الفصل الخامس عشر

شعراؤنا ومترجم أرسطاطاليس

ربما كان أستاذنا الجليل أحمد لطفي السيد أوفر كُتَّاب هذا العصر ومؤلفيه حظًّا من السعادة، وأحقهم بالغبطة والرضا، فما أعلم أنَّ كاتبًا أو مؤلفًا مصريًّا ظفر بمثل ما ظفر به الأستاذ من هذا الثناء المتصل والإعجاب الذي لا حد له، وما أعلم أنَّ كاتبًا أو مؤلفًا مصريًّا في هذا العصر أكره خصومه وأصدقاءه على أنْ يحمدوا له عمله في غير بخل ولا تقتير، وما أعلم أنَّ كاتبًا أو مؤلفًا مصريًّا في هذا العصر أجرى أقلام الكتاب بحمده وتقريظه، وأطلق ألسنة الشعراء بمدحه وإطرائه، كما فعل الأستاذ لطفي السيد حين أذاع في الناس ترجمته لأخلاق أرسطاطاليس، فقد أجمع الكُتَّاب على اختلاف أهوائهم ومذاهبهم وعلى افتراقهم في حب الأستاذ، والانصراف عنه على حمده وتقريظه، وشكر ما قدم إلى اللغة العربية من خير بترجمة هذا الكتاب.

وليس يعنينا ما كتب الكُتَّاب من رسائل وفصول نشرتها الصحف وقرأها الناس، وإنما الذي يعنينا هو هذا الشعر الذي أطلق به الأستاذ ألسنة الشعراء، وأي الشعراء! شوقي، وحافظ، ونسيم، فإذا كان من الحق علينا أنْ نقدم إلى الأستاذ تهنئتنا الخالصة بهذا الثناء الطيب الذي هو أهل له ولخير منه، وإذا كان من حقنا أنْ نثبت في هذا الفصل أننا لم نكن مخطئين فيما قدرناه يوم كتبنا عن الأستاذ وعن ترجمته لأرسطاطاليس، من أنَّ ظهور هذا الكتاب حادث أدبي ليس كغيره من الحوادث، نقول إذا كان هذا كله من حقنا، فقد يكون من حقنا أيضًا أنْ نقف عند هذه القصائد الثلاث التي أنطق الشعراء بها كتاب الأخلاق لأرسطاطاليس؛ لنتبين وجهًا من وجوه القوة الشعرية في هذا العصر عندنا بعد أنْ بينا في الفصول الماضية شيئًا من وجوه الحياة الأدبية في هذا العصر، وأنا أعلم حق العلم أنَّ من الإسراف أنْ نحكم على القوة الأدبية في هذا العصر بكتاب «مهذب الأغاني» و«تهذيب الكامل» و«بلاغة العرب في الأندلس»، وأعلم كذلك حق العلم أنَّ من الإسراف والظلم أنْ نحكم على قوتنا الشعرية في هذا العصر بهذه القصائد الثلاث، التي أنشأها شوقي وحافظ ونسيم في مدح الأستاذ لطفي السيد وترجمته لأخلاق أرسطاطاليس، على أنَّ هذا إسراف وظلم، فإن لشوقي وحافظ ونسيم وغيرهم من الشعراء قصائد أخرى قيِّمة ذهبوا فيها مذاهب مختلفة من الجد والهزل، فيها لذة للنفس، ومتعة للقلب، ورضا لمن يحب النقد، ولهذا أحب أنْ يلاحظ القارئ أني لا أتخذ هذه القصائد عناوين لشعرائها، ولا مقاييس لحظوظهم المختلفة من الإجادة والإساءة، ومن السمو والإسفاف، وإنما هي فرصة نتحدث إليك فيها عن هؤلاء الشعراء، وعن بعض أنحائهم في الشعر ومذاهبهم حين يعمدون إليه، وليس من شك في أني لا أبخل بالثناء الطيب العذب على هؤلاء الشعراء جميعًا، فهم حين أنشئوا قصائدهم هذه لم يستجيبوا إلا لعاطفةٍ شريفة قيِّمة، هي عاطفة الإنصاف وإكبار من يستحقون الإكبار، والوفاء لمن هم أهل للوفاء، وليس هذا في نفسه بالشيء القليل، ولا سيما بالقياس إلى الشعراء، وأنت تعلم أنَّ الأستاذ لطفي السيد على جلال خطره وعلو مكانته في أمته، ليس بحيث يستطيع أنْ يبتز ثناء الشعراء أو يتملق آلهة الشعر، وما كان ذلك من شأنه ولا من أخلاقه، فشعراؤنا إذن صادقون غير متكلفين، مخلصون غير متصنعين فيما قدموا إلى الأستاذ من مدح، وفيما أهدوا إليه من ثناء، بل أنا لا أبخل على شعرائنا الثلاثة بشيءٍ من الثناء غير قليل لما وفقوا له من الوجهة الفنية الخالصة، فكلهم قد وفق لشيءٍ من الإجادة لا بأس به، كلهم قد جد في تخير الألفاظ وإتقان النظم وأحكامه، وإقرار القافية في نصابها، فوفق من هذا كله للشيء الكثير، وكلهم قد اجتهد في الغوص على المعاني — كما يقولون — وتلمس الغريب الطريف منها، فلم يخطئه الحظ ولم تفته الطلبة، وإنما عاد بشيءٍ يمكن أنْ يحصى له بين الحسنات الشعرية.

على أني أستأذن من شعرائنا، وأستأذن من قبلهم أستاذنا لطفي السيد في أنْ أكون حرًّا حين أنقد هذه القصائد، فقد تعودت هذه الحرية وحرصت عليها، وأكبرتها عن أنْ أضحي بها في سبيل إنسان مهما تكن منزلته من الناس ومني، ولو كان هذا الإنسان هو الأستاذ لطفي السيد، أو شوقي، أو حافظ، أو نسيم.

•••

أريد أنْ أكون حرًّا، وإذن فأنا معتذر إلى شعرائنا الثلاثة، إذا لاحظت أنهم جميعًا قد عرضوا لذكر أرسطاطاليس ومدحه، والإشادة بآثاره وسلطانه على الأجيال، وهم لا يكادون يعرفون من أمره شيئًا، نعم، ذكروا أرسطاطاليس ومدحوه وهم يجهلون آثاره، وأرجو أنْ يصدقوني — وهم يصدقونني — إذا قلت إنهم يجهلون حتى كتاب الأخلاق الذي أنشئوا من أجله هذه القصائد، وما أظن أنَّ علمهم بهذا الكتاب يتجاوز مقدمة الأستاذ لطفي السيد، وما أحسب أنهم جميعًا قرءوا هذه المقدمة وأحاطوا بما فيها حقًّا، وهنا أتردد بين العتب والثناء؛ فقد يكون مما يستحق الثناء والإعجاب أنْ يعمد الشاعر إلى موضوع لا يدركه ولا يحيط بدقائقه وأسراره، فيقول فيه شعرًا لا يخلو من جودة ولا يبرأ من إحسان، ولكني ثقيل ملحاح، شديد الطمع، مسرف في الحرص على المثل الأعلى، فأنا لا أرضى لشعرائنا الجهل، ولا أحب لهم أنْ يعرضوا للأشياء إلا إذا أتقنوها إتقانًا، وظهروا على دقائقها وأسرارها حقًّا، وقد أفهم أنْ يقول الشعراء ما لا يفعلون، ولكني لا أفهم أنْ يقول الشعراء ما لا يعلمون، ولست أرى أني أغلو في ذلك أو أسرف، فما كان الجهل مصدرًا للخير، ولا وسيلة للإجادة، ولا طريقًا إلى البراعة الفنية، وما رأيك في مثال يطمع في ابتكار الآيات الفنية، وهو يجهل التشريح وما يتصل به من تكوين الجسم الإنساني، وما إلى ذلك من هذه العلوم التي لا سبيل إلى الإجادة الفنية بدونها! إنَّ الإجادة الفنية إذا كانت أثرًا من آثار الشعور، ومظهرًا من مظاهر الحس القوي والعواطف الدقيقة والخيال الخصب، فهي لغو إذا لم تستمد غذاءها الحقيقي من العقل والعلم.

وربما كان شوقي أحق الشعراء الثلاثة بأن يعاتب في هذا الموضوع، نعم، هو أحقهم بالعتب؛ فهو من بينهم قد تعلق بأرسطاطاليس، وأراد أنْ يشيد بذكره ويرفع من شأنه، وخص له من قصيدته أكثر مما خص للأستاذ المترجم، ولعلك تدهش ولعل شوقي نفسه يدهش إذا قلت لك وله إنه لم يمدح أرسطاطاليس، وإنما مدح أفلاطون، نعم، أراد عمرًا وأراد الله خارجة، ولكنه أراد عمرًا بالخير؛ فانصرف هذا الخير عن عمرو إلى خارجة؛ لأن الشاعر لم يحسن تلمس السبيل إلى عمرو، ولولا أنَّ نفوس الفلاسفة والحكام رضية بطبعها، لكان من حق أرسطاطاليس أنْ يخاصم شوقيًّا، وأنْ يَنْفَسَ على أفلاطون أستاذه هذا المدح الذي جاءه من حيث لا يحتسب، أراد شوقي أرسطاطاليس، وأراد الله أفلاطون، ولست في حاجةٍ إلى أنْ أطيل القول في أنَّ شوقيًّا لم يمدح أرسطاطاليس، فيكفي أنْ نقرأ قصيدة شوقي لنرى أنه يصف أرسطاطاليس بأنه سبق إلى التوحيد فأعلنه قبل البَنِية والحطيم، وقبل المسيح أيضًا، وبأنه كان قدسي الروح، وبأن «لطفي» صدى صوته الرخيم، وبأن رسائله كالسلافة إذا جرت في جسم النديم، وإذا كان بين فلاسفة اليونان من سبق إلى إعلان التوحيد فليس هو أرسطاطاليس، وربما لم يكن هو أفلاطون، بل ربما لم يكن هو سقراط أيضًا، فقد سبق فلاسفة اليونان إلى إعلان التوحيد في القرن الخامس قبل المسيح، ولكن الشيء الذي يستحق العناية هو أنَّ هناك فيلسوفًا يونانيًّا يُقْرَنُ إلى المسيح، وتعتبر فلسفته أصلًا من أصول الديانة المسيحية، ومصدرًا من مصادرها، وليس هذا الفيلسوف أرسطاطاليس، وإنما هو أفلاطون، أفلاطون صاحب المثل، أفلاطون الذي أمعن في طلب المثل الأعلى، والذي استطاع أنْ يرقى بالنفس الإنسانية والفكرة الإلهية إلى حيث لم يسبقه ولم يدركه فيلسوف بعده، أما أرسطاطاليس فقد كان مقصوص الجناح، أو قل لم يكن له جناح يصعد في السماء، ولهذا لم يصعد أرسطاطاليس في السماء، ولعله لم يرفع بصره إلى السماء، وإنما خفضه إلى الأرض؛ ذلك لأنه لم يكن يستوحي الحق من السماء، وإنما كان يستنبطه من الأرض استنباطًا، وإذا كان هناك فيلسوف تلائم فلسفته الشعر حقًّا، أو قل إذا كان هناك فيلسوف هو الشاعر حقًّا، فهذا هو أفلاطون لا أرسطاطاليس، ولو عرف شوقي إله أرسطاطاليس، هذا الإله العاجز الجاهل المفتون بنفسه المنصرف إلى جماله عن كل شيء، الذي لا يعلم إلا نفسه، ولا يفكر إلا في نفسه، ولا يعجب إلا بنفسه، أقول لو عرف شوقي إله أرسطاطاليس هذا لرثى هذا الإله، ولرثى لأرسطاطاليس نفسه، ولما أستطاع أنْ يقول:

مَنْ كان في هَدي المسيح
وكان في رشد الكليم
وغدا وراح موَحِّدًا
قبل البنية والحطيم

كلا، لم يكن أرسطاطاليس في هَدي المسيح ولا في رشد الكليم، ولم يخطر التوحيد كما نفهمه لأرسطاطاليس، ولعله لم يخطر لغيره من فلاسفة اليونان القدماء، ولكن الشيء المؤلم حقًّا هو أنْ يقول شوقي عن أرسطاطاليس:

ورسائل مثل السُّلا
ف إذا تمشت في النديم
قدسية النفحات تُسـ
ـكر بالمذاق وبالشميم
يا لُطفِ أنت هو الصدى
من ذلك الصوت الرخيم

أي الرسائل يريد! ومن الذي يستطيع أنْ يزعم أنَّ آثار أرسطاطاليس تشبه السلافة من قرب أو من بعد! ومن الذي يستطيع أنْ يزعم أنَّ في رسائل أرسطاطاليس شيئًا قليلًا أو كثيرًا من هذه النفحات القدسية، ومن الذي يستطيع أنْ يزعم أنَّ صوت أرسطاطاليس كان رخيمًا!

أفهم جدًّا ألا يتعمق الشعراء في فهم المذاهب الفلسفية — وإنما أريد شعراءنا خاصة — وأعذر شوقي وغيره إذا خيل إليهم أنَّ توحيد أرسطاطاليس يشبه توحيد المسيح أو توحيد المسلمين، فهو توحيد على كل حال، وقد لا يصح أنْ نلح على شعرائنا في أنْ يدرسوا ما بعد الطبيعة ويتقنوا مذاهب الفلاسفة فيه، كما كان يفعل أبو نواس، ولكن الذي لا أستطيع أنْ أفهمه ولا أنْ أعذره هو أنْ يجهل الشعراء وأئمة البيان إلى هذا الحد، فيخيل إليهم أنَّ أرسطاطاليس كان حلو النثر رخيم الصوت قدسي النفحات، تشبه آثاره بالسلافة، صف بهذه الأوصاف كلها أفلاطون فلن تبلغ من وصفه ما تريد، ولكن لا تصف بها أرسطاطاليس، فكم كدَّ نثر أرسطاطاليس عقولًا وصدع رءوسًا، والأستاذ لطفي السيد مع أنه لم يترجم عن اليونانية شهيد بأن نثر أرسطاطاليس لا يشبه الخمر، ولا يشبه العسل، ولا يشبه الماء، وليس فيه من النفحات القدسية قليل ولا كثير، ولكنه نثر عالم قد أتقن لغته وعرف كيف يستغلها ويستثمرها، ويلائم بينها وبين حاجات العلم والفلسفة.

أنت لا تحمد أرسطاطاليس ولا تحسن إليه بهذه الصفات، فقد لا يكون من الخير للعالم أنْ تكون لغته ساحرة فتانة؛ لأن العلم لا يحتمل سحر اللغة وفتنتها، وإنما هو محتاج إلى الدقة وإلى التشدد في الدقة، وإلى أنْ يسمي الأشياء بأسمائها، ولكني قد قلت لك: إنَّ شوقي أراد أرسطاطاليس، وأراد الله أفلاطون.

على أني أنتقل من هذا العيب إلى عيبٍ آخر يشبهه، وقد اشترك فيه شوقي، وحافظ، ونسيم، وغيرهم من الكتاب أيضًا، وهو أنهم لم يقرءوا كتاب الأخلاق، ولم يقدروه قدره، ولم يفطنوا للغرض من تأليفه ومن ترجمته، فهم قد فتنوا بلفظ الأخلاق، وخيل إليهم أنَّ أرسطاطاليس قد قصد إلى إصلاح الأخلاق يوم ألفه، وأنَّ لطفي قد قصد إلى إصلاح الأخلاق يوم ترجمه، ولعل الرجلين قد فكرا في شيء من هذا، ولكني أستطيع أنْ أؤكد للشعراء والكُتَّاب أنَّ الغرض الأول من تأليف الكتاب وترجمته علمي لا عملي، وأنَّ المؤلف والمترجم أرادا خدمة الفلسفة قبل أنْ يفكرا في الوعظ والإرشاد، وما أظن أنَّ كتاب أرسطاطاليس في الأخلاق يصلح مرامًا للوعاظ والمرشدين، وإنما هو مرجع حسن لصديقنا الدكتور منصور حين يدرس علم الأخلاق لطلابه في الجامعة وفي مدرسة الحقوق.

وهل أستطيع أنْ ألفت شوقي إلى أنه قد مدح أفلاطون ولم يمدح أرسطاطاليس حين قال:

يبني الشرائع للعصور
بناء جبار رحيم

فقد يكون أرسطاطاليس درس السياسة، ووضع في هذا الدرس أصولًا قيِّمة، ولكنه لم يبنِ الشرائع، وإذا كان هناك فيلسوف يوناني شرع للناس فهو أفلاطون صاحب القوانين.

كل هذا يدلنا على ما قدمت من أنَّ شوقي لم يدرس أرسطاطاليس قبل أنْ يمدحه، فلندع هذا العيب الأساسي إلى ملاحظات أخرى فنية.

انظر إلى هذه الأبيات:

وسريت من شعب الألمـ
ـب به إلى وادي الصريم
فتجارت اللغتان للـ
ـغايات في الحب الصميم
لغة من الإغريق قيـ
ـمة وأخرى من تميم

ألاحظ قبل كل شيء أني لو كنت مكان شوقي لما ذكرت «الألمب» بعد أنْ زعمت أنَّ أرسطاطاليس كان على نهج المسيح وفي رشد الكليم، فالألمب مستقر الوثنية اليونانية، وعلى قمته كان يقوم قصر كبير الآلهة «زوس»، وألاحظ بعد هذا أنَّ القافية قد عبثت بهذه الأبيات عبثًا غير قليل، فما وادي الصريم هذا؟ وما صلة لطفي السيد بوادي الصريم، وهو إنما نقل أرسطاطاليس إلى وادي النيل! وما شأن تميم؟ وهل من الحق أنَّ اللغة التي ترجم الكتاب إليها هي لغة تميم؟ وهل نعرف لغة تميم حقًّا؟! ولِمَ لا تكون لغة قريش فهي لغة القرآن، وهي اللهجة العربية الوحيدة التي نعرفها حقًّا! ولكن تميمًا والصريم ينتهيان بالميم، وكم كنت أحب ألا يخضع شوقي للقافية هذا الخضوع.

وبعد فإن من الجحود والظلم ألا أثني على هذا البيت القيِّم الملائم للحق ملاءمة تامة، وهو قوله:

لمسوا الحقيقة في الفنون
وأدركوها في العلوم

هذا البيت آية في الصدق، فقد لمس اليونان الحقيقة في الفن وأدركوها دون أنْ يلمسوها في العلم، أكرر أنَّ هذا البيت آية في الصدق، ومثل جيد للإيجاز البديع، وقد أسرف في الظلم أيضًا إذا لم أُثْنِ على هذا الجمال اللفظي في قوله:

للعاشقين العلم لا
يألونه طلب الغريم
المعرضين عن الصغا
ئر والسعاية والنميم

وإنْ كان لفظ «الصغائر» لا يعجبني، وقد يكون من الإنصاف أيضًا أنْ أثني على هذه الأبيات التي تمثل إنصاف شوقي ووفاءه وكرم خلقه:

قسمًا بمذهبك الجميل
ووجه صحبتك القسيم
وقديم عهد لا ضئيـ
ـل في الوداد ولا ذميم
ما كنت يومًا للكنا
نة بالعدو ولا الخصيم
لما تلاحى الناس لم
تنزل إلى المرعى الوخيم
كم شاتم قابلته
بترفع الأسد الشتيم
وشغلت نفسك بالخصيـ
ـب من الجهود عن العقيم
فخدمت بالعلم البلا
د ولم تزل أوفى خديم

ولندع قصيدة شوقي إلى قصيدة حافظ، وليكونن موقفنا مع حافظ أشد حرجًا ومشقة من موقفنا مع شوقي؛ ذلك لأن حافظًا يزعم شيئًا ونحن نزعم شيئًا آخر.

قلنا: إنَّ شعراءنا الثلاثة لم يقرءوا كتاب أرسطاطاليس، وما نظن أنهم تجاوزوا مقدمة المترجم العربي، ولكن حافظًا يزعم لنا أنه قرأ الكتاب فيقول:

إني قرأت كتابه
بين الخشوع والاعتبار
فإذا المؤلف ماثل
جنب المترجم في إطار
وعليهما نور يفيض
من المهابة والوقار

كلا يا حافظ، لم تقرأ الكتاب ولم تتجاوز مقدمة الأستاذ لطفي السيد، ولم ترَ المؤلف والمترجم ماثلين في إطار، وإنما تخيلتهما كذلك وأنزل شعرك عليهما هذا النور الذي تذكره، وأنا زعيم بأنك لن تجادل ولن تماري فيما أقول.

فلو أنك قرأت الكتاب حقًّا ورأيت الفيلسوفين في هذا الإطار يفيض عليهما هذا النور لقلت فيهما كلامًا غير هذا، وهل تريد أنْ تقنعني بأن شاعرًا مثلك مجيدًا غنيًّا خصب الخيال يستطيع أنْ يقرأ كتابًا ككتاب أرسطاطاليس، ويتفهمه دون أنْ يوحي إليه الشعر آية من آيات البيان في وصف هذا العقل الذي لم تعرف الإنسانية مثله بعد؟! كلا، أنت كشوقي لا تعرف أرسطاطاليس ولم تقرأ ترجمة الأستاذ لطفي، ولكنك أحق بالرضا، وأقل تعرضًا للعتب من شوقي؛ ذلك لأنك ذهبت مذهب أرسطاطاليس فلم تلتمس ما ليس في يدك، ولم تتجاوز الأفق الذي أنت فيه، مدحت لطفي خاصة، وتأدبت مع أرسطاطاليس لا أكثر ولا أقل، ومن هنا أحسنت في مدح لطفي إحسانًا لا بأس به وإنْ لم يقصر عن مثله شوقي، ولكن حدثني عن هذا البيت:

بكتاب أرسطاطاليس تا
ج نوادر الفلك المدار

ألم يثقل عليك؟! أتحب هذه الإضافات؟! وما معنى «نوادر الفلك المدار»؟ وما معنى تاج هذه النوادر؟ وما معنى أنْ يكون كتاب أرسطاطاليس تاجًا لهذه النوادر؟ أعترف أني لا أفهم شيئًا إلا أنك سلكت هذه الطريقة الطويلة لتصل إلى لفظ «المدار»، فتظفر بقافية وتحشر في القصيدة بيتًا كنت تستطيع أنْ تزهد فيه، وكذلك استعبدتك القافية في قولك:

تزن الكلام كأنه
ماس بميزان التجار

فما ميزان التجار؟ وما الحاجة إليه إلا أنه قافية؟!

ولكني أثني في غير تحفظٍ على هذه الأبيات الجيدة حقًّا، الصادقة حقًّا:

قالوا لقد هجر السيا
سة وانزوى في عقر دار
ترك المجال لغيره
ورأى النجاة مع الفرار
لا تظلموا رب النهى
وحذار من خطل حذار
هجر السياسة للسيا
سة لا لنومٍ أو قرار
لو أنهم علموا الذي
يبنى لهم خلف الستار

وإنْ كنت أجد شيئًا من الابتذال في قوله «ترك المجال لغيره»، وأشعر بأن لفظ «مع» شديد القلق في هذا الشطر: «ورأى النجاة مع الفرار.» وهلا قال: «ورأى الركون إلى الفرار.»

وهل يأذن لي حافظ في ألا أحب «لقم الطريق» في قوله:

واجعل على لقم الطريـ
ـق صُوى تلوح لكل سار

وقد يكون اللفظ صحيحًا، ولكن ليس كل صحيح جيدًا ملائمًا للغة الشعر، وأكبر ظني أننا مدينون بهذا البيت كله للفظ «سار» فهو قافية، والسرى لا يستتبع الصوى والأعلام، والصوى والأعلام تستتبع الطريق، ولكنها لا تستتبع «لقم الطريق».

وهل يغضب حافظ إذا لم أرتح إلى قوله:

عجِّل بها قبل «الفسا
د» وقبل عادية البوار

وأنا أعلم أنه يطلب إلى الأستاذ لطفي السيد أنْ ينشر كتاب «السياسة» قبل كتاب «الكون والفساد»، ولكن ألا يشاركني حافظ في أنَّ ضرورات الشعر قد تكون منكرة أحيانًا، وفي أنَّ التعبير بالفساد عن «كتاب الكون والفساد» ضرب من هذه الضرورات المنكرة! ولكن أشد من هذه الضرورة نكرًا «عادية البوار» التي جاءت لا أدري لماذا! أستغفر الله! جاءت للقافية، فآخرها راء، وويل لشعرائنا من القافية!

وسواء أرضي حافظ أم غضب فسأقول ما في نفسي ورزقي على الله — كما يقولون — ظن حافظ أنَّ كتاب «السياسة» لأرسطاطاليس قد يعيننا على معالجة السياسة الإنجليزية وحل المسألة المصرية، ولهذه آثره على كتاب «الكون والفساد»، وطلب إلى الأستاذ لطفي أنْ يقدمه وأنْ يتعجل في نشره ولِمَ لا! ألسنا متعجلين في حل المسألة المصرية، تتحرق أكبادنا ظمأ إلى الاستقلال التام أو الموت الزؤام! ولكن كتاب «السياسة» لا يقدم ولا يؤخر في حل المسألة المصرية، ولا في فهم السياسة الإنجليزية، ولن ينتفع به الوفد الرسمي الذي سيعالج «شامبرلين» أو «كرزن» أو «ماكدونالد»، كما أنَّ الشيخ الجربي لن ينتفع بكتاب الأخلاق حين يريد أنْ يعظ المجرمين، ولندع قصيدة حافظ إلى قصيدة نسيم.

•••

ولكني متهم حين أعرض لنسيم، فقد تفضل بالثناء عليَّ، وأشار إلى أنَّ لي نثرًا يعجبه، على أني سأكون حرًّا، وسأغضب نسيمًا كما أغضبت صاحبيه؛ فهو مثلهما ينتظر من كتاب الأخلاق ما ينتظران وما لم ينتظر أرسطاطاليس ولا لطفي، وكما أنَّ شوقي قد أخطأ حين قارن بين أرسطاطاليس والمسيح؛ فقد أخطأ نسيم حين ذكر «هوميروس» على أنه من شعراء المدح، وحين تمنى أنْ يوفق لمدح لطفي شاعر كهوميروس، فما كان هوميروس مادحًا، ولا هو من أصحاب المديح، وإنما هوميروس وأصحابه أهل قصص وإشادة بذكر الأبطال الذين انقضت عصورهم، فأما صاحب المدح من شعراء اليونان فهو «بسندار» وتلاميذه، وشعراء الإسكندرية خاصة «ككاليماك» و«تيوكريت» وغيرهما.

وقد لا تخلو قصيدة نسيم من ملاحظات لفظية وتكلف في شأن القافية، ولكني أعترف — لا لأن نسيمًا ذكرني — بأن قصيدة نسيم أقل تكلفًا من قصيدتي صاحبيه، بل أعترف بشيءٍ آخر أجل من هذا خطرًا، أعترف بأن في قصيدة نسيم شيئًا من الخفة لم يوفق له شوقي ولا حافظ، وانظر إلى مطلع قصيدته:

شعرٌ يُزَفُّ بلا نسيب
وبلا شكاة من حبيب
ما عيبُ مُرْقصة خلتْ
من ذكر غانية لَعُوب

في هذا الكلام — على أنه عادي — شيء من الظرف والعذوبة، وفي قصيدة نسيم شيء آخر وهو أنَّ شخصيته ظاهرة مؤلمة مؤثرة، فهو لم ينسَ ابنه، ابنه الذي فقده، ولم يكره وهو شاعر أنْ يتحدث بحزنه وبثه إلى ممدوحه وهو فيلسوف، وأحسب أنَّ الأستاذ لطفي تأثر بهذه الأبيات من قصيدة نسيم أكثر مما تأثر بمدح نسيم وصاحبيه، فأنا أعرفه حسَّاسًا رقيق النفس.

وفي قصيدة نسيم هذه الأبيات التي تقدمه على صاحبيه؛ لأن فيها فكرة طريفة جريئة، أليس يتمنى على الملك فؤاد أنْ يكل تربية ولي العهد إلى لطفي مترجم أرسطاطاليس، كما وكل فيليب تربية الإسكندر إلى أرسطاطاليس:

ليت المليك وقد رأى
ما فيك من خلق رحيب
يُدْلي إليك بناشئ
في حجر سُدته ربيب
تسقيه من نهى العلو
م ووردها غير المشوب
وتُريه في ريعانه
وضح المسالك والدروب
فهنالك الفاروق يصبـ
ـح كابن فيلبس المهيب
يمشي بنورك في الصبا
ويُشيد باسمك في المشيب

أنا أقدم في هذه المرة نسيمًا على صاحبيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤