الفصل الثامن عشر

  • عود إلى كتاب هيكل.

  • «رسائل الأحزان في فلسفة الجمال والحب» للأستاذ مصطفى صادق الرافعي.

***

أخي طه

تحية واحترامًا، أكتب لك عما تبرعت به من نقد الجزء الثاني من كتاب جان جاك روسو، حياته وكتبه، ولست أقصد بما أكتب إلا مناقشة لصديق، وستجدها مناقشة خالية من كل ما تتهم به نفسك من عنفٍ أو شدة.

أخذت على هذا الجزء الثاني من كتابي عن روسو أنه مطبوع طبعًا رديئًا على ورق غير لائق بكتب العلم والأدب، وأنَّ به أغلاطًا مطبعية كثيرة، وأخذت عليَّ أني في إهمال الطبع، وعدم اختيار الورق، وعدم العناية بالتصحيح أزدري الجمهور، وأني لا أحفل باللغة كما ينبغي، وأني لم أضع لكتابي فهرسًا ولم أبوبه، وجعلت لهذا النقد أكثر من أربعة أنهر في السياسة، ثم أثنيت على الكتاب بأن موضوعه جان جاك روسو، وبأن كاتبه هيكل، وجعلت لهذا الثناء نصف نهر من أنهر السياسة.

ولست أخفيك أني أشعر بأن نصف النهر هذا فيه من المعنى ما «يخجل تواضع» روسو لو أنه كان حيًّا، وما «يخجل تواضعي» أنا اليوم، واعذرني إذا استعرت في هذا المقام عبارة سعد زغلول، لكني أود أنْ أسألك إذا كان القارئ البعيد عني وعن روسو يشعر بمثل شعوري بعد أنْ يفرغ من قراءتك، لقد عرف أنَّ الكتاب مطبوع طبعًا سيئًا على ورق رديء، وأنَّ به خطأ مطبعيًّا وإهمالًا لضبط بعض الألفاظ من الجهة اللغوية، وأنه مع ذلك كتاب دسم مفيد، لكن سوء طبعه وورقه يصدان عن قراءته، فما الذي يمكن لهذا القارئ أنْ يقف عليه من أمر الكتاب؟ ما هو هذا الغذاء الأدبي والعقلي الذي لا يستطيع أنْ يصل إليه والذي كان حقًّا عليك أنْ تدله عليه؟ ألا تظن أنه — ولم يستدل على شيءٍ منه — يشعر بأنك لم تقرأ الكتاب، بل اكتفيت بتقليب صفحاته، واقتصرت بعد ذلك على الكتابة عن الشكل والصورة الظاهرة من غير أنْ تكلف نفسك عناء الوقوف على موضوع الكتاب؛ لترى إنْ كان على سوء شكله يستحق احتمال القراء عناء مطالعته، ولتنتقد مباحث الكاتب فتحكم له أو عليه.

ثم هب يا صديقي أنَّ قارئك كان رجلًا صالحًا من أهل الأزهر الذين تعودوا قراءة الكتب مطبوعة على الورق الأصفر أو النباتي، ولا تزيد على الكتاب الذي تفضلت بنقده بهاءً ولا رواءً، وهب أنَّ قارئك كان من الذين يولعون باستقصاء ما في الكتب مهما يحملهم هذا الاستقصاء من عناء، وهب أنه كان من الذين لا يحفلون بالظواهر ولا يعنون كثيرًا باللباس، ولا يفهمون قيم الناس بأرديتهم ويحسبون التأنق لهوًا، فماذا يكون حكم القارئ على ما كتب حين يراك اقتصرت على نقد الطبع والورق؟ وهلا تخشى أنْ يقول لك: إنَّ وضع صحيفة في آخر الكتاب لبيان الخطأ والصواب كانت تكفي لرد نقدك الألفاظ، وإنه كان أحوج إلى العلم بشيءٍ من موضوع الكتاب!

أما نقدك غياب الفهرس والتبويب فكنت أود أنْ أشاركك رأيك فيه، لولا أنَّ هذا الجزء الثاني من كتاب جان جاك في غير حاجةٍ إلى فهرس أو تبويب، فهو يلخص رواية هلويز الجديدة وكتاب التربية وينقدهما، وليس فيه شيء آخر، فهل كان يكفيك أنْ يكتب بدل ٩ و١٠ و١١ هلويز الجديدة، وإميل، وصوفيا، كما فعل فاجيه ولمتر وغيرهما من الذين كتبوا عن روسو؟ وهل تحسب الفارق كبيرًا في نظر العلم والأدب إلى حدٍّ لا يصبح معه نقدك مشوبًا بشيءٍ غير قليل من الإسراف الذي ذكرت أنك لا ترضاه؟

وتقول لو أنك كنت غنيًّا لقمت بطبع الكتاب في صورةٍ تليق بروسو وبهيكل، وإني أشكر لك حسن ظنك ورقيق شعورك، وربما رأيت أنت كتابي على غير ما رأيته لو أنني كنت غنيًّا، على أني لا أقول لك ذلك عن ثقة، فإن بي عيبًا آخر قد يحول دون إتقان الطبع، وأظنك تعرفه، فإني تتحكم فيَّ صفتان ليس أضر منهما على تجارة الحياة وتبادل المنافع، هاتان الصفتان هما الأنفة والحياء، وقد أسرف الحظ فيما خلعه عليَّ من كل منهما إلى حد انقلب معه ما يجده الناس في كل منهما من فضلٍ عيبًا عندي ونقصًا، وليس لي من سبيل إلى محاربة هذا الإسراف في الصفتين إلا أنْ يستطيع الإنسان محاربة طبعه.

هاتان الصفتان تحولان بيني وبين الناس وتجارتهم، وأشهد أني ما اغتبطت يومًا لهذا العجز، كما أشهد أني ما حزنت يومًا بسببه، فهو يحميني من شرورٍ كثيرة، ويدع المجال أمامي فسيحًا لأحظى من نعيم الحياة بما تيسره المقادير من غير أنْ أخشى مداخلة الناس في أمري لتكدير صفو نفسي، ثم هو في الوقت نفسه يمنع عليَّ الاستفادة من معاملة الناس، والاستعانة بذوي الإخصاء منهم في طبع كتبي وتصحيحها وتوزيعها واسترداد نفقاتها لطبع كتب أخرى، كما يمنع عليَّ الاستفادة من معاملتهم في غير هذه من شئون الحياة، ويضطرني إلى القناعة من علاقاتي بالناس بما ييسر لي أقل حظ من النعيم أطمع فيه، فأنت تراني أشد ما أكون غبطة ما دمت جالسًا إلى مكتبي متصلًا بالناس في غير حاجة إلى معاملتهم والاتجار معهم، وتراني أشد ما أكون حياء وحيرة ما اتصلت بالناس في تجارة، وهذا يا صديقي هو السر فيما رأيت من سوء ورق كتابي وطبعه، وهذا هو السر فيما تتهمني به خطأ من ازدراء الناس، ولو أنصفت لقلت: إنه عكوف النفس على ذاتها وقناعتها بالرضا الداخلي الذي لا يُعنى كثيرًا بحكم الناس؛ لأن حكمهم لا يصل إليه، وإنْ وصل فلا يعلق به.

وقد لا يسوءك في هذا المقام أنْ أخبرك أني حين قرأت نقدك ابتسمت أنْ رأيتك تأثرت فيه بصداقتك إياي أكثر مما تأثرت بموضوعك، فإنك قد عالجت إخفاء ما تبعثه المودة في نفسك من محبة صادقة، فلِمَ حرصُك على التعرض لشكل الكتاب دون موضوعه، مع إظهارك الإعجاب بالموضوع عرضًا، على أنك كنت تود أنْ يكون ما يظهر للناس من صاحبك بالغًا ما يستطاع بلوغه من الكمال؟

لكنك يا صديقي تعلم ما انطوت عليه نفسي، وتعلم أني لا أكتب إلا ما يكون متاعًا لي ولذة، فإذا نشرته بعد ذلك فلأني لا أستطيع المحافظة عليه، وأخشى أنْ يضيع وقد أحتاج يومًا لأتلذذ بمجهوداتي الماضية في الساعات المجدبة من حياة الحاضر، وهذا هو ما دعاني لتقسيم ما كتبت عن روسو إلى ثلاثة أجزاء، فكنت كلما فرغت من قسم من بحثي وهجمت على مشاغل الحاضر وخشيت أنْ أوخذ بها إلى حد نسيان ما كتبت، قدمته للطبع لكيلا يضيع، وهذه غاية يكفي لبلوغها أنْ يطبع بأقل نفقةٍ ممكنة ومن غير عناءٍ كبير.

على أني أعدك يا صديقي، إنْ أراد الحظ لي أنْ أظهر للناس كتبًا أخرى، بأن أجاهد لأحرص على رضاك، وإذا أنا وجدت من عناية الأقدار ما يسمح لي بإتمام الجزء الثالث من كتاب روسو — وهذا ما لا أعدك به — فلن أكتفي بما اكتفيت به في الجزأين الأولين، ولن أتركه بغير فهرس أو تبويب، ولن أطبعه إلا على ورق يعجبك، ولن أتركه بغير بيانٍ لما فيه من خطأ مطبعي، ومن زلات القلم حين الكتابة.

لكني مع ذلك كنت أرجو ألا يقف نقدك عند الغضب لي مني، وإظهار هذا الغضب في ثورةٍ صريحة، وكنت أود أنْ تتناول موضوع الكتاب، وأنْ تبين لقارئك في شيءٍ من التفصيل ما تراه من وجوه حسنه وقبحه وكماله ونقصه، فقد يمكن ملافاة ما كان من نقص في الطبع والورق عند إعادة طبع الكتاب، سواء أعدت أنت الطبع أو أعدته أنا أو أعاده غيرنا، لكن ملافاة نقص الموضوع لا تكون إلا إذا دل النقاد المؤلف على مواقع الخطأ في البحث ومواضع التواء الدليل، وأصدقك القول أني أحوج إلى هذا النقد مني إلى نقد الشكل والصورة، فنقد الشكل والصورة أعرفهما وأعرف أسبابهما من غير حاجةٍ إلى أنْ يدل عليهما أحد، كما أعرف وسائل علاجهما، وهذه الوسائل على ما نعلم يسيرة لمن أراد الإصلاح، فأما النقص في الموضوع، وأما التواء الدليل فيحتاج إصلاحهما إلى تنبيه من أمثالك الأصدقاء المخلصين ذوي الفضل والعلم، فهل لك أنْ تكلف نفسك العناء فتنفعني وتنفع الناس، ويكون الشكر لك مضاعفًا؟!

وما أحسبك حين تعرض لهذا النقد مضيعًا وقتك سُدًى، فإن في رواية الهلويز تحليلًا نفسيًّا شيقًا ومباحث فلسفية غير تافهة، وكتاب التربية هو خير ما كتب روسو، وأحسبني حين لخصتهما ونقدتهما لم أترك شيئًا جوهريًّا مما جاء فيهما أو ورد عليهما، وإنْ كنت قد أوجزت في التلخيص والنقد؛ فذلك لأوفر على القارئ وقته، ولأحول بينه وبين الملال، ولأعصم نفسي من زلة ادعاء العلم بما لا أعلم.

وقبل أنْ أختم هذه الكلمة أرجو أنْ أعيد أمامك كلمة مما سطرته في مقدمة الجزء الأول؛ لتكون متسامحًا معي بمقدار ما يسمح به قدري لمجهودي، قلت في تلك المقدمة: «لا أدعي استطاعة القيام بهذا البحث على وجهٍ كامل؛ لأنني لم أتخصص له، وإنما هويته فأخذ مني وقتًا ومجهودًا كانا من خير الأوقات والمجهودات التي أنفقت في حياتي فلم أشعر معهما بألمٍ ولا بملال، بل كنت أتنقل إلى تذوق أنواع من اللذة، وأشعر في أعماق روحي بدسم ما يصل إليها أثناءهما من الغذاء، ولكني على كل حال لم أتخصص، والبحث الكامل لا يتأتى إلا بالانقطاع والمزاولة والإمعان وطول التفكير في الساعات والأيام والأشهر المختلفة، وعند مراجعة المؤلف ومن كتب عنه من الكُتَّاب الكثيرين جدًّا، وإذا كنت قد قرأت كتبًا كثيرة فهي على كل حالٍ قليلة إلى جانب ما كتب أو أخذ عن روسو.»

هذا ومع شكري لله على حسن عنايتك بكتابي أرجو أنْ تتفضل بقبول فائق الاحترام.

أخوك
محمد حسين هيكل

ولن أطيل الوقوف على كتاب هيكل وإنْ كان يسألني هو ويسألني غيره أيضًا أنْ أتناول موضوع الكتاب بالنقد والتحليل، فقد أحسبني أشرت في الفصل الماضي إلى موضوع الكتاب وقيمته، إشارة إنْ لم تكن مفصلة مغرقة في الإسهاب فهي إشارة كافية، وماذا يريد مني القراء حين أعرض لكتاب هو تحليل لشيءٍ من كتب جان جاك روسو؟ أليس يكفي أنْ أشير إلى مكانة روسو وأثره في الأدب الفرنسي خاصة وفي الأدب الأوروبي عامة؟ أم هل يريدون أنْ أتناول كتب جان جاك روسو بالبحث المفصل والنقد المطول كما فعل هيكل نفسه؟ أم هل يريدون أنْ أتناول التحليل بالتحليل والنقد بالنقد، فأكتب حاشية على شرح هيكل لجان جاك روسو، أو تقريرًا على حاشية هيكل على جان جاك روسو؟ أليس في هذا إطالة لا حاجة إليها وإسراف نستطيع أنْ نجد عنه منصرفًا!

ربما كان من الحق عليَّ أنْ أقول في صراحةً ووضوح: إنَّ كتاب هيكل يتناول بالنقد والتحليل كتابين قيمين من كتب جان جاك روسو، هما هلويز الجديدة وكتاب إميل أو التربية، والناس بين رجلين؛ أحدهما قرأ جان جاك روسو فمن الحق أنْ أفصل له كتب جان جاك روسو، والثاني لم يقرأ هذا الكتاب فمن الخير أنْ أحثه على قراءة هيكل ليجد في كتابه كل ما يحتاج إليه أو أكثر ما يحتاج إليه في هذين الكتابين من كتب جان جاك روسو.

أعلم أنَّ كتاب هيكل يستحق كثيرًا من الثناء في موضوعه وفي مذهبه في النقد والتحليل، وأنَّ هذا الثناء الذي يستحقه قد يكون أكثر جدًّا من الثناء القليل الذي قدمته إليه في الفصل الماضي، ولكني أعلم حق العلم أنَّ صديقي هيكلًا لا يطمع مني في هذا الثناء الكثير، وإنما يكفيه أنْ أقول: إنَّ كتابه قيِّم نافع حسن التأليف وإنْ لم يكن حسن التبويب والتقسيم، وهل من الحق أنَّ صديقي هيكلًا يريد أنْ أدله على ما في الكتاب من عيب ليتقيه حين يعيد طبع الكتاب؟

أما أنْ يكون هذا حقًّا فإني لا أطلب منه إلا أنْ يتقي ما ذكرت من العيوب العرضية في الفصل الماضي، فهو إنِ اتقاها أحسن إلى كتابه وإلى الناس، وليطمئن هيكل، فليس من الحق أني لم أقرأ من كتابه إلا صحفًا قليلة، فقد ذكرت بنفسي أكثر كتابه، ولعله يذكر أنه قرأ عليَّ منه طائفة قبل أنْ يشرع في طبع الكتاب، أنا إذن لا أجهل الكتاب في جملته ولا في تفصيله، ولكني لا أحب أنْ أحلل التحليل، ولا أنْ أفصل التفصيل، ولا أنْ أتورط في الشروح والحواشي والتقارير، وأحسب أنَّ الفصل الماضي يكفي لما أريده حين أكتب هذه الفصول، وهو أنْ أرغب القراء في أنْ يقرءوا كتابًا أحسبه قيِّمًا نافعًا، وأمكنهم من أنْ يقدروا طائفة من الكتب على وجهها.

أعود فأقول: إنَّ صديقي هيكلًا يستطيع أنْ يطمئن، فقد يكون نقدي شديدًا، وقد يكون نقدي عرضيًّا، ولكن هناك شيئًا لا شك فيه، وهو أنَّ هذا النقد إنْ لم ينفع الكتاب لم يضره، على أني أختم هذه الكلمة بالاعتذار إلى هيكل من خطأ أخذته به، فكنت أنا المخطئ وكان هو المصيب، أنكرت عليه استعمال كلمة «مهوب» بالواو لا بالياء، ونبهني بعض الأدباء إلى أنَّ هذا الاستعمال صحيح، فرجعت إلى المعاجم فإذا الكلمة تستعمل بالياء والواو، وإذا هي قياسية حين تستعمل بالياء، ومسموعة حين تستعمل بالواو، وإذن فلم يخطئ الكاتب وإنما أخطأ الناقد، وإذن فقد نقصت الأغلاط المطبعية واللغوية في الكتاب، وهذا شيء لا بأس به.

ولأنتقل من هيكل إلى كاتبٍ آخر لا يشبهه في شيء، ومن كتاب هيكل إلى كتاب آخر ليس بينه وبينه صلة؛ لأنتقل إلى الأستاذ الرافعي وإلى كتابه في فلسفة الجمال والحب، وأنا أشهد أنَّ هذا الانتقال ثقيل مؤلم؛ لأن الفرق بين الكاتبين عظيم وبين الكتابين أعظم.

الأستاذ الرافعي لا يحب النقد إلا أنْ يكون هذا النقد على هواه، وقد كنت أتحدث إليه يوم السبت الماضي، فعرفت أنه يحب النقد على هذا الشرط، ولم أكد أعلن إليه أنَّ لي في كتابه رأيًا قد لا يرضاه حتى أعلن إليَّ متشددًا أنه سيرد عليَّ، وطلب إلى رئيس التحرير متشددًا أنْ ينشر رده ذلك، وهو يرى رئيس تحرير «السياسة» يدفع إلى رده على نقد كتابه يسألني أنْ أنشره في صحيفة الأدب، وإذن فأنا أكتب ما أكتب، وأنا أعلم أنَّ الأستاذ الرافعي سيغضب وسيرد، وسيكون سخطه شديدًا، وكل هذا ليس شيئًا، فقد غضب ناس قبل الأستاذ الرافعي، وسخطوا وردوا وأسرفوا في الرد، فلم يصرفني ذلك عن رأي، ولم يحولني ذلك عن مذهب.

وإنما الشيء العسير حقًّا هو أنْ أنقد كتاب الأستاذ الرافعي، فكيف تستطيع أنْ تنقد كتابًا لا تفهمه؟ وما رأيك في أني لا أفهم كتاب الأستاذ الرافعي؟ لا أفهمه، ولقد اجتهدت في أنْ أفهم، فقرأت وقرأت واستأنفت القراءة، ولكني لم أفهم شيئًا.

ولقد ذكرت هذا أو بعضه للأستاذ الرافعي فقال: ولِمَ تتخذ نفسك مقياسًا للناس! ثم لم نستطع أنْ نمضي في هذا الحديث الذي كان يمكن أنْ يكون قيِّمًا؛ لست أتخذ نفسي مقياسًا للناس، وإنما أتخذ نفسي مقياسًا لنفسي، فإذا قلت إني لا أفهم فليس معنى هذا أنَّ الناس لا يفهمون، وإذا قلت أفهم فليس معنى هذا أنَّ الناس يفهمون، ولكنك تسألني أنْ أنقد كتابك وأعلن رأيي فيه، فلم تسألني هذا؟ ألست تسألني إياه؛ لأنك تريد أنْ يعرف الناس رأيي في كتابك، ولأنك تظن أنَّ كتابك قد يصيب خيرًا قليلًا أو كثيرًا حين أتناوله بالنقد، وأنت قد سألتني أنْ أنقد كتابك، سألتني هذا حين أهديت إليَّ هذا الكتاب، وسألتنيه حين كتبت إليَّ في الصيف الماضي كتابًا حلوًا رقيقًا تطلب إليَّ فيه أنْ أقول رأيي في الكتاب، وإذن فلك عليَّ أنْ أقول رأيي في الكتاب، وأنْ أقول في صراحة ووضوح، وفي قصد واعتدال أيضًا، ورأيي في الكتاب أني لا أفهمه فلا أستطيع أنْ أقول إنه رديء أو جيد، بل أستطيع أنْ أقول إني لا أفهمه، وإذن فلا يمكن أنْ يكون جيدًا، ذلك أني وإنْ لم أتخذ نفسي مقياسًا للناس، فلست من الأميين ولا من الذين يشق عليهم أنْ يفهموا الآثار الأدبية القيِّمة، وإذن فإذا كتبت كتابًا لا سبيل إلى أنْ أفهمه، فيجب أنْ يكون في هذا الكتاب عيب حال بيني وبين فهمه؛ ذلك لأني أقرأ القرآن فأفهمه، وأقرأ الشعر فأفهمه، وأقرأ ضروبًا من النثر العربي والأجنبي فأفهمها، وأقرأ كتابك فلا أفهمه، فيجب أنْ يكون كتابك شيئًا لا كالكتب، ويجب أنْ يكون مذهبك في الكتابة شيئًا لا كالمذاهب.

والحق أني ترددت كثيرًا قبل أنْ أكتب هذا الفصل، فأنا أعلم أنَّ الأستاذ الرافعي قد تكلف مشقة لا تكاد تعدلها مشقة في وضع هذا الكتاب، ذلك شيء يظهر واضحًا جليًّا لمن يقرأ من هذا الكتاب أسطرًا قليلة، أو هو تكلف العناء في طبعه ونشره وأنفق مالًا في هذا الطبع والنشر، فقد يكون من الإسراف في القسوة أنْ تعرض لعملٍ كهذا فيه مشقة وعناء ومال، فتعلن أنه غير جيد، وتعلن أنك لا تفهمه.

ولكن ما رأيك في أنَّ مثل هذه الكتب التي تذاع وتغلو الصحف في حمدها وتقريظها يتناولها الشبان فيقرءونها ويحتذونها، فهموها أو لم يفهموها، وتكون لها الآثار المختلفة في عقولهم وآرائهم وأساليبهم الكتابية؟ أليس لهؤلاء الشبان علينا حق أنْ نلفتهم إلى هذه الكتب، ونعينهم على أنْ يقدروها قبل أنْ يقرءوها؟ بلى، لهم علينا هذا الحق، وأنا مضطر إلى أنْ أعتذر إلى الأستاذ الرافعي من أني لا أستطيع أنْ أثني على كتابه ولا أنْ أحث الشبان على قراءته.

تظلم الأستاذ الرافعي إنْ قلت: إنه لا يشق على نفسه في الكتابة والتأليف، بل أنت تنصفه إنْ قلت: إنه يتكلف من المشقة في الكتابة والتأليف أكثر مما ينبغي، ولقد كنت أريد أنْ أقول إنه ينحت كتبه من الصخر، ولكني أجد في هذه الجملة ما لا ينبغي لوصف هذه المشقة!

وما لي لا أتبسط بعض الشيء، فأقول: إنَّ كل جملة من جمل هذا الكتاب تبعث في نفسي شعورًا قويًّا مؤلمًا بأن الكاتب يلدها ولادة، وهو يقاسي في هذه الولادة ما تقاسيه الأم من آلام الوضع، ولو أنه ظفر بعد هذه الآلام بما تظفر به الأمهات بعد آلام الوضع، لقلنا آلام قيِّمة لها نتائجها الحسنة وآثارها الخالدة، ولكنه لا يظفر من هذه الآلام بشيء، فأنت لا تجد لذة في قراءة هذه الجمل المتعبة المكدودة التي شقت على كاتبها وهي تشق على قارئها.

وكذلك تظلم الأستاذ الرافعي إنْ قلت: إنَّ حظه من العلم باللغة العربية وآدابها وبدقائقها وأسرارها قليل، وإنما الحق أنَّ الذين يعلمون هذه اللغة كما يعلمها الأستاذ الرافعي قليلون جدًّا، وأحسبهم يُحْصَوْنَ، والحق أنَّ الذين يظهرون على أسرار هذه اللغة ودقائقها كما يظهر عليها الأستاذ الرافعي قليلون جدًّا، وأحسبهم يحصون أيضًا، ولكن ماذا تريد وقد أبى الأستاذ الرافعي، أو أبت عليه فطرته، أنْ يكون علمه باللغة مفيدًا، وأنْ يكون ظهوره على أسرارها نافعًا! ماذا تريد وقد حرص الأستاذ الرافعي على أنْ يكون عالمًا وحده منفصلًا عن هذا العالم الذي يعيش فيه.

كنت أصف العقاد في فصلٍ مضى بشدة الغموض أحيانًا، وقد رضي الأستاذ الرافعي عن هذا الفصل، وأنبأني أنه لم يرضَ عن شيءٍ مما كتبت كما رضي عن هذا الفصل، ولكني أعترف بأن غموض العقاد أحيانًا ليس شيئًا بالقياس إلى غموض الرافعي دائمًا، فأنا لم أفهم مقدمة العقاد، ولكن فهمت كتابه كله، أما كتاب الرافعي فقد قرأت مقدمته فلم أفهمها، فقلت كتاب ككتاب العقاد، فسأفهم رسائله بعد أنْ أعيتني مقدمته، ومضيت في هذه الرسائل، فليتني ما مضيت؛ لأني أتممت الكتاب ولم أفهم منه شيئًا.

يجب أنْ أكون منصفًا، فأنت تستطيع أنْ تقطع كتاب الرافعي جملًا جملًا، وأنْ تجد بين هذه الجمل طائفة غير قليلة فيها شيء من جمال اللفظ وبهرجه يخلبك ويستهويك، وفيها معانٍ قيِّمة لا تخلو من نفع، ولكن المشقة كل المشقة في أنْ تصل هذه الجمل بعضها إلى بعض وتستخرج منها شيئًا قيِّمًا، لن تظفر من هذا بشيء، وأكبر ظني أنَّ الأستاذ الرافعي نفسه لا يحاول أنْ يقول شيئًا حين يكتب هذه الرسائل، وإنما هو يذهب في النثر مذهبًا غريبًا، فيتكلف العناء والمشقة في الغوص على المعاني الغريبة، ثم يتكلف العناء والمشقة في أنْ يسبغ على هذه المعاني الغريبة ألفاظًا غريبة، حتى إذا تم له من ذلك خلق غريب رصَّ هذا الخلق بعضه إلى بعض فاتسقت منه رسالة، ثم يستأنف العمل حتى تتسق له رسالة أخرى، ورسالة ثالثة ورابعة، ثم يرص هذه الرسائل بعضها إلى بعض فيتسق له منها كتاب.

وليس أدل على غموض الرافعي من هذه النادرة التي لا أراها تخلو من ظرف، وأنا أترك للعقاد وأصحابه أنْ يصدقوها أو يكذبوها، وهي أنَّ العقاد أراد أنْ ينقد كتاب الرافعي فانتفع منه بما كتب على الغلاف، واتخذ عنوان الكتاب وسيلة إلى أنْ يذكر مذهبه هو في فلسفة الجمال والحب، وأحسب أنَّ العقاد لم يكتف بالغلاف في القراءة، وإنما وصل إلى قلب الكتاب، ولكنه اضطر أنْ يكتفي بالغلاف حين أراد أنْ يكتب؛ لأنه لم يجد في الكتاب شيئًا.

ومن غريب الأمر أنَّ لدينا في مصر رجلين: أحدهما فيلسوف الجمال والحب، والآخر أديب الجمال والحب، فأما الأول فهو العقاد، وقد قلت لك غير مرة: إني لا أفهمه أحيانًا، وأما الثاني فهو الرافعي، وأنت تظن أنَّ الفلسفة أشد عسرًا على الفهم من الأدب، وأنك تستطيع أنْ تفهم الأديب في يسر، بل يجب أنْ تفهمه في يسر، وأنك تعذر الفيلسوف إذا وجدت مشقة في فهم فلسفته، ولكن الله أراد أنْ تنعكس الآية هذه المرة فتفهم فلسفة العقاد في الجمال والحب، أو ما يسميه العقاد فلسفة الجمال والحب، ولا تفهم أدب الرافعي في الجمال والحب، وإذا أراد الله شيئًا فلا مرد له.

وأنا أريد الآن أنْ أختم هذا الفصل بطائفةٍ قليلة من الجمل نتخذها نموذجًا لما في كتاب الرافعي من الغموض والإغراب والعسر، انظر إلى هذه القطعة البديعة: «اجتمع من تاريخه إنسان بلغ الزمن تحت عينيه نيفًا وأربعين سنة، فهو تاريخ أحزان قد استفاضت مسائله في فصول وأبواب جف القلم منها على نيف وأربعين جزءًا كلماتها في حوادثها، وإنَّ السطر منها ليرعد في صحيفته من الغيظ، وإنَّ الكلمة لتبكي بكاء يرى، وإنَّ الحرف ليئن أنينًا يسمع، وإنَّ تاريخه كله ينتفض؛ لأنه مصيبة ملكية مصورة في ملك.»

اللهم إني أشهد أني لا أفهم شيئًا، إلا أنه يشبه العمر بكتاب من كتب التاريخ، والحوادث بالكلمات التي تكتب في هذا الكتاب، والسنين بأجزاء الكتاب، فأما هذه السطور التي ترعد غيظًا في الصحف، وأما بكاء الكلمات الذي يرى، وأنين الحروف الذي يسمع فعلم ذلك كله عند الله وعند الرافعي!

ومع هذا فهذه الجملة أيسر ما في الكتاب، ومهما يكن من شيء فإن الذين يريدون أنْ يروضوا أنفسهم على الطلاسم واقتحام الصعاب وتجشم العظائم من الأمور، يستطيعون أنْ يجدوا في كتاب الرافعي ما يريدون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤