيد، فمهما تكن الخبرة التي اكتسبها الأستاذ فهي لا تبيح له حذف هذه الأشياء من كتاب الأغاني، وإنما تبيح له حذف ما يشاء من كتاب يضعه هو لا غيره.

وبعد، فإني أشكر للأستاذ على كل حال ما يتكلف من ضبط الغريب وتفسيره، وتكميل الشعر وترتيبه، وأستزيده من ذلك مع المستزيدين، وأثني على جهده مع المثنين، ولكني آسف — وقد أكون وحيدًا في هذا الأسف — على هذا الجهد الذي كان يمكن أنْ ينتج للناس كتابًا قيِّمًا مستقلًّا يكون مجده خالصًا للأستاذ دون أبي الفرج.

•••

قلت: إنَّ النقد صناعة ليست باللذيذة ولا المحببة إلى النفس، فهي تكلف الناقد ضروبًا من المكروه وألوانًا من الألم، قد كان يستطيع أنْ يستغني عنها لو صرفه الله عن هذه الصناعة، ولكنها مع ذلك صناعة نافعة أو قل لازمة، أو قل لا حياة للأدب بدونها، ولا قوام له من غيرها، فنحن إذن مضطرون إلى أنْ ننقد، ونحن إذن مضطرون إلى أنْ نتحمل الأذى ونتعرض للمكروه في سبيل هذا النقد، ولست أخشى أذى خارجيًّا أو مكروهًا يلقاني من الكُتَّاب أو المؤلفين، وإنما أخشى هذا الأذى المنكر الذي يجده الإنسان في نفسه، وهذا المكروه الثقيل الذي يلقاه الإنسان من نفسه حين يتناول بالنقد كتب الإخوان والأصدقاء وأهل المودة والقرابة، فالدكتور أحمد ضيف أخ لي لا تصل بيني وبينه حياتنا في الجامعة المصرية وحدها، بل تصل بيني وبينه حياة قضيناها معًا في فرنسا كان فيها الحلو والمر، وكان فيها الخير والشر، وكنا نبلو حلوها ومرها ونحتمل خيرها وشرها أخوين صادقين، لا يعدل أحدهما بصاحبه إنسانًا ولا بمودة صاحبه شيئًا آخر، ومع هذا كله فأنا مضطر إلى أنْ أتناول بالنقد كتابه القيِّم الذي أذاعه في الناس منذ أشهر، وهو كتاب «بلاغة العرب في الأندلس».

لصديقي الأستاذ أحمد ضيف حظان مختلفان أشد الاختلاف: حظ في الجامعة حيث يعلم الطلبة ويبصرهم بمناهج البحث الأدبي، وحظ خارج الجامعة حيث يذيع كتبه ومباحثه الأدبية، أما حظه في الجامعة فحسن جدًّا خليق بالغبطة، فقد وفق الأستاذ لأن يفتح أمام تلاميذه مناهج جديدة للبحث سلكوها فوفقوا فيها لخيرٍ كثير، ولقد حدثتك غير مرة عن تلميذ للأستاذ تناول ألوانًا من البحث الأدبي فكان حظه من الإجادة عظيمًا، هو الدكتور زكي مبارك، وسأحدثك عن تلميذٍ آخر للأستاذ تناول الأدب العربي في الأندلس فأظهر كتابًا لا بأس به، وهو كامل أفندي الكيلاني، وليس بالشيء القليل على أستاذ أنْ يكون من تلاميذه المؤلفون الذين لا يسيئون التأليف، ولما يمضِ الأستاذ في مهنة التعليم إلا أعوامًا قصارًا.

حظ الأستاذ أحمد ضيف من هذه الناحية حسن خليق بالغبطة، ولكن حظه من الناحية الأخرى سيئ مع الأسف الشديد، هو موفق في التعليم، غير موفق في التأليف، ولقد حاول أنْ أجد سببًا لهذا، وأحسبني لا أخطئ ولا أتجاوز القصد إنْ قلت: إنَّ السبب الأساسي الذي يحول بين الأستاذ وبين الإجادة اللائقة به في كتبه هو أنَّ نفسه سريعة الحركة، مسرفة في هذه السرعة، لا تكاد تعرض للشيء فتثبت له حتى تقتله بحثًا ودرسًا وتنضجه فهمًا وتفكيرًا، وإنما هو شديد السأم كثير الملل، لا يكاد يلم بالموضوع حتى يسأمه ويزيد فيه، وينتقل منه إلى موضوع آخر فيسأمه ويزيد فيه، وينتقل منه إلى موضوعٍ ثالث وموضوع رابع، وتكون نتيجة هذا السأم وهذا الانتقال السريع آراء كثيرة ظاهرة الجدة، ولكنها غير ناضجة ولا واضحة ولا قابلة للبحث، وإذا كانت الأناة شرطًا أساسيًّا للإجادة والإتقان في كل شيء مهما يكن نوعه، فهي الشرط الأساسي الوحيد للحياة العقلية المنتجة، وربما لم تكن المناهج العلمية شيئًا إلى جانب الأناة العلمية؛ ذلك لأن المناهج العلمية المنتجة على قيمتها ولزومها ليست في حقيقة الأمور إلا نتيجة طبيعية للأناة العلمية، وقد صدق رسول الله حين قال: «إنَّ المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.» وأظهر ما يكون ذلك في العلم والأدب والمباحث العقلية على اختلافها، فإن هذه النتائج الباهرة التي انتهى إليها العلماء والأدباء ليست في حقيقة الأمر إلا آثارًا لجهود طويلة بطيئة شاقة، ذهبت فيها القوى وأنفقت فيها لا أقول الأشهر، ولا أقول الأعوام، ولا أخطئ إذا قلت القرون، فكم من فكرة علمية أنفق فيها العالم حياته كلها، ثم انقطعت به أسباب هذه الحياة دون أنْ يتمها درسًا، وجاء بعده العالم أو العلماء فأنفقوا فيها مثل ما أنفق أو أضعاف ما أنفق من جهدٍ ووقت، وكذلك الأمر في الأدب، وكذلك الأمر في الحياة العقلية كلها، فإذا كان للحياة العقلية المنتجة عدو حقًّا، فإنما هو العجلة والإسراف في السرعة، ولقد تقرأ الكتابين اللذين أظهرهما الأستاذ الدكتور ضيف منذ بدأ الدرس في الجامعة، فتشعر بما أشعر به من أنَّ الأستاذ تعجل فأسرف في العجلة، وأذاع في الناس آراء لم تنضج في نفسه كما ينبغي، فلم يتقن هو فهمها، ولم يستطع الناس أنْ يفهموها من بعده، تشعر بهذا، وتشعر بشيءٍ من الألم وضيق الصدر إذا كنت تعرف الأستاذ وكفايته وقدرته على الإجادة والإتقان، فأنت لا تكاد تقرأ صفحة واحدة من أحد الكتابين حتى تشعر بهذا الضيق، وحتى تشعر بغموض شديد، وحتى تسأل نفسك ملحًّا متشددًا في الإلحاح: ماذا يريد أنْ يقول؟ وأنت تستطيع أنْ تسأل نفسك وأنْ تسألها، بل أنْ تسأل المؤلف وتلح عليه دون أنْ تجد الجواب المقنع؛ ذلك لأن المؤلف ألم بالموضوعات إلمامًا ولم يتقنها إتقانًا.

ولقد فرغت الآن من مقدمة كتابه الآخر في بلاغة العرب في الأندلس، ويؤلمني أني لم أفهم منها شيئًا، أو أني لم أستقر منها على شيء؛ فأنا أشعر بأن الأستاذ يريد أنْ ينكر على القدماء والمحدثين تصورهم للأدب وحكمهم عليه، فيخيل إليَّ أنه سيضع للأدب تعريفًا جديدًا، ويحكم عليه حكمًا جديدًا، يرسم فيه مناهج للبحث والفهم جديدة، فإذا مضيت في القراءة لم أجد إلا غموضًا وإبهامًا، ثم رجوعًا إلى تصور القدماء وحكم القدماء والنقل عن القدماء، ليس الأدب في رأي الأستاذ ضربًا من الفكاهة والتسلية، ولا نادرة ظريفة، ولا عبارة طريفة، ولا حكمة بليغة، ولا بيت شعر يملك النفس ويسحر اللب بتركيبه البليغ وألفاظه الفصيحة، وليس الأديب في رأي الأستاذ من كان «كثير النادرة حاضر الذاكرة، واسع الاطلاع، أنيس الجليس، عذب الحديث حافظًا راوية»، وليس كتاب الأدب في رأي الأستاذ ما كان جامعًا «لكثيرٍ من مسائل اللغة وقواعدها، والشعر وأنواعه، والنوادر الخاصة والعامة وتواريخ الأمم»، وليس الكاتب في رأي الأستاذ من كان «طلي العبارة، عارفًا باختيار الألفاظ، عالمًا بكثيرٍ من المترادفات تنقاد البلاغة إليه انقيادًا، فيصور الحق باطلًا ويجعل الباطل حقًّا».

ليس الأدب ولا الأديب ولا الكتاب الأدبي ولا الكاتب في رأي الأستاذ شيئًا مما قدمنا، فما الأدب إذن؟ الأدب عند الأستاذ «نتائج العقول والقرائح البشرية وقوة الفكر والإدراك الإنساني التي تنفتق بها ألسنة الشعراء، وتسيل بها أقلام الكُتَّاب، فيفيضون على العالم من أحوال الاجتماع وصوره وأسرار النفس وخفايا الوجود ما يملأ النفس غبطة وإعجابًا بصحيح الآراء، وجمال الافتتان، ويمتازون عن العامة من الكُتَّاب والمفكرين بدقة الإدراك وتصوير المعاني النفسية والاجتماعية تصويرًا يقرب من أنْ يكون مدركًا بالحواس.» أفهمت شيئًا؟ أما أنا فلم أفهم شيئًا واضحًا، وإنما يخيل إليَّ أنَّ في نفس المؤلف شيئًا يريد أنْ يقوله وهو لا يجد إلى قوله سبيلًا.

ولنلاحظ قبل كل شيء أنَّ الفكاهة والنادرة والعبارة الجيدة والبيت المتقن وكل هذه الأشياء التي لم يُرد الأستاذ أنْ يسميها أدبًا ليست نتائج الآذان والأنوف، ولا نتائج الأيدي والأرجل، وإنما هي نتائج القرائح والعقول، وهي ليست هواء من القول ولا سخفًا من الحديث، وإنما هي على كل حال صورة لنفسٍ إنسانية ما، أو لحياة اجتماعية ما، وإذن فهي أدب كما يريد أنْ يكون الأدب، الحق أنَّ الأستاذ كلف بالأدب الغربي، ملاحظ للفرق بينه وبين الأدب العربي، متأثر بهذا الفرق، وهو يريد أنْ يحدده ويدل عليه، فلا يعينه قلبه ولا لسانه؛ لأنه لم يصطنع الأناة في التفكير والكتابة، فهو يقول أكثر مما يفكر، وهو يفكر أكثر مما يقول، وكذلك الحال حين يزعم الأستاذ أنَّ نفوسنا تمل الآن أسلوب القصيدة العربية؛ لأن الشعر العربي كما هو أصبح لا يلائم أذواقنا وميولنا وحاجاتنا، وأنا أترجم عن المؤلف ولا أنقل عبارته، فعبارته شديدة الغموض لا تكاد تدل على هذا إلا إذا كلفتها مشقة وجهدًا، ومع هذا فليس من الحق أننا نمل الشعر العربي كما هو نزهد فيه، وإنْ كنا نريد له رقيًّا وتطورًا يقاربان بينه وبين أذواق العصر الحديث وحاجاته، وليس من الحق في شيءٍ أنَّ الأدب العربي كما يظن الأستاذ لا يمثل الحياة الاجتماعية والنفسية ولا يعرب عن أسرار الوجود، وإنما هو نحوٌ من تمثيل الحياة الاجتماعية والنفسية وضرب من الإعراب عن أسرار الكون والوجود، ولكنه محتاج إلى أنْ يفهم ويدرس مع العناية والإنصاف، وأرجو أنْ تكون «أحاديث الأربعاء» قد دلتك على أنَّ الأدب العباسي يمثل الحياة الاجتماعية في العصر العباسي، وأنَّ الأدب الأموي يمثل الحياة الاجتماعية في عصر بني أمية، كما أنه يمثل نفوس الشعراء وظروفهم الخاصة في العصرين، وما لي أذكر أحاديث الأربعاء! وهل يستطيع الأستاذ أنْ ينبئني لِمَ يؤلف كتابًا في أدب الأندلس إذا لم يكن الأدب الأندلسي يمثل الحياة الأندلسية تمثيلًا قويًّا أو ضعيفًا؟ قل إنَّ الأدب العربي لا ينحو نحو الأدب اليوناني واللاتيني والآداب الغربية الحديثة في تمثيل الحياة ووصف الأحياء، فهذا شيء لا نزاع فيه، لكنه لا يمحو قيمة الأدب العربي في نفسه من حيث إنه مظهر من مظاهر الحياة الإنسانية، ومرآة للنفس الإنسانية، ولكن الأستاذ لم يرد أنْ ينكر قيمة الأدب العربي، وإنما هو — كما قلت لك — يقول أكثر مما يفكر، ويفكر أكثر مما يقول؛ لأنه سريع الحركة لا يُنضج ما يعرض له من المباحث، وآية ذلك أنه أراد أنْ يذكر قيمة الأدب الأندلسي فكان كغيره من الكُتَّاب، أستغفر الله! بل استعار كلام القدماء فنقل عن ذخيرة ابن بسام ونقل عن كتاب نفح الطيب.

ولنترك مناقشة هذه المقدمة لننتقل إلى ملاحظات يسيرة كنا نحب ألا يتعرض لها كتاب في الأدب العالي، أراد الأستاذ أنْ يلم بتاريخ الأدب في الأندلس مقدمة لبحثه الأدبي، وهذا حسن، ولكنك لا تكاد تبدأ قراءة هذه المقدمة التاريخية حتى تجد فيها ضروبًا من الإهمال، وإرسال القول على علاته، تجد مثلًا أنَّ العرب فتحوا ما لم يفتحه غيرهم من الأمم في ثلاثة قرون، بل في قرنٍ واحد، فلم تمضِ على العرب ثلاثة قرون حتى كانوا قد سئموا الفتح وانصرفوا عنه إلى الاستمتاع بالحياة، وتجد مثلًا أنَّ العرب خرجوا من بلادهم إلى مصر، ثم إلى القيروان، ولكنهم مروا ببلادٍ أخرى ففتحوها قبل أنْ يصلوا إلى مصر، وتجد فيها مثلًا أنَّ دولة العرب في الأندلس كانت أعظم دولة أقامها العرب، وأنَّ مدنيتهم في الأندلس كانت أعظم مدنية جاء بها الإسلام.

أحق هذا؟ أكانت دولة قرطبة أعظم من دولة دمشق وبغداد؟ أكانت مدنية قرطبة أعظم من مدنية بغداد والقاهرة؟ وهل يباح لكتاب في الأدب العلمي أنْ يتورط في مثل هذا الكلام المرسل على علاته؟! ثم هل أسمح لنفسي بأن ألاحظ أنَّ الكتاب لا يخلو من إهمال لغوي، فلا ينبغي أنْ يقال: «إذا وفقنا الله إلى العودة في هذا الموضوع»، وإنما يعاد إلى الموضوع لا فيه.

لقد يضيق بي الوقت والمكان عن أنْ أمضي في نقد الكتاب نقدًا مفصلًا، ولكني أكتفي بما قدمت، وأرجو أنْ يوفق الأستاذ في كتبه المقبلة لهذه الأناة العلمية التي تنقصه، والتي تكفل من غير شك لكتبه ما هي أهل له من الإتقان والفوز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤