الفصل السادس عشر

  • «مختارات سلامة موسى» للأستاذ سلامة موسى.

  • «مطالعات في الأدب والحياة» للأستاذ عباس محمود العقاد.

***

أريد أنْ أدع هذا العصر الذي نعيش فيه؛ لأني أحس شيئًا من الضيق في البحث عنه ودرس كتابه وشعرائه، أحس شيئًا من الضيق؛ لأني أجد فيه نقصًا شديدًا، ولأني أشعر بأن حريتنا محدودة جدًّا إذا أردنا أنْ نعرض للمعاصرين بالنقد والتقريظ، فخير لنا أنْ ندع هذا العصر الذي يستمتع أهله بالحرية في حياتهم اليومية، ولكنهم يكرهون هذه الحرية في حياتهم العقلية، إلى عصور أخرى لم يستمتع أهلها بالحرية، ولكنَّ مُضِيَّ الزمن قد أتاح لنا أنْ نتناولها بالدرس والنقد أحرارًا لا يحد حريتنا إلا العلم وما يقتضيه من إخلاصٍ وإنصاف.

أريد أنْ أدع هذا العصر، ولكن شيئًا يمسكني ويضطرني إلى أنْ أبقى فيه يومًا أو يومين، وإلى أنْ أكتب فيه فصلًا أو فصلين، وأحس في نفسي أني أسيء إلى هذا العصر، وإلى حق الحرية العقلية علينا إذا تركته إلى العصور الأخرى دون أنْ أقول فيه ما أريد أنْ أقول، ودون أنْ أعلن فيه آراء أشعر بها وأرى أنَّ من الحق عليَّ إعلانها، فلو أنَّ الناس جميعًا صنعوا مثل ما أصنع وأبوا أنْ يتناولوا العصر الذي يعيشون فيه بالنقد، لكانت النتيجة منكرة، ولتعرضت الحرية العقلية لخطرٍ شديد، وقد يكون من حق الناس أنْ يحرصوا على الحرية في حياتهم اليومية العادية، ولكن من الحق عليهم أنْ يشتد حرصهم على الحرية في حياتهم العقلية، فلأعلن رأيي إذن ولأكن حرًّا في إعلان هذا الرأي، ولأَبْقَ في هذا العصر يومًا أو يومين، ولأكتب فيه فصلًا أو فصلين، ولأجتهد ما استطعت في أنْ أتبين ما لهذا العصر الذي نعيش فيه من قيمة أدبية قليلة أو كثيرة، وليكن الناس أحرارًا في أنْ يحمدوا ذلك مني أو يذموه، وفي أنْ يعرفوا ذلك أو ينكروه، فأنا أكتب للناس من غير شك، ولكني أكتب لنفسي قبل أنْ أكتب للناس.

أعترف بأني قضيت ساعات لذيذة جدًّا مع الأستاذين سلامة موسى وعباس محمود العقاد، وأنا لا أعرفهما ولم أتحدث إليهما قط فيما أذكر، ولكني مع ذلك أحمد هذه الساعات التي قضيتها معهما، وأشكر لهما أجمل الشكر، وأقدم لهما عليها أحسن الثناء، قضيت معهما ساعات قصارًا لم تتح لي أنْ أقرأ كتابيهما القيمين اللذين سأحتفظ بهما أمامي حتى أفرغ من قراءتهما متى أذن العمل وسمحت بذلك الظروف، ولكني قرأت في كتابيهما فصولًا، وأنا سعيد مغتبط بأن أعلن أني لم آسف على الوقت الذي أنفقته في قراءة هذه الفصول، وإنما حمدت إنفاق هذا الوقت الذي أنفقته، وأنا أتمنى أنْ يتيح لي العمل وظروف الحياة وقتًا آخر أنفقه في إتمام الكتابين، بل في استعادة فصول منهما.

لست أدري في أي كتاب فرنسي قرأت أنَّ موسيقيًّا استمع لموسيقي آخر وهو يوقع على البيانو، استمع له ساعة أو ساعتين، ثم قال له: حسبك، فقد عرفت الآن صوت نفسك، يريد أنه عرف موسيقاه وأسرارها وخواصها وما بينها وبين نفسه من صلة.

لست أدري أين قرأت هذا الكلام، وأحسبني قرأته في كتاب من كتب الأدب الفرنسي المعروف «رومان رولان»، وسواء أصدقتني الذاكرة أم كذبتني فأنا لم أخترع هذه القصة اختراعًا، وإنما قرأتها في كتاب، وأنا أستعيدها الآن، وقد قرأت فصولًا من كتاب الأستاذ سلامة موسى، وفصولًا أخرى من كتاب الأستاذ عباس محمود العقاد، ولم أتم قراءة الكتابين، لأقول لهما: حسبكما، فقد عرفت صوت نفسيكما وأنا بهذه المعرفة مغتبطٌ سعيد.

وأنا أعلم حق العلم أنَّ الناس جميعًا سيقبلون مني ما أقول في الأستاذ سلامة موسى مهما يكن؛ لأن الأستاذ سلامة موسى ليس من أصحاب الألوان السياسية الظاهرة، فقد يكون سعديًّا، وقد يكون حرًّا دستوريًّا، وقد يكون وطنيًّا، بل قد يكون اتحاديًّا، ولكنه على كل حال لا يعلن رأيه السياسي أو لا يتكلف إعلانه، ولا يتخذه لنفسه لونًا، وإذن فأنا حر في أنْ أحمد كتابه أو أنْ أذمه، وأنا حر في أنْ أتناوله بالنقد أو التقريظ؛ لأنه ليس من أصحاب الألوان السياسية الظاهرة، فالناس ينظرون إليه كما ينظرون إلى كاتب مفكر ليس غير.

أما الأستاذ عباس محمود العقاد فله شأن آخر، لنقده أو تقريظه شأن يخالف نقد الأستاذ سلامة موسى أو تقريظه؛ ذلك لأن الأستاذ عباس محمود العقاد من أصحاب الألوان السياسية الظاهرة، وأي لون سياسي! وأي ظهور! هو سعدي مغرق في السعدية، وهو كاتب من كتاب «البلاغ»، وإذن فعاداتنا وآدابنا السياسية تقتضي أنْ نسلك معه طريقًا غير الطرق التي نسلكها مع المحايدين أو مع الأنصار السياسيين، فإذا تجاوزنا هذه الطريقة الخاصة التي تقتضيها الخصومة السياسية الحزبية، فلن نعدم من خصومنا السياسيين من يتخذ هذا حجة علينا، ولن نعدم من أنصارنا السياسيين من يخالفنا في الرأي، أو من يغاضبنا مغاضبة تختلف شدة وضعفًا باختلاف مزاجه وطبيعته وقوة إيمانه بمذهبه السياسي، ومع ذلك فقد أخذت نفسي بأن أكون حرًّا في النقد، وأعطيت على نفسي موثقًا من الله لأكونن حرًّا مطلق الحرية، ولأنسين في هذا النقد صلات المودة والقربى وعواطف الرضا والسخط، وإذا كنت قد أخذت نفسي بتلك الخصلة، وأعطيت على نفسي هذا الموثق، وتناولت الأصدقاء والزملاء والأساتذة بالنقد والتقريظ، لم أصطنع في هذا كله إلا الإنصاف والحق، فقد يكون لي أنْ أتجاوز الخصومات السياسية، وأنْ أجعل خلاف الأحزاب دبر أذني وتحت قدمي، لأقول كلمة حق في الأدب ليس بينها وبين السياسة والأحزاب صلة.

فليطمئن خصومنا السياسيون، وليطمئن أنصارنا السياسيون أيضًا، وليعترف أولئك وهؤلاء بأن للعلم والأدب حقهما في الوجود إلى جانب السياسة والأحزاب، وإذا كان من الحق أنْ ليس للعلم والأدب وطن، فمن الحق أيضًا أنْ ليس للعلم والأدب حزب سياسي، وإذا كنت قد أخذت نفسي بأن أكون حرًّا في النقد فلأكن حرًّا حقًّا، ولْأَنْسَ في سبيل الأدب والعلم مذهبي السياسي، كما نسيت عواطف المودة والقربى ومكانة الزميل والأستاذ، والناس أحرار في أنْ يذهبوا مذهبي أو ينصرفوا عنه، فقد قلت وأعيد أني أكتب لنفسي قبل أنْ أكتب للناس.

ليطمئن أولئك وهؤلاء مرة أخرى، فأنا أمقت المذهب السياسي للأستاذ عباس العقاد مقتًا شديدًا وأزدريه ازدراءً لا حد له، ولا أقرأ للأستاذ العقاد فصلًا من هذه الفصول السياسية التي يكتبها في «البلاغ» ولن أقرأ منها فصلًا، بل لم أقرأ من فصولها الأدبية فصلًا في «البلاغ»، ولولا أنها جمعت في كتاب وانفصلت عن هذا السخف السياسي المنكر الذي تنشره هذه الصحيفة السخيفة لما قرأتها ولا نظرت فيها، ولكني رأيت أمامي كتابًا في الأدب، فنظرت فيه وقرأت بعض فصوله، ورأيت أنه خليق أنْ ينقد وأنْ تقال فيه كلمة حق وإنصاف، سأنقده وسأقول فيه كلمة الحق والإنصاف هذه، وسيكون هذا النقد وهذا الإنصاف في جريدة السياسة التي تخاصم السعديين وتزدري سياستهم؛ لأن «للسياسة» إلى جانب مذهبها السياسي الحزبي مذهبًا آخر تقدِّسه وتجدُّ في تقديسه، ولا يفهمه غيرها من الصحف، وهو حرية الرأي مهما يكن صاحبه ومهما يكن لونه السياسي.

ولكن أريد أنْ أبدأ بالأستاذ سلامة موسى؛ لأني لن أتكلم عنه كثيرًا كما أريد أنْ أتكلم عن الأستاذ محمود العقاد.

لن أتكلم عنه كثيرًا؛ لأنه ليس في حاجةٍ إلى كلامٍ كثير، فهو ساذج سهل خفيف الروح محبب إلى النفس، شديد البغض للتكلف، قليل الحظ منه أو ليس له منه حظ ما، وإذن فأنت تستطيع أنْ تكتفي بأن تقول عنه: إنه كاتب خصب مجيد، هو كاتب خصب قبل كل شيء، ويكفي أنْ تقرأ هذا الكتاب الذي أذيع في الناس منذ حين، أو أنْ تقرأ طائفة من فصوله لتعلم أني لم أكذبك ولم أسرف عليك، فقد تناول موضوعات مختلفة شديدة الاختلاف، وعرض لمسائل مفترقة عظيمة الافتراق، وأنت مع ذلك تجده يتنقل في هذه الموضوعات والمسائل في غير تكلفٍ ولا مشقة، كما يتنقل الرجل في بيته الذي ألفه وأطال الإقامة فيه من غرفةٍ إلى غرفة، ومن حجرة إلى حجرة، دون أنْ يشعر بوحشة أو غربة، هو خصب بل شديد الخصب؛ لأنه كثير القراءة، وأحسبه مسرفًا فيها، فهو يقرأ في الأدب العربي، وهو يقرأ في الأدب الغربي، وهو يقرأ ضروبًا من العلم مختلفة، وألوانًا من الفلسفة متباينة، وهو لا يقرأ لنفسه وحدها، وإنما يقرأ لنفسه وللناس أيضًا، ليس بخيلًا ولا ضنينًا، ليس أثِرًا ولا مجدًّا في حب نفسه، لا يريد أنْ ينتفع وحده، وإنما يريد أنْ ينتفع الناس معه، ولعله يكره أنْ ينتفع وحده دون أنْ ينتفع الناس معه.

قلت: إنه يقرأ في الأدب العربي والغربي، ويلم بضروب من العلم وألوان من الفلسفة، وقلت قبل هذا: إنني لم أعرفه ولم أتحدث إليه، وإذن فلم أعرف عنه كثرة القراءة وتنوعها إلا لأني رأيته يتحدث في موضوعات كثيرة متنوعة، ويتحدث فيها عن علم وبصيرة وعن دراية وفهم، وهو كثير القراءة متنوعها، وهو كثير الاستفادة من هذه القراءة المتنوعة والانتفاع بها، فقد منحته شيئًا من الذوق وحسن الفهم قلما يظفر به المصريون، تقرؤه فكأنك تقرأ أحد كتاب الإنجليز الذين أحسنوا الدرس وثقفوا عقولهم تثقيفًا متقنًا، هو مثقف حقًّا، ولكني أريد أنْ أكون حرًّا، ولن يكره مني الأستاذ سلامة موسى أنْ أكون حرًّا معه، فالمثقف حقًّا يحب الحرية ولا يكرهها، وأنا أشهد أنه مثقف حقًّا، وإذن فأنا أستبيح لنفسي أنْ أكون حرًّا في نقده.

يخيل إليَّ أنه يسرف في القراءة، ويخيل إليَّ أنَّ إسرافه في القراءة هذا يحمله على الإسراف في الكتابة؛ أي يحمله على تناول موضوعات لم يتقنها ولم يقتلها، لا أقول علمًا، وإنما أقول بحثًا وتفكيرًا، وأحسبه لو فكر فيما يعلم واصطنع الأناة فيما يكتب، لاستطاع أنْ يتجنب شيئًا من السخف، يتورط في مثله كبار الكُتَّاب حين يجتنبون الأناة والروية فيما يكتبون.

يقول الأستاذ سلامة موسى مثلًا: إنَّ المصريين القدماء فكروا في الموت كثيرًا وتحدثوا عن الموت كثيرًا. وهذا حق لا شك فيه، ولكن الذي لا أستطيع أنْ أفهمه، ولن يستطيع الأستاذ أنْ يفهمه إذا خلا إلى نفسه هو قوله: إنَّ تفكر المصريين في الموت كثيرًا وذكرهم للموت كثيرًا قد استتبعا هذه النتيجة الغريبة، وهي أنَّ الأمة المصرية ماتت موتًا لم تمته أمة أخرى، ففقدت استقلالها ألفي عام، هذا إسراف في القول ولعب بالألفاظ، فقد تكون الأمة المصرية نامت ولكنها لم تمت، وليست العاطفة الوطنية ولا تملق الجماهير هو الذي يحملني على أنْ أنكر أنَّ الأمة المصرية قد ماتت في عصرٍ من عصورها، فأنا شديد المقاومة في العلم للعواطف الخاصة على اختلافها، وأنا قليل الاكتراث لعواطف الجماهير وأهوائها، ولكني مع ذلك أعتقد أنَّ الأمة المصرية لم تمت قط، وهي لم تفقد استقلالها ألفي عام، ولئن كانت قد فقدته حينًا أو أحيانًا إنها لم تَنْسَه قط، ولو أنَّ الأستاذ سلامة موسى فكر قليلًا لرأى ما أرى ولقال كما أقول، لم تمت الأمة المصرية، وآية ذلك أنها لا تزال حية تشعر وتحس وتفكر وتناضل في سبيل الحياة، ولم تنسَ استقلالها يومًا منذ دالت دولة الفراعنة، وآية ذلك أنَّ الأجانب الذين تسلطوا عليها قد اضطروا دائمًا إلى إحدى اثنتين؛ فإما أنْ يتجنسوا بجنسيتها المصرية ويندمجوا فيها، وإما أنْ يأخذوا مصر بشيء من العنف والقهر يشبه الأحكام العرفية، كذلك اتخذ المقدونيون والمماليك والفاطميون الجنسية المصرية، فأتيح لهم المجد واستقرار الملك، وأصبحت دولهم مصرية كدول الفراعنة، وأبى الفرس والرومان والبيزنطيون الأولون أنْ يتجنسوا بالجنسية المصرية، فلم يستقر لهم أمرٌ في مصر إلا بالعنف والقهر وبالسطو واليأس، لم تمت الأمة المصرية، ولم تنسَ استقلالها، ومتى ماتت هذه الأمة؟

أكانت ميتة حين أساغت الفلسفة اليونانية وطبعتها بطابعها الخاص؟

أكانت ميتة حين أساغت الديانة المسيحية وطبعتها بطابعها الخاص؟

أكانت ميتة حين أساغت الإسلام وطبعته بطابعها الخاص؟

أكانت ميتة حين آوت حضارة اليونان والعرب وآداب اليونان والعرب؟ ومع هذا فهي قد فعلت هذا كله في العصر الذي يزعم الأستاذ سلامة موسى أنها كانت فيه ميتة قد فقدت الاستقلال، وهبها ماتت حقًّا وفقدت استقلالها حقًّا، أفتظنها ماتت لأنها أكثرت التفكير في الموت وأسرفت في ذكر الموت، كما يقول الأستاذ سلامة موسى؟ وكيف يستطيع رجل كالأستاذ قد ألم بضروب من العلم مختلفة وذاق ألوانًا من الفلسفة متباينة أنْ يعتقد أنه يكفي أنْ نفكر في الموت ونذكره لنموت! ولكن الأستاذ لا يعتقد هذا ولا يريده، وإنما فتنته صورة لفظية حلوة، وهي أنَّ الأمة المصرية ماتت؛ لأنها أسرفت في ذكر الموت، فتنته هذه الصورة اللفظية فصرفته عما كان فيه من جد، وقد أفهم أنْ يلهو الكاتب ويداعب الفن، ولكنني أريد أنْ يكون الكاتب حريصًا؛ لأنه وإنْ كان يكتب لنفسه فالناس يقرءون ما يكتب، وهم لا يفهمونه كما يفهمه، ولا يقدرونه كما يقدره، وإذن فشيء من الاحتياط لا بأس به.

كان اليونان يتخذون لأنفسهم مثلًا قامت عليه فلسفة سقراط وأفلاطون وأخلاق أرسطاطاليس، وهو: «لا تسرف.» وأحسبني محتاجًا إلى أنْ أذكر الأستاذ سلامة موسى بهذا المثل الحكيم، فهو من أنصار الجديد، وهو يعلم أني أرى رأيه وأشاركه فيه دون تحفظ ولا احتياط، ولكن نصره للجديد قد اضطره إلى شيءٍ من الإسراف كنت أحب — وما زلت أحب والأستاذ مثلي يحب — ألا يتورط فيه الباحثون المنصفون، وهو مسرف في ازدراء الأدب العربي القديم والغض منه، وقد أفهم ألا يكون هذا الأدب القديم كما هو ملائمًا كله لذوقنا الحديث أو كافيًا لحاجات أنفسنا، ولكن القدماء لم يضعوا أدبهم لنا وإنما وضعوه لأنفسهم، وليس من شكٍّ في أنَّ هذا الأدب القديم كان يلائم أذواق القدماء وحاجات نفوسهم، فإذا لم يلائم أذواقنا وأهواءنا فلنبتغ غيره لا أكثر ولا أقل، وهو مسرف أيضًا حين يقول: إنَّ الأدباء المصريين لم يكن لهم شأن في حركة الاستقلال، فهم لم يقودوا الأمة في هذه الحركة، وإنما قادتهم الأمة، بل قادهم الرعاع إلى الاستقلال، قد يكون هذا حقًّا بالقياس إلى هؤلاء الشعراء الذين تبعوا الجمهور ولم يتبعهم، ولكن الأستاذ نفسه قد كتب فصلًا عن المجددين، ذكر فيه الأفغاني، ومحمد عبده، وقاسم أمين، ولطفي السيد، ونسى فيه مصطفى كامل، فما رأيه في هؤلاء؟ ألم يكونوا من الأدباء؟ أقادوا الأمة إلى الاستقلال أم قادتهم الأمة إلى الاستقلال؟ يقول الأستاذ: إنَّ لطفي السيد قد أوجد فكرة الوطنية وجمع حولها المسلمين والأقباط، وهذا صحيح، وصحيح أيضًا أنَّ الأستاذ لطفي السيد قد أوجد فكرة الاستقلال التام قبل أنْ تعلن الحرب الكبرى، وقبل أنْ ينشأ الوفد، وقبل أنْ يؤم الثلاثة دار الحماية، وإذن فمع احتفاظنا بالنسبة نستطيع أنْ نقول: إنَّ مصر لم تخلُ من «روسو» و«منتسكيو» و«فولتير»، والأستاذ مسرف في هذا الفصل الذي كتبه عن الوزير الفرنسي «مرسيل سانبا»، فلست أدري إلى أي حدٍّ كان هذا الوزير من كبار الأدباء الذين يؤبه لهم في الأدب، ولكني أعلم أنه كان من زعماء الاشتراكية، وكان بحكم مذهبه السياسي يؤثر العلم على الأدب، وقد سمعته يخطب فلم يعجبني، وهو لن يعجبك إذا قرأت ما نقل عنه الأستاذ سلامة موسى، فهو يذم الفلسفة ويغرق في ذمها، ولكنه مع ذلك يفلسف حين يذكر أنَّ لكل فرد نفسين؛ نفسًا فردية وأخرى اجتماعية! كأن الإنسانية قد فرغت من إثبات وجود النفس الفردية لتشقى بالبحث عن هذه النفس الاجتماعية الجديدة، وهو يذم الأدب ويزدريه، ولكنه يغرق في الخيال حين يزعم أنَّ الإنسانية بعد ثلاثة قرون ستستطيع أنْ تسبح في الكون، وأنْ تنتقل من كوكبٍ إلى كوكب، وأنْ تهاجر من الأرض إلى أي كوكب يروقها، قد يكون هذا كله حقًّا بعد قرون، ولكنه الآن خيال، وهو إلى الأدب أقرب منه إلى العلم.

كتاب الأستاذ سلامة موسى روضة قيِّمة نضرة، لا تستطيع أنْ تلم بها دون أنْ تجد فيها فائدة ولذة.

•••

أما الأستاذ عباس محمود العقاد فأريد أنْ أنقده، ولكني أعترف بأني خائف متهيب؛ لأنه مهيب مخوف، فلأكن شجاعًا، ولأهجم على كتاب الأستاذ في ثباتٍ وأمن، ولأعترف بأني أحسست حين نظرت في هذا الكتاب شيئين متناقضين؛ أحسست سخطًا وأحسست رضًا، وبعبارةٍ واضحة أحسست غموضًا وسخفًا، وأحسست وضوحًا وقيمة، ولأفصِّل:

قرأت مقدمة الكتاب فسخطت وضجرت وضقت ذرعًا بالكاتب وكتابه، وأكرهت نفسي على المضي في قراءته؛ ذلك لأني لم أفهم من المقدمة شيئًا … نعم، لم أفهم منها شيئًا، ويقيني أنَّ المتواضعين أمثالي لن يفهموا من هذه المقدمة شيئًا لا لأنها لا تدل على شيء؛ بل لأنها أدق من أنْ تتناولها العقول المتواضعة، أنا أريد أنْ يضحك الأستاذ العقاد، وأزعم أنه لم ولن يفهم من مقدمته شيئًا، لا لأنها لا تدل على شيءٍ؛ بل لأنها أدق من أنْ يفهمها عقل الأستاذ العقاد نفسه، سألت نفسي حين كنت أسمع هذه المقدمة: هل درس المؤلف اللغة الألمانية؟ وهل تعمق في الفلسفة الألمانية حتى طبعته بطابعها ووسمته بسمتها؟ وأحب أنْ يضحك الأستاذ العقاد، وأنْ يضحك القراء جميعًا مني لا من المؤلف، وأحب أنْ يكون أول الضاحكين صديقي منصور فهمي، فأنا أعترف بأن الفلسفة الألمانية تمتاز عندي بالغموض والإبهام، وأنَّ الله لم يوفقني في يومٍ من الأيام إلى أنْ أفهمها أو أجد فيها لذة إلا حين كنت أقرؤها في الكتب الفرنسية الملخصة، ومع ذلك فقد وجدت لذة عند أفلاطون وأرسطاطاليس والفارابي وابن سينا، بل عند الدوَّاني والتفتازاني، وعند «ديكارت» و«كونت» و«إسبنسر» و«بركسون»، وجدت اللذة العقلية عند هؤلاء جميعًا، ماذا أقول؟! بل وجدتها عند «جوت» و«سيليروهين»، ولكني لم أجدها عند «أمانويل كانت»، ولا عند «هيجل»، ولقد ضقت ذرعًا غير مرة بنقد العقل المحض، ونقد العقل العملي، وانصرفت غير مرة عن المؤلف إلى الشراح الفرنسيين لأعرف شيئًا عما أراده فيلسوف ككنزبرج، إذن فأنا أعترف بأن مقدمة الأستاذ العقاد قد ذكرتني بتلك الأيام السود التي قضيتها مع «كانت» و«هيجل»، واتهمت فيها نفسي بالغباوة والجهل، وقلت مذعنًا لقضاء الله ضاحكًا من نفسي ومن الفلسفة ومن الفلاسفة: وفوق كل ذي علم عليم، وإذن فقد ضقت ذرعًا بالعقاد وكتابه، وبحثت في غير نفعٍ عن الجمال كما يريده العقاد في مقدمته، وعن الحياة كما يريدها العقاد في مقدمته، فلم أجد شيئًا، أو قل وجدت شيئًا أكرهه، وهو أني جاهل غبي قاصر عن فهم العقاد، فقلت: وفوق كل ذي علم عليم، وأخذت أفكر في الغموض وأسبابه، وانتهيت في ذلك إلى نظريات قد يتيح الله لي من الوقت والفرص ما يمكنني من ذكرها وتفصيلها، ولكني أكتفي الآن بالإشارة إلى أني قلت في نفسي: إنَّ من الغموض ما يصدر عن جهلٍ وغفلة، كغموض قوم لا أريد أنْ أسميهم الآن؛ لأني لا أريد أنْ أضيف خصومًا إلى خصوم، وحسبي العقاد وأنصار العقاد، ومن الغموض ما يصدر عن إسراف في العلم والفلسفة وقصور اللغة والبيان، ومثلت لذلك بالعقاد، أقولها وأمري إلى الله، ومن الغموض ما يصدر عن طول اللسان وقصر العقل، ومثلت لذلك بأديبٍ ثرثار في غير طائلٍ، ولكنه لا يخلو من أصلٍ قيِّم، ولا أريد أنْ أسميه الآن فله يومه، وويل له مني وويل لي منه، ولأعد إلى العقاد، تركت هذه المقدمة الجبارة الطاغية، ومضيت في الكتاب فإذا علمٌ حقًّا، وفهم حقًّا، وعقل خَليقٌ أنْ يلتفت الناس إليه، وما أشك في أنهم قد فعلوا، فقد وصل صوت الأستاذ إلى بغداد وكتب إليها منه كاتبون، وهو خليق حقًّا بهذه الشهرة.

أعترف بأن الأدب ثقيل أحيانًا؛ لأنه ينسيك الخصومة السياسية ويحبب إليك خصمك السياسي، كما حبب إليَّ أدب العقاد، وبأن السياسة ثقيلة أحيانًا؛ لأنها تنسيك القرابة الأدبية وتبغض إليك الأدب، كما بغضت سياسة العقاد أحيانًا أدب العقاد، ولست أخدع نفسي، فمن الأدباء الذين يخاصمونني في السياسة ويرون فيها رأيًا غير رأيي من يقول فيَّ ما أقوله في العقاد، ولقد سمعت شبابًا من السعديين يقولون في محكمة الجنايات وقد خلبتهم بلاغة المحامين الذين كانوا يدافعون عن «السياسة»: ما أكفأهم أولاد الكلب لو لم يكونوا عدليين، وأنا أعتذر إلى أساتذتنا من رواية هذا الكلام المنكر، ولكنه يؤرخ أخلاقنا وآدابنا في هذا العصر.

أعجبت إذن بكتاب العقاد ولم أقرأه كله، وإنما قرأت منه فصولًا، ومهما تكن الظروف فلا بدَّ من أنْ أقرأ ما بقي منه، أعجبت بفهمه للأدب كما ينبغي أنْ يفهم الآن، واحتياطه من الإسراف الذي تورط فيه الأستاذ سلامة موسى أحيانًا والدكتور أحمد ضيف دائمًا، أعجبت بتوفيقه إلى التفرقة بين حاجات القدماء والمحدثين، وأعجبت بدقته في فهم الهزل الأدبي والأدب الذي هو هزل كله، أعجبت بهذا كله إعجابًا لا حد له ولا تحفظ فيه، لولا أنَّ لغة الكاتب لا ترضيني من كل وجهة، ففيها إهمال، وهي لا تخلو من غموض، مصدرها أنَّ عقل الأستاذ أطول من لسانه، على أنَّ شيئًا في الكتاب أعجبني بنوعٍ خاص، وهو هذه الفصول التي كتبها عن أبي العلاء عامة وعن رسالة الغفران خاصة، لم أكد أرى هذه الفصول حتى حرصت على قراءتها حرصًا شديدًا؛ لأني كما تعلم شديد الصلة بأبي العلاء، وأحب أنْ أرى آراء الناس فيه، وأنْ أتبين مقدار ما بين هذه الآراء وبين آرائي من قربٍ أو بعد.

أول هذه الفصول يتناول حزن أبي العلاء وتشاؤمه، وليس ينكر أحد أنَّ أبا العلاء كان حزينًا غاليًا في الحزن، ومتشائمًا مسرفًا في التشاؤم، والناس جميعًا أحرار في أنْ يحزنوا وأنْ يتشاءموا كأبي العلاء، أو أنْ يبتهجوا ويبتسموا كأصحاب اللذة، أو أنْ يتوسطوا بين الأمرين، الناس أحرار، وهم لم ينتظروا أنْ نقول لهم هذا ليكونوا أحرارًا وليذهبوا في الحياة أحد هذه المذاهب الثلاثة، وإذن للعقاد أنْ يحزن كما يحزن أبو العلاء، أو أنْ يبتهج كما يبتهج أبو نواس، أو أنْ يتخذ بين الأمرين مكانًا وسطًا، فالأمر في هذا راجع إلى الطبيعة والمزاج قبل أنْ يرجع إلى العقل والتفكير، ولكن الذي أخالف العقاد فيه مخالفة شديدة هو زعمه في فصلٍ آخر أنَّ أبا العلاء لم يكن صاحب خيال حقًّا في رسالة الغفران، هذا نكر من القول لا أدري كيف تورط فيه كاتب كالعقاد، نعم، إنَّ العقاد كاتب ماهر يحسن الاحتياط لنفسه، فهو بعد أنْ أنكر الخيال على أبي العلاء عاد فأثبت له منه حظًّا قليلًا، ولكنه يستطيع أنْ يخدع بهذا الاحتياط قارئًا غيري، أما أنا فلن أنخدع له، فهو ينكر على أبي العلاء أنْ يكون شاعرًا عظيم الحظ من الخيال في رسالة الغفران، «سنه سوده» كما يقول العامة، وهل يعلم العقاد أنَّ «دانت» إنما صار شاعرًا نابغة، خالدًا على العصور والأجيال، واثقًا من إعجاب الناس جميعًا بشيءٍ يشبه من كل وجه رسالة الغفران هذه؟ أستغفر الله! إنَّ من الأوروبيين الآن من يزعم أنَّ شاعر فلورنسا قد تأثر بشاعر المعرة قليلًا أو كثيرًا.

وما الخيال؟ أما إذا كان الخيال ملكة تمكن الكاتب أو الشاعر من أنْ يخترع شيئًا من لا شيء أو يؤلف شيئًا من أشياء لا ائتلاف بينها، فلم يكن أبو العلاء على حظ من الخيال؛ لأنه لم يخترع في رسالة الغفران شيئًا من لا شيء ولم يؤلف بين متناقضات، ولكنا نعلم أنَّ علماء النفس لا يسمون هذه الملكة خيالًا وإنما يسمونها وهمًا، وهم ينبئوننا أنَّ الخيال لا يخترع شيئًا من لا شيء، وإنما يستمد صوره ونتائجه من الأشياء الموجودة يؤلف بينها تأليفًا غريبًا يبهر النفس ويفتنها.

وإذا كانوا صادقين — ونحسبهم صادقين — فحظ أبي العلاء من الخيال في رسالة الغفران لا حد له، ليس لأبي العلاء حظٍ من الخيال، وإذن فماذا يلذنا من رسالة الغفران؟ ولمَ يعجبنا حوار هؤلاء الشعراء والعلماء وذكر الجنة والنار وما فيهما؟ أليس لأن خيال أبي العلاء الخصب القوي قد استطاع أنْ يؤلف بين هذا كله تأليفًا غريبًا قيِّمًا لذيذًا! لم يكن أبو العلاء ملزمًا أنْ يخترع الشعراء والعلماء الجنة والنار! ﻓ «دانت» لم يخترع «فرجيل»، ولم يخترع الجحيم، ولم يخترع الأشخاص الذين لقيهم فيه، وإنما استمدهم جميعًا من الأدب القديم أو من الدين المسيحي، ومع ذلك فهو صاحب خيال، وخياله هذا مصدر مجده الخالد، لا تقل إنَّ حظ أبي العلاء من الخيال قليل، بل قل: إنَّ حظه من الخيال عظيم جدًّا قيِّم جدًّا خليق بالخلود؛ لأنه الخيال الخصب المنتج حقًّا، هو الخيال الذي تجده عند «دانت»، والذي تجده عند «أناتول فرانس»، عند «أناتول فرانس» بنوعٍ خاص، وما أقوى الشبه بين أناتول فرانس وأبي العلاء! ليس بين الرجلين إلا فرق واحد، وهو أنَّ تشاؤم الكاتب العربي محزون مظلم، وتشاؤم الكاتب الفرنسي مبتسم مشرق، ومن غريب الأمر أنَّ من الفرنسيين من ظلم أناتول فرانس على هذا النحو الذي يظلم عليه العقاد أبا العلاء، انخدع بعض النقاد الفرنسيين بكثرة ما يروي أناتول فرانس عن قدماء اليونان والرومان في القرون الوسطى، فقالوا: إنَّ الرجل لا شخصية له، وإنما هو يجمع آثار غيره لا أكثر ولا أقل، ويكاد العقاد يقول هذا في رسالة الغفران؛ لأن أبا العلاء ملأها بما رواه عن الشعراء والعلماء والفلاسفة، وما أخذ عن رجال الدين، ولكن غير العقاد خليق بأن يتورط في مثل هذا الخطأ، فسر البلاغة — ولقد كدت أقول الإعجاز — أقوى وأظهر في رسالة الغفران من أنْ يغفل عنه أديب كالعقاد.

أرى أنَّ العقاد قد وفق التوفيق كله لفهم السخرية العلائية في رسالة الغفران، ولعلي أول من سبق إلى ذكر هذه السخرية، ولعلي لقيت في سبيل هذه السخرية العلائية شيئًا من العنت والأذى، ولكني كنت أحب أنْ يذهب العقاد في تحليل هذه السخرية العلائية إلى أقصى ما تنتهي إليه حرية البحث، فلم يكن أبو العلاء ساخرًا من الناس في حياتهم العادية ولا آمالهم وأعمالهم وحدها، وإنما رسالة الغفران مثل قوي شنيع للسخر بما كان للناس من مثل أعلى في الدين، فهو لا يسخر من شهواتهم ولذاتهم، وإنما يسخر من دينهم ويقينهم، والذي أحب أنْ يلتفت إليه قارئ رسالة الغفران ليس هو هذه السخرية التفصيلية التي نجدها عندما يعرض أبو العلاء لإوَزِّ الجنة أو بقرها، أو عندما يعرض للخصومة بين الشعراء، وإنما هي السخرية الجميلة العامة المنكرة التي تمثل الله — عز وجل — كأنه قد فرغ للذات أهل الجنة وشهواتهم يديرها ويدبرها، لا عمل له إلا هذا، ولا تفكير له إلا في هذا، إنَّ الذي يقرأ رسالة الغفران ويفقه ما فيها من سخرية لا يستطيع أنْ يسلم بأن أبا العلاء كان مسلمًا حقًّا، وقد أفهم أنْ يتنجب العقاد مثل هذا البحث؛ لأن فيه شيئًا من الحرج، ولكني أحب أنْ يكون الناس جميعًا مثلي يكرهون أنصاف الحقائق، ويؤثرون العلم والتاريخ على كل شيء.

أنا معجب بما كتب العقاد عن أبي العلاء، وأرجو أنْ أعجب بما كتب عن المتنبي حين أقرؤه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤