الفصل السابع عشر

  • «جان جاك روسو، حياته وكتبه» بقلم الدكتور محمد حسين هيكل بك.

  • «أشهر قصص الحب التاريخية» بقلم الأستاذ سلامة موسى.

  • «رسائل الأحزان في فلسفة الجمال والحب» بقلم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي.

***

وصلت إليَّ رسالتان كنت أود أنْ أثبتهما في هذا الفصل وأنْ أرد عليهما، ولكني آثرت ألا أفعل، ورأيت أنْ أكتفي بالإشارة إليهما؛ لأن هذا الفصل أضيق من أنْ يسع الحوار والجدال، إحداهما من الأستاذ عباس العقاد فيها خير وشر وفيها ثناء وذم، وأنا أتقبل هذه الرسالة شاكرًا ما فيها من خيرٍ وشر ومن ثناءٍ وذم، وأؤكد لصاحبها أنه لم يصدق في رسالته كلها كما صدق في آخرها، حيث يقول: «إنَّ صوتي يسمع على ما فيه من نشوز.» وأنا أعلم أنَّ في صوتي نشوزًا وأحمد الله على أنَّ هذا النشوز لا يمنع الناس من الاستماع لهذا الصوت، فقد يكون في الاستماع له خير، مهما يكن قليلًا فهو خير.

أما الرسالة الثانية فأرق من رسالة العقاد، وأدعى إلى الابتسام والفكاهة، ويجب أنْ أكون شديد الحرص على الإيجاز لآخذ نفسي بألا أنشرها، ويجب أنْ أكون شديد الحرص على المجاملة لأمنع نفسي من ذكر صاحبها، فلن أسميه وإنْ كان ميلي إلى ذلك شديدًا.

قرأ كاتب هذه الرسالة في حديث من هذه الأحاديث أني أصف بعض الكُتَّاب بأن لسانه أطول من عقله وأنَّ له يومه، فخطرت له خواطر وعبثت به ألوان من الخيال، وكتب إليَّ يتعجلني في نقد هذا الكاتب والدلالة عليه ويلح في تعجله إياي، وأنا أجيب هذا الكاتب الأديب أني لم أرده ولم أقصد إليه، وأنه يستطيع أنْ يستريح من هذه الناحية، وأنْ يتركني حرًّا أتخير اليوم الذي يعجبني أنْ أنقد فيه هذا الكاتب وأمثاله، فهو ليس كاتبًا واحدًا، وإنما صورة لكُتَّاب كثيرين، ولأدع رسالة العقاد ورسالة هذا الكاتب الأديب، ولأنتقل إلى هذه الكتب التي وضعت أسماءها في أول هذا الفصل، وإني لأعلم أني سأجد في نقدها أو في نقد بعضها مشقة غير قليلة، فكلها خليقة بالنقد، وبالنقد الشديد، وكلها خليق بالثناء، وبالثناء الكثير.

ليس من اليسير أنْ أنقد كتاب صديقي هيكل؛ لأن قراءته ليست يسيرة، نعم، ليس من اليسير ولا من المحبب إلى النفس أنْ نقرأ هذا الكتاب القيِّم ونستمتع بما فيه من لذة علمية وأدبية، ففي الكتاب لذاتٍ علمية وأدبية كثيرة، ولكن الله أراد أنْ تحول بيننا وبين هذه اللذات حوائل مختلفة، منها ما هو منكر بغيض، ومنها ما هو ثقيل على النفس، ومنها ما يحرج ويغيظ، يجب أنْ يكون هيكل شديد الالتواء على النقاد، مسرفًا في ازدراء القراء، غاليًا في الاقتناع بأنه وحده موفق للخير حين يفكر وحين يعمل، فقد ذكرت أني تناولت الجزء الأول من كتابه حين ظهر في سنة ١٩٢١ فقرأته بعد مشقة، ونقدته ملخصًا ناصحًا للكاتب أنْ يكبر قراءه بعض الشيء، وأنْ يعنى بهم ولو قليلًا، وكنت أحسب أنَّ هذا النقد سينزل من نفس صديقي هيكل منزلة حسنة، فيجيبني راضيًا إلى ما دعوته إليه، وكنت أنتظر ظهور الجزء الثاني من كتابه؛ لأثني عليه ثناء خالصًا من كل عيب، ولأحمده حمدًا بريئًا من كل انتقاص، ولكني أعترف بأني أحسست شيئًا كثيرًا مما يسمونه خيبة الأمل حين انتهى إليَّ هذا الكتاب، ذلك أني رأيت صاحبي هذه المرة كما رأيته في المرة الماضية مزدريًا لقرائه مزدريًا لنقاده، لا يحفل بأولئك ولا بهؤلاء، وما أحسب إلا أنَّ هذا الازدراء خلق من أخلاقه ليس إلى إصلاحه من سبيل.

لا أعرف كتابًا علميًّا أدبيًّا أردأ طبعًا من كتاب الدكتور هيكل، بل لا أعرف كتابًا علميًّا أدبيًّا أقبح ورقًا من كتاب الدكتور هيكل، بل لا أعرف كتابًا علميًّا أدبيًّا بلغ فيه الإهمال والفتور ما بلغاه في كتاب الدكتور هيكل؛ طبع رديء، مفعم بالأغلاط المنكرة، وورق رديء يصرف القارئ عن أنْ ينظر في الكتاب، ويَصُدُّ من يحب اقتناء الكتب عن أنْ يقتني هذا الكتاب، وإهمال يصرف عن القراءة أشد الناس رغبة في القراءة، ويزهد في الاستفادة أحرص الناس على الاستفادة، أذكر أني طلبت إلى الدكتور هيكل حين ظهر الجزء الأول من كتابه هذا أنْ يتقي الله في قرائه، في أبصارهم وأذواقهم وفي ميولهم وأهوائهم، فيحسن طبع كتبه ويتخير لها ورقًا لا يؤذي الأبصار ولا يشق عليها، وأراني مضطرًا إلى أنْ ألاحظ أنَّ صديقي لم يُعْنَ بما دعوته إليه، فكانت طبعة الجزء الثاني كطبعة الجزء الأول إنْ لم تكن أشد منها إمعانًا في السوء.

أنا أعلم أنَّ الذين يقدمون على التأليف والنشر يتعرضون في أكثر الأحيان لخطر أشد من خطر النقد، وهو ضياع ما ينفقون من أموال، ولكني أعلم من جهة أخرى أنَّ الذين يؤلفون وينشرون إذا كانوا من العلماء والأدباء حقًّا يضنون بما يؤلفون وينشرون على الورق القبيح الرديء، وهم بالطبع يريدون أنْ يتجملوا في كتبهم كما يتجملون في أزيائهم، وهم يُعنون بأن تروق كتبهم الأبصار قبل أنْ تروق النفوس، كما أنهم يُعنون — إنْ لم يكونوا من أتباع ديوجين — بأن تروق أشخاصهم وأزياؤهم أبصار الناس قبل أنْ تروق آراؤهم عقول الناس، بل أنا أزعم — والناس جميعًا يرون هذا الرأي — أنَّ من الأسباب القوية التي تعينك على أنْ تنزل من نفوس الناس منزلة تحببك إليهم وتمكنك منهم ألا ينبو شخصك عن عيونهم، ومثل هذا يقال في الكتب، ولكن صديقنا هيكل لا يريد أنْ يسمع لشيءٍ من هذا، وهو بإعراضه عن هذا النصح يسيء إلى كتابه؛ لأن القراء لا يرغبون فيه ولا يسرعون إليه، ويسيء إلى قرائه؛ لأنه يحرمهم قراءة هذا الكتاب اللذيذ.

ومن غريب الأمر أني ضحكت منذ أيام حين انتهى إليَّ كتاب هيكل؛ لأنه انتهى إليَّ وقد قرأت في جريدة «الطان» فصلًا عنيفًا كتبه الناقد الأدبي لهذه الصحيفة، حمل فيه حملة منكرة على الشاعر الفرنسي المعروف «هنري درينيه» وعلى طابعه؛ لأنهما نشرا ديوانًا لهذا الشاعر في طبعة بلغت من الإتقان والزينة وجودة الورق أنْ ارتفع ثمنها على أوساط الناس، وأصبح الكتاب لا يتاح إلا للأغنياء والمترفين، ضحكت ورثيت لأوساط الناس الذين يزدريهم «هنري درينيه» فيغلي كتبه ويسرف في إتقانها وتزينها، ويزدريهم هيكل فيرخص كتبه ويسرف في إهمالها وانتقاصها، رثيت لأوساط الناس من هذين الكاتبين اللذين يختلفان فيما بينهما اختلافًا شديدًا، ولكنهما يسلكان طريقين مختلفين تنتهي بهما إلى غايةٍ واحدة هي ازدراء القراء، أما أحدهما فيغلو في الترف، وأما الآخر فيغلو في التفلسف، وما أصدق المثل اليوناني الذي قامت عليه فلسفة الفلاسفة حقًّا وهو «لا تسرف».

ثم لا يقف أمر هذا الكتاب عند سوء الطبع وقبح الورق، فما رأيك في كتاب تبحث فيه عن فهرست فلا تجد! وما رأيك في كتاب لا تستطيع أنْ تلم بما فيه إلا إذا قرأته من أوله إلى آخره! ليس لكتاب هيكل فهرست، أستغفر الله! بل ليس في كتاب هيكل عناوين للموضوعات التي يتناولها، وكل ما في كتاب هيكل من هذا النحو أرقام ثلاثة هي ٩ و١٠ و١١، تأخذ الكتاب فيصادفك رقم ٩، ثم يتفضل عليك المؤلف فيذكرك بما كان في الجزء الأول، وينبهك إلى أنَّ هذا الفصل الذي تقرؤه هو الفصل التاسع من فصول الكتاب كله، ثم تمضي في الكتاب وتمضي وتمضي حتى تتجاوز خمسين من صحف الكتاب فتجد رقم ١٠، ثم تمضي وتمضي وقد تنسى نفسك وقد تصل، وقد يختلط عليك الأمر، ولكنك تمضي حتى تجاوز الثمانين بعد المائة من صحف الكتاب، وإذا أنت أمام الرقم الثالث ١١ ثم تمضي حتى تنتهي من الكتاب أو قل من الجزء، وترى نفسك مضطرًا إلى أنْ تنتظر ظهور الجزء الثالث الذي سيبتدئ طبعًا برقم ١٢، هذا كل ما في الكتاب من تقسيم، وأنت ترى أنه قليل، أقل مما ينبغي، وأنت تستطيع أنْ تقول إنَّ الكتاب يخلو من التقسيم والترتيب، وإذا كان إهمال الورق والطبع إسرافًا في التفلسف وازدراء للقراء، فإهمال التقسيم والترتيب غلو في التقصير وازدراء للبحث العلمي نفسه، ذلك أنَّ البحث العلمي بطبيعته محتاج إلى التقسيم والترتيب، بل قل: إنَّ البحث العلمي تقسيم وترتيب قبل كل شيء، فالانصراف عن التقسيم والترتيب إثم على العلم إذا تكلفه صاحبه وتعمده، وهو قصور فاحش إذا اضطر إليه اضطرارًا، وكم كنت أريد أنْ يخلو كتاب هيكل من صفتين أعتقد أنا أنَّ شخص هيكل منهما بريء.

ثم لم يقف الأمر في هذا الكتاب عند هذا الحد، فهيكل لم يكتفِ بإهمال الطبع والورق، ولا بإهمال الفهرست، ولا بإهمال التقسيم والترتيب، بل أضاف إلى هذه الضروب من الإهمال ضربًا آخر ليس أقل منها قبحًا عندي، وقد يكون أشد منها قبحًا عند غيري من الأدباء والنقاد، ذلك هو إهمال اللغة.

ليس من الثناء على هيكل في شيء أنْ نقول: إنه كاتب مجيد، فالناس جميعًا يعلمون أنه كاتب مجيد، وما أظن أنَّ بين قراء الصحف من يستطيع أنْ ينكر أنه مدين لقلم هيكل بساعاتٍ لذيذة تأثرت فيها نفسه ألوانًا من التأثر، فغضبت مع الكاتب للحق، وسخطت مع الكاتب على الباطل، وشعرت مع الكاتب بالوطنية الصادقة والحرص على المنفعة القومية، واستمتعت مع الكاتب بلذة العلم والأدب حين يبحث عن العلم والأدب، وحين يتناول بتحليله الدقيق ونقده الموفق كبار الكُتَّاب والأدباء ولا سيما «أناتول فرانس» و«بيير لوتي»، الناس جميعًا يعلمون هذا من هيكل، ويعترفون بأنهم مدينون له بساعات لذيذة قيِّمة، والناس جميعًا يعلمون أنَّ هيكلًا على امتيازه الفني وبراعته الكتابية يحسن لغته العربية ويتقنها ويتصرف بها كما يحب ويسخرها كما يشتهي، وربما كانت له في ذلك شخصية بارزة حين يختلج في نفسه الرأي، ويشعر بأن اللغة قد تضيق برأيه فيُكرهها على أنْ تتسع، ويُرغمها على أنْ تؤتيه من الألفاظ ما هو في حاجةٍ إليه، ولكني لا أدري أيعلم الناس أنَّ صاحبنا يكره التعمق في اللغة والإسراف في تخير الألفاظ القديمة وتجنب الألفاظ الحديثة المبتذلة؟ ولقد كانت بينه وبيني في ذلك مناقشات ومخاصمات حظ الهزل فيها أكثر من حظ الجد، ولكنها كانت على كل حال مظهرًا من مظاهر اختلافنا في الرأي أمام هذه المسألة الفنية، وأنا أفهم حق الفهم أنْ يميل بعض الكُتَّاب إلى تخير الألفاظ المتقنة، بل أنا أفهم حق الفهم أنْ يتحرج بعض الكُتَّاب في استعمال ألفاظ لا يجدها في المعاجم، أنا أفهم هذا حق الفهم، وأفهم شيئًا آخر، وهو أنْ يطلق بعض الكُتَّاب لأنفسهم الحرية في استعمال ما يعرض لهم من الألفاظ رضيت عنه المعاجم اللغوية أو سخطت عليه، أفهم هذين المذهبين، وأريد أنْ أتوسط بينهما ما استطعت إلى ذلك سبيلًا؛ لأني أريد أنْ أحتفظ للغة بجمالها وبهجتها من جهة، وبحياتها وقوتها من جهة أخرى، وأريد أنْ أكون قادرًا على أنْ أصف ما في نفسي وألا أسلب نفسي هذه القدرة؛ لأني لا أجد في المعاجم لفظًا أشعر بأنه يعجبني ويؤدي ما في نفسي، ولكن هناك شيئًا لا أستطيع أنْ أفهمه، وما أحسب أنَّ أحدًا يستطيع أنْ يفهمه، وهو أنْ يسرف الكاتب في حريته اللغوية حتى يهدم قواعد اللغة، ويتجاوز حدودها وقوانينها في غير نفعٍ ولا نكتة فنية ولا ضرورة قاهرة، لا أستطيع أنْ أفهم مثلًا أنْ يذكر اللفظ المؤنث ويؤنث اللفظ المذكر، فقد تستطيع أنْ تكون حرًّا في اللغة بل إباحيًّا، ولكنك لن تستطيع أنْ تمنح هذه الحرية التي لا خير فيها ولا نفع، وأي فائدة تجدها، وأي لذة تظفر بها حين تضم فعلًا يجب أنْ يكسر، وتذكر لفظًا يجب أنْ يؤنث؟ ومع هذا فأنا أجد هذا النحو من الخطأ اللغوي في كتاب صديقي هيكل.

ولست أريد أنْ أسرف ولا أنْ أطيل في إحصاء هذا الخطأ، وإنما أريد أنْ أدل عليه دلالة موجزة، أريد أنْ أسأل كيف استطاع هيكل أنْ يقول: «وكان قدمه قد استقر يومئذ في الأدب.» وهو يعلم أنَّ القدم مؤنثة لا مذكرة.

أريد أنْ أسأله كيف استطاع أنْ يقول: «وألا نكون من السخف حتى نضحي هناءنا بسبب مثل هذا الرأي الأخرق.» ومتى كان «حتى» ظرفًا مكانيًّا! وإنما أراد هيكل أنْ يقول: «وألا نكون من السخف بحيث نضحي …» وأكبر ظني أنه كتب هذا، ولكنه أهمل العناية بطبع الكتاب فتورط في هذا الخطأ، ومثل هذا الخطأ الذي ورطه فيه إهمال العناية بالطبع قوله: «فرفضت مخافة ما يصيب ذلك أبواها من سوء.» فما رأيك في هذا المفعول الذي ينصب بالألف وكان حقه أنْ ينصب بالياء؟ وخطأ آخر لا أستطيع أنْ أغفره، وهو حيث يقول: «وأنت تعلمين أنك أشد ما يكون في هذه الحال خطرًا.» أراد «أشد ما تكونين»، وخطأ آخر أشد من هذا نكرًا وهو قوله: «وموقف والدي المحترم موقف مهوبًا.» وليس من شكٍّ في أنَّ على المطبعة وحدها تبعة هذا «الموقف» الذي كان ينبغي أنْ ينصب ويصرف فمنع الصرف، ولكن أعلى المطبعة وحدها تبعة هذا «المهوب»، الذي ينبغي أنْ يكون مهيبًا بالياء لا بالواو؟ هذا كله ولما أتجاوز الخامسة والعشرين من صحف الكتاب، وقد أخذت نفسي بأن أكون ميسرًا لا معسرًا حتى لا يقول أنصار حرية اللغة: تقعَّر في النقد ولم ينسَ دروس الأزهر الشريف، وما أشد حرصي على ألا أنساها! ولست أشك في أنَّ الإهمال وحده هو الذي اضطر هيكلًا إلى هذه الأغلاط، ولكن من ذا الذي يستطيع أنْ يزعم أنَّ الإهمال يباح للكُتَّاب والعلماء.

أما بعد، فهل أنا في حاجةٍ إلى أنْ أثني على هذا الكتاب؟ ألست أتعرض للسخف إذا أثنيت على فيلسوف كجان جاك روسو، وعلى كاتب كيهكل! وأي الناس من قراء هذا الحديث يجهل مكانة روسو في الأدب الفرنسي خاصة! وأي الناس من قراء هذه الفصول يجهل مكانة هيكل في أدبنا العربي الحديث؟!

الناس جميعًا يعرفون مكانة هذين الكاتبين، ولكن من قراء العربية من لا يتاح لهم أنْ يقرءوا «جان جاك روسو» في لغته الفرنسية أو في ترجمة عربية، وهؤلاء ينتفعون من كتاب هيكل انتفاعًا قيِّمًا حقًّا؛ لأنهم يجدون فيه شخص روسو ماثلًا مثولًا واضحًا؛ ولأنهم يجدون فيه آراء روسو مبسوطة أحسن بسط، مفصلة أجمل تفصيل، هذا كله في إيجاز حسن وتجنب للإطالة والإسراف، بل أنا أذهب إلى أبعد من هذا فأزعم أنَّ الذين قرءوا «روسو» بالفرنسية وأكثروا قراءته وأتقنوها، يجدون لذة لا تكاد تعدلها لذة في قراءة هذا الكتاب الصغير الذي نشره هيكل عن جان جاك روسو، يجدون هذه اللذة المقدسة التي يجدها الأديب حين يقرأ نقدًا صادقًا صحيحًا لكتب قيِّمة لذيذة، وحين يوازن بين هذا النقد وبين ما شعر به وهو يقرؤه، وحين يتمم بهذا النقد نقص قراءته، وحين يوجهه هذا النقد وجوهًا من التفكير لم يعرض لها، ولم يلتفت إليها الناس جميعًا حين يقرءون هذا الكتاب، فيجدون فيه من اللذة العقلية والقلبية ما لا ينقصه إلا سوء طبع الكتاب، فأنا لا أغفر لهيكل سوء طبع الكتاب، لا أغفره له؛ لأن الكتاب قيِّم حقًّا، خليق أنْ يقرأ وأنْ تعاد قراءته، ومن الجناية على مثل هذا الأثر القيِّم، أنْ يعرض على الناس في مثل هذه الثياب الدميمة، وكم يحسن هيكل لو تفلسف في غير هذا الأمر فلمْ يُسِئْ إلى روسو ولا إلى نفسه هذه الإساءة المنكرة، وأقسم لو كنت غنيًّا لتكلفت محو هذه الإساءة ولأعدت طبع الكتاب في عنايةٍ متقنة وإتقان خليقين بموضوعه وبكاتبه وبقرائه.

ولكني قد أعطيت نفسي من الحرية في نقد هذا الكتاب أكثر مما ينبغي لها — فيما يظهر — وما رأيك في محرر «السياسة» الأدبي يتناول بهذا النقد العنيف رئيس تحرير «السياسة»، ثم لا يستحي أنْ ينشر هذا النقد العنيف في جريدة «السياسة» نفسها؟ أليس هذا إسرافًا أو شيئًا فوق الإسراف؟! كلا، ليس إسرافًا، إنما هو القصد كل القصد والاعتدال كل الاعتدال، فهيكل تلميذ لطفي السيد، ولقد أذكر أنَّ لطفي السيد علمنا حين كان مدير «الجريدة» أنْ ننقد أصحاب الصحف في صحفهم، وعودنا أنْ ينشر نقدنا راضيًا به مبتهجًا له، معتذرًا إنْ كان في الأمر ما يدعو إلى الاعتذار، ونحن قوم يحب بعضنا بعضًا، ولكنا نتحاب في الحق والعلم والأدب وحرية الرأي قبل كل شيء، ولو علمت أنَّ في هذا النقد ما يغضب صاحبي أو يغيظه لما نشرته لا في «السياسة» ولا في غير «السياسة»، أستغفر الله! بل لو علمت أنَّ في هذا النقد ما يغضب صاحبي أو يغيظه لنشرته ولضحيت بصحبة هيكل في سبيل ما أعتقد أنه حق، ولكني أعلم أنَّ صاحبي أو أنَّ أصحابي جميعًا في الرأي والمذهب فوق هذه الملاحظات التي لا ينظر إليها إلا صغار النفوس، وإذا كانت «السياسة» قد وسعت تقريظ خصم من خصوم «السياسة»، فهي حرية أنْ تسع نقد رئيس تحرير «السياسة»، وليس معنى هذا أني لن ألقى من رئيس تحرير «السياسة» شططًا ولا عنتًا، فأنا أعلم ما ينتظرني منه بعد أنْ يعود من سفره، ولكني أعلم أننا سنتحاور ونختصم، ثم نتضاحك ونفترق، وقد أعلن إليَّ هيكل كما تعود أنْ يعلن إليَّ كلما اختصمنا في أمرٍ كهذا أني أجهل اللغة العربية.

فلأنتظر سخط هيكل ورضاه، ولأنتقل منه إلى كاتبٍ آخر كنت أريد أنْ أرضيه؛ لأني أحبه وإن كنت لم أعرفه، ولأن الكلفة لم ترتفع بيني وبينه — كما يقولون — فلا بدَّ من اصطناع المجاملة حين أعرض له، ولكن كيف السبيل إلى المجاملة وصناعة النقد لا تحتملها ولا ترضاها! وقد أراد الله أنْ أكون ناقدًا، فأراد أنْ أكون ثقيلًا إذن، ولأقل صراحة للأستاذ سلامة موسى أني غير راضٍ عن كتابه الذي أذاعته مجلة الهلال منذ أيام.

للأستاذ سلامة موسى في نفسي منزلة قيِّمة؛ لأني أعجب بعقله وحريته ومذهبه في التفكير وطريقته في الكتابة، ولهذا كله اغتبطت حين وصل إليَّ كتابه، وأخذت أحمد «للهلال» عنايتها بالآداب واجتهادها في نفع قرائها واستعانتها بالأستاذ سلامة موسى.

وعنوان الكتاب لذيذ خلاب، وإنْ كنت لا أدري إلى أي حد يرضى عنه النحو، ومن الذي لا يجد لذة في قراءة قصص الحب؟ أعترف أني من الذين يكلفون بالحب وأخباره وأحاديثه، ويجدون فيها لذة وتفكهة ونفعًا، وإذن فقد اغتبطت بكتاب الأستاذ سلامة موسى حين وصل إليَّ، وقلت: إني سأجد في قراءته من اللذة ما ينسيني بعد المسافة بين داري وبين الجامعة، ولكني لم أكد آخذ في قراءة الكتاب حتى رأيت أنه لا يصلح للمترو، ولا يغضب الأستاذ سلامة موسى فأنا أقرأ في المترو كتب «أناتول فرانس»، بل أنا أقرأ في المترو تاريخ المقدونيين في مصر، وتاريخ الجمهورية الرومانية، فليست قراءة الكتب في المترو ازدراء لها، وإنما هي إكبار لهذه الكتب وثقة بها، وأي ثقة بكتاب تعدل الاستعانة به على احتمال المكروه! أسفت إذن حين أحسست أنَّ كتاب سلامة موسى لن يعينني على المترو، واضطررت إلى أنْ أقرأه في مكتبي، وأنا مضطر إلى أنْ أعترف بأني أسفت أيضًا حين قرأته في مكتبي، لا لأن الكتاب ليس أهلًا للعناية، ولا لأن الكتاب لا يبعث في نفس قارئه لذة قوية؛ بل لأن الكتاب لا يمثل كاتبه، وأنا أحب في هذا النوع من الكتب أنْ أرى أشخاص المؤلفين، وأنْ أتحدث إليهم وأستمع لهم، هذا الكتاب لا يمثل كاتبه، وإنما هو طائفة من الأحاديث حظ النقل فيها أكثر من حظ التفكير، وكأن الكاتب قد نظمها نظمًا، وألصق بعضها ببعض إلصاقًا، دون أنْ يتكلف إظهار شخصيته أو قوته في النقد، وفي الحق أنَّ موضوع الكتاب لا يصلح موضوعًا لبحث قيِّم تظهر فيه شخصية الكاتب، فكيف تظهر شخصية الكاتب في رواية أحاديث الحب عند العرب واليونان والرومان والفرنج المحدثين؟! وكيف يمكن أنْ ينسى الكاتب اختلاف هذه الأمم ويمتلئ موضوعه امتلاء فيتحدث عنه وكأنه يتحدث عن نفسه؟!

ومع ذلك فقد يخيل إليَّ أنَّ الأستاذ سلامة موسى كان يستطيع أنْ يحسن إلينا بعض الإحسان في غير موضوع، كان يستطيع مثلًا أنْ يضع لكتابه مقدمة صالحة فيها شيء من البسط والتفصيل لهذه الآراء القيِّمة التي يعرض فيها الحب على الناس، كان يستطيع أنْ يحكم عقله وقوته النقدية حين يعرض علينا رأي العرب في الحب، وحين يعرض علينا رأي الفرنج في الحب، ولكنه لم يفعل من هذا شيئًا، إنما عرض علينا أطرافًا من القول نقلها عن طائفة من الكُتَّاب العرب والفرنج، وخيل إلينا أنَّ هذه الأطراف المقتضبة التي ألصق بعضها ببعض إلصاقًا تمثل آراء العرب في الحب حقًّا، وآراء الفرنج في الحب حقًّا، خيل ذلك إلينا، ولم يخيله إلى نفسه طبعًا، فهو يعلم أنَّ مثل هذه الأطراف من القول لا تمثل آراء أصحابها، فضلًا عن أنْ تمثل آراء الأمم التي ينتسب إليها أصحاب هذه الأطراف.

وكنت أحب أنْ يكون الأستاذ سلامة موسى ناقدًا بعض الشيء حين يعرض لأخبار الغزلين من العرب، كجميل وكُثَيِّر وغيرهما، ولكنه لم يكد يفعل من هذا شيئًا، وإنما يترك القدماء يقولون ما يشاءون، واختار من أحاديثهم أطرافًا رواها في غير نقد ولا تحفظ إلا ما يدعو إليه الإيجاز، وفي الحق أني لست أدري على من تقع تبعة هذا التقصير، أعلى الأستاذ؛ لأنه مال إلى هذا النحو من التأليف الذي قد يليق بالتجارة أكثر من لياقته بالبحث العلمي، أم على مجلة «الهلال» التي عرضت على الأستاذ هذا النحو من التأليف؛ لأنها تعرف عقلية الكثرة من قرائها ومقدرتهم، أم على القراء أنفسهم؛ لأنهم يضطرون الكُتَّاب إلى أنْ ينصرفوا عن البحث والنقد ليكون فهمهم ميسورًا، ويضطرون «الهلال» إلى أنْ تقدم إليهم كتبًا حظ الجمع فيها أكثر من حظ النقد! ومهما يكن من شيءٍ فإن هذا الكتاب بعيد كل البعد عن أنْ يؤيسني من الأستاذ سلامة موسى، وأنا واثق بأني سأضطر بعد حين إلى أنْ أثني عليه ثناءً خالصًا.

وقد بلغت من هذا الفصل أقصاه، ولم أبدأ في ذكر الأستاذ مصطفى صادق الرافعي وكتابه في فلسفة الجمال والحب، وأنا بين اثنتين إما أنْ أنقد هذا الكتاب كما أحب وكما يليق بصاحبه، فأطيل عليك، وربما تأخرت عن هذا الدرس الذي يجب أنْ أذهب لإلقائه في مدرسة الآثار، وإما أنْ أرجئ نقد هذا الكتاب إلى حديث الأربعاء في الأسبوع الآتي، ويظهر أني أوثر الثانية على الأولى، فإلى الأسبوع الآتي إذن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤